الفصل الثاني عشر

العادات النصرانية بين عرب الجاهلية وفي أول الإسلام

قد شاعَت في جزيرة العرب في عهد الجاهلية وأوائل الإسلام عادات لا يُمكِن تعليلها إلا بنفوذ النصرانية واندماجها في القبائل العربية، فمن هذه العادات ما هو ديني بحت، ومنها ما هو شرعي، وبعضها مدني واجتماعي، فها نحن نتتبع هذه الأقسام الثلاثة بالتوالي:

(١) العادات الدينية

(١-١) الصلاة

هي في مُقدِّمة الواجبات الدينية، بها يرتفع الإنسان عن حضيض عالمه هذا الهيولي إلى ربه وخالقه ليسجد له ويشكره ويستغفره من ذنوبه ويلتمس نعمه، على أن أهل البادية كانوا في كل أطوار تاريخهم قلما يكترثون لهذه الفريضة كأن لسان حالهم يقول مع أحدهم:١
لا لصلي (نصلي) ولا لصوم (نصوم)
ولا لذكر (نذكر) ربنا حما (لما) لقوم (نقوم)

فلما دخلَتِ النصرانية بينهم أَلِفَت القبائل المُتَنَصِّرة الصلاة والدعاء إلى الله كما يلوح من عدد الكنائس التي كان النصارى أقاموها في جهات العرب، وكما بَيَّنَّا في القسم الأول من كتابنا بشواهد مختلفة رويناها عن كل ناحية من جزيرة العرب.

ولما ظهر الإسلام فرض صاحبه على تبعته خمس صلوات في النهار فاستعار ذلك مما وجده شائعًا بين الرهبان الذين كانوا يقيمون صلواتهم السبع في خمس قومات من النهار والليل، جاء في نقائض جرير والفرزدق (ص٥٢٥) عن صلوات النصارى: «وكانت أخص صلواتهم خمسًا» قال الفرزدق يذكر عجوزًا من بني جعفر عاذت بأبيه غالب:

عجوز تصلي الخمس عاذت بغالب
فلا والذي عاذت به لا أضيرها

وأخص صلوات المسلمين في طرفي النهار حين يُصْبِحون وحين يُمْسون (سورة هود، ع١١٦؛ وسورة الروم، ١٧)، وهكذا كان رهبان جزيرة العرب يبكرون إلى الصلاة ويواظبون عليها في ليلهم، قال مجنون ليلى:

كأنَّه راهبٌ في رأسِ صَومعةٍ
يَتلو الزَّبُور ونَجمُ الصبحِ ما طَلعَا

وقال الآخر (اللسان، ١٤: ٨٩):

عن راهبٍ مُتبتِّلِ مُتَقهِّلِ
صادي النَّهار لِلَيلِه مُتَهَجِّد

ومن سُنن الإسلام (الوضوء) والاغتسال قبل الصلاة، وهي عادة كان سبق إليها نصارى الشرق فتجدها في قوانينهم القديمة، ففي كتاب الأيثيقون؛ أي الآداب لأبي الفرج بن العبري باب وهو الثالث من مقالته الثالثة قسمه إلى عشرة فصول بحث فيها عن طهارة الجسد وأحكامها وشروطها كما كانت شائعة في كنائس مِلَّتِه اليعقوبية، وذكر الأحواض التي كانت في ساحات الكنائس لإتمام فريضة الوضوء، وقد وصف حضرة الخوري إبراهيم حرفوش في المشرق (٦، ١٩٠٣م، ١١٦–١٢٣) أحد مخطوطات دير مار شليطا القديمة، وفيه قوانين جارية في الأعصار السالفة في ٥١ بابًا ورد في إحدى صفحاته (ص١٠٨) شروط الصلاة وحدودها على هذه الصورة:

«فأما حدودها (أي الصلاة) وشروطها فإنها تحتاج في أول شيء إلى الطهارة، وهو الاغتسال بالماء في إثر الحدث، فإن لم يجد الماء فليتجمر بثلاثة أحجار وما زاد عليها حتى يَنْفِي أثر النجوى، ثم غسل اليدين بالتسمية وغسل الوجه برسم الصليب المحيي، ويستحب أيضًا غسل الرجلين في كل غداة، فأما من لم يحدث فلا يحتاج إلى الاستنجاء بل يستحب منه غسل اليدين والوجه، وغاية الغسل أن يعم الماء العضو الذي يغسله وعومًا كاملًا … إلخ (ثم يليه فصل في الاغتسال من الجنابة غسلًا عامًّا … مع الاعتراف إلى الكاهن وقبول صلاة الاستغفار).»

ومن شروط الصلاة في الإسلام الاتجاه إلى (القبلة)، وهي أيضًا عادة مستعارَة من قدماء النصارى الذين كانوا يتجهون في صلاتهم إلى الشرق إذ يتخذون الشمس الشارقة رمزًا عن السيد المسيح المعروف بشمس العدل والموصوف بالشرق، قال صرمة بن أنس قبل الإسلام (كتاب البدء، ١: ٧٦) يصف صلاة النصارى إلى مطلع الشمس:

وله شَمَّس النصارى وقامَوا
كلَّ عيدٍ لهم وكل احتفال

فاتَّخَذ محمد على مثالهم قبلة للصلاة كانت أولًا أورشليم ثم حوَّلَها إلى الكعبة في مكة.

وفي الصلاة الإسلامية (القيام والسجود والركوع ورفع الأيدي)، وكل ذلك سبق إليه النصارى ووصفه شعراء العرب، وقد وصف البُعَيثُ رهبان النصارى عند وقوفهم في الصلاة (اطلب [الدين ومقاماته ومناسكه من الجزء السابق]):

رجال يَتْلُون الصلاة قيام

وقال المضرس الأسدي في سجودهم:

وسِخال ساجية العيون خَواذل
بجماد لِينةَ كالنصارى السُّجَّدِ

وقال النابغة الذبياني في الراهب الراكع (تاج العروس، ٥: ٣٦٣):

سيبلغُ عذرًا أو نَجاحًا من امرئ
إلى رَبِّه ربِّ البريةِ راكعِ

وقال آخر في رفع أكفهم في الصلاة:

فذَا فضْلُ أيدي المُستغيثِ المُسبِّحِ

وإذا تلا المسلمون القرآن لحنوا فيه (بالتجويد)، ولعلهم أخذوه عن تلحين الرهبان بالزبور والتسابيح، قال ابن قتيبة في المعارف (ص١٨٠):

«كان أول مَن قرأ بالألحان عبيد الله بن أبي بكرة وكانت قراءته حزنًا ليست على شيء من ألحان الغناء ولا الحداء، فورث ذلك عنه ابن ابنه عبد الله بن عمر بن عبيد الله، فهو الذي يقال له: قراءة ابن عمر، وأخذ ذلك عنه الإباضي، وأخذ سعيد العلاف وأخوه عن الإباضي قراءة ابن عمر، وكان هارون الرشيد معجبًا بقراءة سعيد العلاف … وكان القراء كلهم الهيثم وابن أعين وغيرهم يدخلون في القراءة من ألحان الغناء والحداء والرهبانية، فمنهم من كان يدس الشيء من ذلك دسًّا رفيقًا ومنهم من كان يجهر بذلك.»

فلا مِراء أن القراءة المحزنة وألحان الرهبانية تدل هنا صريحًا إلى نفوذ الغناء الرهباني في التجويد.

ويجوز أن نضيف إلى هذا الباب «السُّبحة» التي يدعوها النصارى المسبحة يتلون عليها صلوات معلومة اختلفت مع الأزمنة، وقد وُجِد منها في مقابر سياح الأقباط في الصعيد، وهي قديمة في الإسلام لورود ذكرها في كتاب العين للخليل قال:٢ «السُّبحة خَرزات يُسَبَّح بعددِها.» وجاء في مجلة المنار المصرية لمُنشِئها محمد رشيد رضا (١٥: ٨٢٣) فصل في السبحة وأصلها في الإسلام قال:

«كنا نرى هذه السُّبَح في أيدي القِسِّيسين من النصارى والرهبان والراهبات، ونسمع أنها مأخوذة عن البراهمة … والظاهر أن المسلمين أخَذُوها أولًا عن النصارى فكانوا في مهد الإسلام عند ظهوره في جزيرة العرب وفي البلاد المُجاوِرة لها كالشام ومصر، فلا بد أن يكونوا قد أخَذُوا السبحة عنهم فيما أخذوه من اللباس والعادات، والأمر في السبحة ينبغي أن يكون أشدَّ مِن أَخْذ غيرها عنهم؛ لأنها تدخل في العبادة وتُعَد شعارًا … فالسبحة من البدع الداخلة في العبادة (كذا).»

(١-٢) الصوم

أحد أركان الإسلام لم يعرفه المشركون من العرب في الجاهلية، وإنما كان المُتنَصِّرون منهم يقومون به على مقتضى نواميسهم، ولعلهم كانوا يصومونه في رجب، وهو وقتئذٍ من أشْهُرِهم الثابتة يوافق شَهْرَنا نيسان، قال المقريزي في الخطط (١: ٢٨٢):

«رجب شهر حرام ويقولون له: الأصم؛ لأنهم كانوا يَكُفُّون فيه عن القتال فلا يسمع فيه صوت سلاح … ورجب الأصم هو شهر مُضَر، وكانت العرب تصومه في الجاهلية، وكانت تمتار فيه وتمير أهلها، وكان يأمن بعضهم بعضًا فيه ويخرجون إلى الأسفار ولا يخافون.»

قال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت يذكر جزاء الصائمين في دار النعيم:

إذا بَلَغوا التي أَجْرَوا إليها
تَقبَّلَهم وحُلِّل مَن يُصومُ

وكان أخص أصوامهم صوم الفِصح، قال نمر بن تولب:

صدَّتْ كما صَدَّ عمَّا لا يحل له
ساقي نصارى قُبَيل الفِصح صوَّامُ
ومن صوم النصارى اقتبس محمد صوم رمضان ثلاثين يومًا، وكان صوم الفِصح لا يزيد على ذلك في بعض الكنائس.٣ ومنهم أيضًا أخذ عادة الإفطار بعد غروب الشمس إلا أن النصارى لم يَأْكُلوا حينئذٍ إلا مرة واحدة على خلاف المسلمين الذين حلل لهم الأكل طول الليل، وكذلك كان النصارى لا يأكلون إلا الأعشاب والبقول والأثمار دون اللحم والبياض، وكلاهما مسموح به للمسلمين، قال العلامة توماس بتريك هيوس (U. Patrik Hughes) في معجم الإسلام (ص٥٣٤) Dictionary of Islam: «إن الأرجح عندنا أن محمدًا أخذ عن النصارى ناموس الصوم ثلاثين يومًا، وكان صوم النصارى في الشَّرْق غاية في الشدة يمتد إلى النهار والليل معًا، فخفف محمد هذه السُّنَّة وحصرها في النهار دون الليل تلطيفًا لشدته كما قال (سورة البقرة، ع١٧١): يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ».

أما الخيط الأبيض والخيط الأسود اللذان ذكرهما هناك (ع١٨٣)، فإن أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت كان سبق إلى الإشارة إليهما بقوله (تاج العروس، ٥: ١٣٧):

الخيطُ الَابْيَضُ ضوء الصُّبح مُنفَلِقُ
والخيطُ الَاسْودُ لونُ الليلِ مَركومُ

(١-٣) الزكاة

هي أيضًا من أركان الإسلام المفروضة على ذويه بقوله (سورة البقرة، ٢: ٧٧): أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ؛ أي الصدقة وما يُرْصَد من الأموال لوجه الله وإعانة الفقراء، وعندنا أن صاحب الشريعة الإسلامية تَقلَّد فيه أهل الكتاب؛ أي اليهود والنصارى، فإن موسى في كتاب التثنية الاشتراع وسفر اللاويين يفرض على بني إسرائيل تعشير مالهم لخدمة الكهنة والهيكل … أما النصارى فمن وصايا كنيستهم الراقية إلى قرون النصرانية الأولى الوصاة بوفاء العشر.

ولما دخل النصارى في طاعة المسلمين من العرب وُضِعَت عليهم العشور والمكوس، قال المقريزي في الخطط (٢: ١٢٢):

«قال زياد بن جرير: أول من بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه منا على العشور أنا، فأمرني أن لا أفتش أحدًا، وما مر علي من شيء أخذتُ من حساب أربعين درهمًا درهمًا من المسلمين، وأخذت من أهل الذمة من عشرين واحدًا وممن لا ذمة له العشر، وأمرني أن أغلظ على نصارى بني تغلب … فلَعَلَّهم يُسْلِمون.»

(١-٤) الحج

هو أيضًا من أركان الإسلام ومعلوم أن الحج إلى مكة سبق الإسلام، وكان نصارى العرب يحجون في الجاهلية لمزارات مختلفة، ولا سيما للقُدس الشريف، فإن القديس إيرونيموس في أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس ذكر في رسائله (Migne, P. L:, XXII, 489, 870) بين زوار الأراضي المقدسة الذين كان يشاهدهم في بيت لحم عرب اليمن وهو يدعوهم على موجب اصطلاح ذلك العهد بأهل الهند، وقد وصف امرؤ القيس تزاحم الأولاد على الراهب المُقدِّس؛ أي العائد من زيارة القدس الشريف بقوله (اللسان، ٨: ٥٠):
كما شَبْرَقَ الولدانُ ثَوبَ المُقَدِّسِ
وفي ذلك القرن الخامس كان عرب حِمْيَر والعراق يحجون زرافات إلى مقام القِدِّيس سمعان العمودي كما روى ذلك في تاريخه تاودوريطس الذي عاينهم هناك (Migne, P. G., LXXIV. 104).

ومن مزارات العرب التي كانوا يَحُجُّون إليها مَشْهَد القديسين سرجيوس وباخوس في الرُّصَافة، وقد مر لنا ذكر الكتابة العربية السابقة للإسلام التي وردت هناك.

وكانوا يَحُجُّون في جزيرة العرب إلى كنيسة القليس التي شيدها أبرهة في صنعاء بعد فتح اليمن (راجع الجزء السابق، [الباب الخامس والقسم الثاني، الفصل الثامن]) ومثلها كنيسة ظَفَار.

ومن المَحاجِّ التي كان يقصدها أيضًا النصارى العرب في الجاهلية طور سينا ومعابده الشهيرة المقامة في مَشارف ذاك الجبل حيث يروي التقليد مناجاة الله — عز وجل — لموسى النبي وأوحى إليه بشريعته.

بل كان نصارى العرب واليهود في الجاهلية يحجون إلى مكة كما روى ذلك ياقوت في معجم البلدان؛ لأنهم كانوا يرون في الكعبة تذكارًا لما ورد في سفر التكوين (ف٢١) عن هاجر وإسماعيل بن إبراهيم الخليل متفقين في ذلك مع تقليد عرب الحجاز، وقد ذكر في الأغاني (٢١: ١٦٤) خروج هدبة بن خثرم إلى الحج وكان نصرانيًّا كما ذكر التبريزي في شرح الحماسة (ص٢٣٥).

وقد مر لنا [القسم الأول، الباب الخامس والقسم الثاني، الدين ومقاماته ومناسكه] أن النصارى كانوا يدعون بعض بِيَعَهم بالكعبات مثل كعبة نجران الوارد ذكرها في شعر الأعشى، وكعبة اليمن، وقال عبدة بن الطبيب (المفضليات، ٢٩١):

في كعبةٍ شادَها بانٍ وزَيَّنَها
فيها ذُبالٌ مُضيءُ اللَّيل مَفتولُ

وكان لكعبة مكة منذ عهد الجاهلية حَرَم؛ أي حدود تحدق بها لا يجوز انتهاكها، ووضع محمد حرمًا لمسجد النبي في المدينة، وإنما الحرم شاع قبلًا عند اليهود حول هيكل أورشليم واتخذه النصارى لبعض كنائسهم الكبرى لامتيازها، وهو الحِمَى كان الداخلون فيه في أمان، وقد ورد في المشرق (١٣، ١٩١٠م، ٧١) اكتشاف المسيو نويل جيرون لنُصب؛ أي عمود ضخم من الحجر المانع في دمشق كان دالًّا على حمى كنيسة دمشق قبل الفتح الإسلامي كما تبينه كتابة يونانية أثبتناها هناك، وكان للنصارى قرب بعض الكنائس بروج للأطيار لا يجوز صيدها كحمام مكة التي يضرب المثل في أمانها فيقال: آلَفُ مِن حَمام مكة.

وكان العرب يطوفون حول الكعبة، وكانت تلك عادة جارية بين النصارى العرب أن يطوفوا حول الكنائس، قال الشاعر الجاهلي يذكر طواف النصارى حول الصليب فدعاه زورًا بالوثن (لسان، العرب ١٧: ٣٣٤):

يَطوفُ العفاةُ بأبوابِه
كطَوف النصارى ببيتِ الوَثَنْ

ومما رواه في الأغاني (٧: ١٤٨) لعنترة، وقيل: بل لعبد قيس بن خفاف البُرْجُمي قوله:

تَمْشِي النَّعام به خَلَّاءً حوله
مَشْي النصارى حول بيتِ الهَيْكلِ

وقال الحارث بن خالد يصف بشرة أمة عائشة بنت طلحة (أغاني ١٥: ١٣٣):

وبَشَرةُ خُودٌ مِثلُ تمثالِ بِيعَةٍ
تظلُّ النصارى حوله يومَ عِيدِها

(١-٥) استلام الحجر الأسود

ومن المعلوم أن المسلمين إذا حجوا إلى الكعبة وطافوا حولها استلموا الحجر الأسود الذي فيها، ولعلهم يفعلون ذلك احتذاءً بنبيهم، قال البخاري في الصحيح (٢: ١٤٨): «جاء عمرُ إلى الحجر الأسود فقَبَّلَه فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبِّلك ما قبَّلْتُك.» قلنا: ولا يبعد أن العرب أخذوا ذلك عن النصارى الذين يُقَبِّلون حجارة كنائسهم تعبُّدًا أو كحجاجهم إلى القدس الشريف حيث يُقبِّلُون قَبْر السيد المسيح أو الحجر الذي صعد من فوقه إلى السماء في جبل الزيتون وعليه رسم أثر قدمه المبارك.

وقد سَبَق لنا ذِكْر حَمَام مكة ومأمنها من الصيد، ودونك ما رُوِي عن حمام الكنائس، روى الطبري في تاريخه (٢: ٨٦١) لرجل من بكر بن وائل ونسبه في الأغاني (١٢: ٧٢) لعبد الرحمن بن الحكم:

أَتَتكَ العِيس تنفخُ في بُراهَا
تَكشفُ عن مناكبها القُطوعُ
كأنَّ مواقعَ الأكرارِ منها
حَمامُ كنائسٍ بُقْعٌ وُقوعُ

(١-٦) النذور٤

يُروى عن عرب الجاهلية أنهم كانوا ينذرون مواليدهم للكعبة. ذكر أبو الوليد الأزرقي في أخبار مكة (ص١٢٨-١٢٩) عن امرأة أخزم بن العاصِ الجُرْهُمية أنها كانت عاقرًا فنذرتْ إن ولدت غلامًا أن تَتصدَّق به على الكعبة عبدًا لها يخدمها ويقوم عليها، فولدَتْ من أخزم الغوث فتصدَّقَت به عليها فكان يَخدُمها مع أخواله من جُرْهُم، (قلنا): إن هذه العادة أعني نَذْر المولود إلى الله كان سبق العرب إليها أصحابُ الكتاب من يهود ونصارى. وكلٌّ يَعرِفُ كيف نذرَتْ حَنَّة العاقرُ إن ولدتْ غلامًا تجعله في خدمة الله فولدَتْ صموئيل فوفت بنذرها، وقد ورد في القرآن في سورة آل عمران نَذْر امرأة عمران (يعني القديسة حَنَّة) بابنتها مريم العذراء فخدمته تعالى بالمحراب تحت كفالةِ زكريا الكاهن.

(١-٧) المساجد وبناؤها على شكل الكنائس

لا مِراء في أن المسلمين أول من شَيَّدوا المساجد لصلاتهم بَنَوها على صورة الكنائس فضلًا عمَّا حَوَّلُوه منها إلى جوامع عند فتحهم البلاد النصرانية كالجامع الأموي في دمشق، والجامع الأقصى في القدس الشريف، وجوامع حمص وحماة وحلب، فكلُّ مَن يدخل هذه الجوامع من المهندسين يحتم لأول وهلة أنها من هندسة النصارى الأقدمين كما أثبتنا ذلك في فصل الفنون الجميلة (ص٣٤٣–٣٥٠)، فلما حاول المسلمون تشييد مساجد جديدة تَقلَّدوا فيها الكنائس النصرانية، وكان بناتها في الغالب نصارى من الروم والقبط وأهل الشام لا يعرفون إلا هندستهم الدينية.

وقد قابَلَ المرحوم فان بركم (M. van Berchem) بَيْن كل أقسام الجوامع؛ كصَحْنِها، ورِواقها، وأركانها، وعواميدها، وسُقُفها، وقِبلَتها، ومحرابها، ومنبرها، ومقصورتها، ومنارتها، وبين الكنائس النصرانية وأقسامها المختلفة عند ظهور الإسلام وختم بقوله: «إن وضع الجوامع يُشْبِه شبهًا تامًّا واضحًا بناء الكنائس القديمة،٥ يريد الكنائس المعروفة بالكنائس الملكية (Basiliques).

وما نقوله هنا إجمالًا عن هندسة الجوامع نستطيع أن نثبته أيضًا لكل قسم منها مفردًا كالمآذن والمنارات التي تَقلَّدوا فيها الصوامع النصرانية، وكالمنبر الذي مر ذكره في باب النجارة وهلم جرًّا.

(١-٨) الخطابة في المساجد

ومما استحدثه الإسلام الخُطَب الدينية في المجامع. يروى لصاحب الشريعة الإسلامية بعض الخطب التي ألقاها في قومه يذكرهم ويحضهم على الأعمال الصالحة، وإنما تَقلَّد في ذلك ما وجَدَه من العادات الجارية بين النصارى المجاورين له الذين كان أربابهم وكهنتهم يرشدون في الكنائس رعاياهم، وقد مر لنا فصل في الخطابة بين نصارى العرب في الجاهلية مع ذكر إمامهم المضروب فيه المثل قس بن ساعدة.

وكان منبر الخطابة بين النصارى رمزًا عن الرئاسة والسلطة الدينية، وكذلك اعتبره محمد والمسلمون بعده، فكان الخلفاء يَرْقَوْنه أيام الأعياد والصلوات العمومية فيلقون منه الخُطَب كما كان يفعل أساقفة النصارى في كنائسهم، وقد سبق لنا [القسم الثاني، الفصل الحادي عشر] ذكر العرش الذي أضافوه إلى المنبر، وكان يجلس عليه محمد كما روى ابن الأثير في أُسْد الغابة وابن سعد في طبقاته، وكان ذلك على مثال العرش الذي يجلس عليه رؤساء الدين النصراني في كنائسهم.

وكذلك اعتاد الأساقفة إذا خطبوا أو صلوا صلاة عمومية أن يمسكوا بيدهم العصاة الرعوية المعروفة بالعُكَّاز، وقد مر في خبر قس بن ساعدة أنه كان إذا خطب يتكئ على عصًا (وقيل: على سيف)، ومما رواه البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة (١: ١٣٥) «أن النبي أمر بحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها.»

وللجوامع مآذن أو منارات يؤذنون منها بالصلاة، وهي أيضًا مما تقلد فيه المسلمون النصارى، فإن المسلمين كانوا يؤذنون أولًا بالصلاة على باب مساجدهم، ثم علوا سطوحها للأذان أو أذنوا فوق أسوار المدن كما ورد في شعر الفرزدق، قال (تاج العروس، ٩: ١٢٠):

وحتَّى علَا في سُورِ كلِّ مدينةٍ
مُنادٍ ينادي فوقها بأذانِ
ثم تقلدوا أخيرًا صوامع الرهبان وهي قَلالي مُحدَّدة الطَّرف أو أبراج كان يسكنها الراهب لعبادته ويقرع منها الناقوس، فصارت المئذنة مرادفة للصومعة، ورَدَ ذلك في كتب الأدباء كأبي الفرج الأصبهاني في الأغاني (٢٠: ٨٥)، إذْ ذكر مئذنة المدينة فدعاها أيضًا هناك بالصومعة.٦ وروى عن بعض المُوسوسين أنهم «كانوا يَصْفَعون المشايخ في الصوامع إذا أذَّنوا»، وفي خطط المقريزي (٢: ٢٤٨) أن معاويةَ أمَر مَسْلَمةَ بن مَخْلَد ببناء الصوامع للأذان في جامع فسطاط العتيق المعروف بجامع عمرو قال: «وجعل مَسْلَمة للمسجد الجامع أربع صوامع في أركانه الأربع … وأمر أن لا يُضْرَب بناقوس عند الأذان يعني الفجر.» وكذلك ورد في تاريخ الشيخ أبي صلح الأرمني (ص٥٤، éd,. Evetts): «وكان فتوح مصر في المحرم سنة ٢٠ للهجرة، ومن الصوامع ما هو باقٍ إلى الآن جعلهم المسلمين مواذن (كذا).»

(١-٩) المجامر في المساجد والجنازات

معلوم أن النصارى في مناسكهم الدينية في الكنائس وفي جنازات موتاهم يُضْرِمون المَجامر ويَحْرِقون البخور ويُوقِدُون الشمع والمشاعل، قال الحسين بن الضحاك يصف كنيسة (البكري، ٣٦٩):

عَجَّتْ أساقِفُها في بيت مذبحها
أذْكَى مَجامِرَها بالعُودِ والنارِ

وقد روى الترمذي في صحيحه (١: ١١٦) عن محمد أنه كان يجمر المسجد قبل وفود الجماعة، وذكر ابن الأثير في النهاية (١: ١٧٥) نُعَيْمًا المجمر الصحابي قال: «وهو الذي كان يَلِي إجْمَار مسجد رسول الله »، وهكذا فعل الخلفاء الراشدون بعده، ثم معاوية وبعض خلفاء بني أمية.

ومما ورد في كتاب تحقيق النصرة لأبي بكر المراغي أن عمر بن الخطاب عند رجوعه من غزوة الشام أتى «بمجمرة من الفضة فيها تماثيل، وكان يُجَمِّر بها المسجد ثم تُوضَع بين يدي عمر بن الخطاب.» ومما ورد في تجمير المسلمين للموتى ما ذكره ابن الأثير في أُسْد الغابة في معرفة الصحابة (٥: ٥٤٥) وابن حجر العسقلاني في الإصابة في تمييز الصحابة (٨: ١٨٧) عن مرضية الصحابية قالت: «أراكم تنكرون شيئًا رأيتُه يُصْنَع على عهد رسول الله وسلم رأيت الميتَ على عهد رسول الله يتبع بالمجمر»، وكذلك روى ابن سعد في طبقاته (٨: ٥٣-٥٤) عن عائشة زوج نبي الإسلام أنه حُمِلَت في دفنها المشاعل من الجريد الملفوف بالخرق والمغموس بالزيت، ثم أفْتَوا بتحريم التجمير، وفي صحيح ابن ماجة «أنه لا يجوز اتباع الجنائز بالمجامر وما يشابهها لأن ذلك مِن فِعْل الجاهلية.» يعني النصرانية.٧

(١-١٠) إكرام القبور

يروى في الحديث (جامع السيوطي، ص٣٥٧): «قاتَل الله اليهود والنصارى، اتَّخَذوا قبور أنبيائهم مساجد.» كأن صاحب الشريعة الإسلامية حرَّم بذلك إكرام الموتى وزيارة الموتى وزيارة قبورهم، إلا أن المسلمين لم يُعِيروا بالًا الحديث المذكور كما يثبت ذلك مألوف عادتهم في إكرام قبر نبيهم في المدينة وقبور الخلفاء الراشدين، هنالك مع ما يزين تلك القبور من الحُلِيِّ ويوقد فوقها من السُّرُج ويقدمون إليها من الهدايا، ومن ذلك يتضح أن العادة النصرانية غَلبَتْ عليهم إلا بعض المتطرفين منهم كالوهابيين الذين ينكرون كل إكرام للأولياء، ومما يستند إليه أهل السنة في إكرام الأولياء ما رواه ابن سعد في كتاب الطبقات الكبير (ج٢، ق٢، ص٩-١٠) «أن رسول الله صلى على أهل البقيع؛ أي قتلى أحد بعد ثماني سنين.» وقد أخبر الواقدي عن فاطمة الزهراء ابنته أنها كانت تخرج إلى أُحُد لزيارة قبر حَمْزَة عم محمد.٨

(١-١١) الاستشهاد

وأخص مَن يكرمهم النصارى شهداء دينهم الذين بموجب وَصاة السيد المسيح فضَّلُوا الموت في سبيل إيمانهم على الحياة والغنى والشهوات، وليس للنصارى شهداء غيرهم، فرأى صاحب الشريعة الإسلامية ما في هذه الميتة الشريفة من المجد فعَظَّم الاستشهاد ورغَّب فيه بالمواعيد الجليلة في الآخرة. لكن بَيْن هذا الاستشهاد والاستشهاد النصراني بَونًا عظيمًا، فبينما النصارى لا يَعُدُّون شهيدًا إلا مَن مات لأجل الدين المستقيم، ترى المسلمين يكرمون كشهداء كل من مات في الحرب والجهاد، بل يُعْتَبَرون كشهداء غيرهم أيضًا، جاء في الحديث (جامع السيوطي، ص٢٩٦): «الغريق شهيد، والحريق شهيد، والغريب شهيد، والملدوغ شهيد.» وروى حديثًا آخر (ص٢٧٢): «الطاعون، والغرق، والبطن، والحَرَق، والنُّفَساء شهادة لأمتي.» وفي صحيح البخاري (٣: ١٩٣): «الشهداء خمسة، المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله.»

(٢) العادات الشرعية والاجتماعية

(٢-١) أصول الشرع الإسلامي

لما ظهر الإسلام كان مُعْظَم العرب لا يَعْرفون من الشرع إلا ما يفي بأمورهم ويكفي لمعاملاتهم في حياتهم الساذجة، فلَمَّا فتحوا البلاد الراقية في التَّمَدُّن؛ كالشام ومصر والعراق والعجم احتاجوا إلى شرائع أوسعَ وأدَقَّ، وكان نصارى تلك البلاد يتبعون الشرائع الرومانية التي نَقَّحها ونظَّمها يوستنيان الملك، فعليها جَرى العربُ أولًا بمساعدة عُمَّال من نصارى الروم، والسريان، والأقباط، وإنما ثبتوا على بعض نواميسهم الأصلية في عيشتهم الفطرية مع ما استخلصه الفقهاء من القرآن أو الحديث، وبقوا على ذلك إلى أواسط القرن الثاني للهجرة إذ ظهر كبار الأئمة؛ كالشافعي وأبي حنيفة ومالك وابن حنبل فوضَعوا للفقه الإسلامي أصولًا ثابتة يرجع إليها المسلمون حتى يومنا هذا، على أن الذين يدرسون هذا الفقه لا يزالون يُقابِلون بينه وبين الشرع الروماني ويَلْحَظون أشياء كثيرة مَصدرُها الحقوق الرومانية.

(٢-٢) الدواوين

لا قيام لدولة كبيرة إلا بإنشاء دواوين مختلفة يعهد إلى كل منها تدبير بعض أمورها كبَيْت المال، وتدبير الجند، وديوان الإنشاء، وديوان التوقيع، وديوان الأعمال، وديوان الجباية، وديوان الخاتم، ولم يكن للعرب الفاتحين دُرْبة في كل ذلك، ومن ثم أقَرُّوا الدواوين على ما كانت عليه قبل فتحهم في أيدي عمال من نصارى البلاد، وجاء في كتاب لطائف المعارف للثعالبي (ص١٠) «أن أول من دَوَّن الدواوين عمر بن الخطاب عملًا بما قال له رجل: رأيت الأعاجم يدونون ديوانًا لهم فدَوِّن لنا أنتَ ديوانًا، فأمر بوضع الديوان.» على أن هذه الدواوين تولاها أولًا النصارى لعلمهم بتدبيرها. لنا على ذلك مثال جليل في أسرة ابن منصور الدمشقية التي اشتهر منها سرجة أو سرجيون بن منصور من ندماء يزيد بن معاوية (الأغاني، ١٦: ٧)، وكاتب معاوية بن يزيد، وعبد الملك بن مروان على ديوان الخراج والجُنْد (الطبري، ٢: ٨٣٧؛ ابن عبد ربه ٢: ٣٢٢) وابنه يوحنا هو ملفان الكنيسة اليونانية العظيم المعروف بالقديس يوحنا الدمشقي، وكان هؤلاء العمال يكتبون في الرومية أو القبطية أو الفارسية إلى أن تَمكَّن العرب من نظارة تلك الدواوين فنقلوها إلى العربية وذلك في عهد عبد الملك بن مروان، ثم الوليد بن عبد الملك.

(٢-٣) التاريخ

كان للأمم المجاورة للعرب تواريخ للأعوام والشهور يعرفون بها أزمنة الوقائع والحوادث المهمة فكان اليونان يُؤرِّخون بسني الخليقة وبتاريخ الإسكندر ذي القرنين وبمولد المسيح، وكان الفُرْس يُؤرِّخون بيزدجرد بن شهريار، أو أحد ملوكهم، وأرَّخ العرب قبل الإسلام بعام الفيل أو ببعض أيامهم المشتهرة كيوم جبلة، ويوم الكُلاب، ويوم ذي قار، أما المسلمون فقيل: إن عُمَر أول من أرَّخَ منهم في السنة ١٩ أو ٢٠ هجرية، تَعلَّموا ذلك من جيرتهم. جاء في كتاب الشماريخ في علم التاريخ للسيوطي (ص٩، éd. Seybold) «أن رجلًا من المسلمين قدم من أرض اليمن فقال لعمر: رأيت باليمن شيئًا يسمونه التاريخ يكتبون من عام كذا وشهر كذا، فقال عمر: إن هذا لحسن فأَرخوا.» ثم اختلفوا في بدء التاريخ إلى أن اصْطَلحوا على سنة هجرة محمد من مكة إلى المدينة، وجعلوا أول العام شهر المُحرَّم شهر حرام ومُنْصَرف الناس من الحج، قالوا: إنه يوافق يوم الخميس الثامن من شهر آيار لأنه سنة ٩٣٣ للإسكندر.

(٢-٤) الحَلِف

قد اعتاد العرب على القَسَم بالله وبما يقرب إليه كالملائكة والأولياء، قال عبيد بن الأبرص (ديوانه éd. Lyall ص٦٧):
حَلفتُ بالله أن الله ذو نِعَمٍ
لِمَن يشاءُ وذو عفوٍ وتَصْفاحِ

وقال الآخر (أمالي القالي، ٣: ٢٩):

أمَّا والذي لا يعلمُ الغيبَ غيرُه
ومَن هو يحيي العَظْم وهو رَميمُ
لقد كنتُ أطوي البطن والزَّادُ يُشْتَهى
مُحافظةً مِن أن يُقالَ لَئِيمُ
وكانوا في الجاهلية يحلفون بأصنامهم كاللات والعُزَّى ونَسْر، ثم شاع ذلك بينهم حتى النصارى واليهود دون إشارة إلى معتقدهم بها كما يقال باللاتينية حتى في عهدنا: بحق هِرْكِل mehercle، أو بالإيطالية بحق بخوس per Bacco، فكذلك نصارى العرب حلفوا بأصنام الجاهلية وبالأنصاب على سبيل العادة ليس عن اعتقاد ديني، فمن ذلك قول عبد المسيح المُتلَمِّس يهجو عُمرَ بنَ المنذر:
أَطرَدْتَني حَذَرَ الهجاءِ ولا
واللاتِ والأنصابِ لا تَئِلُ

ويروى: واللهِ والأنصابِ، ومثلُه مُهلهِل التغلبيُّ حلف بالأنصاب:

كلَّا وأَنْصابٍ لنا عاديَّةٍ
مَعبودةٍ قد قُطِّعَتْ تَقطيعا

وحلف أوس بن حجر باللات والعُزَّى فقال:

وباللات والعُزَّى ومَن دانَ دِينَها
وبالله إنَّ الله منهن أعظمُ

وحلف الأخطل بالعُزَّى وبِنَسْر، وما يضحى عليهما من الضحايا:

أما ودماءٍ ماثِراتٍ تَخالُها
على قُنَّةِ العُزَّى وبالنَّسْر عِنْدَما

وذكر له في الأغاني (٧: ١٧٣) حلفًا قاله افتخارًا على جرير والفرزدق: «أنا واللاتِ أشعَرُ منهما.» فأردف الراوي قائلًا: «حلفَ باللاتِ هزؤًا واستخفافًا بدينه.» (قلنا): بل حلف بها جريًا على عادة العرب دون حمله ذاك الحلف على الدين مع ما نعلمه من تَشبُّث الأخطل بدينه حتى في مجالس الخلفاء، ومما حلف به مشيرًا إلى دينه ما رواه أيضًا أبو الفرج في الأغاني (في الصفحة المذكورة): «وحقِّ الصليبِ.» «وحقِّ الصليبِ والقربانِ.» وروي له في محل آخر (٨: ٨٥): «قُدُّوس قُدُّوس … وحقِّ الصليبِ.» وقد ذكر له في نقائض جرير والفرزدق حلفًا بالمسيح.

وكذلك لم يأنف النصارى عن الحلف بمكة ومناسك الحج، قال الأخطل (اطلب: ديوانه، ص١١٩؛ وشرح مغني اللبيب، للشيخ محمد الأمير، ١: ٢١٠):

إني حلفتُ بِربِّ الراقصات وما
أضْحَى بمكَّة من حُجُبٍ وأستارِ
وبالهدايا التي احمَرَّتْ مَذارعها
في يومِ نُسكٍ وتَشريقٍ وتَنْحارِ
وما بِزَمزمَ من شُمطٍ مُحلِّقةٍ
وما بِيَثرِبَ مِن عُونٍ وأبكارِ
لَألجأتْنِي قَرَيشٌ خائفًا وِجِلًا
ومَوَّلَتْنِي قريشٌ بعدَ إعسارِ

وحلَف الآخَرُ بالكعبةِ وإلهِ إسرائيلَ (أمالي القالي، ٢: ٤٦):

قلتُ وكنتُ رَجلًا فَطِينَا
هذا وربِّ البيتِ إسرائينَا

وقد جمع عدي بن زيد الشاعر النصراني الشهير في حلفه بين مكة والصليب (الأغاني، ٢: ٢٤):

سعى الأعداءُ لا يَأْلُون شرًّا
عليكَ ورَبِّ مكةَ والصَّليبِ

ومثله الأعشى حلف بإسكيم الرهبان وبالكعبة:

حلفتُ بِثَوبَي راهبِ الدير والتي
بناهَا قُصَيٌّ والمضاض بنُ جُرْهُمِ

وورد في الأغاني (١٢: ٧٥) لعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص:

حلفتُ بِربِّ مكةَ والمُصلَّى
وبالتوراة أحلفُ والقُرانِ

وهو القائل أيضًا (إصلاح المنطق، ص٢٢٤):

وإني وربِّ الساجدين عَشِيَّةً
وما صكَّ ناقوسَ النصارى أبِيلُها
أُصالِحُكم حتَّى تَبوءُوا بمثلها
كصرخة حُبْلَى أسلَمَتْها قَبيلُها

ومما لا شُبهة فيه عن إيمانهم بالمسيح قول عمر بن عبد الحق:

وما قَدَّس الرُّهبانُ في كل بِيعَةٍ
أَبِيلَ الأَبِيلينَ المسيحَ ابنَ مَريَما

قال في اللسان (١٣: ٦): وكانوا يُعظِّمون الأبيلَ ويحلفون به، وحلف عدي بن زيد بالقُربان ودعاه الشَّبر (إصلاح المنطق، ١٦٩):

إذْ أتاني خَبَرٌ من مُنعمِ
لم أَخُنْهُ والذي أعطى الشَّبَرْ

(٢-٥) الختانة

معلومٌ أنه لا ذِكْر للختانة مطلقًا في القرآن، وإنما يجري عليها المسلمون بموجب السنة والتقليد، والشائع بين الكَتَبة المحدثين أن العرب قبل الإسلام كانوا يختتنون، وفي زعمهم هذا نظر فإن لنا عدة شواهد تثبت أن كثيرين من العرب لم يألفوا الختانة، ومن المحتمل أن النصرانية أبطلتها بينهم، روى صاحب الأغاني لحاجب٩ يزيد بن المهلب أبياتًا في هجو اليَمَن ومما ينسبه إليهم أنهم غُرْلٌ غير مُخْتَتِنِين قال (١٣: ٥١):
فَللزِنجُ خيرٌ حينَ تَنسبُ والدًا
من أبناءِ قَحطانَ العَفاشِلَةَ الغُرْلِ
وجاء في التاج (٢: ٣٢٤) بيت للفرزدق عن آل حُوران غير المُخْتَتِنين،١٠ وكذلك هجا حُريثُ بن عنَّاب بني ثعل ودعاهم بالغُلْف (أغاني، ١٣: ١٠٣)، ومما ورد في نقائض جرير والفرزدق (ص٦٦٩) أن بني عامر يوم شِعْب جَبَلة قَتلُوا ثمانين غلامًا أَغْرَل، وفي أمالي القالي (٣: ٦) ما يُثْبِتُ رأينا قال: «روى الأصمعي عن سلم بن قتيبة قال: كانت إيادٌ تَرِد المياه فيُرَى منها مائِتَا شابٍّ على مائتي فرَس بِشِيَة واحدة، وكانوا أَعدَّ العرب، وإنهم استقلوا بعشرين ألف غلام أَغْرَل فأوغلوا حتى وقعوا ببلاد الروم.»

وقد ذكر ابن الأثير في تاريخه في وصف أيام العرب أنه كان ٦٠٠٠٠ منهم غلفًا دون ختانة، فلا شك أن النصرانية بانتشارها في جزيرة العرب قبل الإسلام كانت أبطلت تلك السنة بين كثير من القبائل.

(٢-٦) الحجاب

قد فرض الشرع الإسلامي التحجب على نساء المسلمين، وليس المسلمون أول من سبقوا إلى الأمر به، فإن الأمم القديمة كانت تحجب الفتيات إلى عهد زواجهن، فإذا تزوجن أسفرن عن وجوههن، ولنا على ذلك شواهد في سفر التكوين (٢٤: ٦٥؛ و٣٨: ١٤)، وقد ورد مثل هذا الأمر في الآثار الآشورية والرومانية وغيرها، وكذلك الكنيسة لم تزل توصي النساء بالحشمة وتغطية رءوسهن، ولا سيما وقت الصلاة في الكنيسة (١ كور، ١١: ٣–١٧).

على أن صاحب الشريعة الإسلامية عمم ذلك وفرض به على جميع النساء مطلقًا ناهيًا عن سفور وجوههن إلا بإزاء أقاربهن الأدنين، وهذه سنتهم إلى يومنا إلا من تقلدوا الآداب العصرية وتمثلوا بأمم الغرب فيعتبرون الحجاب مضرًّا بتربية الإناث مانعًا لترقية جنسهن باخسًا من قدرهن.

وما لا شك فيه أن عرب البادية لا يحجبون نساءهم، تلك عادة جروا عليها منذ القديم، وما القناع والنصيف والخمار إلا أكسية كانت نساؤهم يسترن بها رءوسهن دون الوجوه وعلى الأقل دون العيون كما ترى في وصاوص المصريات، وفي الشعر الجاهلي ما يؤيد زعمنا، قال المثقب العبدي (المفضليات، ص٥٧٩):

أَرَينَ مَحاسنًا وكَنَنَّ أُخْرَى
من الأجياد والبَشَرِ المَصُون

وورد هناك بين الشروح عن منجول البراقع: «لا يلبس منجولَ البراقع إلا الحسانُ لأنهن يحببن أن ترى وجوههن منها لحسنها، والقِبَاح تلبس الوَصَاوِص لضيقها حتى لا ترى وجوهها لقبحها»، وقال عمر بن أبي ربيعة (المفضليات، ص٢٥٩):

ولما تَواقَفْنا وسَلَّمْتُ أقبَلَتْ
وجوهٌ زَهاها الحُسنُ أن تَتقَنَّعَا

وروى في الحماسة (ص٥٥٣): «ولما تَفاوَضْنَا الحديثَ وأسفَرَتْ.» قال: «وهكذا كانت نساءُ العرب تفعل إذا كانت جميلة.» بل نَبذتْ كثير من نساء الإسلام الحجاب كما روى المؤرخون، أخبر الصفدي في شرح لامية العجم (١: ٦٨): «كانت عائشة بنتُ طلحة بن عبيد الله لا تَستُر وجهها بشيء فلما دخل بها مصعب بن الزبير كَلَّمها في ذلك فقالت: إن الله عز وجل قد وسَمَنِي بوسم جمال فأحببتُ أن يراه الناس، واللهِ ما فيَّ وصْمةٌ أستترُ لها.»

وقد ذكر صاحب الأغاني (١٠: ١٢٨) أن الخليفة المأمون كان يخرج إلى الشَّمَّاسيَّة ليتنزه بعد قدومه من خُراسان، ثم أخبر أن إبراهيم الموصلي دخل إليه «وهو يشرب مع الجواري وما كانوا يحجبون جَوارِيَهم في ذلك الوقت ما لم يَلِدْنَ.»

(٢-٧) الرِّدَافة

هي من العادات التي اتخذها العرب من الأمم النصرانية المجاوِرة لهم وهي كالوزارة شاعت عند ملوك الحيرة وملوك غسان النصارى، قال في التاج (٦: ١١٥): كانت الردافة في الجاهلية لبني يربوع؛ لأنه لم يكن في العرب أحد أكثر غارة على ملوك الحيرة من بني يربوع فصالحوهم على أن جَعَلوا لهم الردافة ويَكُفُّوا عن أهل العراق الغارة … قال جرير وهو من بني يربوع:

رَبَعْنا وأَرْدَفْنَا الملوكَ فَظلَّلُوا
وِطَابَ الأجاليبِ الثُّمامَ المُنزَّعَا

وقال المبرد (الكامل، ٧٦٣): «للرِّدَافة مَوضعان أحدهما أن يُرْدِفَه الملوك دوابَّهم في صيدٍ، والآخَرُ أن يَخْلُف الملكَ إذا قام عن مَجلِسه فَينظرَ في أمر الناس، (قال) كان الملكُ يُرْدِف خَلْفَه رجلًا شريفًا وكانوا يركبون الإبل، وأردافُ الملوك هم الذين يَخْلُفونهم في القيام بأمر المملكة بمنزلة الوزراء في الإسلام وأحدهم رِدْفٌ، والاسم الرِّدافَة كالوِزَارة.» وقد ذكر ياقوت في معجم البلدان (٣: ٥١٨) في مادة طِخْفة اليوم المنسوب إلى هذا المكان بين بني يربوع وجيش ملك الحيرة لما أراد بعدَ مَوتِ رِدْفِه عَتَّاب بن هرمي بن رياح بن يربوع أن ينقل الردافة إلى غيرهم فأبَتْ بنو يربوع ذلك ورَحلَتْ فنزلَتْ طِخْفَةَ وبعَثَ الملك إليهم جيشًا فيه قابوسٌ ابنه وابن له آخر وحَسَّان أخوه فانتصر عليهم بنو يربوع، وبَقِيَت الردافة فيهم.

(٢-٨) العمامة

تُنْعَت العمامة عند العرب بتَاجِهم، وقد وصفها أبو الأسود الدؤلي بقوله: العمامة جُنَّة في الحرب ومُكْنَةٌ من الحَرِّ ومِدْفَأة من القُرِّ، ووقارٌ في النوادي، وزيادة في القامَة، وهي تُعَدُّ من ميزة سادة العرب، قالت الخنساء في أخيها:

فارسُ الحربِ والمُعمَّمُ فيها
مَدرَهُ الحربُ حين تلقى نِطاحَا

وقد شاعت العمامة خصوصًا بين نصارى اليمن والعراق، ومِمَّا يروي صاحب الأغاني في خَبَر أساقفة نَجران مع نبي الإسلام أنهم كانوا «من السادة المُعمَّمِين» وترى إلى يومنا العمامة من مميزات كهنة وأساقفة وبطاركة الكلدان في العراق وجهات ما بين النهرين.

١  اطلب: كتاب الكولت لندبرغ (Landberg: Dialectes de J’ Arabie Méridionale).
٢  اطلب: مجلة لغة الغرب، ٢: ٣٤٥.
٣  اطلب: معجم العاديات النصرانية (Dict. D’ Archevologie et de Liturgie. Art CAREME).
٤  ومما ورد عن نذور العرب في الجاهلية قول أمية بن الأشكر (حماسة البحتري، العدد ٥٢٠):
وكَمْ من أسيرٍ من قريشٍ وغيرِها
تَدارَكه من سَعْيِنا نَذْرُ ناذرِ
وقال عبد قيس بن خفاف البرجمي (المفضليات، ٧٥٠):
اللهَ فَاتَّقِ وأَوفِ بِنذرِه
وإذا حَلفتَ مماريًا فَتجلَّلِ
٥  راجع: Encyclopédie de L’Islam, art. ARCHITECTURE, p. 428b؛ اطلب أيضًا: كتاب سلادين في الفنون الإسلامية (H. Saladin: Manuel d’ Art Musulman, 1,7–10)؛ وكتاب: تواريخ الإسلام، لبرنس كاتيئتاني (L. Caetani: Annaili dell, Islam, I, 432)؛ ومجلة الإسلام، لبكر (Beker, Islam, III, 392)؛ وكتاب: الصناعة العربية، لغايه (Gayet: L’Art arabe, p. 27–58.)
٦  اطلب: مجلة الجمعية الشرقية الأميركانية (JAOS., XXX, 132–154, art. GOTTHEIL).
٧  اطلب: المجلة الآسيوية الألمانية (ZDMG. 1905, 403-404)؛ وتاريخ معاوية، للأب لامنس (Lammens: Moawia, 367, 436).
٨  اطلب: كتاب الأستاذ غولتسيهر: (Goldziher: Culte des Saints chez les Musulmans. Paris, 1880).
٩  اسمه حاجب بن ذبيان المازني (الأغاني: ١٣: ٥٠).
١٠  ومثلهم النبط لم يختتنوا، قال في اللسان (٧: ٦٣):
كأنَّ على أكتافهم نَشْرُ غَرقدٍ
وقد جاوَزُوا نيَّان كالنَّبَط الغُلْفِ
وقد ذكر أبو علي القالي في أماليه (٣: ٤٦) أن بني إياد «استَقلُّوا بعشرين ألف غلام أغرل.»
ومما لا ينكر أن النصرانية كانت نفذت نفوذًا عظيمًا في بادية الشام وبلاد النبيط وحاضرتهم سلَع (Petra) لنا على ذلك شاهد عياني يرقى عهده إلى القسم الأول من القرن الرابع للميلاد ألا وهو أوسابيوس أسقف قيصرية المُلقَّب بأبي التاريخ الكَنَسي، فإنه في شرحه على آية أشعيا (٤٢: ١١): «لتشد البرية ومدنها … وسكان الصخرة.» قال: «إننا قد شهدنا تحقيق هذه النبوة إذ قد تشيدت كنائس المسيح في عهدنا في عاصمة مدينة الصخرة؛ أي صُلَّع، وفي ضواحيها، بل في بوادي العرب الشرقيين.»
(Eusebius in Isaiam XLII ii: Lætabuntur qui babitant Petram): “Cujus sermonis veritatem moxipse eventus comprobavit, cum in ipa Petrensium civitate, et in agro ejus necnon in solitudinibus Sarracenorum Christi Ecclesiæ nostro tempore fundatæ sunt (Migne: PG., XXIV, col. 319) — Cujus rei testes ac spectators sunt quotquot in Arabum regionbus peregrinantur.”

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤