الفصل الأول

النصارى والكتابة العربية

أول خدمة أدَّاها نصارى العرب لقومهم تعليمهم الكتابة، وهي قضية يشهد عليها تاريخ الكتابة العربية وأصولها.

لمَّا ظهر الإسلام في العشر الثاني من القرن السابع للمسيح لم تكن جزيرة العرب كما زعم البعض حديثة العهد بالكتابة، وإنما كانت الكِتَابة شائعة في بعض الأنحاء دون غيرها، فكان لأهل اليمن كتابة يسمونها المُسْنَد١ شاعت في بني حِمْيَر بينها وبين الكتابة الحبشية في كثير من الحروف شبه ظاهر، وكانت حروفها مُنْفصِلة، وقد وجد سُيَّاح الفرنج كأرنو وهالوي وجلازر من آثارها في هذه السنين الأخيرة ألوفًا من الكتابات يَرقَى عهد أَوَّلها إلى ما قبل المسيح بنحو ٤٠٠ أو ٥٠٠ سنة، ومنها ما كُتِب في القرون التابعة للميلاد حتى القرن السادس، وهذه الكتابة التي حَلُّوا أسرارها ونشروها في عدة تآليف صابئية، ليست عربية كما ظن البعض منهم كابن خلدون في مقدمته (٢: ٣٤١، من طبعة باريس) حيث قال: «وكان لحِمْيَر كتابة تُسمَّى المُسْنَد … ومن حِمْيَر تَعلَّمَت مُضَر الكتابة العربية إلَّا أنهم لم يكونوا مُجِيدين لها.»

وكان في جزيرة العرب كِتابة أخرى شاعَت في شمالي بلاد العرب وفي غربيها وهي الكتابة النَّبطية، وقد ظَهرَت على صورتين صورة منها مَربَّعة الحروف مُحْكَمة الصُّنْع مع صلابة في شكلها شاعت خصوصًا في شمالي العرب واستعمَلُوها في النقود والأبنية لها علاقة مع الخط الآرامي المعروف بالإسطرنجلي وصورة أخرى مُستديرة الشكل خشبية الصُّنْع، جرى استعمالها غالبًا في نُسَخ المعاملات والصكوك وما شاكلها.

فهذه الكتابة النَّبطية على صورتيها هي أصل الكتابة العربية، ويدعوها العرب بالجزم، أخذوها عن الأمم المجاورة لهم، وكان النصارى هم الذين علَّموها العرب سواء قيل: إنهم وضعوها أو إنهم نَقلُوها كقوم وسط، ولنا على ذلك شواهد تثبت قولنا، فإن العرب الذين بَحثُوا عن أصل الكتابة العربية نسبوها إلى رجال من بولان من قبيلة طيئ كانوا على دين المسيح يسكنون الأنبار فقاسوها على شكل السريانية، قال السيوطي في المزهر (١: ٣٩٠).

«إن أوَّل مَن كتب بِخَطِّنا٢ هذا وهو الجزم مُرَامِر بن مُرَّة، وأسلم بن سِدرة، وعامر بن جدرة وهم من عرب طيئ … عَلَّموه أهل الأنبار، ومنهم انتشرت الكتابة في العراق والحيرة وغيرها فتعلمها بِشْر بن عبد الملك،٣ وكان له صحبة بحرب بن أمية لتجارته عندهم فَتعلَّم حرب منه الكتابة، ثم سافر معه بشر إلى مكَّة فتعلَّم منه جماعة من قريش قبل الإسلام، وسُمِّي هذا الخط بالجَزْم؛ لأنه جُزم أي قُطع من الخط الحِمْيَري وتعلَّمه شرذمة قليلة منهم.»

وكذلك نقل صاحب الفهرست (ص٤) عن ابن عباس قوله:

«أول مَن كتب بالعربية ثلاثة رجال من بَولان وهي قبيلة سكنوا الأنبار وأنهم اجتمعوا فوضعوا حروفًا مُقطَّعة وموصولة وهم مُرامِر بن مرة (ويقال: مروة)، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة (ويقال: جدلة)، فأما مُرامِر فوضَع الصور وأمَا أسلم ففَصَل ووصَل، وأما عامر فوضع الإعجام، وسُئِل أهل الحيرة: ممن أخذتم الخط العربي؟ فقالوا: من أهل الأنبار.»

ومثلهما ابن عبد ربه في العقد الفريد (٢: ٢٠٥):

«وحَكَوا أن ثلاثة نَفَر من طيئ اجتمعوا ببقعة؛ وهم: مُرامِر بن مرة، وأسلم بن سِدرة، وعامر بن جدرة، فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية فتعلَّمه قوم من الأنبار، وجاء الإسلام وليس أحد يكتب بالعربية غير بضعة عشر إنسانًا.»

وروى البلاذري في فتوح البلدان (ص٤٧١) مثل هذا القول لكنه روى «ببقَّة» بدلًا من «البقعة» وبقة مدينة قرب الأنبار، ثم زاد إيضاحًا بقوله عن بشر:

«وكان بِشْرُ بن عبد الملك أخو أكَيْدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي ثم السَّكوني صاحب دَوْمة الجندل يأتي الحيرة فيقيم بها الحين وكان نصرانيًّا فتعلم بشر الخط العربي من أهل الحيرة، ثم أتى مكة في بعض شأنه فرآه سفين بن أمية بن عبد شمس، وأبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسألاه أن يُعلِّمَهما الخط فعَلَّمَهما الهجاء، ثم أراهما الخط، فكتبَا، ثم إن بشرًا وسفينًا وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سَلَمة الثقفي، فتعلم الخط منهم وفارَقَهم بشر ومضى إلى ديار مُضَر فتعلم الخط منه عمرو بن زُرارة بن عُدَس فسُمِّي عمرو الكاتب، ثم أتى بِشْر الشام، فتعلم الخط منه أناس هناك، وتعلم الخط من الثلاثة الطائيين أيضًا رجل من طانجة كلب، فعلَّمه رجلًا من أهل وادي القرى، فأتى الوادي يتردَّد فأقام بها وعلَّم الخط قومًا من أهلها.»

قال الشاعر كندي من أصل دَوْمة الجندل يخاطب بني قريش:

لا تَجْحَدوا نَعماءَ بِشْر عليكم
فقد كان ميمونَ النَّقيبة أزهرَا
أتاكم بخَطِّ الجَزْم حتى حفظتمُ
من المال ما قد كان شتى مُبعثَرا
وأتقنتم ما كان بالمال مهملًا
وطامنتم ما كان منه مُنفَّرا
فأجريتم الأقلام عَودًا وبَدْأَة
وضاهيتم كُتَّاب كسرى وقيصرا
وأُغْنِيتم عن مُسْنَد٤ القوم حِمْيَرٍ
وما دَبَّرت في الكُتْب أقيال حِمْيَرا

فهذا الخط هو الذي بعدئذٍ نُسِب إلى الكوفة لمَّا عُنِيَ أساتذة الكوفة بتحسينه في أوائل الإسلام، أمَّا الخط الثاني النَّسْخي، فالظاهر أن العرب أخذوه من نصارى النَّبَط المجاورين لجهات الحجاز، ومن رهبان مَدْيَن ووادي القرى الذين ذكرهم شعراء العرب، ويؤيد ذلك قول بعض الكتبة إن واضعي الكتابة العربية كانوا من طسم وجَديس، وقال ابن النديم في الفهرست (ص٤)، والحاج خليفة في كشف الظنون (٣: ١٤٥): «كانوا من ملوك مدين»، وذكرَا رأي من ادعى أنهم وضعوا الخط العربي على أسمائهم وهي «أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت»، فذِكْرُهما لمَدْين وذِكْر البلاذري لوادي القُرى يُؤيِّد قولنا (راجع ما ورد في القسم الأول عن النصرانية فيهما).

وقد وجَد العلماء من هذا الخط النسخي أمثلة عديدة يرتقي عهدها إلى عهد الخط الآخر، ومن ثم لم يَعُد يجوز القول كما ورد في كتاب القلقشندي عن الخط (المشرق، ٤: ٢٨٠) بأن «الخط الكوفي هو العربي، وأن الخط النسخي وضعه ابن مُقْلَة في القرن الثالث للهجرة.» وعلى كل حال لا بد من الاعتراف بفضل النصارى لتشييع الخط في جهات العرب.

وما عدا هذه الشواهد التي تنسب الكتابة إلى قوم من النصارى قد ورد في تراجم الشعراء وقصائدهم ما يشير إلى شيوع الكتابة بين النصارى قبل الهجرة، فمن ذلك ما روى صاحب الأغاني (٢١: ١٩٥)، وغيره من قدماء الكتبة عن طَرَفة والمُتَلَمِّس وعن الرسالتين اللتين كَتبَهما عمرو بن هند لعامله المكعبر في البحرين موهمًا بأنه يوصي لهما بخير وهو يُضْمِر لهما الشر، ففَضَّ المتلمس صحيفته وأعطاها غلامًا عباديًّا من غلمان الحيرة فقرأها له: «باسمك اللهم من عمرو بن هند إلى المكعبر، أما بعد إذا جاءك كتابي هذا من المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيًّا.»٥ فلمَّا عرف مضمونها فرَّ هاربًا، أما طرفة فلم يشأ أن يقف على محتويات صحيفته فمات قتلًا وضُرب المثل بصحيفة المتلمس للمُتهِّور في التهلكة، وفي هذا دليل على أن العباديين وهم قوم من النصارى في جهات الحيرة كانوا يعرفون الكتابة، ويعلمونها غلمانهم، وفي الأغاني (٥: ١٩١) أن المُرَقَّش الأكبر وأخاه حرملة «دفعهما أبوهما إلى نصراني من أهل الحيرة فعلمهما الخط.»

ولنا دليل آخر في المُعلَّقات التي زعموا أنها كُتِبَت على الحرير وعُلِّقَت على أستار الكعبة وأخص المُعلَّقات لشعراء من قبائل نصرانية كتغلب وبكر وكندة، ففي كتابتها برهان على شيوع فن الخط بين النصارى.

ومن الأدلة على ذلك ما جاء في شعراء النصرانية من الإشارة إلى الكتابة كقول حاتم الطائي (الأغاني، ٧: ١٣٢):

أَتَعْرِف آثار الديار تَوَهُّما
كخَطِّك في رَقٍّ كتابًا مُنَمنَما؟

وقال المُرار بن منقذ يصف أخربة دار:

وترى منها رسومًا قد عَلَتْ
مثل خَطِّ اللام في وَحْي الزُّبُر

ومثلهما لبيد حيث قال:

وجَلا السيولَ عن الطِّلال كأنها
زُبُر تَحدُّ مُتونَها أقلامُها

وسبقهم امرؤ القيس، فشبه طلل الدَّار بوحي الزَّبُور في عسيب يماني:

لمن طَللٌ أَبْصَرْتُه فشَجَاني
كخَطِّ زَبُور في عَسيبٍ يماني

وقال أيضًا مُخصِّصًا زبور الرهبان:

قِفَا نَبكِ مِن ذِكْرى حبيبٍ وعِرْفَان
ورسمٍ عَفَتْ آياتُه منذُ أزمان
أتَتْ حِجَج بعدي عليها فأصْبَحتْ
كخَطِّ زَبُور في مَصاحفِ رُهْبان

وقد افتخر أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت بقومه إياد لعلمهم بالكتابة، فقال:

قَوْمِي إياد لَوْ أنَّهم أَمَمُ
أو لَوْ أقَاموا فَتَهْزَل النَّعَم
قَوْم لهم ساحةُ الْعِراق إذا
سارُوا جميعًا والقطُّ والقَلَمُ
القِط هو الكتاب، وقد بِيَّنَّا سابقًا أن بني إياد من أول القبائل المُتَنَصِّرة، ومنهم كان لقيط الإيادي (راجع [القسم الأول، الباب السابع]) الذي أرسل لقومه صحيفة يُنذِرُهم فيها بما يتهددهم من الأخطار من جانب كسرى٦ أولها:
سلامٌ في الصَّحِيفة من لقيط
إلى مَن بالجزيرة مِن إِيادِ
هذا ومما ينفي كلَّ شك فيما نَقوله، أن الكتابتين العربيتين اللتين وُجِدَتا حتى اليوم من عهد الجاهلية هما لقوم من النصارى، فأقدَمُهما الكتابة التي رسمنا صورتها في القسم الأول الباب التاسع وهي الكتابة المُكتَشفَة في زَبَد في جوار الفرات يَرقَى عهدها إلى السنة ٥١٢ للمسيح أي قبل الهجرة بمائة وعشر سنين وهي ثلاث لغات أي اليونانية والسريانية والعربية تُصَرِّح بأن المشهد الذي أُقِيم هناك إنما شُيِّد تذكارًا للقديس سرجيوس الشهيد وفي أولها الاسم الكريم أو دعاء له تعالى.٧
والأثر الثاني وُجِد في حَرَّان من أعمال بلاد حوران مكتوبًا باليونانية والعربية تاريخه ٥٤ قبل الهجرة أي السنة ٤٦٣ لبُصرى و٥٦٨ للمسيح وَرَد فيه أن هناك «مرطول (Martyrium)» أي مشهد لتذكار القديس يوحنا المعمدان هذا، أوله بالعربية:

أنا شرحبل بر «بن» طلمو «ظالم» بَنَيتُ ذا المرطول سنة ٤٦٣م.

وقد رسمنا مع هذه الكتابة كتابتين أخريين عربيتين، الواحدة بالحرف النبطي وَجدها في نَمَّارة في الصَّفا الرَّحَّالة الفرنسوي رينه دوسو، وهي مكتوبة على ضريح أحد ملوك الحيرة يدعى امرأ القيس بن عمرو، تاريخ وفاته ٧ كسلول من السنة ٢٢٣ لبصرى الموافق لسبعة كانون الأول من السنة ٣٢٨ للمسيح، والأخرى عن صفيحة قرآن كُتِبَت على الرَّقِّ من القرن الثالث للهجرة وهي خاصة مكتبتنا الشرقية، فكل هذه الحُجَج والبينات دَعَت بالعلماء المستشرقين إلى أن ينسبوا الكتابة العربية أو على الأقل انتشارها بين العرب إلى النصارى وأولهم إمامهم دي ساسي (Bon S. de Sacy)، الذي كتب في هذا الصدد مقالة واسعة أثبت فيها استعارة العرب فن الكتابة من نصارى العراق وما بين النهرين قال في المجلة الآسيوية (J. A., Ire Série, X. 210-211) مشيرًا إليها:
J’établissais par des preuves de toute espéce que l’écriture … fut apportée dans le Hedjaz de la Mésopotamie, où les Syrieus l’avaient propagée parmi les tribus arabes qui avaient, du moins en partie, reçu la religion chrétienne, ce culte auquel la mauvaise foi a si souvent reproché de favoriser l’ignoance, et qui, comme l’histoire en fait foi, a toujours amené á sa suite l’art d’écrire et le goût pour l’étude.

جدول أقدم الكِتَابات العربية.

(١) كتابة عربية بخط نَبَطي تاريخها سنة ٢٢٣ لبُصرى ٣٢٨ للمسيح وجدَها في نمارة من أعمال حوران المستشرق دوسو.

(٢) كتابة زَبَد في ثلاث لغات يونانية وسريانية وعربية.

على مشهد أقيم ذكرًا لمارسرجيوس تاريخها ٨٢٣ للإسكندر ٥١٢ للمسيح اطلب صورها فى القسم الاول صفحه ١٠٤.

(٣) كتابة عربية يونانية وُجِدَت في حَرَّان من أعمال حُورَان.

تاريخها سنة ٤٦٣ لبُصرى و٥٦٨ للمسيح.

(٤) مثال خَطِّ عربي نَسْخِي على البَرْدِي تاريخه السنة ٢٤ للهجرة (٦٤٦م).

(٥) قطعة من سورة البقرة عن رَقِّ من القرن الثالث للهجرة في مكتبتنا الشرقية.

وقال الأثري الشهير فيليب برجه في كتابه عن أصول الكتابة: (Ph. Berger: Histoire de l’Ecriture dans l’Antiquité, 2de éd., 287) «إن الكتابة العربية وُجِدَت قبل محمد وكانت نصرانية قبل أن تتحول إلى إسلامية.»
(L’écriture arabe existait avant Mahomet, elle a été chrétienne avant d’être musulmane.)
ومثلهما المستشرق العلامة ولهوزن (J. Wellhausen: Reste arab, Heidentums, p. 232)، أكد بأن الكتابة العربية شاعت أولًا بين النصارى ولا سيما العباديين في الحيرة والأنبار فقال:
“Die Christen haben das Arabische wol zuerst als Sprichtsprache gebraucht. Namentlich die Ibaedier von Hira und Anbar scheinen sich in dieser Beziehung Verdienste erworben zu haben.”
ويوافق هؤلاء الكَتَبة الدكتور الألماني روثستين (G. Rothstein: Die Dynastie d. Labmiden in al Hira, p. 26)، والأستاذ المجري الشهير غولدسير (J. Goldziher: Muhammedanische Studien, I, 110).

فهذه الشواهد كافيه لتثبت حقيقة قولنا بأن الفضل الكبير في تعليم الكتابة العربية للمسلمين يرجع لنصارى العرب وإن لم ننكر أن لليهود أيضًا حِصَّة في ذلك، لا سيما في المدينة كما ذكر البلاذري، وكذلك رووا أن بعض العرب كتبوا في الجاهلية بالعبرانية، إلا أن عبرانية ذلك العهد هي الآرامية أو السريانية كقول صاحب الأغاني (٣: ١٤) عن ورقة بن نوفل «إنه كان يكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء.» والله أعلم.

١  إلى هذه الكتابة يشير أبو ذؤيب بقوله (لسان العرب، ١٨: ٣٠٦):
عرفتُ الديارَ كخَطِّ الدَّويِّ
حَبَّره الكاتبُ الحِمْيرِي
٢  لا يُعْرَف تمامًا أول من كتب بالعربي، وأقدَمُ خطٍّ عربي يُعْرَف اليوم كتابة زبد النصرانية الراقية إلى ١١٠ سنوات قبل الهجرة، يليها كتابة حَرَّان في بلاد حوران تقدَّمَت ٥٤ سنة على الهجرة، وهي أيضًا كتابة نصرانية، ثم نرى الكتابة العربية شائعة في العراق ولا سيما في الحيرة، وممن يذكر أنهم عرفوا الكتابة العربية عدي بن زيد، ورد في الأغاني (٢: ١١٩) أن عدي بن زيد وزير النعمان أبي قابوس كان تعلم مع أولاد المرازبة الكتابة الفارسية، ثم كتب لكسرى بالعربية قال أبو الفرج: «كان عدي أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى.» ولعله تعلم ذلك من جده حمار وأبيه زيد، وقد روى صاحب الأغاني عن حمار (٢: ١٩) أنه «خرج من أكتب الناس وصار كاتب النعمان الكبير.» وقال عن زيد: إنه «حذق الكتابة والعربية.» وممن تعلم الخطَّ من قريش بعد ذلك بزمان أبو سفيان بن أمية، وأخوه حرب بن أمية، قال الطبري في تاريخه (٢: ٨٣٦): أول من كتبَ بالعربية من العرب حرب بن أمية، وجاء في شرح العقيلة وفي الاشتقاق لابن دريد وفي أماليه أن بِشْر بن عبد الله الكندي تَعلَّم الخط العربي وهو الجَزْم في الأنبار من مرامر وأسْلَم الطائيين، وخرج إلى مكة فتزوج الصهباء ابنة حرب بن أمية، وقيل: الصفية بنت الحارث بن حرب، فعلم الخط سفيان بن حرب وتعَلَّمَه معاويةُ من عمه سفيان، وكثر من يكتب بمكة من قريش.
وقال في كتاب لطائف المعارف للثعالبي (Ms de Leide p. 39): كتاب الإسلام: جاء الإسلام وفيهم (أي العرب) بضعة عشر رجلًا يكتبون بالعربية: عمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، وعثمان وأبَان ابنا سعيد، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وابناه يزيد ومعاوية، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، والعلاء بن الحضرمي، وأبو سلمة بن عبد الأشهل، وعبد الله بن أبي سرح، وحُويطِب بن عبد العزى، «وكان عبد الله بن أبي سَرْح يكتب للنبي ثم ارتدَّ ولحق بالمشركين، وقال: إن محمدًا يكتب ما شئتُ، فلما كان يوم فتح مكة جاء به عثمان وكان بينهما رضاع فاستوهبه النبي فوهبه له.»
ومما يدخل في هذا الباب ما رواه ياقوت في باب نُقَيْرة (٤: ٨٠٧): «قال إن خالد بن الوليد لما خرج إلى عين تَمْر وجدوا في كنيسة صبيانًا يتعلمون الكتابة في قرية يقال: عنها عين تمر، وكان فيهم حُمْران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه.»
٣  هو أخو صاحب دَوْمة الجندل النصراني (راجع [القسم الأول، الفصل الثاني]).
٤  وهو خط بني حِمْير، ويروى الشطر الثاني من البيت: «وما زَبَّرَتْ في الصُّحف أقلامُ حِميرَا.»
٥  راجع في: المشرق، ٥: ١٠١٦–١٠٦٢ تفاصيل هذه القصة.
٦  راجع: تاريخ ابن الأثير، ١: ١٥٧، طبعة مصر.
٧  اطلب: رحلة المسيو دوسو (R. Dussaud) إلى بادية الشام، ص٣١٦–٣٣٤؛ وكتاب لزبرسكي (Lidzbarski) في الكتابات الآرامية، ص٤٨٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤