التأريخ المتطور للرياضيات
تباينَتْ طرقُ ممارسةِ الرياضيات والتفكير فيها كثيرًا على مدار القرون القليلة السابقة، وبعض أسباب هذا التغيُّر يرجع للتغيُّرات التي حدثت في التاريخ الفكري بصورةٍ أعم، وبعضها بسبب تلك الخاصة بالرياضيات تحديدًا. وكما رأينا في الفصل الثاني، فإن نهج جون ليلاند في خمسينيات القرن السادس عشر، ثم نهج يوهان جيرارد فوسيوس بعد قرن، تَمثَّل في تسجيل أكبر قدرٍ من الحقائق عن المؤلفين والتواريخ والنصوص، لكنْ من دون أي تحليل لأيٍّ ممَّا احتوته تلك النصوص. لكن بحلول أواخر القرن السابع عشر، كان واضحًا لكلِّ مهتمٍّ بالرياضيات أن قوة الموضوع ونطاقه وأساليبه كانت تتقدَّم بسرعة: «الهندسة تتحسَّن يوميًّا»، هكذا كتب جوزيف جلانفيل في عام ١٦٦٨، وبعدها بسنوات قلائل مجَّدَ جون واليس «التقدُّم والتحسُّن» اللذين رفعَا الجبرَ إلى «المكانة التي هو عليها الآن».
شهد القرن الثامن عشر — عصرُ الموسوعات — مطبوعتين أساسيتين تتعلَّقان بتاريخ الرياضيات؛ وهما: «تاريخ الرياضيات» لِجان إتيان مونتوكلا الذي نُشِر في باريس عام ١٧٥٨ (توسَّعَ إلى أربعة مجلدات بين عامَيْ ١٧٩٩ و١٨٠٢)، و«المعجم الرياضي والفلسفي» لِتشارلز هاتون، الذي تضمَّنَ عددًا من المقالات التاريخية ونُشِر عام ١٧٩٥. لكن بحلول أواخر القرن التاسع عشر كان التركيز يتغيَّر، مثلما في الدراسات الأخرى، بعيدًا عن الروايات المتناقلة إلى الطبعات البحثية والترجمات الخاصة بالنصوص القديمة ونصوص العصور الوسطى (كما حدث أيضًا خلال عصر النهضة). ومن أمثلة النصوص التي نُوقِشت قبل ذلك في هذا الكتاب، نجد أن أول ترجمة إنجليزية لكتاب «الحساب» لِديوفانتس، نشرها توماس هيث في عام ١٨٨٥، واعتمدت طبعة هيث لكتاب «العناصر» لإقليدس على أفضل معرفة متاحة وقتها، وظهرت في عام ١٩٠٨. أما ترجمة تشارلز لويس كاربينسكي لكتاب «الجبر» للخوارزمي من نسخة لاتينية من العصور الوسطى، فقد ظهرت بعد ذلك بسنوات قلائل، في عام ١٩١٥. مثل هذه الطبعات كانت ولا تزال ذات أهمية لا تُضاهَى؛ فلا كتاب «الحساب» ولا «الجبر» كان متاحًا بالإنجليزية قبل ذلك، أما بالنسبة إلى كتاب «العناصر» فتظل طبعة هيث الطبعة الإنجليزية القياسية إلى يومنا هذا.
ومع ذلك، يتعامل المؤرخون المعاصرون مع هذه الطبعات بشيء من الحذر. كانت مقالة هيث عن كتاب «الحساب» بعنوان: «ديوفانتس السكندري: دراسة في تاريخ جبر الإغريق»، وهو عنوان يثير تساؤلاتٍ تناولناها بالفعل في هذا الكتاب. علاوةً على هذا، فقد لاحَظَ أحد المعلِّقين على طبعة هيث عن أبولونيوس أنه «بفضل الضغط الماهر والتعويض بالرموز الحديثة عن البراهين الأدبية، قد احتلَّ أقلَّ من نصف مساحة الأصل.» مرةً أخرى، ربما لا يشكر المؤرِّخون هيث لمهارته، مفضِّلين رؤية النص غير مضغوط، وخاليًا من المفارقات التاريخية للرموز الحديثة؛ ومع ذلك، فإن قدرًا كبيرًا من دراسة تاريخ الرياضيات في بدايات القرن العشرين كان يجري غالبًا على يد رياضيين، وليس مؤرخين، يعملون بالطريقة نفسها تمامًا؛ بحيث ترجموا نصوصًا كُتِبت في الأصل بالهيروغليفية المصرية أو بالسومرية أو بالسنسكريتية أو بالإغريقية؛ إلى رموزٍ ومفاهيم في الرياضيات الحديثة. لم تكن دوافع المترجمين في حد ذاتها تستحِقُّ اللوم؛ ففي محاولةِ فهمِ أفكارٍ تبدو لأول وهلة شديدةَ الغرابة، يكون من الطبيعي محاولة إيجاد علاقة بينها وبين شيء أكثر ألفة، ومكمن الخطر أن ينظر المرءُ إلى الأفكار غير المألوفة بوصفها ليست أكثر من ترجمات قديمة مهجورة، لما نستطيع نحن أن نفعله الآن بكفاءة أكبر؛ وبهذه الطريقة تُعاد كتابةُ التاريخ من منظورنا نحن بدلًا من منظور المؤلفين الأصليين.
كان مؤرِّخو الرياضيات القديمة من أوائل الثائرين على التشوهات التي سبَّبَها التحديث، وخلال تسعينيات القرن العشرين قادوا الطريق، في محاولةِ استعادةِ المصطلحات وعمليات التفكير الموجودة في الأصول، والحفاظ عليها بقدر الإمكان. وقد قال ريفيل نيتز، وهو محرِّر ومترجم لأرشميدس، في ملحوظةٍ تُقتبَس الآن كثيرًا: «إن الهدف من الترجمة الثقافية كما أفهمها هو إزالة كل العوائق المتعلِّقة باللغة الأجنبية نفسها، تاركة كل العوائق الأخرى كما هي.» إن هذا يُجبِر القارئ الحديث للنصوص الرياضية التاريخية على أن يعمل بجدٍّ أكثر كثيرًا من القارئ منذ خمسين عامًا مضت، بَيْدَ أن ما سيحصل عليه من مكاسب في الفهم التاريخي سيكون أكبر بما لا يُقارَن.
إن الذين يدرسون الكتابات الرياضية القديمة قادوا الطريق في جوانب أخرى من التأريخ أيضًا؛ جزئيًّا بسبب الطريقة التي تجمَّعَتْ بها مادتهم على نحوٍ عشوائيٍّ في الماضي. إن لوحًا وحيدًا من الطمي، على سبيل المثال، لا يقصُّ علينا الكثيرَ، ما لم نَكُن نعلم أين ومتى كُتِب. مثل هذه المعلومة تكون أساسيةً، إذا كنَّا نريد إنشاءَ صورةٍ توضِّح كيف أن نصًّا بعينه له علاقة بنصوص أخرى وُجِدت في المنطقة نفسها أو في مكان آخَر. وُضِعت ألواح كثيرة من كشوف أثرية قديمة في متاحف مع أقل قدرٍ من المعلومات عن أصولها، أو بِيعَتْ في أسواق الأثريات دون أية معلومات مصاحبة، وهو ما يجعل من الصعوبة البالغة أن يستنتج المؤرخون معلوماتٍ مفيدةً عنها الآن. لحسن الحظ، يسجل علماء الآثار في يومنا هذا المواضعَ والبيئةَ المحيطة بعنايةٍ بالغةٍ قبل تحريك أية طبقة من الأدلة؛ وقد ساعدَتِ التكنولوجيا الحديثة على قراءة النصوص المكتوبة بخطوط باهتة من الحبر. إن العمل على نصِّ أرشميدس الذي أُعِيد اكتشافه، المذكور في الفصل الثالث، كان أمرًا استثنائيًّا بصفة خاصة؛ فقد تمكَّنَ الباحثون ليس فقط من قراءة الكثير من النصوص الأصلية، ولكن تمكَّنوا أيضًا من تعيين هوية الكاتب الذي مسح المخطوطة وأعادَ الكتابةَ عليها، وهو يُدعَى أيونيس مايروناس، الذي كان يعمل في القسطنطينية خلال الصوم الكبير عام ١٢٢٩. ومن الملائِم للغاية أن تتماشى عمليةُ استعادة النص مع استعادة قصة النص يدًا بيد.
ابتعد مؤرخو الرياضيات على نحوٍ متزايد عن النظرة «الداخلية» التي يُرَى فيها أن التطوُّرات الرياضية تحدث وفق ما يلائمها، بغضِّ الطرف عن التأثيرات الخارجية. وكما أوضحنا مرةً بعد مرة في هذا الكتاب، فإن النشاط الرياضي جسَّدَ نفسه بطرائق متعددة، كلها محدَّدة اجتماعيًّا وثقافيًّا. ينبغي لنا ألَّا نهمل التفاصيل، وكثيرًا ما يكرِّس الرياضيون أنفسهم لمسألة خاصة، ليس لأنها ربما تكون مفيدة، أو لأن شخصًا طلب إليهم أن يفعلوا هذا، ولكنْ لأن المسألة ذاتها تأسر خيالهم. هذه بدقةٍ كانت حالةَ نيوتن وَلايبنتس مع حساب التفاضل، أو بولياي وَلوباتشيفسكي مع الهندسة غير الإقليدية، أو وايلز مع نظرية فيرما الأخيرة. في مثل هذه الحالات، يعتمد التقدُّم أولًا وقبل كل شيء على الانخراط العميق والمركَّز في الرياضيات؛ وبهذا المعنى فإن الإبداع الرياضي يمكن أن يقال عنه إنه عملية داخلية. ولكن الأسئلة الرياضية التي تُعتبَر مهمةً في زمن معيَّن أو مكان معيَّن، والطريقة التي أتَتْ بها هناك، والطريقة التي تُفهَم أو تُفسَّر بها؛ كلها تتأثَّر بالعديد من العوامل التي هي خارج الرياضيات نفسها: عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية. إن البيئة المحيطة أصحبَتْ بالنسبة إلى المؤرخ في نفس أهمية المحتوى.
تَمثَّلَ تغيُّرٌ مهم آخَر في السنوات الأخيرة في الإقرار المتزايد بأن الرياضيات التي مارَسَها عدد قليل من الرياضيين المشاهير، لم تعكس تنوُّعَ النشاط والخبرة الرياضيَّيْن عند مستويات أخرى من المجتمع (على الرغم من أنها بُنِيَت عليه). إن تاريخ الرياضيات غير المقصورة على الصفوة كان موضوعًا أساسيًّا من موضوعات هذا الكتاب. ومؤرِّخو الرياضيات — مثل العلماء في فروعٍ كثيرةٍ أخرى من فروع المعرفة — أصبحت لديهم حساسيةٌ شديدة من قضايا الجنس والعِرْق. وقد كانت دراساتُ الثقافاتِ السابقةِ على الثقافة الغربية الحديثة مقيَّدةً في الماضي بسبب نقص المصادر أو الحواجز اللغوية، ولكن هذا الموقف يبدأ الآن في التغيُّر بينما تُمثِّل الصور المتشابكة والترجمات الجديدة والتعليقات المثقفة؛ مصادرَ متزايدةً من المادة التي يَسْهل الوصول إليها فكريًّا، وماديًّا أيضًا؛ ومن ثَمَّ، فإن رياضيات الماضي لا يمكن اعتبارها ببساطة مادةً تَشكَّلَت منها رياضيات الحاضر، بل هي جزء متكامل من ثقافتها المعاصرة.
وكما في كل فروع المعرفة الأكاديمية المزدهرة هذه الأيام، فإن أولئك المنشغلين بتاريخ الرياضيات مطلوب منهم أن يَعْبروا الحدود. في الحقيقة، من أعظم مسرات العمل في هذا الموضوع أن المرء يستطيع أن يتعلَّم من خبرة ومعرفة علماء الآثار، وأمناء الأرشيفات، والمتخصِّصين في دراسة التاريخ الصيني والكلاسيكي، والمستشرقين، والمتخصِّصين في تاريخ القرون الوسطى، ومؤرخي العلوم، واللغويين، ومؤرخي الفن، ونقَّاد الأدب، وأمناء المتاحف والمكتبات، وآخَرين كُثر. لقد اتَّسَع نطاق المصادر بطريقة مشابهة، ولم يَعُدْ مقصورًا على الكتب والمخطوطات، التي قَدَّمَت من قبلُ أحدثَ الأفكار، بل صار يتضمَّن مراسلاتٍ ويومياتٍ ومذكراتٍ تحضيريةً وكُتُبَ تمارين وأجهزةَ قياسٍ وآلات حاسبة وصورًا زيتية ومذكرات خاصة وروايات. ربما تبدو المفردة الأخيرة مدهِشة، ولكن ربما يكون الروائي أدقَّ وأفصح مَن يعبِّر عن وجهات النظر المعاصرة في الرياضيات، وسيجد القرَّاء المهتمون بمتابعة هذا الموضوع المزيدَ من المصادر في جزء «قراءات إضافية» في نهاية الكتاب.
إن الأسئلة التي طرحها المؤرخون في الخمسين عامًا الأخيرة قد تغيَّرَت وتنوَّعَت؛ فلم يَعُدْ كافيًا ببساطة أن نسأل مَن اكتشف ماذا ومتى، بل نحن نريد أن نعرف أيضًا الممارسات التي انخرطت فيها مجموعاتُ الناس أو الأفراد وسبب ذلك؛ ما المؤثرات التاريخية أو الجغرافية التي كانت موجودة وقتها؟ كيف فهم المشاركون، أو غيرهم، الأنشطةَ الرياضية؟ أيُّ جوانب حظيت بالتقدير بشكل خاص؟ أيُّ خطوات اتُّخِذت بهدف حفظ الخبرة الرياضية أو نقلها؟ مَن كان يموِّل هذه الأنشطة؟ كيف كان الرياضي الفرد يستخدِم وقتَه أو مهارتَه؟ ماذا كانت دوافع الرياضيين؟ ماذا أنتجوا؟ ماذا فعلوا بما أنتجوه؟ مع مَن تَنَاقشوا، أو تَعَاونوا، أو تَجَادلوا خلال عملهم؟
سيكون من الصعبِ الوصولُ إلى معظم إجابات هذه الأسئلة بأية درجةٍ من اليقين. إن مؤرخي الرياضيات، شأنهم شأن غيرهم من المؤرخين، يعملون بأدلة شحيحة، ومن هذه الأدلة عليهم أن يُعِيدوا بناءَ قصصٍ غير كاملة عن الماضي بأكبر قدرٍ من العناية. إن المحاولة تبقى جديرةً بالاهتمام، وتستحِقُّ العناءَ المبذول في سبيلها؛ لأنها تُعلِّمنا الكثيرَ عن نشاطٍ إنسانيٍّ يضاهي في قِدَمه وانتشاره إنتاجَ الأدب أو الموسيقى، نشاطٍ جسَّدَ نفسه في مجموعة متنوعة غنية من الأشكال الثقافية؛ وهذا النشاط هو ابتكار وممارسة الرياضيات.