مقدمة المؤلف

عرَب الجاهلية
لما باشَرْنا قبل عشرين سنة١ بنشر تأليفنا الموسوم بشعراء النصرانية كان قَصدُنَا أن نُقدِّم عليه فصلًا موسعًا في النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، لكن الإنسان في التفكير والله في التدبير. فاضطرتنا الأحوال قبل نَجازِ الكِتاب إلى السفر إلى البلاد الأجنبية، حيث قضينا خمس سنين منقطعين إلى دروس أخرى شَغلتْنَا عن الشرق وعن العلوم الشرقية. ولما انكفأنا راجعين إلى الوطن انثالت علينا الأشغال من كل وجه، حتى انصرف فِكْرنا إلى هَمِّ كل يومٍ بيومه، وتسويف الوعد إلى أجل غير مسمًّى.

على أننا لم ننسَ تمامًا وَعْدَنا، بل كنا في زيارتنا للمكاتب العمومية في أوربَّة، وإبَّان دروسنا الخصوصية نُدوِّن ما يَحضُرنا من ذلك، ونُعِد المواد لهذا البناء أملًا بتشييده قريبًا، لا بل كنا إذا ما سَنحَت الفرصة نُسلف القراء من تعليقاتنا قِطَعًا، تجدها في بعض مقالاتنا في المشرق؛ كنصرانية غسَّان (١: ٥١٩ و٥٥٤)، ودين امرئ القيس الشاعر الجاهلي (٨: ٨٨٦ و٩٤٩)، وغير ذلك مما جعلناه كتمهيد لمقال أطول.

وزِدْ على ذلك أن التشديد الزائد في مراقبة المطبوعات كان يمنعنا عن إيضاح أفكارنا كما كنَّا نَوَد؛ فكان الأمر يخمد همَّتنا ويُثبِّط عزمنا.

فاليوم والحمد لله قد توثَّر الطريق وتسهلت الأمور، فيجوز لنا أن نستوفي هذا البحث على قَدْر الإمكان. ولنا على كتابه وسائل جديدة فيما سطَّره أصحاب الرِّحَل الحديثة إلى بلاد العرب، وما نقلوه عن الآثار القديمة؛ كالكتابات الحِمْيرية والنَّبَطية والصفوية واليونانية، وكالتصاوير والتماثيل التي وُجدت في أطراف جزيرة العرب، مع ما نُشر في هذه السنين الأخيرة من التآليف المفقودة في السريانية واليونانية والعربية، وما كَتَبه المستشرقون في هذه الاكتشافات، فراجعنا كل ذلك لنقتبس منه أنوارًا نستضيء بها في بُنَيَّات طريقنا.

على أن البحث في النصرانية وآدابها يقتضي نظرًا سابقًا في جزيرة العرب وأقسامها وأهلها، يليه بحث ملخَّص في أديان العرب القدماء قبل ظهور الدِّين النصراني وانتشاره في أحياء العرب.

(١) جزيرة العرب: موقعها وأقسامها وأهلها

خص الله جزيرة العرب بموقع عجيبٍ كان سبب غناها، وجعل لها حصنًا طبيعيًّا يصونها من سيطرة الأمم الفاتحة، بما بُسط فيها من المفاوز والصحارى القحلة. فتراها متوسطة بين آسيا وإفريقية ترتفق على سواحل بحر العجم والهند والقلزم من ثلاث جهات، وتزاحم من الشمال الشرقي إلى الشمال الغربي بلاد العراق، وما بين النهرين والشام ومصر. فكانت مجاورة لمهد البشر الأول تنظر إلى نموهم وترقيهم وفتوحاتهم، وربما كانت وصلةً بينهم ومستودعًا لتجارتها؛ إلا أنها لم تدعهم يزحفون عليها ليضربوا فيها أطنابهم. وإن فعلوا على رغم منها كان دخولهم في براريها كسحابة صيف لم تلبَث أن تنقشع، فيعود أهلها إلى استقلالهم.

جزيرة العرب مربَّع مستطيل يمتد من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، وهو في جنوبه أعرض منه في الشمال، ويبلغ سطحه نحو ٦٠٠٠٠٠ كيلومتر مربَّع، قسمها اليونان ثم الرومان من بعدهم إلى ثلاثة أقسام: العربية الصخرية وكانت قاعدتها سلَع (םלצ) المسماة بترا (Petra)، تمتد خصوصًا في شبه جزيرة سينا، ثم العربية القفرة غير المأهولة، أخصها المفازات الواقعة في أواسط العرب في نجد وتهامة واليمامة، إلى جهات عمان والمهرة، ثم العربية السعيدة وهي اليمن لخصبها.

أما العرب فلم يعرفوا هذا التقسيم، وإنما قسموا بلادهم إلى عدة أنحاء، أخصها صحارى نجد في أواسطها، يليها الحجاز مشرفًا على البحر الأحمر، بينهما تهامة. وفي الجنوب الشرقي اليمن وحضرموت ومهرة في شمالها البحرين وعمان على سواحل بحر الهند، وفي شمالها الغربي الجوف واليمامة. ثم هجر أو الأحساء على سواحل خليج فارس، ثم العراق العربي وبَوادي الجزيرة إلى بادية الشام شرقيَّ دمشق، حيث حوران واللجأ والصفا والبلقاء وجولان، إلى بريَّة طور سينا.

أما سكان جزيرة العرب؛ فقد قدموا إليها من الشمال، واستوطنوها وكانت زحفات القادمين تتوالى، فتدفع القبائلُ الجديدة أمامها العشائرَ السابقة، إلى أن وجد هؤلاء البحر في وجههم، وربما تجاوزوه إذا وجدوا فرصة تمكِّنهم من قطعه كما فعلوا في الحبشة وفي مصر في عهد السلالة المعروفة بالرعاة «الهِكْسُس». وهذه القبائل لم تكن كلها من أصل واحد، فكان بينها قوم من أبناء كوش المنتمين إلى كنعان بن حام فسكنوا خصوصًا بعض جهات اليمن، إلَّا أن معظمهم ينتسبون إلى يقطان أو قحطان من ذريَّة سام. وقد فرق الكتاب الكريم بينهم (مزامير، ٧١: ١٢) فدعا الأولين سبا (סבא) والآخرين شبا (שבא). ويضاف إلى الساميين منهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم، أخَصُّهم النبطيون والقيداريون، وأبناء قطورة سُرِّيَّة إبراهيم، ومنهم المَدْيَنِيُّون، وكانت سُكنى هؤلاء في بادية الشام وشرقيَّ بحر لوط، وفي شبه جزيرة سينا وقسم من الحجاز.

(٢) أديان العرب قبل النصرانية

ليس بحثٌ أغمض من تعريف أديان العرب في الجاهلية، وإن استفتينا كَتبَة الإسلام في ذلك، وجمعنا كل ما أثبتوه في تآليفهم التي نجت من مخاليب الزمان، لما زاد مجموعها على أسطر قليلة. وكان ابن الكلبي ألَّف كتابًا في أصنام العرب إلا أن كتابه قد ضاع، ولِحُسْن الطالع قد نجا معظُمه بما نقله عنه أصحاب معاجم اللغة، وياقوت في معجم البلدان. وكذلك روى الحاج خليفة في كشف الظنون (٥: ٤٤) كتابًا آخَر في الأصنام للجاحظ، وهو أيضًا مفقود. وقد جمع بعض المستشرقين — كلودلف كراهل: L. Krehl: Ueber die Religion der vorislamischen Araber، والعلامة فِلْهوسن: Wellhausen: Reste arabischen Heidentums — ما عثروا عليه من ذلك. على أن هذه المنقولات لا تشفي غليلًا، وكثيرًا ما تجدها مضطربة متناقضة، فلا تعرف الغث بينها من السَّمين ولعل أوسع ما جاء في ذلك ما كتبه الشهرستاني في «المِلل والنِّحَل»، وأحمد بن واضح المعروف باليعقوبي وهذا نصُّه (طبعة ليدن، ج١، ص٢٩٤–٢٩٦):

«وكانت أديان العرب مختلفة بالمجاورات لأهل المِلل والانتقال إلى البلدان والانتجاعات، فكانت قريش وعامة ولد معد بن عدنان على بعض دين إبراهيم يحجُّون البيت، ويقسمون المناسك ويَقْرُون الضيف، ويعظمون الأشهُر الحُرُم، وينكرون الفواحش والتقاطع والتظالم، ويعاقبون على الجرائم. فلم يزالوا على ذلك ما كانوا ولاة. وكان آخر من قام بولاية البيت الحرام مِن ولد مَعَد: ثعلبة بن إياد بن نزار بن معد. فلما خرجت إياد وَلِيَت خزاعة حجابة البيت؛ فغَيَّروا ما كان عليه الأمر في المناسك، حتى كانوا يفيضون من عرفات قبل الغروب ومِن جَمْع بعد أن تطلع الشمس، وخرج عمرو بن لُحَيٍّ. واسم لُحَيٍّ ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر إلى أرض الشام، وبها قوم من العمالقة يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأوثان التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها، نستنصرها فنُنْصر ونستسقي بها فنُسْقى. فقال: ألا تعطوني منها صنمًا، فأسير به إلى أرض العرب عند بيت الله الذي تَفِد إليه العرب؟! فَأعْطَوه صنمًا يقال له: هُبَل. فقدم به مكة فوضعه عند الكعبة. فكان أول صنمٍ بمكة، ثم وضعوا به إساف ونائلة كل واحد منهما على ركن من أركان البيت. فكان الطائف إذا طاف بدأ بإساف فقبَّلَه وختم به، ونَصَبوا على الصفا صنمًا، يقال له «مُجاوِر الريح»، وعلى المَروة صنمًا يقال له «مُطعِم الطير». فكانت العرب إذا حجَّت البيت، فرأت تلك الأصنام سألت قريشًا وخزاعة فيقولون: نعبدها؛ لتُقرِّبنا إلى الله زُلْفى. فلما رأت العرب ذلك اتَّخذت أصنامًا، فَجعلَت كل قبيلة لها صنمًا يُصَلُّون له؛ تقرُّبًا إلى الله فيما يقولون، فكان لكلب بن وبرة وأحياء قُضاعة «وَدٌّ» منصوبًا بِدومَة الجَنْدَل بجَرش، وكان لحِمْيَر وهَمدان «نَسْر» منصوبًا بصنعاء، وكان لكنانة «سُواع»، وكان لغطفان «العُزَّى»، وكان لهند وبجيلة وخثعم «ذو الخَلَصة»، وكان لطيِّئ «الفُلس» منصوبًا بالحبس، وكان لربيعة وإياد «ذو الكَعبات» بسنداد من أرض العراق، وكان لثقيف «اللَّات» منصوبًا بالطائف، وكان للأوس والخزرج «مَناة» منصوبًا بفَدَك مما يلي ساحل البحر، وكان لِدَوس صنم، يقال له «سعد»، وكان لقوم من عُذرة صنم يقال له «شمس»، وكان للأَزْد صنم يقال له: «رئام».»

وإذا أضفت إلى الأصنام المذكورة في هذه النُّبذة أسماء آلهة أخرى، ورَدَ ذِكْرها في المعاجم وفي بعض التواريخ والشروح؛ كرضا، ومناف، وجَلْسَد، وسعير، والقصير بلغ بك العدُّ إلى نحو ثلاثين صنمًا. وإذا بحثت عنها وعن صفاتها وخواصها، والأمكنة التي شاعت فيها عبادتها وطرائق مناسكها؛ وجدتَ الكتبة يتباينون ويتناقضون، فلا يكاد يُعوَّل على كلامهم. ولعل كثيرًا من هذه الأصنام لم تُعبَد في جزيرة العرب كوَدٍّ وسُواع ويغوث ويعوق ونَسْر، الذين يقال عنهم إنهم من آلهة قوم نوح (اطلب: سورة نوح، ع٢٢-٢٣)، فأين هذا وما زعم ابن إسحاق وابن هشام أن في الكعبة كان عدد الأصنام ٣٦٠ على عدد أيام السنة؟

وقد سعى المستشرقون أن يَسدُّوا هذا الخَلَل؛ فاستخرجوا أسماء لأصنام أُخَر عربية من أعلام الرجال المسبوقة باسم عبد؛ كعبد الأسد، وعبد تَيْم، وعبد الحارث، وعبد الدار، وعبد عمرو، وعبد المَدَان، وعبد المُطَّلب، وعبد الملك. وزعموا أن المُضاف إلى عبد مدلوله صنم من الأصنام، وكذلك الأسماء المسبوقة ﺑ «امرؤ» كامرئ القيس وامرئ اللات، أو المختومة باسم «إيل» كشراحيل وخيليل وشهميل وقسميل، ومنها أعلام عربية وردت في التواريخ اليونانية، أو الأسفار المُقدَّسة، أو الكتابات النبطية مركبة من ألفاظ دالة على الإله؛ مثل: Αραµηλος، وΖαβδιηλ، وלמלשת، وשמואל وغير ذلك.

فهذه الأعلام وغيرها أيضًا مما يمكن جَمْعها من المعجمات والآثار، ولو ثبت أنها دالَّة على أصنام العرب ومعبودات القبائل، إلا أنها لا تفيدنا فتيلًا لمعرفة خواصها وسدَنتها، والأمكنة والأزمنة التي شاعت فيها عبادتها وطرائق إكرامها والمناسك الخاصة بها، وفي بعض رواياتهم عنها ما لا يقبله العقل السليم ويردُّه النقد الصحيح كقول مُؤرِّخي العرب عمومًا بأن أول مَن أتى بالأصنام من بلاد الشام وجعلها في الكعبة إنما هو عمرو بن لُحَيٍّ رئيس بني خزاعة، لما طرد بني جُرْهُم منها وتولَّى مع قومه تدبيرها. فلدينا كما سترى شواهد تبطل هذا القول. ومثله مزاعم أخرى لا بد أن تُعرض على محك الانتقاد، فلا تُقبل إلا بالبرهان؛ لأن مُؤرِّخي العرب لم يُدوِّنوا رواياتهم إلا بعد الإسلام بزمن طويل، فكتبوا ما تناقلته الألسن شفاهًا، فتضاربت رواياتُه واختلفت صوره.

فهَلُمَّ نروي خلاصة ما ورد عن ديانة العرب في أقدم الآثار الحجرية، أو في التواريخ القديمة، مستندين في ذلك إلى ما كتبه أوثق الكتَبة مع ما جمعناه في مطالعاتنا العديدة، وهذه أخصُّ التآليف الحديثة في هذا الصدد:
  • (١)
    جزيرة العرب قبل محمد في الآثار للعلامة ف. برجه Berger (Ph): L’Arabie avant Mahomet d’aprés les Inscriptions.
  • (٢)
    أديان العرب في الجاهلية لبرغمان Bergmann: De Relgione Arabum anteislamica.
  • (٣)
    العرب في الشام قبل الهجرة للعلامة دوسو Dussaud (R.): Les Arabes avant l’Islam en Syrie.
  • (٤)
    سُواع والعُزَّى والكتابات اليمنية Glaser (E): Suwā’ und al–’Uzza.
  • (٥)
    مقدمة جِرِيمه على تاريخ محمد Grimme (H.): Mohammad.
  • (٦)
    أبحاث عن الشرق الإسلامي لهرتمان Hartmann (M.): Der islamsche Orient, II, Berichte und Forschungen.
  • (٧)
    ديانة عرب الجاهلية للألماني كراهل Krehl (L.): Ueber die Religion der vorislamischen Araber.
  • (٨)
    تاريخ الشرق القديم لفرنسوا لونرمان ولبابلون Lenormant (Fr.) et Babelon: Histoire ancienne de l’Orient, 9e éd.
  • (٩)
    العرب القدماء للعلامة نولدك Noeldeke (Th.): Arabs (ancients) dans (ENCYCLOPÆDIA OF RELIGION AND ETHICS).
  • (١٠)
    تاريخ العرب لكوسان دي برسفال Perceval (C. de): Essai sur l’Histoire des Arabes avant l’Islamisme.
  • (١١)
    بنو لخم في الحيرة لروتشتين Rothstein (G.): Die Dynastec der Lahmiden in Al-Hira.
  • (١٢)
    بقايا الوثنية بين قدماء العرب للمستشرق فلهوسن Wellhausen (J.): Reste arabischen Heidentums, 2e éd.

هذا إلى مقالات متعددة ظهرت في المجلات الآسيوية الفرنسوية والألمانية والنمساوية، وفي نشرات أخرى شرقية، كالنشرة السامِيَّة وغير ذلك.

•••

كان زعم رينان زعمًا غريبًا، وأراد أن يثبته بالأدلة الوضعية لولا أن الاكتشافات الحديثة جاءت كلها مُزيِّفَة لزَعْمِه. ذهب المذكور إلى أن الشعوب السامِيَّة عمومًا والعربية خصوصًا كانت تقول بالتوحيد، لا عن وحيٍ خاص بل عن غريزة؛ لأن عقل الساميين على زعمِه مطبوع من أصله على البساطة، فيوافق توحيد الله بساطة عقله، وكانت غايته من ذلك أن ينكر الوحي بالإله الواحد إلى بني إسرائيل.

فالآثار العربية قد كَذَّبت هذا المزعم كما كذبته اكتشافات بقية البلاد السامِيَّة.٢ فإن العرب في الجاهلية عاشوا في الشِّرك مدة قرون عديدة. أما شِرْكهم فكان تأليه قُوى الطبيعة إجمالًا والأنوار العلوية خصوصًا. ولا عجب فإن قومًا كانت عيونهم ليلًا مع نهار تشخص إلى الأجرام النَّيِّرة لم يلبثوا أن عظَّموها، حتى تَحوَّل تعظيمها إلى إكرام وسجود؛ لظنهم أن فيها قُوًى فائقة الطبيعة. ثم إن العرب قبل تَوغُّلهم في الجزيرة كانوا جاوروا الكَلْدان، وأخذوا منهم عبادة النجوم. وما لا شك فيه أن عرب اليمن كانوا على ديانة الصابئين يعبدون الكواكب والسيارات السبع. قال الشهرستاني في المِلَل والنِّحَل (طبعة لندن، ٤٣١): «أما بيوت الأصنام التي كانت للعرب والهند، فهي البيوت السبعة المعروفة المبنية على السبع الكواكب.» يريد بالعرب أهل اليمن خصوصًا.

(٢-١) الشمس

بل عمَّت عبادة الكواكب كل أنحاء العرب، فكانوا يعبدونها في شَمالِيَّ الجزيرة وفي غربيِّها وجنوبها الغربي على صور شتى، وتحت أسماء مختلفة. ولما كانت الشمس هي النَّيِّر العظيم؛ فإن عبادتها بين العرب فاقت على سواها.٤ تارة يُؤنِّثُونها وتارة يُذَكِّرونها، ولدينا على صحته شواهد راقية إلى القرن السابع قبل المسيح، فإن بين الكتابات التي وُجدت في بابل كتابة «لتغلَتْ فلاسر» يذكر فيها انتصاره على مدينة دَوْمة الجندل، وظفره بملكتها التي كانت كاهنة للإله «شمس» (A. Layard: Inscriptions, p. 72). ومن الشواهد القديمة السابقة لعهد المسيح شهادة هيرودوتس الذي يُصرِّح في تاريخه (ك٣، ف٨) بأن العرب كانوا يعبدون أوروتال (Ούροταλ)، وهي لفظة مركبة في اللغات الآرامية من אור؛ أي نور، وחעלח كالعربية تعالى من فعل צלת؛ أي علا. والمعنى: النور المتعالي وأرادوا به الشمس. والدليل عليه أن هيرودوتس بعد ذِكْره أوروتال أردف بقوله: «وهو ديونيسيوس أو نجوس»، الذي كان عند اليونان إله الشمس. وكرَّر ذلك الجغرافي إسترابون (Strabon, XVI, 741)، والمؤرخ أريان (Arrien, VII, 20) ومثلهم أوريجانوس في القرن الثالث للمسيح في رده على كلسوس (Origenes: contra Celsum, V, 37)، وكان النبطيون يعبدون الشمس عبادة خاصة، وكان لهم في عاصمتهم سلَع (Petra) معبد كبير لإكرامها، وإنما كانوا يدعونها باسم آخر، وهو ذو الشَّرى (Δουσάρηϛ) أي الإله المنير، وقد ورد اسمه مرارًا في كتابات عيون موسى ومدائن صالح وطور سينا،٥ أما كون ذي الشَّرى يراد به الشمس، فالأمر واضح من قول استرابون الذي يؤكد أن النبطيين يعبدون الشمس (’Hλιοϛ)، وكانوا جعلوا عيدها في ٢٥ ك١ كما أفادَنا القديس إبيفانيونس في كتابه عن الهرطقات (Epiphanius Hæres, 51). وزاد مكسيموس الصوري أن النبطيين كانوا اتخذوا صنمًا لذي الشَّرى، وهو حَجر أسود مكعب عُلوُّه أربعة أقدام، وعرضه قدمان (Maximus Tyr., c. 38)، ومن الأسماء التي شاع بها اسم الشمس في جهات العرب، وأكرموها على منطوقه «ذو الشارق» و«المُحرِّق». وكانوا يصرحون عن إكرامهم لها بأن يتسمَّوا بأسمائها؛ إذ وجدوا بين أسماء العرب من دُعوا باسم عبد الشمس، وامرئ الشمس، وعبد المُحرِّق، وعبد الشارق. ومن أصنام جنوبي العرب «الذريح» أرادوا به أيضًا الشمس الطالعة.

(٢-٢) القمر

ليس لدينا نص صريح يُنوِّه بعبادة العرب للقمر إلا ما يقال عن عبادة بني كنانة (Bergmann, 4) وكذلك قد عَبده الحِمْيريون وبقية الصابئين مع السيارات السبع، بل نُرجِّح أن عبادته شاعت في غير أنحاء الجزيرة، وربما جمعوا بينه وبين الشمس فعبدوهما معًا.

(٢-٣) العزَّى

ومن أشهر معبودات العرب التي شهد لها قدماء الكتبة من يونان ورومان وغيرهم: اللات. يقول كتبة العرب (اطلب: معجم البلدان، لياقوت، ٤: ٣٣٦-٣٣٧) إنها كانت صخرة بيضاء مربعة تعبدها ثقيف في الطائف، وكانوا اتَّخذُوا له بيتًا فطافوا به وجعلوا له سدنة. واليوم قد أجمع الأثريون على أن اللات هي الزُّهرة، ولنا على ذلك شهادة هيرودوتس المؤرخ. قال في تاريخه (ك١، ف١٣١): إن العرب يعبدون الزهرة السماوية ’Αϕροδίτη Ούράνια، وهم يدعونها أليتَّا (’Αλίττα)، وقد أصلح اسمها في محل آخر (ك٣، ف٣) فدعاها الإلات (’Αλιλάτ) وهو اختصار الإلاهت كما اختصروا الاسم الكريم الإله فقالوا الله. ثم اختصروا الإلات فقالوا: اللات، وكانت اللات معبودة في كثير من جهات الجزيرة، ليس الطائف فقط، كما زعم كتبة العرب؛ فإن الأثريين وجدوا كتابات عديدة ورد فيها ذِكْر اللات، ولا سيما في بلاد النبط في حِجر وصلخد والبصرى، حيث كان لها هيكل، وفي أنحاء حوران وحتَّى في تدمر، وتُدعى هناك بألقاب تدل على مقامها كاللات العظمى وأم الآلهة، وكانوا يضيفون إلى اسمها اسم المكان الذي تكرم فيه فيقولون: «لات صلخد» و«ولات حبران» … إلخ.
ودخل إكرامها بين أهل المدَر وبين سكنى حوران المتكلمين باليونانية، فنقلوا اسمها إلى اليونانية على صورة «أثيني» (’Αθηνα) وهي عند اليونان إلهة الحكمة (Minerve) لكن صورها وأوصافها في الكتابات القديمة تثبت على كونها الزُّهَرة Vénus، ومما يدل على انتشار عبادتها بين العرب كثرة الأسماء المركبة من اسمها كوَهْبلات، وتَيْم اللات، وعمرو اللات، وزيد اللات وغيرها أيضًا مما وُجد في الآثار والأعلام القديمة.
وعُرفت الزُّهَرة بأسماء أخرى على مقتضى أحوال ظهورها مساءً بعد غيوب الشمس، أو صباحًا قبل طلوعها فيدعون نجمة المساء عَتر، وهي أيضًا أستار أو عشستر (Astarté) أو عَتَرْعَتَا (Atargatis) أما نجمة الصبح، فشاع اسمها العزَّى أي الإلهة السامِيَّة. وجاء ذكرها باسم كوكب الحُسن في ميامر إسحاق الأنطاكي (ص١: ٢٤٧) من كتبة أوائل القرن السادس، وصرَّح بأنها هي الزُّهَرة.٦ وأخبر بروكوبيوس المؤرخ في القرن السادس أن المنذر صاحب الحيرة ضحَّى للعُزَّى بابن عدوِّه الحارث ملك غسان، وكان في يده كأسير. وذَكَر العُزَّى قبله القديس أفرام السرياني والقديس إيرونيموس، ثم روى القديس نيلوس من أشراف القسطنطينية خبر ابنه الذي أسره عرب البادية، وأرادوا تضحيته لإلهتهم العُزَّى؛ أي الزهرة عند طلوعها صباحًا، لولا أن النوم تثاقل عليهم فنجا الولد، وذلك نحو السنة ٤١٠ للمسيح. وفي تواريخ السريان أن أحد ملوك الحيرة ضحَّى للعزَّى بعدد من البتولات المسيحيات. وكان كثير من العرب يتسمون باسمها فيُدْعَون «عبد العُزَّى»، ويظن العلامة نولدك أن الغَرِيَّين أو الطِّرْبَالَين اللذين كان المُنذِر في يوم شؤمه يَصُبُّ عليهما دم أول وافد إليه إنما كانَا رمزًا إلى العزى.٧
ومن أسماء العزى أيضًا المناة كأنهم دَعَوْها بذلك لسطوتها.٨ وعلى رأي ياقوت (٤: ٦٥٢) أنها كانت من الأصنام التي أتى بها عمرو بن لُحَيٍّ وأنها أقدمها. وقال في محل آخر (٤: ٣٣٧): إنَّ اللات أُخِذَت من مناة، وروى عن ابن الكلبي (٤: ٦٥٢) أن مناة كانت صخرة، وهذا كله ينطبق على صورة العُزَّى واللات السابق ذِكْرُهما، وكما دعوا عبد العزى سمَّوا أيضًا عبد مناة، وكان أخص إكرام مناة في هُذَيل قريبًا من مكة وفي يثرب، وكانت قبائل الأزد وغسَّان قبل تَنصُّرها تعبدها (ياقوت ٤: ٦٥٢).
ومن أسماء الزُّهرة أيضًا «كَبر» ذكره أفتيموس الكاتب اليوناني (Pocock, 2I) وقال: إنها من معبودات العرب، وإن كبر (ϰαβαρ) هي الزُّهرة أو نجمة الصبح، ودعاها قدرينوس المؤرخ كُبَر (ϰονβαρ).٩

وكان أهل الجاهلية عمومًا — ولا يُسْتَثنى منهم العرب — يجعلون الآلهة أزواجًا لكل ذَكَر أنثاه، فكان لإلهة الشمس تِرْبُها، وهو البَعْل من أصنام العرب، أيضًا كان مكرَّمًا في شبه جزيرة سينا، وتَسمَّى به العرب: عبد البعل وأوس البعل، وربما أشاروا به إلى الشمس. وكان ذكَر العُزَّى الإله «عزيز» الذي وُجِد اسمه في عدة كتابات في جهات الرُّهَا وحوران، وكان ذكر اللات «اللاه» وجدوا اسمه في آثار كتابية. وكان لعَتَر زوجها وهو الإله «مونيموس» الذي يُذكر مع «عزيز».

ومما يُلْحَق بعبادة الكواكب والنيِّرات العظمى عند عرب الجاهلية إكرامهم لزُحَل والشِّعْرى والدَّبَران والجوزاء أو الجَبَّار والثُّريَّا يستدل عليه من بعض أقوالهم أو من أعلامهم كعبد الثريا، وعبد نجم، وعبد الجبار، وكذلك تعظيمهم لبعض المظاهر الجوية كتعظيم الإله قُزَح الذي كان يُكْرَم قريبًا من مكة، وقد أفادنا يوسيفوس الكاتب في كتابه العاديات اليهودية (Ant. XV, 255) أن عرب آدوم كانوا يكرمون إلهًا يدعونه Κοζέ ورأي العلماء أنه قُزَح المذكور وإليه نَسبوا قَوْس الغمام.
وكانوا يدلون على آلهتهم بنعوت شتَّى فإن أصحاب الأسفار الحديثة في اليمن وفي جهات الصفا كغلارز (Glaser)، ودوسو (Dussaud) وجدوا في الكتابات الحميريَّة والنبطية ذِكر تقادم لآلهتهم فمنها للإله مالك، والإله رحمن، والإله رحيم، والإله عزيز السابق ذكره، وربما نسبوا آلهتهم إلى بعض الأمكنة التي كانوا يُكْرَمُون فيها؛ مثاله: ذو الشَّرَى، وذو خَلَصة، وذات السلام.
ومن الأصنام المذكورة في الكتابات الحجرية١٠ وفي بعض الآثار القديمة والأعلام التاريخية موصوفات شتى تدل على أسماء معاني كالخِصْب والسعادة والغنى والعز؛ منها الإله جَد والإله سعد والإله رُضا والإله كُثْرى والإله وَدٌّ والإله مَناف، فهذه كلها كان العرب يكرمونها ويتفاءلون بها وينتسبون إلى عبادتها فدعوا بأسمائها؛ عبد الجد، وعبد الرُّضا، وعبد وَد، وعبد مَناف، وجاءت أسماؤها جميعًا في الكتابات المكتَشفة حديثًا، ويقول الكتبة المسلمون: إن أهل دَوْمة الجندل كانوا يكرمون صنمًا على اسم ود (ياقوت ٤: ٩١٣).
وللعرب صِنف آخر من الشِّرْك شاع عند أمم كثيرة، وهو تكريمهم لمواليد الطبيعة (fétichisme) من جماد ونبات وحيوان، فمن آثار تعظيمهم للجماد إكرامهم لحجارة بيضاء أو سوداء كانوا يُوقِعُونها موقع التَّجلِّي للقوات العلوية كانت تكرم في بعض جهات اليمن والحجاز وبلاد النَّبط، وكان ذلك شائعًا عند غيرهم من أهل الشرق، فإن هيكل الشمس في حمص كان محتويًا على حجر أسود يمثل إله الشمس وكان هليوغَبَل سادنًا له قبل أن يتولى التدبير كقيصر روماني، وكان ذو خَلَصة مَرْوةً بيضاء.

ومن آثار إكرامهم للجماد الأنصاب، وهي حجارة كانوا يَنْصِبونها في أنحاء بلادهم ذِكْرًا لآلهتهم ويَصبُّون عليها الزيت أو الأقط أو السمن أو يطلونها بدم الذبائح، ولعلهم أقاموها في بعض المواطن كتذكار لحادث جليل أرادوا تخليده بينهم فأكرمها الأخلاف وعظَّموها.

وكذلك كانوا يقيمون المناسك لبعض الأشجار كالنخل، وقد روى الكتبة كياقوت وابن خلدون أن العُزَّى كانت تكرم في نجران على صورة النخلة، وكذلك في نخلة اليمانية مكان قرب مكة (ياقوت، ٤: ٧٧٠)، ومنها ذات أنواط قال ياقوت (١: ٣٩٣): «إنها شجرة خضراء عظيمة كانت الجاهلية تأتيها كل سنة لها فتُعلِّق عليها أسلحتها وتذبح عندها وكانت في جوار مكة»، وقد بقي شيء من هذا الإكرام للأشجار حتى يومنا في أمكنة حيث يعلق بعض جهال العرب وغيرهم أخلاقًا وأسمالًا من الخرق في أغضان بعض الأشجار لينجوا من الحميات.١١
وكما عبد أهل الجاهلية الجماد والنبات عبدوا أيضًا بعض الحيوانات والطيور، منها النَّسْر الوارد ذكره في القرآن (٧١: ٢٣) مع وَد وسُواع ويَغُوث، وممن شهد على كون نسر من معبودات العرب كتاب التلمود لليهود (في فصل عبوده زارا)، وكتاب تعليم الرسول عدي في القرن الثالث للمسيح وكلاهما يدعوه باسمه الآرامي «نشرَا »، وقد امتدت عبادة النسر بين الآراميين، ومنها «عَوْف» وهو اسم طائر صياد وأحد أسماء الأسد ورَد ذِكْره كإله في الإعلام فقالوا: عبد عوف، وزعم البعض أن أسماء القبائل كأسد ونمر وكلب كانت تدل سابقًا على بعض عبادة يقدمها أصحاب القبائل لهذه الحيوانات، وقد بقي أيضًا أثر هذه العبادة في خدمة بعض الطيور والأسماك في أنحاء الشرق كالرُّهَا وحلب وطرابلس، فإنَّا رأَيْنا ذلك بالعيان.

هذا نظر إجمالي في آلهة العرب ومعبوداتهم، ويلحق به عدة أبحاث يلزمنا الكلام عنها.

«المقامات الدينية» العرب إما أهل وبَر وإما أهل مَدَر فكان يصعب على القِسْم المتبدِّي منهم أن يتخذوا أمكنة ثابتة لإقامة عباداتهم، ومن ثم كانت الفرائض عندهم بسيطة يقيمونها حيثما حلُّوا، إما بتوجيه نظرهم إلى الأجرام الفلكية مع ذكر آلهتهم، وإما ببعض أعمال تقويَّة من سجود ودعاء وتقادُم، لا سيما في بعض أطوار حياتهم المهمة كمَوْلِد بَنِيهم وتزويجهم ودفن موتاهم، وفي بعض أمكنة عالية يدعونها المشارف، وكان إكرامهم لمواليد الطبيعة يُوافِق أيضًا حالتهم البدوية فيجدون منها شيئًا أينما ساروا كالأنصاب وبعض الأشجار والطيور التي يعيفونها ويزجرونها على مقتضى حركاتها يمينًا أو شمالًا، وكذلك يتيمنون بالصيد السانح ويتشاءمون بالبارح، وكان الأب في عائلته والشيخ في قبيلته يقومان مقام الكهنة ويتوليان إجراء المشاعر الدينية باسم ذويهم.

أما أهل المدَر وبالأخص الذين بلغوا منهم درجة راقية من التَّمدُّن كالحِمْيَرِيِّين والنَّبَطِيِّين ودول الحِيرَة وكَنْدة وغَسَّان فما كانوا ليكتفوا بهذه العبادة البسيطة، وإنما خصصوا لديانتهم أمكنة كانوا يفردونها لذلك، بمضارب يزينونها بأصناف الجلود والأقمشة على شكل قبة العهد في بني إسرائيل، وإما بتشييد بعض الأبنية لهذه الغاية وكان بعضها فخيمًا أثيرًا كغمدان وبعض هياكل النَّبَط مما ظهرت آثاره في هذه السنين الأخيرة في مدينة سلع وجوارها، وقد نقل الكاتب اليوناني ديودورس الصقلي (Diod. III, 45) عن السائح الإقريطشي أغاثرشيدس في القرن الثاني قبل الميلاد وصفًا لثلاثة هياكل زارها في جزيرة العرب قريبًا من سواحل البحر، وربما دعوا هذه الهياكل بالمساجد فإن لفظة المسجد قديمة وردت في كتابات النبط المكتشفة حديثًا.
ومن مقاماتهم الدينية «الكعبات» وهي بيوت مربعة مرتفعة على أشكال الكعاب كانوا يفرزونها لدينيَّاتهم منها ذو الكعبات في شمالي الجزيرة لبني إياد؛ ومنها كعبة نجران، والكعبة اليمانية حيث كان بنو خثعم يعبدون صَنَمهم المسمى ذا الخَلَصة مع غيره من الأصنام.١٢ وأشهر منها الكعبة الحجازية في مكة، وأول من ذكرها في التاريخ ديودورس الصقلي في القرن الأول قبل المسيح، حيث قال (ك٣، ص٢١١): «إن في جهات العرب المجاورة لبحر القلزم هيكل يبالغ في إكرامه كل العرب»، وربما سمَّوا كعباتهم بالبيوت؛ لأنها كانت مكعبة، وكثر عدد هذه الهياكل في بعض الأمكنة حتى إن بلينيوس الطبيعي في القرن الثاني للمسيح عد منها ستين في مدينة سبأ حاضرة اليمن و٦٥ في تمنة مدينة بني غطفان.

وكانوا يتخذون لهذه المقامات «حَرَمًا» أي يجعلون لها دائرة تحفظ حرمتها ولا يجوز لأحد انتهاكها وكان حرم مكة أشهرها، وكذلك كان يخدم هذه المقامات رجال يدعونهم كهنة أو كُهانًا ويريدون بهم الخبيرين بالأحوال الماضية والعرافين، وربما دعوهم سَدَنة أي خدَمًا للمقدس لقيامهم بحاجاته وحاجات زواره، ومنهم من تسمى باسم هذه الأمكنة كعبد الكعبة وعبد الدار.

وكانوا يزينون تلك الهياكل بالتصاوير المنقوشة على جدرانها أو ينصبون فيها التماثيل للأصنام على هيئات شتى، منها حجارة منحوتة بيضاء أو سوداء، ومنها صخور من العقيق وبعض الحجارة الكريمة أو الصخور العادية كسعد معبود بني كنانة الذي فيه يقول الشاعر:

أتينا إلى سعد ليجمعَ شملنا
فشتَّتَنا سعد فلا نحن من سعدِ
وهل سعد إلا صخرة بتَنُوفةٍ
من الأرض لا تدعو لغيٍّ ولا رشدِ

ومن الأصنام ما كان يمثِّل أشخاصًا بعينهم يجعلون في أيديهم شارات أو أمتعة تدلُّ على خواصهم الموهومة كوَد وهُبَل جعلوا في أيديهما أقواسًا وأزلامًا، وكالشمس اتخذوا لها صنمًا بيده جوهر على لون النار وجعلوا لها بيتًا حجُّوا إليه، وكذلك اتخذوا للقمر صنمًا على شكل العجل وجعلوا في يده جوهرة، ونصبوا أيضًا أصنامهم في خارج الهياكل بقربها أو على مشارف ليراها الناس كنائلة وإساف ومناف.

وكانوا يكرمون تلك الأصنام بمناسك مختلفة منها «حَجُّهم» إليها أفرادًا أو زرافات.

وكانوا إذا اغتسلوا أو توضَّئُوا يَطُوفون حول الصنم دفعات معدودة ويستلمون الصنم أو يقبلونه ويتقربون منه بتلبية معلومة قد دَوَّن منها الكَتَبة بعضها كتلبية ذي الكفين صنم دوس رواها ابن حبيب: «لبَّيك اللهم لبَّيك إنَّ جُرْهمًا عِبادُك، الناس طُرُف وهم تِلادُك، ونحن أولى منهم بولائك.» وروى تلبية نَسر: «لبيك اللهم لبيك لأننا عبيد، وكلنا ميسرة وأنت ربنا الحميد.» وتلبية شمس صنم تميم: «لبيك اللهم لبيك لبيك ما نهارنا نجرُّه. أزلامه، وحَرُّه وقُرُّه، لا نتقي شيئًا ولا نضرُّه، حجًّا لرب مستقيم بِرُّه.»

ومن مناسكهم أيضًا أنهم كانوا يسكبون «السَّكْب» من خمر أو زيت أو حليب لأصنامهم أو يجعلون أمامها طعامًا يأكله الطير، وقد سمَّوا لذلك بعض آلهتهم «مُطْعِم الطير».

وكانوا أيضًا يقصُّون عند أوثانهم نواصي أولادهم أو يحلقون شعورهم، أو يرمون عندها الجمرات وهي الحصى كما أثبت ذلك أحد كبار المستشرقين العلامة شوفين،١٣ وكانت العذارى أيضًا يَرقُصْن حول الأصنام مُسْبِلات ذيولهنَّ كما قال امرؤ القيس:
فعنَّ لنا سِربٌ كأنَّ نِعاجه
عذارى دُوار في مُلاءٍ مُذَيَّلِ
ومن أخص مناسك العرب الذبائح١٤ لأصنامهم، وخصوصًا للات والعُزَّى ومَناة، فإنهم كانوا يرون في سفك الدماء وسيلة لإخماد غضب الآلهة وللتقرب منهم، وطلب رضاهم، وما كانوا يأنفون من تضحية البشر أنفسهم كما سبق القول، وممن شهد على ذلك برفيريوس الفيلسوف الوثني١٥ في القرن الثاني للمسيح قال: «إن أهل دَوْمة الجندل كانوا كل سنة يضحون لإلههم رجلًا ثم يدفنونه بقرب المذبح»، وروى بروكوبيوس اليوناني ومؤرخ سرياني قديم نشر أعماله لند (Land) أن المنذر ضَحَّى لِلعُزَّى ابن ملك غسان أسيرَه و٤٠٠ من الرواهب المُتَنسِّكَات في بعض أديرة العراق، وقد اتَّسَع نيلس من كَتَبة القرن الخامس بوصف غزوات أهل البادية لطور سينا، وذكر قتلهم للرهبان الذين هناك وشرح خصوصًا ما حل بابنه تاودولس الفتى، وكيف أسره أهل البادية من العرب فعوَّلوا على تضحيته للعُزَّى كوكب الصبح، وقد وصف الكاتب ما كان دارجًا عندهم من العادات في مثل هذه المناسك فنرويه هنا معرَّبًا للدلالة على ديانتهم فقال يذكر تفاصيل ذبائحهم:١٦

«وليس لهؤلاء الهمج دين إلا أنهم يكرمون كوكب الصبح «العُزَّى» ويخرُّون له ساجدين ويضحُّون له أجود أسراهم الذين أخذوهم في الغزوات، وهم يُفضِّلون لذلك الشبان إذا كانوا في عِزِّ الشباب وصَبِيحي الوجوه، ويعدُّون لهذه الغاية مذبحًا من الحجارة والصخور التي يكوِّمونها وينتظرون الفجر حتى إذا لاح كوكب الصبح يضربون الضحية بالسيوف ويشربون دمها، وعادتهم إذا لم يقع في يدهم أحد من الأسرى أن يضحوا ناقة من العيس خالصة البياض فينيخونها ويدورون حولها ثلاثًا ثم يتقدم كاهنهم أو زعيمهم بكل رونق وهم يتغنون بأغانيهم فيضرب بسيف أوداج الناقة ويَتلقَّى دمها فيشربه، ثم يركض الباقون ويقطع كل منهم قطعة من الذبيحة فيأكلونها نيئة ويسرعون في ذلك لئلا يبقى شيء من الجزور حتى الجلد والعظام عند طلوع الشمس.»

ثم انتقل الكاتب إلى وصف ما جرى لابنه وكان الفتى مترهبًا معه في جبل الطور يعيش منفردًا في بعض أنحائه إذ هجم عليه العربان وإذ رأوه وسيمًا جميلًا استَعدُّوا لتقريبه للعزَّى، فقال نيلس راويًا لما سمعه من ابنه بعد أن نجا من الأسر:

«وكان هؤلاء الغزاة عزموا على تضحيتي لنجم الصبح فأعَدُّوا كل شيء للذبيحة في سَحَر اليوم التالي، فأقاموا لذلك مذبحًا وهيَّئُوا السيف والسَّكب والأقداح والبخور، وكنتُ أنا مُلقًى على وجهي على الحضيض، أما نفسي فكانت مرتفعة إلى الله أدعو إليه بحرارة كي ينقذني من هذا الخطر العظيم … وكان البرابرة قضوا قسمًا كبيرًا من ليلهم أكلًا وشربًا وقصفًا حتى غلب عليهم النوم فهجعوا إلى الصباح ولم يستيقظوا إلا والشمس قد طلعت وفات وقت الضحية … فلما رأوا ذلك أخذوني إلى قرية تدعى «سوقا» وتهدَّدوا بقتلي أمام أهلها إن لم يَفْدِني أحد منهم، فرحمني أحدهم ودفع فِدْيَتي واهتم بشأني أسقف المحل وها أنا الآن عائد إلى والدي.»

ومن دياناتهم إذا ضحَّوا الضحايا أن يصبُّوا دمها على الأنصاب كما سبق ويَطْلُوا به أجسامهم ويغمسوا به أيديهم عند حلفهم دلالة على صدق مواعيدهم ويدعون ذلك «اليمين الغموس».

(٣) بقية أديان الجاهلية غير النصرانية

كان الشِّرْك يعمُّ كما ترى بلاد العرب في الجاهلية، ولا نريد أن نحدد هنا زمنه هل امتد إلى مدة القرون التي سبقت الإسلام؟ أو هل شمل أنحاء الجزيرة التي عرفت الإله الواحد الصمد فَندَع الأمر للفصول الآتية؟

وإنما نضيف إلى قولنا السابق شيئًا عمَّا عُرف من الديانات الأُخَر في جزيرة العرب غير النصرانية بوجيز الكلام فنقول: إن هذه الأديان كانت المجوسية، والصابئية، واليهودية، وقد نوه بها في القرآن غير مرة.

figure
  • (١)

    المجوسية: ديانة قدماء الفُرس الذين كانوا يعبدون النار ويرون فيها صورة اللاهوت ويقرنون بها عبادة النور، أخذوا هذا الدين من كيومرت أحد أجدادهم، وخصوصًا مِن زرادشت حكيمهم، فهل أثَّر هذا الدين في العرب؟ فالأمر ممكن بل هو محتمل لتقرُّب بلاد العرب شمالًا من الفرس ولخدمتهم لملوكهم في جهات العراق، وممَّن أشاروا إلى دخول المجوسية بين العرب ابن قتيبة فزعم أن المجوسية كانت في تميم، والله أعلم.

  • (٢)

    الصابئية: إذا أُريدَ بها عبادة النجوم والشمس والقمر والسيارات السبع فإنها انتشرت خصوصًا في جنوبي جزيرة العرب، أما إذا أريد بها شيعة المندائيين الذين لا يزال منهم بضعة ألوف في العراق فإن تأثيرها في العرب كان مُنحصِرًا، ومن أراد تاريخ هذه الشيعة فعليه بالمقالات المُطوَّلة التي نشرها حضرة الأب أنستاس في المشرق في سنواته الثالثة والرابعة والخامسة، فإنه استوفى فيها الكلام.

    ويلحق بدين الصابئين مذهب الحَرَّانيين الذين عبدوا النَّيِّرات السماوية مدة أجيال طويلة، وكان لهم بيت في حَرَّان يعظمونه بقي إلى خلافة المأمون فأُخرب، وكذلك المنويَّة المنسوبة إلى ماني وتُدْعى أيضًا بالثنوية لقول أصحابها بوجود مبدأين مُتناقِضَين هما النور والظُّلمة، وآل أَمْر هذه الشيعة إلى الزَّندَقة، وقالوا قول الدهريين.

  • (٣)
    اليهودية: دخل اليهود في أزمنة مختلفة في جزيرة العرب فاستوطنوا في بعض جهاتها، وعلى الأخص بعد جلاء بابل لما فَرَّ بعض بني إسرائيل من وجه الآشوريين فَتوغَّلُوا في أنحاء العرب، وحدث مثل ذلك بعد خراب أورشليم على يد الرومان إذ تشتت شمل اليهود، وكانت سُكناهم خصوصًا ما وراء بحر لوط وفي جهات تيماء، ووادي القرى في يثرب، وخيبر، وبعض أحياء اليمن، ولم نعلم من أخبارهم إلا النَّزْر القليل، وما لا ريب فيه أن القبائل اليهودية كانت تعيش بين العرب دون أن تختلط بهم مواظِبَة على عاداتها المألوفة وشرائطها الدينية كما ترى المُوسَوِيِّين في بلاد غير جزيرة العرب، وممن كتبوا عن تأثير اليهودية في دين العرب إبراهيم غايغر (Abr. Geiger) له كتاب عنوانه (ما أخذ محمد عن اليهودية) وفيه مبالغات ظاهرة وزاد عنه تطرُّفًا المستشرق دوزي (Dr R. Dozy) الذي وضع كتابًا عن اليهود في مكة منذ عهد داود إلى القرن الخامس بعد المسيح (Die Israeliten zu Mekka von Davids Zeit bis in’s 5th Jahrhundert unserer Zietrechnung) (Leipzig, 1864) وفيه من المزاعم الغريبة التي لم يوافقه عليها أصحاب النقد.
١  ظهر كتاب شعراء النصرانية سنة ١٨٩٠م.
٢  وممن فنَّدوا رأي رينان في التوحيد الغريزي بين قدماء العرب المستشرق الشهير «يوسف هالوي (Joseph Halévy)» في مقالاته عن الكتابات المكتشفة حديثًا في بلاد العرب٢ بهمة الرَّحَّالِين إليها؛ كالإنجليزي «دوغتي Doughty»، والقنصل الفرنسوي «هوبر (Huber)»، والأستاذ «أوتنغ (Euting)» وكذلك العَلَّامة الأثري «فيليب برجه (ph. Berger)» في كراسته عن كتابات تيماء Inscriptions de Teimâ ويتضح من هذه الإكتشافات أن عبادة الأصنام كانت شائعة في جزيرة العرب ومُنظَّمة، فلها هياكل وكهنة وذبائح وآلهة متعددون خلافًا لما زعم رينان رغبة في معاداة الوحي.
٢  اطلب مقالاته المعنونة: Découvertes épigraphiques en Arabie، نشرها في مجلة الدروس اليهودية (Revue des Etude Juives, IX, 1884, P. 1 et 164).
٤  وفي المعاجم العربية وبعض التواريخ: «أن شمسًا كانت صنمًا لبني تميم ولعُذرة وكان له بيت، وكانت تعبده بنو أُدٍّ كلها، وكانت سدانته في بني أوس.» إلا أنهم لم يصيبوا بحصر عبادتها.
٥  وفي معجم البلدان لياقوت الحموي أن ذا شَرى كان صنمًا لدوس، وكانوا قد حموا لهُ حمى.
٦  وهذا بعض قول إسحاق الأنطاكي (ed. Bickell, I. 244–246) في الزُّهرة وعبادتها عند العرب ثم عدولهم إلى دين المسيح.
«لهذا الكوكب (أي الزُّهرة) كانت قبائل أبناء هاجر (العرب) تُقدِّم الذبائح «لتنال نساؤهم موهبة الحسن والجمال»، لكن نساءهم كبقية النساء فمنهن جميلات ومنهن قبيحات، ومنذ أقبلت النساء العربيات على «عبادة» شمس البر (أي المسيح) فإنهن جحدن «عبادة» ذاك الكوكب «الزُّهرة» الذي عَبدْنَه باطلًا، فإن أولئك الأفراء (أي العرب) حنوا رءوسهم للنير وإناثهم «خضعن» للتأديب، والنساء اللواتي تربين في المقدس (أي البِيعة) أَبْدَلْن «عبادة» الزُّهرة بعبادة المسيح واختلطن معنا بِصَلاتهن.»
٧  وأفاد الشهرستاني في المِلَل والنِّحَل (ص٤٣١) بأن قصر غمدان الشهير الذي كان في صنعاء، إنما كان بيتًا على اسم الزهرة.
٨  اطلب: دوسو، «العرب في الشام قبل الإسلام»، ص٢٢١.
٩  اطلب أيضًا: تاريخ نيقيتا (Nicetas) في مجموع أعمال آباء اليونان (Migne, PP.GG.t.140, col. 105–132). ويزعم بلوشه (Blochet) أن (ϰαβαρ) تصحيف لفظة كعبة. اطلب كتابه: Blochet: La culte d’ Aphrodire Anabita chez les Arabes du Paganisme, Paris, 1902.
١٠  في تاريخ الجاهلية لأبي الفداء (Fleischer: Abulfedæ Hist … anteislamica, P. 180) ما حَرْفُه عن أصنام العرب قال:
«وصنف «من العرب» عبدوا الأصنام وكانت أصنامهم مختصة بالقبائل فكان وَد لكلب وهو بدَوْمة الجندل، وسُواع لهُذَيل، ويَغُوث لمَذْحِج ولقبائل من اليمن، ونَسْر لذي الكلاع بأرض حِمْيَر، ويعوق لهمذان «لهَمْدان»، واللات لثقيف بالطائف، والعُزَّى لقريش وبني كنانة، ومناة للأوس والخَزْرج، وهُبَل أعظم أصنامهم، وكان هُبَل على ظهر الكعبة، وكان إساف ونائلة على الصفا والمروة.»
١١  اطلب: رحلة الأب جوسن الدومنيكي إلى بلاد مؤاب (Jaussen: Coutumes des Arabes au Pays de Moab. p. 330–337).
١٢  المُرجَّح أن ذا الخَلَصة لم يكن صنمًا، بل بيتًا أو بالحَرِي بِيعَة نصرانية لقبائل اليمن، قال ياقوت في معجم البلدان (٢: ٤٦١):
«الخَلَصة بيت أصنام لدَوْس وخَثْعَم وبَجِيلة … وقيل: هو الكعبة اليمانية التي بناها أبرهة بن الصبَّاح الحِمْيَرى … وقيل: كان ذو الخَلَصة يسمي الكعبة اليمانية، وبيت الحرم الكعبة الشامية.»
وقد ذكر ياقوت الكعبة اليمانية في محل آخر (٢: ٧٠٣)، ودعاها بدَيْر نجران وعليه يجب القول: إن القبائل التي كانت تحج إليها؛ أعني خَثْعَم وبَجِيلة ودَوْس كانت نصرانية.
١٣  اطلب كتابه في ذلك V. Chauvin: Le jet des pierres cu Péler. De la Mecque Anvers, 1902.
١٤  جاء في شرح المُفَضَّلِيَّات لابن الأنباري. (edLyall, P. 228-229) في قول سلامة بن جندل «كأنَّ أعناقَها أَنْصَاب ترجيب.» أن العرب «كانوا يذبحون في رجب.»
١٥  اطلب كتابه في القناعة: Porphyrius: De abstinentia II, 56.
١٦  اطلب: أعمال الآباء اليونان لمين (Mighne, pp. GG. LXIX, 611).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤