الفصل الثاني

الألفاظ النصرانية في لغة عرب الجاهلية

كثيرًا ما كنا نسمع في حداثَة سِنِّنَا بأن اللغة العربية لغة القرآن، وأنها كلها إسلامية، وقد قرأنا ذلك في بعض كُتب الأوربيين الذين لم يفقهوا الأمر ورموا الكلام على عواهنه ولعلهم قالوا ذلك؛ لأن القرآن أول كتاب دونه العرب على الرَّق أو الجِلْد أو البردي أو رِقَاق العظام، على أن اللغة العربية سبقت الإسلام كما هو معروف ونطق بها قبائل شتى منها قبائل نصرانية كشفنا القناع عن دينها المسيحي، ثم أَثْبتْنَا فضل النصارى في سبقهم إلى الكتابة العربية.

وليست غايتنا هنا أن نتتبع كل مفردات لغتنا الشريفة فنروي ما جاء منها على ألسنة النصارى، فإن ذلك مستحيل؛ إذ كانت العربية مع وفرة لهجاتها واحدة في القبائل النصرانية وغيرها، كما أن لغة النصراني في عهدنا لا تختلف عن لغة المسلم، ومع إقرارنا بذلك يمكننا أن نجمع عدة مفردات وردت في المعجمات العربية القديمة، دخلت في اللغة بواسطة نصارى العرب لا سيما شعراؤهم، ومجموعها دليل واضح على تأثير النصرانية في لغة أهل الجاهلية.

وتسهيلًا لبيان الأمر نروي هذه الألفاظ على حسب معانيها مباشرة، بالألفاظ الدَّالَّة عَلَيْه تعالى وكمالاته وأسمائه الحسنى.

(١) الاسم الكريم وأسماؤه الحسنى في الجاهلية

إن الوثنية كانت عَمَّت قبل المسيح كل جهات جزيرة العرب، كما سبق لنا بيانه وشَهِدَت عليه المآثر المتعددة، فإن وَجَدْنا فيها ديانة التوحيد ووصف كمالاته تعالى وألفاظًا دالة على ذلك بعد المسيح، فلا بد من القول: إن العرب الذين فاهُوا بها كانوا مُوحِّدِين، فَهُم إما يهود وإما نصارى، وعلى الأقل أنهم استعاروها من أولئك المُوَحِّدِين، على أننا نعرف الجهات التي كان يسكنها اليهود في جزيرة العرب، أما النصارى فكانوا مُنبَثِّين في كل أنحائها فيجب القول بأن هذه الألفاظ هي غالبًا للمسيحيين دون اليهود.

«الله تعالى» لا مراء بأن اسمه عز وجل كالإله الحق سبحانه وتعالى قد سبق عهد الإسلام وشاع في كل أنحاء العرب، وقد وجده صاحب الشريعة الإسلامية مُكرَّمًا مُعظَّمًا بين أبناء جنسه المكيين فهو يكرر اسمه في القرآن كالإله العظيم الذي ليس فوقه إله، وإن كان بعض منهم يشركون به آلهة غيره دونه رتبة.

أما اشتقاق هذا الاسم فلم يتفق عليه كتبة العرب، وقد زعموا غالبًا أنه عربي الأصل وأنه مركب من لفظة إله مسبوقة بال التعريف كأنه «الإله» اختصروه بالله، أما علماء اللغات السامِيَّة فيجمعون على أن هذا الاسم مشتق من أصل آرامي «إيل (ϰל)» مُفخَّم بزيادة الهاء فجاء في الكلدانية والسريانية على صورة «آلَهَا ϰלחϰ» ، فقالوا بالعربية الله بلام أصلية مفخمة، وقد جاء الاسم الكريم في الكتابات النبطية والصفوية، فالنبطية ذكرته منسوبًا إليه كزيد الله، وعبد الله، وتَيْم الله، وورد في الكتابات الصفوية منفردًا. ولما كانت النصرانية دخلت إلى بلاد العرب خصوصًا من جهات الشام، وتَمكَّنَت بين أحياء النَّبَط، أطلقوا اسم الله في لهجتهم على الإله الحق كما شاع بين طوائف السريان ونقلوه في أسفار العهدين القديم والحديث منذ اوائل القرن الثاني للمسيح، وخُلاصَة القول أن اسم الله دخل في جزيرة العرب بنفوذ النصرانية خصوصًا، وعليه قد تكرر هذا الاسم الكريم في الشعر الجاهلي، الذي كان معظمه لشعراء نصارى من قبائل نصرانية كربيعة وبكر وإياد وغيرهم … ولا نرى حاجة إلى ذكر أمثلة عديدة لهذه الحقيقة لثباتها وكثرة استعمال اسم الله في الشعر الجاهلي، أما بقية آلهة العرب فقل ما ورد ذكرها، إذ كانت الديانة الوثنية قد تقلص ظلها قبل ظهور الإسلام، وكفى بإيراد أقوال بعضهم في الاسم الكريم على صورتيه «الله» أو «إله»، قال زيد بن عمرو (عن رواية ابن هشام):
إلى الله أُهْدِي مِدْحَتِي وثَنائِيَا
وقولًا رَصِينًا لا يَنِي الدَّهرَ باقيا
إلى المَلِك الأعلى الذي ليس فوقه
إله ولا رَبٌّ يكون مُدَانِيا
رضيتُ بك اللهم ربًّا فلن أُرَى
أدين إلهًا غَيرَك الله ثانِيا

وقال الأعشى (شعر النصرانية، ص٣٦٥):

وذا النُّصُب المَنصوب لا تَسْكُنَنَّه
ولا تَعْبدِ الأوثان واللهَ فاعْبُدا

وقال بعض الإياديين (كتاب البيان، للجاحظ، ١: ١٩٠):

ونحن إيادٌ عبيدُ الإله
ورهطُ مُناجيه في السُّلَّم

وقال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت:

إلهُ العالمين وكلِّ أرضٍ
وربُّ الرَّاسيات من الجبال

ويَقْرُب من اسم الإله اسم الرب كقول بن أوس بن حجر:

أَطَعْنَا ربَّنا وعصاه قوم
فذُقْنا طَعْم طاعتنا وذاقوا

(الأسماء الحسنى) يريد العرب المسلمون بالأسماء الحسنى صفات له تعالى تدل على أخص كمالاته عز وجل، استخرجوها من بعض أقوال القرآن وعدُّوها ٩٩ اسمًا، وأسماء الله لا عداد لها كما هو معروف لأن كمالاته تعالى لا يضم بها إحصاء، ومهما وُصفت به الذات الإلهية فما تلك الأوصاف إلا نقطة من بحر، ولا نتتبع كل اسم من هذه الأسماء، وإنما نكتفي بما هو أدل على جلاله تعالى وعظمته وقدرته وعلمه ورحمته فنجدها كلها سبقت على ألسنة أهل الجاهلية، وإذ كان الله الواحد الصمد قد عرفه العرب كما قلنا بواسطة المُوحِّدِين ولا سيما النصارى، وجب القول بأن هذه الصفات استعارها أيضًا كَتبَة العرب وشعراؤهم عن الدين النصراني، والأسفار المُقدَّسة التي كان يتداولها أرباب هذا الدين.

وكمالاته تعالى على صنفين، صنف منها يعرف الذات الإلهية في نفسها بقطع النظر عن المخلوقات كلها، والصنف الآخر يُشْعِر بصفات العِزَّة الإلهية بالنسبة إلى الكائنات الخارجة عنه.

فمن الصنف الأول ما دل على وجوده تعالى الواجب وقيامته بذاته وجلاله وعلمه وحكمته وقدرته وغناه وأبديته، وكل هذه الصفات قد عرفها أهل الجاهلية من نصارى العرب واستعاروها من الأسفار المُقدَّسة من العهدين القديم والحديث، فمن ذلك قول أمية بن أبي الصلت يصف عظمته وجلاله وفي كلامه كثير مما ورد في القرآن من الأسماء الحسنى، فقال (شعراء النصرانية، ص٢٢٧):

لكَ الحمدُ١ والنَّعْماء والمُلْك ربَّنا
فلا شيء أعلى منك مجدًا وأَمْجدُ
مليكٌ على عرش السماء مُهَيْمِن
لعزته تَعْنُو الوجوه وتَسجدُ
عليه حجاب النور والنُّورُ حَوْلَه
وأنهارُ نُورٍ حوله تَتوَقَّد
فلا بَشَرٌ يَسمُو إليه بِطَرْفِه
ودون حِجاب النُّور خَلْق مُؤيَّد

ومنها في وحدانيته وصمدانيته وملكه المتعالي:

فَسُبحان مَن لا يَعرِف الخلقُ قَدْرَه
ومَن هو فوق العرش فَردٌ مَوحَّدُ
ومن لم تُنازِعْه الخلائق مُلْكَه
وإن لم تُفَرِّدْه العبادُ فَمُفْرَدُ
مليكُ السَّموات الشِّدَاد وأرضها
وليس لشيء عن قَضَاه تَأَوُّد

وفي وحدانيته وقدرته وبقائه قال ورقة بن نوفل (الأغاني، ٣: ١٤):

سُبحان ذي العرش سبحانًا يُعادِلُه
ربُّ البَرِيَّة فَرْد واحدٌ صَمَدُ
مُسَخَّر كل ما تحت السماء له
لا ينبغي أن يُناوِي مُلْكَه أَحدُ
لا شيء مما نرى تَبقى بَشاشتُه
يَبقى الإله ويُودِي المالُ والولدُ

ولزيد بن عمرو في ربوبيته وولائه وأبديته قوله (كتاب البدء والتاريخ، ١: ٦٢؛ وسيرة الرسول، لابن هشام، ص١٤٦):

ألَا كلُّ شيء هالِكٌ غيرَ ربِّنَا
ولله ميراثُ الذي كان فانيا
وليٌّ له من دون كلِّ ولاية
إذا شاء لم يُمْسوا جميعًا تواليا
وإن يَكُ شيء خالدًا ومُعمَّرًا
تأمَّلْ تَجِدْ مِن فَوقه اللهَ باقيا
له ما رأتْ عينُ الْبصيرِ وفوقَه
سماءُ الإله فوق سَبع سمائِيا
وروى الصغاني: «فوق سِت سمائيا»، وسماه أُمَيَّة مُقدَّسًا٢ وذا الجلال فضلًا عن بقائه فقال:
فكلُّ مُعمَّر لا بُدَّ يومًا
وذي الدنيا يَصير إلى الزَّوالِ
ويَفْنَى بَعد جِدَّته ويَبْلَى
سوى الباقي المُقَدَّس ذي الجلالِ

ودعاه زيدُ بن عمرو (الإتقان، للسيوطي، ص١٥٤) بالعزيز والواسع فقال:

إن الإلهَ عزيزٌ واسِعٌ حَكَمُ
بِكَفِّه الضرُّ والبأساءُ والنِّعَمُ

فترى في كل هذه الأبيات عددًا عديدًا من أسمائه — عز وجل — كالواحد والأحد والفرد والصمد والأول والآخر والباقي والعزيز والعظيم والكبير والعَلِي والمُتعالي والمحتجب والماجد والمجيد والقادر والقوي والقهار والمقتدر والملك ومالك الملك وذي الجلال والمُقدَّس والحق والعليم والحكيم والغني، وكلها من أوصافه الدَّالَّة على كمالاته الذاتية، أما الصفات الإلهية المنبئة بالعلاقة بين الخالق والمخلوق، فوَرَد منها كثير في الشِّعر الجاهلي ومصدرها كما في الصفات السابقة التعاليم النصرانية الشائعة في جزيرة العرب، فِمِن جميل أبيات أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت قوله يصف خالق البرية (شعراء النصرانية، ص٢٢٨):

هو اللهُ باري الخَلْق والخَلْقُ كلهم
إماءٌ له طوعًا جميعًا وأَعْبُدُ
وأنَّى يكونُ الخَلْق كالخالق الذي
يدومُ ويَبْقَى والخليقةُ تَنْفَدُ

ووصَفَه هناك بالمحيي المميت:

ونَفْنَى ولا يَبقى سوى الواحد الذي
يُمِيت ويُحْيِي دائبًا ليس يَهمُد

وله في وصف تكوين العالَم أقوال كثيرة كقوله في السماء (شعراء النصرانية، ص٢٢٦).

بَناها وابْتَنَى سبعًا شدادًا
بِلا عَمَد يُرَيْن ولا رجالِ
وسَوَّاها وزَيَّنها بِنُورٍ
من الشمس المُضيئة والهلالِ
ومِن شُهُب تَلألأ في دُجَاها
مَراميها أشدُّ مِنَ النِّصال
وشَقَّ الأرضَ فانْبَجسَت عيونًا
وأنهارًا من العذب الزُّلالِ
وبارَك في نواحيها وزَكَّى
بها ما كان مِن حَرْثٍ ومالِ

ولقس بن ساعدة في الخالق وغايته من الخلق (شعراء النصرانية، ص٢١٦):

الحمدُ لله الذي
لم يَخلقِ الخلقَ عَبَثْ

ومثله لِعَدِي بن زيد وسماه مُسبَّحًا وخلَّاقًا (شعراء النصرانية، ص٤٥٤):

ليس شيءٌ على المنونِ بِباق
غيرُ وجه المسبَّح الخَلَّاقِ

ومما يضاف إلى صِفَته بالخالق قولُ أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت (العرائس، للثعلبي، ص١١):

إذا قِيلَ مَن رَبُّ هذي السما
فليس سواه له يُضْطَربْ
ولو قِيلَ رَبٌّ سوى ربنا
لقال العِبَاد جميعًا كَذِبْ

وسمَّاه أُمَيَّة كبيرًا ومنشئًا ومُحييًا وقديرًا فقال:

مَجِّدُوا اللهَ وَهْوَ لِلمَجْد أهلُ
رَبُّنا في السماء أَمْسى كبيرا
ذلك المُنشئُ الحجارةَ والمَو
تَى وأحياهُمُ وكان قديرا

ووصَفَه قس بن ساعدة بالمهيمن (شعراء النصرانية، ٢١٧):

فأعوذ بالله المهيمن مما
غالَه بالبأساءِ والنَّحْس

ونعَتَه أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت بالسَّلِيطَط والمقتدر فقال:

إنَّ الأنام رعايا الله كُلهم
إنَّ السَّلِيطَط فوق الأرض مُقْتدِر

وسماه الكريم فقال:

ثم يَجْلُو النهار ربٌّ كريمٌ
بمهاة شُعاعُها مُنثورُ

وقال أعشى قيس:

رَبِّي كريمٌ لا يُكَدِّر نِعْمةً
فإذا تُنُوشِد في المَهارق أَنْشدَا

وخصَّه زُهَيْر بن أبي سُلْمَى بمراقبة الأعمال والانتقام لها في مُعلَّقته:

فلا تَكْتُمُنَّ اللهَ ما في صدوركم
لِيَخْفَى ومَهْمَا يُكْتَمِ اللهُ يعلمِ
يُؤَخَّر فَيُوضَع في كتاب فيُدَّخَر
ليوم الحساب أو يُعَجَّل فَيُنْقَمِ

ودعاه أمية حكَمًا فقال:

لكَ الحمدُ والمَنُّ ربَّ العبا
دِ أنتَ المليكُ وأنتَ الحَكَم

وسمَّاه عليًّا ومتعاليًا (المرتضى، ص٣١٣):

وأشهدُ أن اللهَ لا شيء بعده
عليًّا وأمسى ذِكْرُه مُتعالِيا

ووصَفُوه بالرحمن والرحيم، قال الأعشى (شعر النصرانية، ص٣٩١):

فَلَئِنْ ربُّك من رحمته
كَشَف الضِّيقَة عَنَّا وفَسَح

وقال المُثقَّب العبدي (شعر النصرانية، ص٤١٥):

لَحَا الرحمنُ أقوامًا أَضاعوا
على الْوَعْوَاع أَفْراسِي وعِيسِي

وقال سلامة بن جندل يصفه بالرحمن والجَابِر والجامع (اطلب طبعتنا، ص١٩):

عَجلتم عَلينا حِجَّتَيْن عليكُم
وما يَشأِ الرحمنُ يَعْقِدْ ويُطْلِق
هو الجابِر العَظْمِ الكسيرِ وما يشَا
من الأمر يَجْمَعْ بَيْنَه ويُفَرِّقِ

ويُرْوَى: «هو الكاسر العَظْمِ الأمين»، ووصفه زيد بن عمرو بالرحمن والغفور، فقال (الأغاني، ١٣: ١٦):

أربًّا واحدًا أمُّ أَلْف رَبٍّ
أَدِينُ إذا تَقسَّمَت الأمورُ
ولكنْ أعبدُ الرحمنَ ربي
لِيَغْفِر ذنبي الرَّبُّ الغفور

وقال أُمَيَّة في الرحيم (كتاب الألفاظ، لابن السِّكِّيت، ٤٩٠):

ثم يَجْلُو الظَّلام ربٌّ رحيم
بمَهاة شُعاعُها مَنشُورُ

ودعاه الورقةُ بن نوفل بالسَّميع المُجيب فقال (الأغاني، ٣: ١٦):

أَدِينُ لربٍّ يستجيب ولا أرى
أَدِين لِمَن لا يسمع الدَّهرَ واعيا
أقول إذا صَلَّيْتُ في كل بِيعَة
تَباركْتَ قد أَكثرْتَ باسمك داعيا

فهذه الأسماء كلها من صفات الله تبارك وتعالى تثبت جليًّا بأن أهل الجاهلية المُتَنَصِّرين لم يَفُتْهم شيء من معرفة الإله الحق.

(٢) السماء والجحيم وما فيهما

كما اقتبس عرَب الجاهلية مَعارِفهم عن الحق سبحانه وتعالى من نور النصرانية ودُعاتها خصوصًا، كذلك يجب القول: إنهم عرفوا الآخرة بِفَضْلهم وإن أمكنهم أن يَستعِيروا شيئًا منها من اليهود، إلا أن اليهود — كما سبق لنا القول — كانوا مُنْزَوِين في بعض أنحاء جزيرة العرب ولم يَخْتَلِطوا مع أهلها إلا اختلاطًا يسيرًا على خلاف النصارى الذين رأيناهم فيما مر، ساكنين في كل أقطار العرب لا يخلو منهم حي واحد، فلا عَجَب أن يكونوا بَثُّوا تعاليمهم عن دار الخُلود بين أهل البادية والحَضَر كما نَشَروا تعريفهم للخالِق — عز وجل.

«السماء» معلوم أن السماء مقام الله حيث يَتجلَّى للأبرار وحيث يسعى في خدمته ملائكةٌ مُنزَّهون عن الهَيُولَى … وقد مَرَّت لنا أبيات لأُمَيَّة بن أبي الصَّلْت وصَفَ فيها تلك السماء العليا، فلا حاجة إلى تكرارها وإنما نضيف إليها قوله في الدَّارَيْن:

دَارٌ دَحاها ثُمَّ أَعْمرَنَا بها
وأقام بالأُخْرى الَّتِي هِي أَمْجَدُ

وفي هذه السماء العليا قال أيضًا:

فأَتَمَّ ستًّا فاسْتَوَت أَطْبَاقُها
وأتى بِسابِعَة فأنَّى تُورَدُ

وتُدعَى السماء أيضًا بِجَنَّة الخُلْد وبالفردوس وجنان عَدْن، قال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت:

رَبِّي لا تَحْرِمْنَني جَنَّة الـ
ـخُلْدِ وكُنْ ربي بي رَءُوفًا حفيا
وقال حكيم بين قبيصة يخاطب ابنه بشرًا (في الحماسة: ٧٩٢، ed. Freytag).
فما جَنَّةُ الفردوس هاجرتَ تَبتَغِي
ولكنْ دَعاك الخبزُ والتمرُ أَحْسَبُ

ومثله لحسان بن ثابت (تاج العروس، ٤: ٤٠٥):

وإنَّ ثوابَ الله كُلَّ مُوَحِّد
جِنانٌ مِنَ الفِردوس فيها يُخَلَّدُ

وقال النابغة (المخصص، لابن سيده، ٩: ٥٦):

فسَلام الإله يَغْدُو عليهم
وفيُوء الفردوسِ ذات الظلال

وللسماء في الشعر القديم أسماء غيرها منها بِرْقِع وعدن ونعيم، قال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت (المخصص، ٩: ٦):

وكأنَّ بِرْقِعَ والمَلائِكَ حَوْلَها
سِدَرٌ تَواكَلَهُ القَوائِمُ أَجْرَد

وجاء في عدن له أيضًا:

جَهنَّمُ تلك لا تُبْقِي بَغِيًّا
وعَدْنٌ لا يُطالِعُها رَجِيمُ

وقال في النعيم:

لَم يُخْلَق السَّماءُ والنُّجومُ
والشَّمسُ معها قَمَرٌ يقومُ
قَدَّره المهيمنُ القَيُّومُ
والحشُّ والجَنَّةُ والنعيمُ
إلا لأمرٍ شَأْنُه عَظيمُ

وسمَّاها أيضًا دارَ صِدْقٍ قال:

وحَلَّ المتقونَ بِدارِ صِدْق
وَعَيْش ناعِمٍ تَحتَ الظِّلال
لهم ما يَشْتَهون ومَا تَمَنَّوا
مِنَ الأفراحِ فيها والكَمالِ

«الملائكة» وأَخصُّ ما في السماء الملائكة، ومعلوم أن ذِكْر الملائكة لم يمكنه أن يَتَّصل إلى العرب إلا بطريقة وَحْي سابق ودِين شاع فيه المُعْتقَد بوجود الملائكة كالنصرانية، وقد أحسن أُمَيَّة في وصفهم فقال:

يَنتابُه المُتنَصِّفُون بسَجْرة
في ألفِ ألفٍ من مَلائكَ تُحْشَدُ
رُسْلٌ يَجوبون السماء بأمره
لا ينظرون ثَواء من يَتَقصَّدُ
فَهُم كَأَوْب الرِّيح بَيْنَا أَدبرَت
رَجَعتْ بَوادِي وَجْهِها لا تُكرَد
حذٌّ مَناكبهم على أكتافهم
زفُّ يُزَفُّ بهم إذا ما اسْتَنجَدوا
وإذا تلاميذُ الإله تَعاوَنوا
غَلَبوا ونَشَّطَهم جَناحٌ معتدُ
نهضوا بأجنحة فلم يتواكلوا
لا مُبْطِئ منهم ولا مُسْتَوغِدُ

وله من قصيدة أخرى:

ملائكةٌ أقدامُهم تحت عرشه
بِكفَّيْه لولا الله كَلُّوا وأَبْلَدوا
قيام على الأقدام عانِين تَحْتَه
فَرائِصُهم مِن شدة الخوف تُرْعَدُ
وسبطٌ صفوفٌ ينظرون قضاءَه
يُصِيخُون بالأسماع للوحي رُكَّدُ

وهناك قد مَيَّز طبقات الملائكة، وأشار إلى عددهم ومختلف أعمالهم ورُتَبهم كالكروبيم والحُرَّاس وصَرَّح بأسماء بعضهم كجبرئيل وميخائيل قال:

أَمِين لِوحي القُدسِ جبريلُ فِيهم
ومِيكالُ ذو الرُّوح القَوِي المُسدَّدُ
وحُرَّاس أبواب السَّمواتِ دُونَهم
قيامٌ عليها بالمقاليد رُصَّدُ
فنِعْم العِبادُ الْمُصطَفَون لأمْرِه
ومِنْ دونهم جُنْد كَثيف مُجنَّدُ
ملائكة لا يفترون عبادة
كرُوبِيَّة منهم رُكوعٌ وسُجَّدُ
فساجِدُهم لا يَرْفَع الدَّهرَ رأسَه
يُعظِّم ربًّا فَوقَه ويُمجِّد
وراكِعُهم يَحْنُو له الدَّهرَ خاشعًا
يُردِّد آلاءَ الإله ويَحْمَدُ
ومنهم مُلِفٌّ في الجَناحَين رأسهُ
يَكادُ لِذكْرَى رَبِّه يَتفَصَّدُ
من الخوف لا ذُو سَأْمَةٍ بِعِبَادةٍ
ولا هُوَ من طُول التَّعبُّدِ يُجْهَدُ
ودون كَثيفِ الماء في غامِضِ الهوا
ملائكةٌ تَنْحطُّ فيه وتَصْعَدُ
وبَيْن طِبَاق الأرضِ تحت بُطونِها
ملائكةٌ بالأمر فيها تَردَّدُ
وأنشد الكسائي لعلقمة بن عبدة، ويُعْرَف بالفحل، يمدح الحارث بن جبلة، وتُرْوَى لشاعر من عَبد القيس يَمدَح النُّعمانَ وفيها ذِكْر الملائكة (راجع: التاج في مادة ملك؛ وشرح «بانت سعاد» لابن هشام ed. Guidi, p. 42):
تَعالَيتَ إنْ تُعْزَى إلى الإنْسِ خلَّة
وللإنس مَن يَعْزُوك فَهو كَذوبُ
فلستَ لإنْسِي ولكنْ لِمَلْأَكٍ
تَنزَّلَ مِن جوِّ السماء يُصَوِّبُ

وروى في المفضليات (ص٧٨٠) قوله: فلستَ لإنسي: «فلستَ بِجِنِّي».

ولأمية أيضًا في الملائكة المُوَكَّلِين بالمخلوقات السفلى قوله (أساس البلاغة، ٢: ١٩٦):

وتَحتَ كَثيفِ الماء في باطِنِ الثَّرَى
ملائكةٌ تَنْحطُّ فيه وتَسمعُ

وقد كَثُر ذِكْر الملاك جبرائيل في الشعر القديم، قال عمران بن حِطَّان:

والرُّوح جِبريلُ فيهم لا كفاءَ لَه
وكان جبريلُ عند الله مأمونَا
وقال حسان بن ثابت (ديوانه، طبعة ليدن، ed. Hirschfeld, p. 42):
يا حارِ في سِنَةٍ من نَوْمِ أوَّلِكم
أم كُنتَ وَيْحَك مُغترًّا بِجبرِيل
وقال أيضًا (ib. 15):
برجالٍ لَستُم أمثالَهم
أُيِّدُوا جبريلَ نصرًا فَنَزَلْ
وقد لقَّبَه حسان في محل آخر بالرُّوح القُدُس (ib. p. 2):
وجِبريلٌ أَمينُ الله فينا
ورُوح القُدْس لَيْس له كِفَاءُ

ويُرْوَى: «رَسول الله»، وكذلك ذكَروا المَلاك ميخائيل ودَعَوه ميكال، قال ورقة بن نوفل:

وجِبْريلُ يأتيه وميكالُ مَعهُما
مِنَ الله وَحْيٌ يَشْرَح الصَّدْرَ مُنْزَلُ

وذكروا من طغمات الملائكةِ الكروبية وهم الكروبيم، وَصفَهم في تاج العروس «بسادة الملائكة والمُقرَّبِين إلى حملة العرش»، كقول أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت السابق ذكره (التاج، ٢: ٤٥٤):

ملائكةٌ لا يَفْتُرونَ عِبادةً
كَرُوبِيَّة منهم رُكوعٌ وسُجَّدُ
وقال في الساروفيم ودَعاهم بالسرافيل (كتاب البَدْء، للمقدسي، ١: ١٦٨، ed. Huart)؛ وعجائب المخلوقات، للقزويني (ص٥٦، ed. Wüstenfeld):
حُبِسَ السَّرافيلُ الصَّوَافِي تَحتَه
لا واهِنٌ منهم ولا مُسْتَوغِدُ

ومما وصفه شعراء الجاهلية في السماء، عَرشُ الله الذي تَكرَّر ذِكرُه في الأسفار المُقدَّسة من العهدين العتيق والحديث، ومن البديهي أن عرش الله ليس شيئًا هَيُوليًّا مَجسَّمًا، وإنما المراد به عِزَّتُه تعالى وثَباتُه، قال أُمَيَّة وهو غير ما سبق له (الأضداد، لابن الأنباري، ص٥١):

مَلِكٌ على عَرْش السماء مُهِيمنٌ
تَعنُو لِعِزَّته الوجوهُ وتَسجدُ

وقال ورقة بن نوفل (الأغاني، ٣: ١٤):

سُبحانَ ذي العرش سبحانًا يُعادِلهُ
ربُّ البرية فَرْدٌ واحدٌ صَمدُ

ويُرْوى: «سبحانًا يَدومُ له، وسبحانًا يعودُ له»، ومثل العرش السرير، قال أُمَيَّة (كِتاب البدء والتاريخ، للمَقْدِسي، ١: ١٦٥):

مَجِّدُوا اللهَ فَهْوَ للمَجْد أهلُ
رَبُّنا في السماء أَمسَى كَبيرا
بِالبِناء الأعلى الذي سَبَق الخلق
وسَوَّى فوق السماء سَريرَا
شَرْجَعًا ما يَنالُه بَصَر
الْعَين تَرى دُونه الملائِكَ صُورًا

فالشَّرْجَع الخشبة المُربَّعة الطويلة وهي أيضًا العرش والسرير.

«جَهنَّم»٣ ليست معرفة شعراء الجاهلية بجهنم وعذابات الهالكين ووجود الشياطين دون معرفتهم بالسماء وأهلها، قال كَعْبُ بن مالك في وَصْف جَهنَّم (إتقان علوم القرآن للسيوطي، ١: ١٥٨):
تَلظَّى عليهم حين أن شَدَّ حَمْيها
بزُبَر الحديد والحجارة ساجرُ

وقال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت (فيه، ١: ١٥٩):

فأُرْكِسوا في حَميم النار أنهم
كانوا عُتاةً يَقولون الكَذِب والزُّورَا

ويروى: «في جهنم أنهم كانوا عصاة»، وقال، وقد أجاد في بيان حال الهالكين (شعراء النصرانية، ١: ٢٢):

وَسِيقَ المجرمون وَهُم عُرَاة
إلى ذاتِ المَقامِع والنَّكَالِ
فنادَوا وَيْلَنا ويلًا طويلًا
وعَجُّوا في سَلاسِلِها الطوال
فَلَيْسوا مُيِّتِين فَيَستَريحوا
وكُلُّهم ببحر النارِ صال

وقال فيهم (خزانة الأدب، ٢: ٣٤٦):

فَهُم يَطْفُون كالأقذاء فيها
لَئِن لم يَغفِر الرَّبُّ الرحيمُ

وقال النابغة الجَعْدي مستغفرًا وطالبًا النجاة من جهنم (خزانة الأدب، ٤: ٤):

يا مالكَ الأرض والسماء ومَن
يَفْرَقْ مِنَ الله لا يَخَفْ إثمَا
إنِّي امْرُؤ قد ظلمتُ نفسي وإلَّا
تَعْفُ عَنِّي أُغْلَى دمًا كثما
أُطْرَح بالكافرين في الدَّرك الْـ
أسفلِ يا رب أَصْطَلِي الضَّرمَا

وقال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت يذكر الأبرار ونعيمهم والأشرار وجحيمهم:

هُمَا فَريقان فِرقَةٌ تدخل
الجَنَّة حفَّتْ بهم حَدائِقُها
وفِرقَة منهمُ قد أُدخِلَت
النَّارَ فَسَاءتهم مَرافِقُها
لا يستوي المنزلان ثَمَّ ولا الـ
أعمالُ لا تستوي طرائقها

وكما جعلوا الملائكة في السماء كذلك عينوا جهنم لإبليس وفرقته من الشياطين والجن الذين هبطوا من السماء بخطيئتهم فأخذهم الله بعصيانهم، قال أُمَيَّة (لسان العرب، ١٥: ٤٠٩):

وفِيها مِن عِبَاد الله قومٌ
مَلائِكُ ذُلِّلوا وَهُم صِعابُ

وقال أُمَيَّة أيضًا ودَعا الشيطان شاطنًا (اللسان؛ والتاج؛ والصحاح، في مادة عكا):

أَيَّما شاطنٌ عَصاهُ عكاه
ثُم يُلْقَى في السجْن والأغلال

ودعاه عَدي بن زَيد إبليسًا (تاريخ العصامي سمط النجوم العوالي، ص١٩):

وأهبطَ اللهُ إبليسًا وأوعَدَه
نارًا تَلهَّب بالإسعار والشَّرَر

وقال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت:

وترى شياطينًا تَرُوغُ مُضاعةً
ورواغها صَبْر إذا ما يُطْرَدُ
تُلْقَى عليها في السماء مَذلَّة
وكَواكِب تُرمَى بها فتُعَرِّدُ

وفي هذه السماء العليا قال أيضًا:

فأتمَّ سِتًّا فاسْتَوَت أطباقها
وأتى بسابعة فأنَّى تُورَد

وقد كَثُر في الشعر الجاهلي ذِكْر الدَّيْنُونة والحساب وما يتبعهما من ثواب أو عقاب، قال زُهَيْر بن أبي سُلْمَى في معلقته يتهدد المنافقين بالدَّيْنُونة:

فَلا تَكتُمُنَّ اللهَ ما في صدوركم
لِيَخْفَى ومَهْمَا يُكْتَمِ اللهُ يَعْلمِ
يُؤخَّر فيُوضَع في كتاب فَيُدَّخَرْ
لِيومِ الحسابِ أو يُعَجَّلْ فَيُنْقمِ

وقال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت:

يُوقَف الناسُ للحساب جميعًا
فَشقِيٌّ مُعذَّبٌ وسعيدُ

وقال النابغة الذبياني يذكر مُعْتقَد بني غَسَّان بالدَّيْنُونة:

فَلا يَحْسَبون الْخَير لا شَرَّ بَعدَه
ولا يَحْسَبوَن الشرَّ ضَرْبةَ لازبِ
وقال لبيد (ديوانه، ص٢٨، ed. Huber):
وكلُّ امرئ يومًا سَيعْلَم سَعْيَه
إذا كُشِفَت عند الإله المَحاصلُ

ويُرْوَى في المخصص (١٢: ٧١): «إذا حُصلت عند الإله الحصائِلُ.» وروى السيوطي لأُمَيَّة بن أبي الصَّلْت (في إتقان علوم القرآن، ١: ١٥٨):

ولا يومَ الحسابِ وكان يومًا
عبوسًا في الشدائد قَمْطَريرا

وقال أُمَيَّة أيضًا (فيه؛ وفي الأغاني، ٣: ١٩٠):

إنَّ يوم الحساب يومٌ عظيم
شابَ فيه الصَّغِير شَيبًا طويلا
لَيْتَني كنتُ قبل ما قد بَدَا لي
في قِلالِ الجبال أرعى الْوُعولا
كلُّ عَيش وإنْ تَطاوَل دهرا
مُنتَهَى أَمْرِه إلى أن يَزُولا
وَاجْعَلِ الموتَ نُصْب عَينَيكَ وَاحْذَر
غَولَة الدَّهر إنَّ للموت غُولا

وقال أيضًا (خزانة الأدب، ٤: ٧):

لا تَخْلِطنَّ خَبيثاتٍ بِطَيِّبَة
واخْلَع ثيابَك منها وانْجُ عُريانا
كلُّ امرئ سوف يُجْزَى قَرضه حسنًا
أو سيئًا ومَدينًا كالذي دانَا

وهم يذكرون مع الدَّيْنُونة والحساب يوم الحشر وبعث الأجساد وقيامتها من قبورها وجزاء العالمين الأخير، قال أُمَيَّة ووصفه تعالى بالباعث للموتى:

الوارثُ الباعثُ الأمواتِ قد ضَمِنتْ
إيَّاهم الأرضُ في دَهْر الدَّهارِير

وقال قس بن ساعدة (الشربيني، ٢: ٢٧٥؛ ومحاضرات ابن العربي، ٢: ٦٧٠؛ وكتاب المعمرين لأبي حاتم السجستاني، ص٧٦):

يا نَاعِيَ الموتِ والأمواتُ في جَدَث
عليهم من بَقايا خَزِّهم خِرقُ
دَعْهُم فإنَّ لهم يومًا يُصاحُ بهم
فهم إذا انْتَبَهوا مِن نَومِهم فرقُ٤
حتَّى يَعُودوا بحالٍ غيرِ حالهم
خلقًا جديدًا كما مِنْ قَبْلِها خُلِقُوا
مِنْهم عُراة وموتى في ثِيابِهم
منها الجَديد ومنها الأورق الخَلقُ

وقال عَبيد بن الأبرص يذكر القيامة (خزانة الأدب، ١: ١٦٠):

أنتَ المليكُ عَليهِم
وهُمُ العبيدُ إلى القيامَةْ

وقال أُمَيَّة وله السَّهم الأفوز في وَصْف الدَّيْنُونة وذَكَر أيضًا العرش وميزان الحساب والزُّبُر؛ أي الأسفار المُقَدَّسة التي أوحى بها الله لهداية العالمين (كتاب البدء، ٢: ١٤٦):

ويومُ مَوعِدهم أن يُحْشَروا زُمَرًا
يومُ التَّغابُن إذْ لا يَنفَعُ الحَذرُ
مُسْتَوسِقِين مع الداعي كأنهم
رِجْل الْجَرادِ رَقَتْه الريحُ تَنتَشِر
وأُبْرِزُوا بِصَعيد مُستَوٍ حَرزٍ٥
وأُنْزِل العرشُ والميزانُ والزُّبُر
وحوسبوا بالذي لم يُحْصِه أحدٌ
منهم وفي مثل ذاك اليوم مُعْتَبرُ
فمِنْهم فَرِحٌ راضٍ بمبعثه
وآخرون عَصَوا مَأواهم السَّقَرُ
يقول خُزَّانُها: ما كان عندكم؟
ألم يكن جاءكم من ربكم نُذُر؟
قالوا: بلى فَتَبِعْنا فِتية بَطروا
وغَرَّنا طولُ هذا العيش والعُمُرُ
قالوا: امْكُثوا في عذاب الله ما لكمُ
إلا السلاسلُ والأغلالُ والسَّعرُ
فذاك عيشهم لا يَبْرَحون به
طُول المقام وإنْ صحُّوا وإنْ ضَجِرُوا
وآخَرُون على الأعراف قد طَمِعوا
بِجنَّة حفَّها الرُّمَّان والخَضَرُ
إن الأنامَ رعايا الله كلهم
هو السَّلِيطَط فوقَ الأرض مُقتَدِرُ
وهو القائل أيضًا في وصف الجحيم والنعيم (المقاصد النحوية في هامش خزانة الأدب، ٢: ٣٤٦؛ ومنتخب ربيع الأبرار، Ms Wien, ff 16v):
سَلامَك رَبَّنَا في كل فَجْرٍ
بريئًا ما تَلِيق بك الذُّمُوم
عِبادُك يُخطِئون وأنتَ ربٌّ
بِكفَّيْك المنايا والحُتُوم
غَداةَ يقول بعضُهمُ لِبعضٍ
ألا يا ليتَ أُمَّكُم عَقيمُ
فلا تَدنو جهنَّمُ مِن بريءٍ
ولا عَدَن يَحِلُّ بها الأثيمُ
فَهُم يَطْفُونَ كالأقذاء فيها
لَئِنْ لم يَغْفرِ الرَّبُّ الرحيم
جهنمُ تِلك لا تُبْقِي بغيًّا
وَعَدْنٌ لا يُطالِعُها الرَّجِيم
فلا لغوٌ ولا تأثيمَ فيها
ولا حَيْنٌ ولا فيها مُليمُ
إذا بَلَغوا التي أُجْرُوا إليها
تَقَبَّلَهم وحُلِّل مَن يَصوم
وخُفِّفتِ النُّذورُ وَأردَفَتْهُم
فضولُ الله وانْتهتِ القُسومُ

فهذه الأوصاف كلها لا تُرى في غير الأسفار المُقدَّسة التي كانت في أيدي النصارى فأخذَها عنهم شعراء العرب قبل الإسلام، ولأُمَيَّة المذكور أبيات، ذَكَر فيها انتظار البشر ليوم الدَّيْنُونة وظهور المسيح ليدين العالم (كتاب البدء، ٢: ١٤٥):

والنَّاسُ راثَ عليهم أمرُ ساعَتِهم
فكُلُّهم قائلٌ للدين أَيَّانَا؟٦
أيَّام يَلقى نَصارَاهم مَسيحَهم
والكائِنِينَ له وُدًّا وقُربانَا٧
هم ساعَدُوه كما قالوا إِلَهُهم
وأَرْسَلُوه يُريدُ الغيث دُسْفانَا٨

ومعلوم في مُعتَقَد المسلمين أن السيد المسيح «عيسى» هو الذي ينزل في آخِر العالَم لِيدين العالمين، فكفى بهذه الشواهد دليلًا على أن كل الألفاظ الواردة في القرآن والحديث عن الدَّيْنُونة وأحوالها قد سبق إليها أهل الكتاب في الجاهلية كما سبقوا إلى أسماء الله الحسنى.

(٣) الدين ومَقاماته ومناسكه

كان لعرب الجاهلية شِرْكُهم كما سبق، إلا أن الآثار العربية الباقية من العهد السابق للإسلام قَلَّما تشعر بالتَّوثُّن لنِفُوذ التوحيد بينهم بِفَضْل الدين المسيحي، وها نَحْنُ ذا نُدوِّن الألفاظ النصرانية الواردة في شعرهم المُثْبِتَة لقولنا.

«الدِّين» إنَّ لفظة الدِّين بمعناها الخاص؛ أي العبادة لله قد سَبَقتِ الإسلام، وأولُ ما نَجد لَفْظَها في الشعر العربي مدلولها الدين النصراني، قال النابغة يمدح ملوك غَسَّان النصارى بدينهم:

مَجلَّتُهم ذاتُ الإلِه ودِينُهم
قَويمٌ فما يَرجُون غير العواقبِ

وروى اللِّسان مَحِلَّتهم؛ أي الأرض المُقدَّسة، ومثله ما أنشده نبي الإسلام عن شاعر جاهلي «لما أفاض من عرفة إلى مزدلفة وكان في بَطْن مُحَسِّر الذي كان مَوْقِفَ النَّصارى.» (تاج العروس، ٣: ١٤٠؛ و٩: ٣٦٢)، وفي الأبيات إشارة إلى الناقة التي كان راكبها في مسيره إلى الحرم:

إليكَ تَعدُو قَلِقَا وَضِينُها
مُعْتَرِضًا في بَطْنِها حَنِينُها
مخالفًا دِين النَّصَارى دِينُها

وكذلك روينا لورقة بن نوفل النصراني قوله (الأغاني، ٣: ١٦):

أَدينُ لِرَبٍّ يستجيب ولا أُرَى
أَدِين لِمَن لا يَسمَع الدَّهرَ واعيًا
أقول إذا صَلَّيتُ في كل بِيعَة
تباركتَ قد أكثرتَ باسمك داعيًا

ولأمية في معناه قوله:

رَضيتُ بكَ اللهم ربًّا فلن أُرَى
أدين إلهًا غيرَك الله ثانيا

ومن حِكَم عدي بن زيد قوله:

نَرقَع دُنيانا بتَمزيق دِينِنا
فلا دِينُنا يبقى ولا ما نَرقَعُ

والدِّين أيضًا بمعنى الحُكْم والقضاء والحِساب، قال السيد المسيح (متَّى، ٧: ٢-١): «لا تَدينوا لِئلَّا تُدانوا فإنكم بالدَّيْنُونة التي بها تَدينون تُدانون»، فجاءت اللفظة في الشعر الجاهلي مُقتبَسة عن الآية السابقة، قال خويلد بن نوفل الكلابي يخاطب الحارث بن أبي شمر (التاج، ٩: ٢٠٧):

يا حارِ أَيقِنْ أنَّ مُلكَك زائلُ
واعلمْ بأنْ كمَا تَدين تُدانُ
وإلى هذا المعنى يَعود اسمه تعالى بالدَّيَّان،٩ وردَ في الشعر الجاهلي، وبه دُعي آل عبد المَدَان بن الدَّيَّان سادة بني الحارث بن كعب النصاري «الذين كانوا يَتبارَون في البِيَع وزِيِّها» (البكري، في معجم ما استعجم، ص٣٦٧).

(العبد … المتعبد … العباد … العبادة) هي أيضًا مفردات سبقَتِ الإسلام ودلُّوا بها على مَن يعبد اللهَ من النصارى، قال النابغة:

لو أنها عَرضَتْ لأشمطَ راهبٍ
عبدَ الإلهَ صَرورةٍ مُتعبِّدِ

وقال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت في الملائكة:

فنِعْم العِباد المُصْطَفَون لأمْرِه
ومِن دُونِهم جُند كثيف مُجنَّد
ملائكة لا يَفترون عِبادة
كَرُوبِيَّة منهم رُكوعٌ وسُجَّدُ

والعِباد قبائِل شتى من بطون العرب اجتمعوا على دين النصرانية فدُعوا بالعِباد لزُهْدِهم، ويُقال لنُسَّاك النصارى: الأعابِد أيضًا قال أبو دؤاد الإيادي يصف مصابيح الرهبان في مشارف الجبال (التاج، ٢: ٤١٠):

لهن كنَارِ الرَّأس بالعلياء
تُذْكِيها الأعابد

وكثيرًا ما يُطلِقُون اسم العِباد على كل البشر ولا سيما الذين يَعبُدون الإله الحق، قال أُمَيَّة:

لك الحمدُ والمَنُّ رَبَّ العِبا
دِ أنتَ المليكُ وأنتَ الحكَمْ

وقال أيضًا:

ولو قِيلَ رَبٌّ سِوى رَبِّنا
لقالَ العِباد جميعًا كَذِبْ

ومثله العِبادة مطلقًا خصُّوها بِعِزَّتِه تعالى، قال زيد بن عمرو:

ولكنْ أعبُد الرحمن ربي
لِيغْفِر ذَنْبِي الرَّبُّ الغفورُ

وقال ورقة بن نوفل:

لا تَعبُدنَّ إلهًا غَيرَ خالقكم
فإنْ دَعَوكُم فقولوا بَينَنا حَدَدُ

(آمن … إيمان … المؤمن) كل هذه الألفاظ سبقَتْ أيضًا الإسلام، فاتَّخذَها النصارى لاعتقادهم، ولعَلَّهم استعاروها من السُّرْيان، وقد وردت في أخبار المُتَنَصِّرين في الجاهلية كرواية أصحاب الكهف (مجاني الأدب، ٢: ٢٣٢–٢٤٠).

ورواية تَنصُّر أهل نجران (معجم البلدان، لياقوت، ٤: ٧٥٥)، لا بل ذكَرها في القرآن (سورة البقرة، ع٢٨٥) وأطلقها على النصارى أيضًا فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، ومثلها في سورة آل عمران: «ومنهم المؤمنون … مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ …»

«العيد» هي من الألفاظ الدينية التي استعارها النصارى في الجاهلية عن الآراميين وهي بالسريانية ، وقد نطق بها امرؤ القيس فقال يصف سربًا مَن الْمَهَا؛ أي بقر الوحش:
فآنَسْتُ سِربًا مِن بعيد كأنه
رَوَاهِب عيدٍ في مُلاءٍ مُهدَّب

أشار إلى لُبْس الراهبات في أعياد النصارى للملاءِ والأنسجة الطويلة الأذيال، ومثله تصريحًا قول العَجَّاج في ثور وحش، اعتاد الأرباض كاعتياد النصارى أعيادهم. (الألفاظ لابن السكيت؛ ص٤٤٦):

واعتاد أَرباضًا لها آريُّ
كما يعودُ العيدَ نصرانيُّ
«النَّذْر»١٠ ومن عادات النصارى أن يوجبوا على نفوسهم نوافل تقوية حُبًّا بالله، وذلك النذر من السريانية ، و«النذير כזור» عند بني إسرائيل المقطوع لخدمة الله، وجاء في قصة مريم (سورة آل عمران، ع٣١): إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي، وسبق أمية بن الأشكر الكناني (راجع: حماسة البحتري، ع٥٢٠) فقال:
كم من أسير من قريش وغيرها
تَدارَكه مِن سَعْيِنا نَذْرُ ناذِر
فلما قَدَرْنَا أنَقَذَتْه رماحُنا
فآبَ إلى آلائه غَيرَ شاكر

وورد لأُمَيَّة بن أبي الصَّلْت يذكر نَذْر إبراهيم لابنه إسحاق وفيه ذكر «الاحتساب» وهي أيضًا من ألفاظهم الدينية بمعنى الثواب والأجر قال (تاريخ الطبري، ١: ٣٠٨):

ولإبراهيمَ المُوَفِّي بِنذرٍ
احتسابًا وحامل الإجذالِ

إلى أن قال:

أَبُنَيَّ إني نَذَرتُك
لله شَحيطًا فاصْبِر فِدًى لك حالي

ثم للدين مقامات وأبنية مخصصة بالعبادة، شاع عند العرب المسجد والمعبد والمصلى والمنسك والكعبة … وكل هذه الألفاظ قد سبقت الإسلام واستعملها أهل الجاهلية ولا سيما النصارى للدلالة على دينهم.

«المسجد» قال الزجاج في تعريفه (لسان العرب، ٤: ١٨٨): «كل موضع يُتعَبَّد فيه فهو مسجد.» وقد أطلقوها على هيكل أورشليم كقول الطبري في تاريخه (١: ٧٢٩) عن يوسف خطيب مريم: «تولَّى يوسف خدمة المسجد.» وقال ابن خلدون في تاريخه عن العذراء مريم (٢: ١٤٤) إن حنة أمها «جاءت بها إلى المسجد فدفعَتْها إلى عباده.» وقد مر أيضًا ذكر «مسجد مريم»، كما ورد في معرفة البلدان للمقدسي (ص٧٧)، ولا نشك أنها وردت أيضًا في الشعر القديم، ومما رواه سيبويه عن بعض الشيوخ (تاج العروس، ٥: ٤١٩) قوله:

أوصاكَ ربُّك بالتقى
وأولو النهى أوصوا معه
فاختر لنفسك مسجدًا
تخلو به أو صومعه

«قال» الصَّومَعة بَيت النصارى، فذكر المسجد معها إشارة إلى أنها في معناها شائعة أيضًا عند النصارى، وقد ورد اسم المسجد في القرآن (سورة الإسراء، ع١) دلالة على الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى في القدس الشريف.

وما قلناه عن المسجد يصح أيضًا في المعبد والمصلى، أي مقام العبادة ومحل الصلاة ومكان النسك فإن هذه الألفاظ كلها يرتقي عهدها إلى الزمن السابق للإسلام.

«الكعبة» أصلها الغرفة المُكعَّبة اتخذوها للكعبة الحرام في مكة، وقد استعملها أيضًا النصارى للدلالة على كنائسهم في الجاهلية كما أشرنا إليه في القسم الأول من كتابنا (ص٦٤) عند ذكرنا كعبة نجران وكعبة اليمن دلُّوا بها إلى كنيسة في نجران قال الأعشى:

وكَعبةُ نَجْران حَتمٌ عليـ
ـكِ حتى تُناخِي بأبوابِها

إلخ، وكان لكنائسهم حَرَم لا يجوز انتهاك حرمته إن دَخلَه جانٍ أمن على حياته (راجع في: المشرق، سنة ١٩١٠م، ١٣: ٧١، مقالة قنصل الشام المسيو ن. جيرون) في حمى كنيسة دمشق قبل الإسلام وعلى مثاله كان حرم مكة، وفي مساجدهم أمكنة خاصة تُعْرَف بأسمائها كالمحراب والقبلة.

«فالمِحراب» يُراد بها مُطْلَق المسجد، قال صاحب تاج العروس (١: ٢٠٧): «محاريب بني إسرائيل مساجدهم التي كانوا يُصلُّون فيها.» وكذلك النصارى قد سَمُّوا صدر كنائسهم المحراب كما دل بها المسلمون بعد ذلك على صدر مساجدهم، قال في القرآن في سورة آل عمران عن زكريا (ع٣٢) إنه كان «يدخل المحراب على مريم». وتكرَّرت في الشعر القديم، قال الأعشى (لسان العرب، ٧: ١٧):

كدُمية صُوِّر محرابُها
بمذهبِ ذي مَرمَرٍ مائر

وقال المُسيَّب بن عَلَس (التاج، ١: ٢٠٧):

أو دمية صُوِّر محرابها
أو دُرَّة شِيفَت إلى تاجر

وقال امرؤ القيس (ديوانه، ص١٥٣):

كغزلانِ رملٍ في محاريب أقوال

وقال عدي بن زيد (شعر النصرانية، ص٤٥٥):

كدُمَى العاج في المحارب أو كَالْـ
ـبَيْض في الروض زَهْرُه مُستنيرُ

وقال وضَّاح اليمن:

رَبَّة مِحْراب إذا جِئتُها
لم أَلْقَها أو أرتقي سُلَّما
ومثل المحراب القِبْلة وهي وجهة المسجد جاءت في الشعر الجاهلي، روى صاحب اللسان، ١٤: ٣١٤؛ والجواليقي في المعرب (ed. Sachau, p. 9) لعبد المطلب قوله:
عُذتُ بما عاذ به إبراهِمُ
مُستقبِل القِبْلة وهو قائمُ
«وممَّا يلحق بالمساجد المنارة» وهي من النُّور كالمسرجة، وقيل: من النار، وقد اشتقها العلماء من السريانية بهذا المعنى والمُسلمون يريدون بها المئذنة، والمَنارة سبقَت عهد الإسلام، فاستعملها امرؤ القيس في مُعلَّقَته بمعنى المصباح كان الرهبان يوقدونه لمناسكهم في قِمَم الجبال ليلًا قال:
تُضِيء الظَّلام بالعشاء كأنها
مَنارةُ مَمْسى راهب مُتبتِّل
وكانت المَناور تُسْرَج في الكنائس، ثم اتخذوها بمعنى المَجاز فأطلقوها على الصومعة ومقام الرهبان ومحل عبادتهم، وفي الأغاني (٢٠: ٨٥) وردت المنارة والصومعة بمعنى واحد، وكثيرًا ما كانت صوامع الرهبان مرتفعة مُشيَّدة على شبه الأبراج، بل اكتشف الأثريون في كنائس ما بين النهرين وشمالي سورية عدة كنائس، كانوا شيدوا في أعلاها أبراجًا مستديرة أو مربعة يؤذنون فيها بمناسكهم أو يقرعون فيها النواقيس فلما جاء الإسلام اتخذوا المناور على مثال الصوامع وتلك البروج، وقد أثبت العلامة غوتيل (Gottheil) من أساتذة كلية كولومبيا،١١ أن المسلمين في أول عهدهم كانوا يجتمعون لصلاتهم دون أذان، قال ابن هشام في سيرة الرسول (ed. Wüselfenld, p. 347): «وقد كان رسول الله حين قدموا إنما يجتمع الناس للصلاة بغير دعوة.» وكذلك قال القسطلاني في إرشاد الساري (ج٢، ص٣): «كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيحيون الصلاة ليس يُنادَى لها.» ثم «ذكروا أن يُعَلِّموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن يَنَوِّروا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا وأُمِر بلال «المؤذن» أن يشفع الأذان.» ثم سُنَّ الأذان بعد ذلك في موضع بارز وموضع عالٍ، وربما صعد المؤذن سور المدينة ليدعو إلى الصلاة، أنشد ابن البري للفرزدق (لسان العرب، ١: ١٥٠):
وحتى علا في سور كل مدينة
منادٍ يُنادي فوقَها بأذان

وأثبت غوتيل أن أقدم مساجد المسلمين كمساجد بلد الحرام، والمدينة، والكوفة، والبصرة، ومسجد عمرو بن العاص في الفسطاط، لم تُجَهَّز لها المناور، وأن أول ما ورد ذكر المنارة في خلافة معاوية، أقامها زياد بن أبي سفيان في مسجد البصرة، قال البلاذري في فتوح البلدان (ص٣٤٧-٣٤٨): «لما استعمل معاوية زيادَ بنَ أبي سفيان على البصرة زاد في المسجد زيادة كثيرة … وبنى منارته بالحجارة وهو أول من عمل المقصورة.»

«والمئذنة» محل التأذين؛ أي النداء إلى الصلاة، وَرَدَت بمعنى المنارة والصومعة، قال في تاج العروس (٩: ١٢١): «المئذنة موضع الأذان للصلاة أو المنارة كما في الصحاح، قال أبو زيد: المِئْذَنة والمُؤْذِنة، وقال اللحياني: هي المنارة يعني الصومعة على التشبيه، والمؤذن المنادي للصلاة.» وقد جاءت في الشعر القديم، قال عدي بن زيد النصراني (في معجم ما استعجم، للبكري، ص٢٣٣):

بِتَلِّ جَحْوَش ما يدعو مؤذِّنُهم
لأمرِ رُشدٍ ولا يَحْتثُّ أَنفارا
ومن مرادفات المنارة عندهم أيضًا «المِصباح» وأصله السراج، وقد استعمله أوس بن حجر في شعره بمعنى المشعل الذي يوقده رؤساء النصارى في ليلة الفِصْح قال يصف سنانًا (راجع: شعراء النصرانية، ص٤٩٤؛ وديوانه، ص٢٠، ed. Geyer):
عَليه كمصباحِ العزيزِ يشُبُّه
لِفصْح ويَحْشُوه الذُّبَال المُفَتَّلا

قال الشارح: «أراد السنان الشديد الائتلاق، وهو مثل مشعل الجليل العظيم الشأن من بطارقة الروم لا سيما إذا ألهبه في ليلة فِصْح وإذا كان في مثل هذه الليلة كان أنور وأكثر ضوءًا.»

وأول الفرائض المقامة في المساجد «الصلاة»، وقد تَكرَّر ذكرها في شعر النصارى قبل عهد الإسلام، قال منظور الأسدي يصف بعيرًا شَبَّه موقع ثَفِناته إذا برَك بموقع كَفِّي راهب على الأرض إذا صلَّى عند الفجر (الألفاظ، لابن السكيت، ص٤١٢):

كأنَّ مَهواه على الكلكل
مَوقع كَفَّي راهبٍ يُصَلِّي
في غَبَش الصُّبح أو التَّتلِّي

وقال البُعَيْث يذكر صلاة الرهبان وهم قيام (التاج، ١٠: ٥٣؛ واللسان، ١٨: ١١١):

على ظَهْر عاديٍّ كأنَّ أُرومَه
رجالٌ يُتَلُّون الصلاةَ قيامُ

«قال»: «تَلَّى فلانٌ صلاته؛ أي أتبعَ الصلاة أو أتبع المكتوبة التطوع.» ثم كانوا يُصَلُّون على الخمر في التقديس قال الأعشى يصف خمرًا:

لها حارِس لا يَبرَحُ الدَّهر بَيتَها
وإن ذُبِحَت صَلَّى عليها وزَمْزَما
بِبابِل لم تُعْصَر فَسالَت سُلافَةٌ
تُخالِط قِنْديدًا ومِسكًا مُخَتَّما

ومثله ما رويناه عن أيمن بن خزيم في خمر جرجان (الأغاني، ١٦: ٤٥):

وصَهْباءَ جرجانيَّةٍ لم يَطُفْ بها
حَنيفٌ ولم يَنغرْ بها ساعةً قِدرُ
ولم يَشْهَدِ القسُّ المُهَيْنِمُ نارَها
طَروقًا ولا صَلَّى على طَبْخِها حَبْرُ

والصلاة أكثر ما تتم بالسجود والركوع والتسبيح، وكل ذلك قد تَكرَّر ذكره عن نصارى العرب في الجاهلية، قال المضرس الأسدي (معجم البلدان، ٤: ٣٧٥):

وسِخالِ ساجيةِ العيونِ خَواذلٍ
بجمادِ لِينةَ كالنَّصارى السُّجَّد

«قال»: «لينة ماء لبني غاضرة»، وكذلك ورد في شعر لَبِيد مما قاله في الجاهلية (اطلب ديوانه، في طبعة فينا، ص١١٣)، وقد وصف الثَّور فشبهه عند إِكْبابه بالمُصَلِّي الذي يَقْضي نذْرًا قال:

فباتَ كأنَّه يَقْضِي نُذورًا
يَلوذُ بِغَرقَدٍ خَضلٍ وضَالِ
«قال الشارح»: ويُرْوى: يُطيف بغرقد، وبات أي الثور؛ أي بات مكبًّا كأنه يُصلِّي صلاة يَقضي بها نذرًا، والغرقد والضالُ نباتان، قال آخَر يصف راهبًا (المفضليات، ed. Lyall, p. 411):
وأشعثَ عُنوانٌ به من سُجودِه
كرُكْبة عَنْزٍ من عُنوز بني صخر

وأنشد في هذا الباب عن المرأة النصرانية الساجدة (كتاب سيبويه، طبعة بولاق، ٢: ٩٢):

فكلتاهما خَرَّت وأَسْجَدَ رَأْسَها
كما سَجَدتْ نَصرانةٌ لم تُحَنَّفِ

ومن عادة النصارى أن يَحْنُوا رءوسهم إكرامًا لرؤسائهم، قال حُمَيد بن ثور (المخصص، لابن سيده، ١٢: ٨٧):

فُضولُ أَزِمَّتِها أَسْجدَتْ
سُجودَ النَّصارى لأربابها

ومن قبيل السجود «الركوع» وهو إخفاض المُصَلِّي لرأسه وانكبابه لوجهه، وقد ورد في شعر أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت عن الملائكة قوله:

ملائكةٌ لا يَفترُونَ عِبادةً
كَروبِيَّةٌ منهم ركوعٌ وسُجَّدُ
فساجدُهم لا يرفع الدَّهرَ رأسَه
يُعظِّم ربًّا فوقه ويُمجِّدُ
وراكعُهم يحنو له الدهر خاشعًا
يُردِّد آلاء الإله ويَحمَدُ

وكان الراهب لكثرة صلاته يُدْعَى راكعًا، ومثله الحَنيف مُرادِف الراهب كما مر، قال في تاج العروس (٥: ٣٦٣): «وكانت العرب في الجاهلية تُسمِّي الحنيف راكعًا إذا لم يَعْبِد الأوثان ويقولون: ركَع إلى الله، قال الزمخشري: أي اطمأن، قال النابغة الذبياني:

سَيبْلُغ عذرًا أو نجاحًا من امرئ
إلى رَبِّه رَبِّ البَرِيَّة راكع»
ومن آداب الصلاة «التسبيح»؛١٢ أي شكر الله وتقديس اسمه وتعظيم آلائه، جاءت في الشعر الجاهلي، قال أُمَيَّة (تاج العروس، ٢: ١٥٧):
سُبحانَه ثم سُبحانًا يعود له
وقَبْلَنا سبَّح الجوديُّ والجَمَدُ

وقال الأعشى (لسان العرب، ٣: ٢١٠):

وسَبِّحْ على حِين العَشِيَّات والضحى
ولا تَعبدِ الشيطانَ واللهَ فاعْبُدا

ورُوِي بيتُ عمرو بن عبد الحق للأخطل على هذه الصورة (ياقوت، ٤: ٧٨١):

وما سَبَّح الرُّهْبانُ في كل بِيعَة
أَبِيلَ الأَبِيلِينَ المسيحَ بن مَرْيمَا

ومن الآداب الدينية «الصوم»، والنصارى قد اشتهروا به، قال النَّمِر بن تَوْلَب (كتاب سيبويه، طبعة بولاق، ٢: ٢٩):

صَدَّت كما صدَّ عَمَّا لا يَحِلُّ له
ساقي نصارى قُبَيلَ الفِصح صَوَّامُ

وقال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت عن الأبرار في النعيم:

إذا بَلَغوا التي أَجْرَوا إليها
تَقبَّلَهم وحُلِّلَ مَن يَصومُ
ومن الفرائض الدينية «الحج»، ويراد به اصطلاحًا قصدُ مكة للنُّسك، لكن اللفظة في الأصل يراد به مُطلق النسك، وهي مشتقة من العبرانية כח وتكررت في الأسفار المُقدَّسة بمعنى العيد والاحتشاد، وقد استعملها المقريزي في الخطط (ج٢، ص٤٧٤) لليهود، قال في ذكر أعيادهم في آيار: «وفيه عِيد الموقف وهو حج الأسابيع … ويقال لهذا العيد في زماننا: عيد العَنْصَرة»، وكذلك استعملها الكتبة المسلمون لغير قصد مكة، قال الإدريسي في وصف المغرب (ed. Dozy et de Goeje, p. 64) عن قبر ابن تُومَرت: إن المصامدة جعلوه «حجًّا يقصدون إليه من جميع بلادهم.» ومثلهم نصارى العرب، فإنهم استعاروا اللَّفْظَة من السريانية وهي عندهم كثيرة الاستعمال للدلالة على كل الحفلات الدينية، فاتخذوها بهذا المعنى، وبمعنى زيارة الأمكنة المُقَدَّسة، فقد وردت في ذكرهم للكعبة اليَمَنِية؛ أي كنيسة نجران وفي زيارة بيت المُقدَّس، وقد استعملها ابن القلانسي في كتابه ذيل تاريخ دمشق (ص٦٩) لزيارة بِيعَة القيامة: «هذه بِيعَة … تُعظِّمها النصارى أفضل تعظيم وتحج إليها عند فِصْحهم.» وقال ياقوت عن دير نجران (معجم البلدان، ٢: ٧٠٣): إن «بني عبد المَدَان بَنَوْه مربعًا … فكانوا يَحجُّونه هم وطوائف من العرب ممن يُحِلُّ الأشهر الحُرُم ولا يحج الكعبة، ويحجه خثعم قاطبة.»

(٤) الوحي وكُتُبه وأئمته

ليس الدين طبيعيًّا فقط يُدرِك حقائقه العقل البشري ويُقرِّرُها بالأدلة العقلية. لكنه وَضْعِي أيضًا وهو الذي أوحى به الله إلى عِبَاده وأرشدهم إليه على يد بعض أصفيائه المعروفين بالأنبياء، كموسى كليمه تعالى، ولا سيما السيد المسيح كلمة الله، فَطُوْرًا أوحى بمناسك وفرائض معلومة كالختان والذبائح، وطَوْرًا أنبأ بأسرار تَفُوق إدراك البشر كأسرار العالَم الآخَر وبعض الحقائق الإلهية، ولا يخفى أن العرب في الجاهلية لم يَعرِفوا وحيًا ولم يَدينوا بدين وضْعِي، بل أفسدوا الدين الطبيعي ولحقوا بالشِّرْك وعبادة الأصنام، كما تدلُّ عليه الآثار المتعددة المكتشفَة في عهدنا.

على أن جهلهم بالوحي إنما سبق عهد المسيح، وقد بَيَّنَّا في القسم الأول من مقالاتنا نفوذ النصرانية بين العرب، ولنا في لغتهم العربية قبل الإسلام ما يثبت هذا القول، وذلك في استعمالهم للألفاظ الدالة على الوحي وكتبه وأئمته كما سترى.

«الوحي»١٣ هي أول لفظة تدل على قولنا، فإنها وردت في الشعر الجاهلي قبل القرآن بمعنى تبليغ الله كلمته إلى أنبيائه، قال ورقة بن نوفل الراهب النصراني:
وجِبريلُ يأتِيه ومِيكالُ مَعْهُما
مِن الله وحيٌ يَشرَح الصَّدْر مُنْزَل

فبقوله: «الوحي المُنْزَل» بيَّن كونه يريد دينًا وضعيًّا بلَّغ به الله أنبياءه، ومثله قول أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت في الملائكة وإصاخَتِهم لوحي الله:

وسبطٌ صُفوفٌ يَنظُرون قَضاءَه
يُصِيخُون بالأسماع للوحي رُكَّد
أمينٌ لوحي القُدس جبريل فيهم
وميكال ذو الروح القوي المُسدَّد

وقد انتقلوا من معنى اللفظة الأصلي إلى مَعْناها المجازي، فجعلوا الأسفار الإلهية وحيًا والمكتوب فيها وحيًا، قال جرير بهذا المعنى (معجم ما استعجم للبكري، ص١٠٦):

لِمَن الديارُ بعاقلٍ فالأنْعَمِ
كالوحي في وَرَق الزَّبُور المُعْجَمِ

وإذ كانوا يحفرون بعض آيات الوحي في الصخور، أشاروا إلى ذلك في أشعارهم، قال زهير يشبه آثار الدار بكتابة الوحي (شعراء النصرانية، ص٥٧٥):

لِمَن طَلَل كالوحي عافٍ مَنازِلُه
وعلى مثاله قال حسان بن ثابت (سيرة الرسول، ص٤٥٤، ed. Wüstenfeld):
عَرفتُ ديار زينب بالكَثيب
كخطِّ الوحي في الوَرَق القَشِيب

وقد جاءت على لفظ الجَمْع في مُعلَّقة لبيد، قال يُشَبِّه مَسايل جبل ريان ببقاء كتابة الوحي في الحجارة:

فمَدافِعُ الرَّيَّان عُرِّي رَسْمُها
خلقًا كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
وقد دَعَوا كُتُب الوحي بألفاظٍ أخرى تدلُّ على احتوائها لكلام الله، فمنها «السِّفْر»، وأصلها من العبرانية פסר، والسريانية ، ومعناها الكتاب، وقد خَصُّوا بها الكُتُب الإلهية، قال ابن دُرَيد في الاشتقاق (ص١٠٣): «السِّفر الكِتَاب من التوراة والإنجيل وما أشبههما.» وقد وَردَت في القرآن في سورة الجمعة، وفي الحديث بالمعنى ذاته، وروى البكري في مُعجَم ما استعجم (ص٣٦٩) دخول الحسين بن ضحاك إلى أحد أَدْيِرَة النصارى بينما كان الراهب يقرأ «سِفْرًا من أسفارهم»؛ أي كتبهم المقدسة وكانوا يَدْعُون كُلًّا من تلك الأسفار «بكتاب الله»، قال عدي بن زيد (شعراء النصرانية):
نَاشدْتَنا بكتابِ الله حُرْمَتَنا
ولم تَكُنْ بكتابِ الله تَرتَفِعُ

وقد دعوا أيضًا كتب الوحي «مجَلَّة» وعلى هذا رُوِي بيت النابغة في بني غَسَّان:

مجَلَّتُهم ذاتُ الإله ودِينُهم
قويمٌ فما يَرْجُون غير العواقبِ
قال ابن دريد في الاشتقاق (ص١٩١): «المجلة الصحيفة يُكتب فيها شيء من الحكمة.» وأصل الكلمة من العبرانية מגלח؛ أي الوحي والتبيان، وقد وردت في سيرة الرسول، لابن هشام (ص٢٨٥، ed. Wüstenfeld)، حيث ذكر «مجلة لقمان يعني حكمة لقمان»، وفي حديث أنس «ألْقَى إلينا مَجالَّ، أي صُفحًا»، وربما دَعَوا كتاب الوحي «بالصحيفة»، جمعها صحائف وصحف، وأصلها من الحِمْيَرية والحَبَشية بمعنى الكتاب والرسالة مطلقًا، قال لقيط الأيادي في أول قصيدة يحذر فيها قومه من كسرى (الأغاني، ٢٠: ٣٤):
كِتابٌ في الصحيفة من لَقِيط
إلى مَن بالجزيرةِ من إيادِ

ومثلها «صُحُف إبراهيم وموسى» في القرآن يُراد بها كُتب منسوبة إلى موسى وإبراهيم، ومثلها «المصحف» بتثليث الميم؛ أي الكتاب، والمسلمون يخصُّونها بالقرآن. وقد سَبقَ شعراءُ الجاهلية فنطقوا بها وأطلقوها على أسفار النصارى، قال امرؤ القيس (راجع: ديوانه في العقد الثمين، ص١٦١)، وورد في قوله اسم (الآية) إشارة إلى مضامين تلك الأسفار:

قِفَا نبكِ من ذكرى حبيب وعِرفانِ
ورسمٍ عَفَتْ آياتُه منذ أزمان
أَتَتْ حِجَج بَعْدي عليه فأصبَحتْ
كَخطِّ زَبُور في مصاحف رُهبانِ
وأصل الكلمة من الحبشية «مَصْحَف» من «صَحَفَ»؛ أي كَتَبَ.

وقد استعملوا لفظة «القرآن» ولم يتفقوا على أصلها، فمنهم من هَمَزَها وجعلها مصدرًا لقرأَ بمعنى القراءة، ومنهم مَن رجَّح عدم همزها، فقال: قُران واستشهدوا ببيت حسان بن ثابت في هجوه لبني جمح (سيرة الرسول، ص٥٢٦)، قال:

جَحَدُوا القُرَانَ وكذَّبوا بمُحمَّدِ
واللهُ يُظْهِرُ دِينَ كل رسول

وعليه تكون القُران من قرن، أي جمع بمعنى مجموع الآيات، وعلى رأينا أن الهمز أفضل، وهو الشائع، وعلى هذا اللفظ ورَدَت في لامِيَّة كَعْب بن زُهَير قال:

مهلًا هداكَ الذي أعطاكَ نافلةَ الـ
ـقُرآن فيه مواعيظٌ وتفصيلُ
وعندنا أن أصل الكلمة من السريانية وهي مصدر ومعناها القراءة وقطعة من الكِتاب لا سيما الكِتاب المُقدَّس، ويقال بهذا المعنى «رأس القِريان» .
وقد استَعْمَلوا «الفُرْقان» بمعنى القرآن، قالوا: دُعِي بذلك لأنه يَفْرِق الحق من الباطل، وجاءت الكلمة في القرآن في سورة البقرة بمعنى التوراة، حيث قال: آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ (راجع: تاج العروس، في مادة فرق)، وأصل هذه الكلمة على ما نرى من السريانية وهي بمعنى النجاة والخَلاص مع الإشارة إلى الفصل والتفريق، وقد ورَدَت بمعنى الخلاص في القرآن في سورة الأنفال، حيث قال: إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا فشرحه ابن سعيد بقوله: «الفُرقان النَّصر على الأعداء»، وكذلك شرح ابن دريد قول القرآن «يومَ الفُرْقَان» بيوم النصر، ثم دعوا فصول القرآن «سورة» فهمزَها بعضُهم وأهْمَل هَمْزَها غيرهم فقالوا: هي البقية من الشيء والقطعة منه، وقال غيرهم: هي من السُّورة١٤ بمعنى الرُّتْبة والشَّرف كما قال النابغة يمدح النعمان:
ألم تَرَ أن الله أعطاك سُورةً
تَرى كلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتذَبْذَبُ
والمُرَجَّح ما ارتآه في ذلك العلامة نولدك (Gesch. d. Qorans, p. 24)، أن أصلها من العبرانية שורח معناها المِدْمَاك والساف من البناء ومجازًا هي سطور الكتابة والقطعة منها.
ثم إن وسيط الوحي بين الله والبشر «النَّبِيء» شرحه في تاج العروس (١: ١٣٣) بقوله: «النَّبِيء على فَعِيل؛ الطريق الواضِح يُهْمَز ولا يُهْمَز … ومنه أُخذ الرسول لأنه الطريق المُوضح المُوصل إلى الله تعالى.» وعلى رأي العلماء هذا شرح بعيد واللفظة من العبرانية בנוא، والسريانية ؛ أي الناظر والرائي سلفًا لما يوحي إليه الله من الأمور المستقبلية.١٥ وقد جاءت في الشعر الجاهلي، قال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت عن مريم العذراء (كتاب البدء، للمقدسي، ٣: ١٢٣):
فأدْرَكَها مِن ربِّها ثَمَّ رحمةٌ
بصِدْقِ حديثٍ من نَبِيٍّ مُكَلَّم

وقال آخر:

كلُّ أهلِ السماء يَدعُو عليكم
من نَبِيٍّ ومَلْأَكٍ ورَسول

ومثل النبي «الرَّسول»؛ أي المُرْسَل من الله إلى الناس، قال أُمَيَّة في بعثة الله لموسى الكليم (سيرة الرسول، لابن هشام، ص١٤٥):

وأنتَ الَّذي مِن فَضْلِ مَنٍّ١٦ ورحمةٍ
بَعثتَ إلى موسى رسولًا مُنادِيا

وقال أيضًا عن لسان الملاك جبرئيل إلى مريم يبشرها بالمسيح (كتاب البدء، ٣: ١٢٣):

أَنِيبِي وأَعْطِي ما سُئِلْتِ فإنَّنِي
رسولٌ من الرَّحمنِ يأتيكِ بِابْنِمِ١٧

وقد استعمَلُوا بمعنى الرسول «النَّذير»، قال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت (كتاب البدء، ٢: ١٤٦) عن لسان إبليس:

يَقولُ خُزَّانها ما كان عندكم
ألم يكن جاءكم من ربكم نُذُرُ
وأَخَصُّ ما عرفه العرب في الجاهلية من الكُتُب المنزلة «التوراة والزَّبُور والإنجيل»، فقالوا في التوراة «تورية» أيضًا وهي كُتُب موسى الخمسة؛ أي التكوين والخروج والعدد وسفر الأحبار وتثنية الاشتراع. ثم أطلقوها على أسفار العهد القديم إجمالًا، ومن غريب ما قاله بعض اللغويين في أصل هذه الكلمة أنها مصدر ورَّى الزِّنَاد تَورِية، إذا أخرَج ناره وأن التَّوراة لغة طيئ في التورية، وكِلاهما بمعنى الإضاءة، وفي شرح المفضليات (ص٤٤٧، ed. Lyall)، أن توراة أصلها وَوْراة بِقَلْب الواو تاء، وأصحُّ من هذا ما رواه صاحب التاج عن الزَّجَّاج حيث قال: «هو لفظ غير عربي، بل عبراني اتفاقًا.» وهو في العبرانية חרות ومعناها التعليم والحكمة، وقد وَردَت الكلمة في الشعر القديم، قال السموءل (راجع: طبعتنا لديوانه، ص١٢):
وبقايَا الأسباط أسباط يَعقو
بَ دِراس التَّوارةِ والتابوت

وقد ذكروا «موسى» صاحب التوراة كما رأيت في باب (الرسول)، وقال السموءل (ص١٢):

وانْفِلاقُ الأمواجِ طَوْرَين عن مو
سى وبَعْدُ المُمَلَّكُ الطالوتُ

وقال المضرس بن ربعي (ياقوت، ٣: ٨٧) من أبيات:

فلمَّا لَحِقناهم قَرَأْنا عليهم
تَحيَّة موسى ربه إذ يجاوره
وقد أكثر العرب من ذِكْر «الزَّبُور»١٨ قال المُرَقَّش الأكبر (لسان العرب، ١٦: ٣):
وكذاكَ لا خيرٌ ولا شرٌّ
على أحدٍ بِدائِمْ
قد خُطَّ ذلك في الزُّبُو
رِ الأُولَيَات القَدائِمْ

وقال امرؤ القيس (شعراء النصرانية، ص٦٥):

لِمَن طَلَلٌ أبصرتُه فَشجَاني
كخَطِّ زَبُور في عَسيبٍ يَمانِي
قال ابن الكلبي في كتاب أنساب العرب (Ms de Paris, ff. 160): «إن امْرَأ القيس أوَّل من شَبَّه الطَّلَل بوَحْي الزَّبُور في عَسِيب يماني.» وقد مر بك قوله:
أَتَتْ حِجَج بَعدِي عليها فأصبَحتْ
كخطِّ زَبورٍ في مصاحف رُهبانِ

وجمعوا الزَّبُور «الزُّبُر» قال المرار بن منقذ في المُفضَّلِيَّات يصف دارًا:

وتَرَى منها رُسومًا قد عَلَت
مِثلَ خَطِّ اللَّام في وَحْيِ الزُّبُرْ

ويُشبهه قول الآخر:

أَو زُبر حِمْيَر بَينَها أحبارُها
بالحِمْيَرِيَّة في عَسيبٍ ذابلِ

وقال كذلك أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت (كتاب البدء، ٢: ١٤٦) في يوم الدِّين:

وأُبْرِزوا بصَعيد مُستوٍ جَرَزٍ١٩
وأُنْزِلَ العرشُ والمِيزانُ والزُّبُرُ

أما أصل الكلمة فقد اشتقُّوه من قولهم: زَبَر الكتابَ زبْرًا كتبه، قال صاحب التاج (في مادة زبر): «قال الأزهري: وأعرفه النقش في الحجارة وقال بعضهم: زبرتُ الكتابَ إذا أتْقَنْت كِتابَته»، وجعلوا الذَّبْر كالزَّبْر كما قال صخر الغي:

أَبْلِغْ كبيرًا عَنِّي مُخلَّفَة
تبرقُ فيها صحائفٌ جُدُدُ
فيها كِتابٌ ذَبْرٌ لِمُقتَرِئ
يَعرِفُه أَلْبُهم وَمَن حَشَدُوا
وروي في حديث لابن الكلبي (ياقوت، معجم البلدان، ٤: ٩١) دَبَر بالدال قال في وصف صنم وَدٍّ: «قدَ دُبِر عليه حُلَّتَان؛ أي نُقِش»، «قلنا»: والصواب عندنا أن الزَّبْر من الزَّمْر والزَّبُور كالمَزْمُور وإنما أُبدلت الميم باء كما جرى في لفظة «زَمَن» بالعربية وهي في السريانية بالباء، فكذلك الزبور أو المزبور من العبرانية םזסרו وفي السريانية ، و وهو التسبيح.
ومثل التوراة والزبور «الإنجيل»، أخذَها العرب من اليونان εύαϒϒέλιον بوساطة السريانية أو أَخذُوها توًّا من الحبشية على هذه الصورة، وعلى كل حال إن اللفظة سبقت الإسلام، قال عَدِي بن زيد (كتاب الحيوان، للجاحظ، طبعة مصر، ٤: ٦٦ Ms de Vienne. ff. 213r):
وأُوتِيَا المُلْكَ والإنجيلَ نَقرؤُه
نشفِي بحِكمَته أحلامنا علَلا
من غير ما حاجة إلا لِيجعَلنا
فوق البرية أربابًا كما فَعلَا

وروى البكريُّ في معجم ما استعجم (ص٣٦١) لشاعر لم يذكر اسمه بيتًا هجَا فيه راهبًا هَجَر الرهبانية:

هَجَر الإنجيل حُبًّا للصَّبَا
ورأى الدُّنيا غُرورًا فَركَنْ

وقال في محل آخر عن غلام يتغنًّى بتلاوة الإنجيل:

إذا رَجَّع الإنجيل واهتز مائدًا
تَذكَّرَ مَحزُونُ الفؤادِ غريبُ

والمُرجَّح أن النابغة أراد الإنجيل في ذِكْرِه لمَجَلَّة غَسَّان لما قال:

مَجَلَّتُهم ذاتُ الإلِه ودِينُهم
قويمٌ فما يَرجُون غَيرَ العواقبِ

وكذلك من المُحتَمل أن أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت، أراد الإنجيل في البيت التالي حيث وَردتْ لفظة الرَّق ومعناها السِّفر (راجع: الأضداد لابن الأنباري، ص٨١؛ ولسان العرب، ٩: ٢٥٨) وهو يمدح بني إياد قومه النصارى:

قومٌ لهم ساحةُ العراقِ إذا
سارُوا جميعًا والقِطُّ والقَلُمُ
وكما ذكروا موسى وداؤُود صاحِبَي التوراة والزَّبُور، كذلك ذكروا السيد المسيح مع ذكرهم لإنجيله الشريف وهم يدعونه «عيسى»، روى ابن العربي في محاضرة الأبرار (٢: ٥٠) عن لسان قس بن ساعدة أسقف نجران: «الحمد لله الذي لم يخلق الخلق عَبثْ، ولم يَخلقِ الناس سُدًى من بعد عيسى واكتَرثْ.» وفي اسم عيسى هذا سر من أسرار الاشتقاق الغريبة، قال في التاج «٤: ٢٠٠»: «قال الجوهري: عيسى عبراني أو سرياني، قال الليث: هو مَعدُول عن إيشوع كذا يقول أهل السريانية.» على أن عدولهم هذا من باب الغرائب، ولا نجد عَلَمًا قد تَبدَّل في العربية على هذا المنوال، وعندنا أن هذا التبديل جرى على يد اليهود الذين أدخلوه في العرب بغضًا بالنصارى فدَعَوا يسوعَ٢٠ باسم عيسى أو عِيسو وهو أخو يعقوب الذي نَفاه الله من شعبه وكان هو وقومه الأدوميون يُعَدُّون رجسًا في بني إسرائيل فقَلَبوا اسم يسوع ونقَلُوا عَينَه إلى أوله فجعلوا الرأس ذنَبًا، وزعم بعضهم أن أصل عيسى «عِوْسى» قَلبوا الواو ياء فصارت «عيسى»، قال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت (كتاب البدء، ٣: ١٢٣):
وفي دِينكم مِن رِبِّ مَريمَ آيةٌ
مُنَبِّئَة بالعبد٢١ عيسى بنِ مريمَ
وللسيد يسوع اسم آخر أَشْيَع منه عند العرب وهو «المسيح» من العبرانية משוח، والسريانية وهما كالعربية مسيح واليونانية χριστός أي الممسوح بدهن الكهنوت والمُلْك كما كانوا يفعلون بأحبار بني إسرائيل وملوكهم وقال العرب غير ذلك، روي في تاج العروس عن شمر «أن المسيح دُعي بذلك لبركته؛ أي لأنه مسح بالبركة، وقال الراغب: سُمي عيسى بالمسيح لأنه مُسِحَت عنه القُوَّة الذميمة من الجهل والشَّرَه والحِرْص وسائر الأخلاق الذميمة … وفي بعض الأقاويل المسيح من السَّيْح؛ لأنه كان يَسِيح في البراري ويذهب في الأرض فأينما أدركه الليل صف قدميه وصلَّى حتى الصباح.» وكل هذه آراء ضعيفة والصواب ما قلناه أنه من المسح، وقد تكرر اسم المسيح في الشعر القديم، قال عمرو بن عبد الحق ويُرْوَى لغيره (اطلب: المعاجم في مادة أبل):
وما قَدَّس الرُّهْبان في كل هَيْكل
أَبِيلَ الأَبِيلِينَ المسيحَ٢٢ بنَ مَرْيَما

وروي للسموءل (راجع: ديوانه، صفحة ٣٢)، قوله:

وفي آخِر الأيامِ جاء مَسيحُنا
فأهْدَى بني الدنيا سلامَ التكامل

وقال أُمَيَّة يَذْكُر مَجِيء المسيحِ في آخِر الأزمنة لِيدين البشر:

أيَّامَ يَلقى نصاراهم مَسِيحَهم
والكائِنِين له وُدًّا وقُربانَا

وذكر آخر مُحاربةَ السيد المسيحِ للمسيح الدَّجَّال وانتصاره عليه (راجع: اللسان، في مادة مسح، ٣: ٤٣٠):

إذ المسيحُ يقتلُ الْمَسيحَا

وكانُوا يُسَمُّون المسيح «بِالأَبِيل» ومعناه النَّاسك والزَّاهد بالدنيا، ودعوه بأَبِيل الآبِيلِينَ؛ لأنه كان بزهده قدوة الرُّهبان كما مر بك.

وقد عَظَّمُوا ليلة مَولِد المسيح فدعوها ليل التمام، قال في اللسان (في مادة تم، ١٤: ٣٣٤): «قال عمرو بن شميل: ليلُ التَّمَام أطولُ ما يكون من الليْل … قال الأصمعي: ويَطُول ليلُ التَّمام حتى تطلع فيه النجومُ كُلُّها وهي ليلة ميلاد عيسى … والنصارى تُعظِّمُها وتقوم فيها.»

ولم يذكروا فقط السيد المسيح، بل ذَكُروا أمه مريم العذراء كما رأيت، وذكروا القديس يُوحَنَّا الصابغ المُتقَدِّم أمام وجهه وذكروا تلامذته، ومما رووا عن «مريم العذراء» بُتُولِيَّتَها وبشارة الملاك إليها بابنها الإلهي وحَبَلها الطاهر بابنها من الروح القُدُس، ورد ذلك في القرآن، وسبقه أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت فقال، وفي قوله نظر لما أدخله فيه من المزاعم المنقولة عن الأناجيل غير القانونية (راجع: كتاب البدء للمقدسي، ٣: ١٢٣):

وفي دِينكُم من ربِّ مَريمَ آيةٌ
مُنَبِّئَة بالعبدِ عيسى بنِ مريمَ
أنابَتْ لوجه الله ثم تَبَتَّلتْ
فسَبح عنها٢٣ لَومَة المُتَلَوِّم
فلا هي هَمَّت بالنِّكَاح ولا دنت
إلى بَشَر منها بِفَرْجٍ ولا فَمِ
ولَطَّتْ حِجاب البيتِ من دون أهلها
تَغِيبُ عنهم في صَحاري رِمرمِ٢٤
يَحارُ بها الساري إذا جَنَّ ليلُه
وليس وإنْ كانَ النَّهارُ بِمَعْلَم
تَدلَّى عليها بعد ما نام أَهْلُها
رسولٌ فلم يَحْصَر ولم يَتَرمْرَم٢٥
فقال: أَلَّا تَجْزَعِي وتُكَذِّبِي٢٦
ملائكةً مِن ربِّ عادٍ وجُرْهُمِ
أَنِيبِي وأَعْطي ما سُئِلتِ فإنني
رسولٌ من الرحمنِ يأتيكِ بِابْنمِ٢٧
فقالتْ له أنَّى يكون ولم أَكُن
بغيًّا ولا حُبْلى ولا ذاتَ قَيِّمِ٢٨
أَأحرَجُ بالرحمنِ إن كنتَ مؤمنًا
كلامي فَاقْعُدْ ما بدَا لكَ أو قُمِ٢٩
فَسبَّحَ ثم اعترَّها٣٠ فَالتَقتْ به غلامًا
سوى الخَلْق ليس بِتوأَم
بِنفْخَتِه في الصدر من جَيب دِرْعِها
وما يَصرمِ الرحمنُ مِلْ أمرِ يُصْرَمِ٣١
فلَّمَا أَتَمَّتْه وجاءت لِوضْعِه
فآوى لَهُم من لَوْمِهم والتَّنَدُّمِ٣٢
وقالَ لها مَن حَولَها: جئتِ مُنكَرًا
فحقٌّ بأن تُلْحَيْ عليه وتُرْجَمِي٣٣
فأدْرَكَها مِن رَبِّها ثَمَّ رحمةٌ
بِصدْق حديثٍ من نبي مُكَلَّم
فقال لها: إني من الله آية
وعَلَّمَنِي واللهُ خَيْرُ مُعَلِّمِ
وأُرْسِلتُ لم أُرْسَل غويًّا ولم أَكُن
شقيًّا ولم أُبْعَث بِفُحْش ومَأثَمِ

أما «يوحنَّا المعمدان» السابق أمام وجه المسيح فقد شاع ذِكْرُه بين عرَب الجاهلية، وقد رأيتُ أن إحدى الكتابتين العربيتين السابقتين لعهد الإسلام كانت على باب كنيسة في حوران مُشَيَّدة على اسم القديس يوحنا (راجع [الباب السادس من الفصل الأول]، مع رسم هذه الكتابة في الجدول ٦٨-٦٩)، وقد ذكر القرآن في سورة عمران (ع٣٣ و٣٤) ما روى عنه القديس لوقا في الإنجيل من بشارة الملاك لأبيه زكريا ومن مَولده العجيب ووصفه هناك بكونه «مُصدِّقًا بكلمة من الله وسيدًا وحصورًا ونبيًّا من الصالحين»، فَاطْرَأَ إيمانَه ورِفْعَة مَقامه وعِفَّتَه ونُبَوَّته.

والعرب يَدْعُون يوحنَّا المعمدان٣٤ باسم «يحيى»، وهو أيضًا مع اسم عيسى أحد ألغاز التبديل التي لم يذكر اللغويون سببها، ومن المعلوم أن يُوحَنَّا اسم عبراني مركب من كلمتين «يوحنن ודחכן» أو «يهوحنن וחדחכן»؛ أي حنَّ الله وترَحَّم، ومنه السريانية فكيف إذن قُلب بيحيا؟ على رأينا أن الاسم قد تَصحَّف في العربية، وذلك أنه كان في الأصل «يُحَنَّا» فكتبوه قبل وضع النقط والحركات «يحيا» فقرءُوه «يحيًا أو يحيى»، ولا نرى وجهًا آخر لتعليل هذا التغيير الذي حدث كما نظن قبل الإسلام، فجرى عليه المسلمون وهم يدعونه بيحيى بن زكريا النبي أو يحيى الحصور لعفافه عن النساء، وقد ورد اسم يحيى في الشعر الجاهلي كما سترى.
«والحواريون» تلاميذ السيد المسيح عند العرب، وقد اختلفوا أيضًا في أصل هذه اللفظة فقال البعض: إن معناها القصَّار لأن رُسل المسيح كانوا يُقَصِّرون الثياب، وهو قول لا سَندَ له؛ إذ لم يُعْرَف أحد من الرسل بمُزاوَلة القِصَارة، وقال غيرهم: هو مِنَ الحَوَر؛ أي شدة بياض العين في شدة سوادها، قالوا: دُعُوا بذلك لصفاء نِيَّاتهم، وقيل: بل لأنهم كانوا صفوة الأنبياء (راجع: لسان العرب، في مادة حور)، وإن صح ذلك يكون اشتقاق الكلمة من السريانية أولى ومعناها الأبيض والصافي البياض والنَّقِي، والصواب أن اللفظة حبشية «حواري» ومعناها الرَّسُول، وما لا ريب فيه أن اللفظة سبقت الإسلام، وقد جاءت في القصائد المعروفة بالأَصْمَعِيَّات (ص٧٥، Ahlwardt) في بيت للضابئ بن الحارث بن أرطأة البرجمي يشير إلى رغبة رُسُل المسيح في الموت لأجل سيدهم استشهادًا:
وكرَّ كما كَرَّ الحواري يَبتَغِي
إلى الله زُلْفى أن يَكُرَّ فيُقْتَلا٣٥

وقال السموءل يَذْكُر الحواري (راجع: طبعتنا لديوانه، ص١٢):

وسليمانُ والحَوارِيُّ يحيى
ومتى يُوسف كأنِّي وَلِيتُ

يريد بالحواري يحيى على ما نظن يوحنا الحبيب وكذلك ذَكَر متَّى الرسول فخفف، أما «يوسف» فلعله يوسف المعروف بأخي الرب (متَّى، ١٣: ٥٥) أو يكون يوسف اسم أبي متى كأنه أراد مَتَى بن يوسف.

ومؤنث الحواريين «الحواريات» قالوا: هن نساء الأمصار لبياضهن، قال أبو جلدة وهو مسهر بن النعمان اليشكري (لسان العرب، ٥: ٢٩٩):

فَقُل لِلحَوارِيَّات يَبْكِينَ غَيرَنا
ولا تبكِنَا إلا الكلابُ النوابحُ
بَكَيْن إلينا خيفةً أن تُبيحها
رماحُ النصارى والسيوفُ الجوارحُ

«قال»: «جعل أهلَ الشام نصارى لأنها تلي الروم وهي بلادها.»

(٥) مفردات نصارى العرب الدالة على رؤسائهم ورهبانهم

وكان للنصارى في جزيرة العرب كما في بقية البلاد نظامهم الديني ورُتبهم من رؤساء ومرءوسين يسوسهم الرُّعَاة وزعماء الدين، ويَمتاز بينهم العُبَّاد والمنقطعون لخدمة الله في الرهبانية، والدليل على ذلك ألفاظ متعددة وردت في آثار عرب الجاهلية تشهد على قولنا شهادة واضحة.

فمن ألفاظهم التي استعملوها للدلالة على رئيس النصارى «الأَبِيل»، وقد اتخذوه للدلالة على السيد المسيح كما ورد في البيت المنسوب للأعشى، وللأخطل، ولعمرو بن عبد الحق:

وما سَبَّح الرهبان في كل بِيعَة
أَبِيل الأَبِيلِينَ المسيح بن مريما
قال في لسان العرب (١٣: ٦): «وكانوا يُعظِّمون الأبيل فيحلفون به كما يحلفون بالله.» وهذه اللفظة سريانية — من فعل ؛ أي ناح وبكى على خطاياه — ومعناها في السريانية الزاهد والناسك والراهب وكانوا يتخذون عادة رؤساءهم من الرهبان المُتَبتِّلِين.
ومن ألفاظهم الخاصة برئيس النصرانية «البَطْرَك» «والبِطَرْك» على ما جاء في التاج (٧: ١١١) قال: «هو مُقَدَّم النصارى، وقال: البطرك هو البطريق، ومنهم من جَعَل البطريق مُقدَّم جيش الروم.» والصواب أن البطرك كلمة يونانية Πατριάρχης معناها أبو الآباء، أما البطريق فلفظة لاتينية Patricius، وقد جاء اللفظان في الشعر القديم، قال الراعي يصف ثورًا (لسان العرب، ٧٢: ٢٨١):
يَعلو الظَّوَاهِر فردًا لا أليف له
مَشْيَ البِطَرْك عَليه رَبْطُ كِتَّانِ

وقال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت في البطريق (التاج، ٦: ٢٩٦):

مِن كلِّ بِطْريق لِبِطْرِيق
نَقِيِّ الوجه واضحِ

وكذلك أنشد ابن بري (اللسان، ١١: ٢٠٣):

فلا تُنكِرُوني أن قومي أَعِزَّة
بَطارقةٌ بيض الوجوه كِرامُ
ومن ألفاظهم «الجاثَليق» وهو دُونَ البطرك، وأصل الكلمة من اليونانية ومعناها المسكوني (Καϐολιϰος)، وقد استعملوه لرؤساء النَّساطرة والأرمن، قال صاحب القاموس: «هو رئيس للنصارى في بلاد الإسلام بمدينة السلام … ويكون تحت يد بطريق أنطاكية ثم المُطران تحت يده، ثم الأسقف يكون في كل بلد من تحت المُطْران، ثم القِسِّيس، ثم الشَّمَّاس»، وقد ورد اسم الجَاثَليق في شعر بكر بن خارجة (معجم البكري، ص٣٧١):
بِمارَة مَرْيمٍ وبِدَير زَكَّى
ومر توما ودَيْر الجاثَلِيقِ
أما «المطران» فأصلها على هذه الصورة من السريانية ، أو والسريان اخْتَصرُوها من اليونانية μετροπολίτης، ولم نجدها في الشعر القديم.
وأشيع من المطران عند العرب «الأُسْقُف» زعم ابن السكيت أنه مُشْتَق من السَّقَف؛ أي طول في انحناء، وهو تأويل غريب، والصواب أنه مشتق من اليونانية έπίσϰοπος بواسطة السريانية ، وقد وردت اللفظة في الكلام القديم، روى ابن سعد في كتاب الوفود في شروط محمد إلى أهل نجران: «لا يُغَيَّر أُسقف عن أُسْقُفِيَّته، ولا راهب عن رهبانِيَّته ولا واقف عن وقفانِيَّته»، وكذلك روى البكري في معجم ما استعجم للحسين بن الضحاك يَصِف دير العمر (ص٧٦٩):
عَجَّت أساقفُها في بيت مَذْبَحِها
وعَجَّ رُهبانُها في عَرْصَة الدار
ومن ألْفاظِهم الدَّالَّة على رؤساء النصارى «الحَبْر»٣٦ ويقال: الحِبْر وأصْلُها العالِم، ثم خَصُّوها بكبير النصارى واستَعمَلُوها أيضًا لغيرهم، قال أيمن بن خُرَيم: يذكر خمر التقديس (الأغاني، ١٦: ٤٥):
ولم يَشْهَد القِسُّ المُهَيْنِم نارَها
طروقًا ولا صلَّى على طَبْخِها حَبْرُ

وجاء في الجمهرة:

أو زُبُر حِمْيَر بَيْنَها أحْبارُها
بالحِمْيَرِيَّة في عِسيبٍ ذابلِ

وروى ابن هشام في سيرة الرسول (ص٣٨٥) قول الشاعر:

لو كنتُ مرُتهنًا في القوس أَفْتَنَنِي
منها الكلام ورَبَّاني أحبار

قال ابن هشام: القوس صومعة الراهب، والرَّبَّاني مشتق من الرَّب؛ أي السيد، ومثله الحَبْر بمعنى «السيد العالم»، وجاءت الحَبْر بمعنى العالم من اليهود أو كبيرهم ومنه كَعْب الأحبار، ويشبهه قول الشماخ (اللسان، ٥: ٢٢٩):

كمَا خَطَّ عِبرانِيَّةً بيمينه
بتيماء حَبْر ثُم عَرَّض أَسْطُرًا

وكما دُعي رؤساء النصارى بالأحبار دعوهم أيضًا «بالأرباب»، قال حُمَيد بن ثور (المخصص، ١٢: ٨٧) يصف بعيرًا يطأطئ برأسه لِيُرْكَب:

فُضولَ أَزمَّتِها أَسْجدَت
سُجودَ النصارى لأربابها

وروى في التاج (٢: ٣٧١): «لأحبارها».

ومن الألفاظ المُخْتَصَّة برئيس النصارى عند العرب «الساعي»، قال في التاج (١٠: ١٨٧): «الساعي لليهود والنصارى رئيسهم الذي يَصْدُرون عن رأيه ولا يَقْضُون أمرًا دونه، وبِالمَعْنَيَين فُسِّر حديث حذيفة في الأمانة: إن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا لَيَرُدَّنَّه عليَّ ساعيه.»

ومما ذكره اللغويون «العَسَطُوس» قال في التاج (٤: ١٩٢): «هو رأس النصارى واللفظة رومية.» لم يُمكِنَّا ردها إلى أصلها ولعلها مُصحَّفة.

ومنها «القَسُّ»٣٧ شرحه أصحاب المعاجم برئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم واللفظة سريانية ؛ أي شيخ وتأتي على وزن فعيل ومنها القِسِّيس في العربية، قال جرير في القس (المعرب، للجواليقي، ص٣٩):
صَبَّحْن تُوماءَ والناقوسُ يَقْرعُه
قَسُّ النَّصارى حراجيجًا بنا تَجِفُ

قالوا: تُوماء من أعمال دمشق، ورواية معجم المستعجم للبكري (١: ٢١٥): ثَرْماء، قال: ثَرْماء ماء لكندة، وروي في لسان العرب (١٤: ٣٤٣): «صبحن تيماء»، ومن الشواهد في القس قول الراجز (اللسان، ٨: ٥٨):

لَوْ عَرَضَتْ لأَيْبليٍّ قَسِّ
أَشْعَثَ فِي هَيْكَلِهِ مُنْدَسِّ
حَنَّ إِلَيْهَا كحَنِينِ الطَّسِّ

ومنه اسم قس بن ساعدة خطيب العرب وأسقف نجران، ومما وَرَد في القسيس قول عبد الله بن زبير لحَجَّار بن أبجر العجلي (الأغاني، ١٣: ٤٧) يُقَرِّعه في نصرانيته:

وعندكَ قِسِّيس النصارى وصُلبُها
وغانِيةٌ صهباءُ مثل جَنَى النَّحْلِ
وجمعوه على قَساقِسَة،٣٨ قال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت (التاج، ٤: ٢٠٧):
لو كان مُنْفَلتٌ كانت قَساقِسةٌ
يُحَيِّيهم الله في أيديهم الزُّبُرُ
والاسم من القس «القَسِّيسِيَّة والقُسُوسة»، وفي الحديث «لا يُغَيَّر قِسِّيس من قِسِّيسِيَّته»، واللفظة مشتقة من السريانية وبنى منها العرب فعل قسس.
ودون القَس «الشَّمَّاس»،٣٩ عرَّفه ابن سيده في المخصص بقوله (١٣: ١٠٠): «من رءوس النصارى يَحْلِق وسَطَ رأسه ويلزم البِيعَة»، واللفظة سريانية ؛ أي خادم البِيعَة، وقد تَسمَّى بعض العرب بالشَّمَّاس، كما ورد في الاشتقاق لابن دريد (٢٦٨)، وفي حماسة أبي تمام (ص٢٥٥)، وجمَعَها خلَفُ بن خليفة (كتاب الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص٤٤٨، ed. Goeje) على شماميس فقال:
كأنَّا شَمامِيس في بِيعَة
تُقَسِّسُ في بعض عِيدانِها

وجمعها البُحتري على شَمامِس حيث قال (معجم البلدان، لياقوت، ٢: ٨٣):

بَيْنَ شَمامِسَ وقُسوسِ
ومن الألفاظ التي وردت في المعاجم لرُتَب النصارى؛ الواقف والوافِه والواهِف، «فالواقِف» على ما ورد في لسان العرب والقاموس والتاج خادِم البِيعَة، مشتقة من وَقَف النصرانيُّ وِقِّيفَى إذا خدم البِيعَة، ونقل في التاج (٦: ٢٦٩) الحديث في كتاب محمد لأهل نجران: «أن لا يُغَيَّر واقِف من وِقِّيفَاه»، قال: «الواقف خادم البِيعة لأنه وقَفَ نفسه على خدمتها.» وروى ابن سعد (٧٧، ed. Wellhausen) «من وِقِّفانِيَّته». و«الوَافِهُ» قد عَرَّفوه «بقَيِّم البِيعَة التي فيها صَليب النصارى بلغة أهل الجزيرة.» (التاج، ٩: ٤٢١). وروى الحديث السابق: «لا يُغَيَّر وافِهٌ مِن وَفْهِيَّته»، والوَفاهة كالوَفْهِيَّة. والواقِه بالقاف كالوافِه وروى الحديث أيضًا: «ولا واقِهٌ من وَقاهِيَّته»، ومثلهما «الواهِف»، قال في التاج (٦: ٣٧٣): «الواهِف سادِنُ البيعة التي فيها صليبهم وقَيِّمُها كالوافه، وعمَلُها الوهافة بالكسر والفتح والوُهْفِيَّة والهفية، وقد وَهَف يَهِف وهْفًا ووهافة.» وقال ابن دريد في المخصص (١٣: ١٠٠): «الوَافِه مقلوب عن الواهِف».
ومثل الوافِه «السَّاعُور» شرحها في التاج (٣: ٣٦٨): «مُقدَّم النصارى في معرفة علم الطب وأدواته وأصله بالسريانية سَاعورا ومَعْناه مُتفَقِّد المرضى»، والساعور في عهدنا تُقال في الجزيرة لقَيِّم البيعة وفي مُصطَلح السريان يُراد بها المُدبِّر والزائر مطلقًا.
وأكثر ما تَعدَّد عند العرب من المفردات النصرانية الألفاظ الدَّالَّة على الرُّهبان ومساكنهم، فمنها «الأَبِيل»٤٠ التي مَرَّ ذِكْرُها ومعناها الزاهد والراهب، وقد ذكرنا أصلها السرياني، ومن غريب التأويل ما ذكره في التاج (٧: ١٩٩): «الأَبِيل الراهب سُمِّي به لتأبُّله عن النساء وتَرْك غشيانهن.» قال عدي بن زيد:
إِنَّني واقِهٌ فاقْبَل حِلفتي
بِأَبِيلٍ كُلَّما صلَّى جأَرْ

وقال ابن دريد: هو ضارِبُ الناقوس وأنشد:

«وما صَكَّ ناقوسَ الصلاة أَبيلُها.»

ومثل الأَبِيل «الأَيْبَلِيُّ والأَيبُلِيُّ والهَيبُلِيُّ» وكلُّها بمعنى واحد؛ أي الراهب، ولعلها مقلوبة عن الأَبِيل، قال الأعشى:

وما أَيْبَليٌّ على هيكل
بناه وصَلَّبَ فيه وصارا

وأشهر من الأَبيل والأَيبلي «الرَّاهب» فأكثر من ذكره شعراء العرب، قال الأعشى (تاج العروس، ١: ٢٨٠) يَحلِف بمسوح الرُّهبان والكعبة:

حلفتُ بِثَوبَي راهبِ الدير والتي
بناها قُصَيٌّ والمُضَاض بنُ جُرْهُمِ

أراد بثوبيه مِسحَيْه كما قال جرير (التاج، ٨: ٦٩؛ وسيرة الرسول، ٣٨٥):

لا وَصْلٌ إذْ صَرَمتْ هندُ ولو وَقَفتْ
لاسْتَفتَنَتْني وذا المِسْحَين في القَوسِ
وروى البكري في معجم ما استعجم (ص٤٨٩) بيت الأعشى: «بِثَوبَي راهبِ الطُّور»، وروى أيضًا «وثَوْبَي راهبِ اللُّج» (راجع: المفضليات، ص٤٨، ed. Lyall)، وأردف البكري قائلًا: «قيل: إنه أراد المسيح — عليه السلام — بقوله: راهب اللُّج … والتي بَناها قُصَيٌّ؛ يعني مكة.»

وكان رهبان جزيرة العرب يسكنون في التلال وأعالي الجبال كما يشهد عليه بيت أنشده ابن الأعرابي (التاج، ١: ٢٨١):

لو كَلَّمتْ رُهبانَ دَير في القُلَلْ
لَانْحدَر الرُّهبان يَسعى فَنَزَلْ

قالوا: الرُّهبان هنا مُفرد كالراهب، وقال ربيعة بن مقروم الضَّبِّي يصف مَقام الراهب ونسكه (الأغاني، ١٩: ٩٢):

لو أنها عَرَضتْ لأشْمَط راهبٍ
في رأسِ مُشرفةِ الذُّري مُتبَتِّلِ
جَئَّارِ ساعات النِّيام لربِّه
حتَّى تَخدَّد لحمُه مُتَشَمعِلِ
لَصَبا لبَهجتها وحُسْن حديثها
ولَهَمَّ مِن نَاقوسِه بِتَنزُّلِ

والمُتَشَمْعِل المُتغَنِّي في تلاوة الزَّبُور، قال الراعي (معجم البلدان، ٤: ٥٠١):

وسِربِ نساءٍ لو رآهن راهبٌ
له ظُلَّةٌ في قُلَّة ظَلَّ رانيا

يقال: رنَا إليه؛ أي طَرِب لحديثه، ومما وَصَفوه وأَفاضوا في ذكره مِصباح الراهب الذي يُوقِده ليلًا لصلاته فيُرى عن بُعْد ويَستَهدِي به طارقُ الليل، قال امرُؤ القيس في معلقته، يصف لَمعانَ البَرْق ويشبهه بسراج الراهب عند صبِهِ الزيت على الفتيلة ليذكيه:

أَصاحِ تَرى برقًا أُريك وَميضَهُ
كَلمْعِ اليدين في حَبِيٍّ مَكلَّلِ
يُضيء سَنَاه أو مصابيحُ راهبٍ
أمالَ السَّليطَ بالذُّبال المُفتَّلِ

ومثله قول كُثَيِّر (اللسان، ١٥: ١٧٩):

أو مصابيحَ راهبٍ في يفاعٍ
سَغَّمَ الزَّيتَ ساطعاتِ الذُّبالِ

وقال امرؤ القيس (راجع: ديوانه في العقد الثمين، ص٢١):

نظرتُ إليها والنجومُ كأنَّها
مصابيحُ رُهبان تُشَبُّ لقُفَّال

قال الشُّرَّاح: القُفَّال عُبَّاد النصارى؛ لأنهم قَفلتُ جلودهم؛ أي يَبِستْ من العبادة، وقال المُزرَّد أخو الشماخ (عن ديوانه المخطوط):

كأن شعاع الشمس في حُجُراتها
مصابيحُ رُهبان زَهَتْها القَنادلُ

وذكروا لِبْس الرهبان للسواد، قال الأعلم (في الهُذَيليات، ص٥٧) يصف قتمة جلد الضباع:

سُودٌ سَحاليل كأنَّ
جلودَهن ثيابُ راهب

وقد وصفوا الرُّهبان بالتَّبتُّل، قال امرؤ القيس (ديوانه، ص١٤٨):

تُضيءُ الظَّلام بالعشاء كأنها
منارة مُمْسَى راهبٍ مُتبتِّلِ
والصَّرُورة مثل التَّبَتُّل،٤١ قال النابغة الذبياني (ديوانه في العقد الفريد، ص١١):
لو أنَّها عَرَضتْ لأشمطَ راهبٍ
عَبدَ الإلهَ صرورةٍ مَتعبِّدِ
لرنَا لرؤيتها وحُسْن حديثِها
ولَخالَه رُشْدًا وإن لم يَرشُدِ

كذلك وصفوا صلاة الرُّهبان في ليلهم وتشعُّث لُمَّتهم زهدًا وأصوامهم، قال منظور الأسدي (راجع: تهذيب الألفاظ، لابن السكيت، ص٤١٢؛ ولسان العرب، ١٣: ٦):

كأن مَهواهُ على الكَلْكَلِّ
موقع كَفَّي راهبٍ يُصلِّي
ببازلٍ وجْناءَ أو عَيْهلِّ
في غبَشِ الصُّبح أو التَّتلِّي

وقال الآخِر (اللسان، ١٤: ٨٩):

عن راهبٍ مُتَبتِّل مُتَقَهِّلِ
صادِي النَّهارَ لِلَيلِه مُتَهَجِّدِ

القَهَل يُبْس الجلد من العبادة، والتَّهجُّد السَّهر للصلاة، وكانوا يَتلُون الزَّبُور خصوصًا في صلاتهم كما قال امرُؤ القيس يَصِف رسوم الدار (ديوانه في العقد الثمين، ص١٦١):

أَتتْ حِجَج بَعدي عليه فأصبحَت
كخَطِّ زَبور في مَصاحفِ رُهبانِ

وكما أفاضُوا في ذكر الرُّهبان كذلك بَيَّنوا منازلهم في بلاد العرب فخَصُّوا منها بلاد مَدْينَ قال كُثَيِّر عزة (معجم البلدان، لياقوت، ٤: ٤٥١):

رُهبانُ مَدْينَ والذين عَهِدتُهم
يَبكُون من حَذَر العِقاب قُعودَا
لو يَسمعُون كما سمعتُ كلامَها
خرُّوا لِعزِّه رُكَّعًا وسُجودَا

وقال جرير (ياقوت، ٤: ٤٥١):

رُهبانُ مَدينَ لو رَأوكِ تَنزَّلُوا
والعُصْمُ من شَغَفِ الجبال الفادرِ

وكذلك خَصَّصوا وادي القُرى كمناسك للرُّهبان قال جعفر بن سُراقة، أحد بني قرة (الأغاني، ٧: ١٠١):

فنحنُ مَنَعنَا ذا القرى من عَدوِّنا
وعُذرةَ إذ نَلْقى يَهودًا وبَعْثَرا
مَنعناه من عُليا مَعَدٍّ وأنتمُ
سفاسيفُ رَوحٍ بَيْن قرحٍ وخَيبرَا
فَريقان رُهبانٌ بأسفلَ ذي القرى
وبالشام عرَّافون فِيمَن تَنصَّرا

وكذلك عَيَّنوا مَوْزَن وهو بلد بالجزيرة في ديار مُضَر كأحد مناسك الرهبان، قال كُثَيِّر (راجع: التاج، ٣: ٤٩٩؛ وياقوت، ٤: ٦٨٠):

كأنَّهمُ قَصْرًا٤٢ مصابيحُ راهبٍ
بِمَوْزَنَ رَوَّى بالسَّليط ذُبالَها
همُ أهلُ ألواحِ السَّرير ويَمنِه
قَرَابينُ أردافٌ لها وشِمالُها
قَصْرًا؛ أي عَشِيًّا، والسَّليط الزيتُ كما مرَّ. وعدَّد صَخْر الغي (لسان العرب، ٩: ٢٧؛ والتاج، ٥: ٢٨٣؛ والهذيليات، ص١٣) أمكنةً أخرى يَسكُنها الرهبان كبلاد الروم، ومنازل تَنوخ وصوران، وزَبَد،٤٣ قال:
واللهِ لو أَسمعَتْ مَقالَتَها
شيخًا من الشُّعْث رأسُه لَبِدُ
مآبُهُ الرومُ أو تَنوخُ أوِ الـ
آطام من صَوَّران أو زَبَدُ
لَفاتَحَ البيعَ يَومُ رُؤيَتها
وكان من قَبلُ بَيعُه لَكدُ

فذِكُرهم للرُّهبان في كل هذه الأمكنة يؤيد قولنا في القسم الأول عن شيوع النصرانية في أنحاء جزيرة العرب.

وكانوا يَدْعون الرُّهبان بالحُبَساء، و«الحَبيس» في المعاجم المحبوس في سبيل الله؛ أي المُفْرَز لذلك فيقولون: حبيس الله.٤٤
وكذلك دعوا الرُّهبان «بالحُنفاء»، وقد مرَّ لنا كلام في الحنيف في القسم الأول من كتابنا (ص١١٩) حيث أثبتنا أن الحنيف جاءت بمعنى الراهب، كفى شاهدًا على ذلك قول صخر الغي في الهُذيليَّات (ص٤٥، ed. Kosegarten):
كأنَّ تَوالِيَه بالملا
نَصارى يُساقُون لاقَوْا حَنيفا
ومن أسماء الراهب عند العرب «الدَّيْراني»، قالوا: إنه صاحب الدَّيْر نِسبة إليه على شذوذ، والصواب أنه من السريانية ، ومنها أيضًا «الرَّبِيط»،٤٥ قال الزجاجي: هو الراهب، وفي التاج (٥: ١٤٣): «الربيط الراهب والزاهد والحكيم الذي ظَلفَ؛ أي ربط نفسه عن الدنيا؛ أي سدَّها ومنعها.» ومنها «الجُلاذي» و«الجُلَذِي».

قال في التاج (٢: ٥٥٧) هو خادم البيعة والراهب والجمع الجَلَاذيُّ بفتح الأول، وقد ورد في الشعر القديم، قال تميم بن مُقبل:

صوتُ النَّواقيس فيه ما يُفرِّطُه
أَيدي الجَلاذِيِّ جَونٌ ما يُعَفِّينَا
كأنَّ أصواتها من حيث تَسمعُها
صوتُ المَحارثِ يَخْلِجن المَحارِينا

ورُوِي البيت الأول: «الجلاذي وجون ما يُغَفِّينا»، والثاني: «صوتُ المَحابِض يَنزِعْنَ المحارينا».

ومن أسماء الراهب أيضًا «النُّهاميُّ» جاء في المُخصَّص لابن سيده (١٣: ١٠٠): «النُّهاميُّ، في قول ابن الأعرابي الراهب لأنه يَنْهَم؛ أي يدعو، ومن المُحتَمَل أنها مُستعارة من السريانية ؛ أي الباكي والزاهد كما قالوا الأَبِيل، أو هي مشتقة من الحبشية كما ارتأى العلامة نولدك (Beitraege, p. 56)، وجاءت اللفظة في الشعر القديم، قال الأسود بن يعفر (لسان العرب، ٢٠: ٦٦):
وقالوا شريسٌ قلتُ يَكفِي شَريسَكم
سِنانٌ كنِبْراسِ النُّهامِيِّ مُفتَّقُ
نَمَتْه الْعَصا ثَمَّ استمر كأنَّه
شهابٌ بِكفَّيْ فارسٍ يَتحرَّقُ
وقد رأيتُ أنهم دَعوا الراهب «بالأشْعَث»؛٤٦ لتَشعُّث لُمَّتِه، قال الشاعر (لسان العرب، ١٩: ٣٤١)، راجع أيضًا: (المُفضَّليات، ص٤١١):
وأشعثَ عُنوان بِه من سُجودِه
كرُكْبَة عَنزٍ من عُنوزِ بني نَصْرِ

وقال صخر الغي:

شيخًا من الشُّعْث رأسُه لبدُ

وقد سَمَّوا الراهب «الْمُقدِّس» إذا زارَ بيت المَقْدِس كما قال امرؤ القيس يصف ثورًا أدركَتْه الكلاب فَقطعَتْ جِلدَه:

فأَدْركْنَه يَأخُذن بالسَّاق والنَّسَا
كما شَبْرقَ الوُلدانُ ثَوب المُقَدِّسِ

قال في اللسان (٨: ٥٠): شَبْرَق جِلْدَه؛ أي قَطَّعه، يقول: قطَّعه الكلاب كما شَبْرَق وُلدان النَّصارى الراهب الذي يَجِيء من بيت المَقدِس، فقَطَّعوا ثيابه تبرُّكًا، وكانوا يَتبرَّكُون به وبمِسْحِه الذي هو لابِسُه وأخذ خيوط منه حتى يَتمزَّق ثَوبُه وقيل: المُقدِّس الحَبْر».

ومن أسماء الراهب عندهم «المُتعبِّد»،٤٧ قال ابن سيده (١٣: ١٠٠): «هو المُنقَطِع في الصَّومعة»، وقد مر في الشعر.

وقد ابْتَنَوا من الراهب اسمًا، فقالوا: «الرهبانية» ومنه ما ورد في سورة الحديد (ع٢٧): وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ.

وكما ذكَروا الراهب ذكروا «الرَّاهِبة»، وجمَعُوها الرواهب، قال امرؤ القيس (العقد الثمين، ص١١٨؛ والتاج، ٤: ٤٣):

فآنَستُ سربًا من بَعيد كأنَّه
رواهبُ عِيد في مُلاءٍ مُهدَّب

ودَعَوا الرَّاهبة أيضًا «بالدَّيْرانِيَّة» وردت اللفظة في كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة (ص٢٢٩)؛ وفي معجم البكري (٣٧٧)، ودعوا الرواهب أيضًا «بالعذارى»، ومنه عدة أديرة وصفها العرب وسمَّوها أديرة العذارى (راجع: البكري، ص٣٧٦؛ وياقوت، في معجم البلدان، ٣: ٦٧٨) ومنه صوم العذارى «للعذارى النصرانيات من العرب شكرًا لله، حيث انتصرت العرب من العجم يوم ذي قار» (الآثار الباقية، للبيروني، ص٣١٤).

وعلى ظَنِّنا أن «الحَوارِيَّات»، أرادوا بها أيضًا العَذارى الرَّواهِب قال مُسْهِر اليشكري (اللسان، ٥: ٢٩٩):

فقُل للحَوارِيَّات يَبكينَ غَيرَنا
ولا تَبْكيِنَا إلا الكلابُ النوابحُ
ويلحق باسم الراهب «المُحرَّر والنَّذِيرة» ورد ذِكرُهما في المخصص (١٣: ١٠١)، في باب الرهبانية ونحوها قال: «هما الابن أو الابنة يَجعلُه أبواه قَيِّمًا وخادمًا للكنيسة وإنما كان يفعل ذلك بنو إسرائيل، كان رُبَّما وُلِد لأحدهم ولد فحرَّره؛ أي جعله نذيرةً في خدمة الكنيسة ما عاش لا يسعُه تركها.» وقد وردت لفظة المُحرَّر في القرآن عن لسان والدة العذراء مريم فقال (سورة آل عمران، ٣: ٣١): إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا، والنَّذِيرة من العبرانية כזור؛ أي المَنذُور للرب.

وهذه ألفاظ أُخْرَى نُردِفُها بأسماء الرُّهْبان وردَت أيضًا في لغة أهل الجاهلية منها «السائح» بمعنى الراهب المُتفَرِّد في الإقفار ذكرها ابن هشام في سيرته (ص٢٠) عن أول داعٍ للنصرانية في نجران، وذكرَها المؤرِّخون عن نعمان ملك الحيرة لما ساح في الأرض بعد تَنصُّره وزُهْده، والاسم السياحة، قال في التاج (٢: ١٦٨): «السياحة والسُّيوح والسَّيَحان والسَّيْح؛ الذَّهاب في الأرض للعبادة والترُّهب، «قال»: ومنه المسيح عيسى ابن مريم — عليه السلام — في بعض الأقاويل؛ لأنه كان يذهب في الأرض فأينما أدركه الليل صفَّ قدميه وصلَّى حتى الصباح.» وقد مر بك أن هذا الاشتقاق ليس بصواب.

ومنها «الناسك»، وهو المُتعبِّد المُتقرِّب إلى الله بالصوم والصلاة وأعمال البر، أطلقها العرب على الراهب، والاسم النُّسك بتثليث أولها.

وكان الرُّهبان يَحلِقون وسط رأسهم وهي «القُوقة»، والرجل مُقوَّق، جاء في (كتاب الأضداد، ص١٣٢؛ وفي اللسان، ١٢: ٢٠٠):

أيها القَسُّ الذي قد
حلَق القُوقَة حَلْقَهْ
لو رأيتَ الدُّفَّ منها
لنَسقتَ الدُّفَّ نَسْقَهْ
ومنها «الحازي٤٨ والعَرَّاف والكاهن»، وهي ألفاظ الْتبسَت عليهم فتردَّدُوا في معانيها، ولا شك أنها أُطلقت أيضًا على نصارى الجاهلية، فالحازِي عندهم «الكاهن، والعائِف، والعالِم بالأمور.» (راجع: التاج في المادة) واللفظة مُعرَّبة من العبرانية חזח؛ أي الناظر والنَّبي، أو مأخوذة من السريانية ، أو أي المُتفَقِّد والناظر والحكيم أرادوا بها رئيس الدِّين لِحكْمَته ولعلها ترجمة اليونانية έπίσϰοπος بمعنى الناظر؛ أي الأسقف والراعي الديني.

وكذلك «العَرَّاف» أرادوا بها الساحر والمُنْبِئ بالمستقبل عمومًا، وقد خصُّوا بها النصارى، قال جعفر بن سُراقة في شعر مر ذكره (ص٥٩٨):

فَريقانِ رُهبان بأسفلِ ذي القُرَى
وبالشَّام عَرَّافون فِيمَن تَنصَّرَا
ومثلهما «الكاهن»، فإنها وَردتْ بمعنى مُدَّعي مَعرفة الأسرار والمُتعاطِي أخبار الكائنات في الماضي والمستقبل، والاسم الكهانة، لكن للكاهن مَعنًى آخَر لم يجهله العرب في الجاهلية نريد به معنى خادم الدين ومُقرِّب الأقداس للإله وهو معناها في العبرانية כחו، وفي الآرامية فلا بد من القول: إن العرب استعاروه منهما للدلالة على كهنة اليهود والنصارى، وقد رأيتَ في فصولنا السابقة عن تاريخ النصرانية في جزيرة العرب شيوعَ هذا الدين في كل أنحاء العربية، والدين المسيحي لا يقوم إلا بالنظام الكَنَسي؛ أي بوجود أساقفة وكَهَنة ومنه يَتَّضح أنهم لم يريدوا بلفظة الكاهن السَّحَرة والمشعوذين فقط، بل أَخذُوها أيضًا بمعناها الخاص؛ أي راعي الدِّين القويم، وخادم الأسرار المقدَّسة وإن لم يَنصُّوا عليه، وقريب منه قول صاحب لسان العرب (١٧: ٢٤٥): «العرب تُسمِّي كل من يتعاطى علمًا دقيقًا كاهنًا، ومنهم من كان يُسمِّي المُنجِّم والطبيب كاهنًا»، فطبيب الأرواح أحق به مِن سواه، وفي تاريخ عرب الجاهلية أخبار بعض الكُهَّان الذين دَعَوا إلى الله وردُّوا عن المُنْكَر وأرشدوا إلى الخير ما يدلُّ على أنهم كانوا أرفعَ مقامًا من السَّحَرة.

(٦) مُفرَدات نصارى الجاهلية الخاصة بكنائسهم وأقداسها

سبق لنا عدة ألفاظ مُشتركة استعملها نصارى العرب لمناسكهم وعباداتهم كما سبقوا غيرهم إلى استعمالها؛ كالمسجد، والكعبة، والمِحراب، والمَنارة، والمِئْذَنة، ولهم ألفاظ أخرى خاصَّة بهم تجري عندهم حتى اليوم، وكانت شائعة قبل الإسلام، كما سترى منها «الكنيسة»٤٩ وهي لفظة سامِيَّة معناها المجمع عبرانِيَّتُها כנושחא وسريانِيَّتُها فأتتْ بمعنى محل صلاة اليهود والنصارى ومنهم مَن يجعل الكنيسة للنصارى والكَنِيس لليهود، ومن الشواهد على استعمال اللفظة قديمًا لمعبد النصارى قول جرير يهجو بني تغلب النصارى (الكامل، للمبرد، ص٤٨٥، ed. Wright):
ما في مَقام ديارِ تَغلِب مَسجِدٌ
وبها كنائسُ حَنْتمٍ ودِنان

«قالوا»: الحَنْتَم الخَزَف الأخضر.

وأَشْيَع منها لفظة «البِيعَة»٥٠ وهي سريانية ومعناها البيضة والقُبَّة إشارة إلى شكل بناء الكنائس قديمًا وذِكْرُها مُكرَّر في الشعر الجاهلي، قال ورقة ابن نوفل (الأغاني، ٣: ١٦):
أقول إذا صَليتُ في كل بِيعَة
تباركتَ قد أكثرتَ باسمك داعِيا

ومثله للزِّبْرقان بن بَدْر التميمي لمَّا وفد على نبي المسلمين (سيرة الرسول، لابن هشام، ص٩٣٥):

نحن الكرامُ فلا حيٌّ يُعادِلُنا
منَّا المُلوك وفينا تُنْصَب البِيَع

وأقدم منهما قول لقيط بن مَعْبد في عينيته التي وجَّهها إلى قومه لِيُحذِّرَهم من كسرى ذي الأوتاد (مختارات شعراء العرب، لهبة الله العلوي، ص٢؛ وتاج العروس، ٥: ٢٨٥):

تامَتْ فؤادي بذات الخالِ خَرْعَبَةٌ
مَرَّتْ تريد بذاتِ العَذْبَة البِيَعا

«قال»: ذات الخال وذات العَذْبَة مكانان، ويروى: بذات الجذع، وروى في التاج «نامَت … خزعته،» وهو تصحيف، ومثله قدمًا قول عبد المسيح بن بقيلة (معجم البلدان، لياقوت، ٢: ٦٥١):

كم تَجرَّعتُ بِدَير الجَرَعَهْ
غَصصًا كَبِدي بها مُنصَدِعَهْ
مِن بدورٍ فوق أغصان على
كَثبٍ زُرْنَ احتسابًا بِيَعَهْ
ومنها «القُلَّيْس»، قال في المخصص (١٣: ١٠٣): «القُلَّيْس بِيعَة كانت بصنعاء للحبشة هدَمَتْها حِمْير.» واللفظة دخيلة أصلها من اليونانية Έϰϰλησία، وقد وصف قدماء الكتبة هذه الكنيسة بأوصاف تدل على حسنها وفخامة بنائها، وكان بانيها الملك أبرهة (راجع: ما نقلناه من أقوالهم في مجاني الأدب، ج٣، ع٤٠١؛ وج٧، ص١٢٩٦)، ومنها «السعيدة»، جعلها ابن سيدة (١٣: ١٠٣) وياقوت (٤: ٧٥٦) في جملة مَناسك النصارى وقالَا عنها: أنها «بيتٌ كانت تَحجُّه ربيعة في الجاهلية.» وقد مر بك ذِكْر تَنصُّر ربيعة.

•••

وأجلُّ ما في البيعة «هيكَلُها»، وهو صدرها حيث تُقام الصلوات والرُّتَب، واللفظة عبرانية חוכל، وآرامية وهي فيهما بناء العبادة الكبير، والهيكل في العربية البناء العظيم واسْتُعمِل لكل كبير الجسم، قال التبريزي في شرح الحماسة (ص٢٩): «الهيكل أصلُه في البناء.» وقال في الأغاني: «الهيكل العظيم من الخيل والشجر، ومنه. «?» سُمِّي بيت النصارى الهيكل.» وقد ورد بهذا المعنى في الشعر الجاهلي، قال عَنْتَرة٥١ (راجع: العقد الثمين، ص١٨١):
تَمْشِي النَّعَام به خَلَاء حوله
مَشْي النَّصارى حول بيت الْهَيكل

قال في المُخصَّص (١٣: ١٠٤): «الهيكل بيتُ النصارى فيه صورة مريم عليها السلام … وربما سُمِّي به دَيْرهم.» وفي لسان العرب (١٤: ٢٢٥):

«الهيكل بيت النصارى فيه صورة مريم وعيسى.» وقال الأعشى (الأضداد، ص٢٤؛ ولسان العرب، ٦: ١٤٤) يُذْكَر الهيكل:

وما أَيْبلِيٌّ على هيكل
بناهُ وصَلَّبَ فيه وصارا

ومثله قول الآخر، وقد مر:

وما قَدَّس الرُّهْبان في كل هيكل
أَبيلُ الأبِيلِينَ المسيحَ بن مَريمَا

وفي الهيكل «المَذْبَح»، وهو مَحل التَّقدِيس والقُرْبان، وأصله محل الذَّبْح وتقدمة الذبيحة فاستعْمَلوه مجازًا قال في التاج (٢: ١٣٨): «ومن المَجاز المَذابح للمَحاريب والمَقاصير في الكنائس وبيوت كُتُب النصارى، سُمِّيَت بالمَذابح للقرابين.» وقال في أساس البلاغة (١: ١٩٢): «مررتُ بمَذابح النصارى وهي محاريبهم وموضع كُتُبهم ونحوها المناسك للمعتقدات.»

قال الحسين بن الضحاك (راجع: معجم البكري، ص٣٦٩):

عَجَّتْ أساقفُها في بيت مَذبَحها
وعجَّ رهبانُها في عَرْصة الدار
وكان للكنائس «مَحاريبُها»، وقد مرَّت، وأخصُّ ما كانوا يُزيِّنون به هياكلهم «الصَّلِيب»٥٢ تَنويهًا بموت السيد المسيح مصلوبًا، وقد تَكرَّر ذِكْرُه في الشعر الجاهلي، وجَمَعوه على صُلُب وصُلْبان، وصَرَّحوا بعبادة النَّصارى للصليب، وباتخاذهم له كَقِبْلة وكرأية، وقد أقْسَم به عدي بن زيد فقال (الأغاني، ٢: ٢٤):
سَعى الأعداءُ لا يَأْلُون شرًّا
عليكَ وربِّ مِكَّةَ والصَّليبِ

راجع أيضًا: ما قِيل في القسم الأول عن إكرام النَّصارى لمكة في الجاهلية (ص١١٨)، ومِمَّن ذَكَروا الصليب النابغة الذبياني (تاج العروس، ١: ٣٣٧) قال:

ظلَّتْ أَقاطيع أنعامٍ مُؤَبَّلةٍ
لدى صليب على الزَّوْراءِ مَنصوبِ
قال الصغَّاني (Lane s.v): «سَمَّى النابغةُ العلم صَليبًا؛ لأنه كان على صليب لأنه كان نصرانيًّا.» وقال شارح ديوان النابغة (شعراء النصرانية، ص٦٥٥):

«أراد النابغة صَليب النصارى، وكان النعمان نصرانيًّا.» وقد ذكر الأخطل خروج النصارى لحروبهم والصليب يتقدمهم (ديوانه، ص٣٠٩):

لمَّا رَأَوْنا والصَّلِيبُ طالعًا
خَلَّوا لنا رازانَ والمَزارعا

ومِمَّن صرَّحوا بعبادة العرب للصليب حَجَّار بن أبجر، قال يهجو بني عِجْل النصارى (الأغاني، ١٣: ٤٧):

تُهدِّدُني عِجْل وما خِلتُ أنَّنِي
خلاةٌ لعجلٍ والصَّليبُ لها بَعْلُ

أي تَعبُد المصلوب، وروي في التاج (١٠: ٩٠) للأقيشر:

في فِتيةٍ جَعلوا الصليب إلِهَهم
حاشايَ إنِّي مسلم مَعذورُ

وكانوا يَسِمُون جِباههم بالصليب، قال حُجَّة الدين الصقلي في كتاب أنباء نُجَباء الأنباء لخالد بن يزيد في امرأته رَمْلَة الزبيرية (ص٩٤):

أُحبُّ بَني العَوَّام طُرا لأَجْلِها
ومِنْ أجْلِها أَحبَبتُ أخوالَها كَلبا
فإن تُسْلِمي أُسْلِم وإنْ تَتنَصَّرِي
يَخطُّ رجال بين أعينهم صُلُبا

وبَنَوا من الصليب فِعلًا فقالوا: صلَّب؛ أي رسمَ الصَّليب، كما رأيت في شعر الأعشى:

فما أَيْبلِيٌّ على هيكلٍ
بناه وصَلَّب فيه وصارا

وكان نصارى العرب كما غيرهم يُزَيِّنون كنائِسَهم بِنقْش الصُّور ونُصُب التماثيل فيُكرمونها نِسبةً إلى ما تُمثِّلُه لهم من أولياء الله وفضائلهم، ولنا في شِعْر أهل الجاهلية عدة شواهد على ذلك، فذكَرُوا «الصورة»، وهي هيئة الشيء وشَكْلُه، لا سيما هَيئة أولياء الله، وقد سبق في باب تاريخ النصرانية بين عرب الحجاز (ص١١٦-١١٧)، أن العرب كانوا وَضَعوا في الكعبة صورة «الملائكة والأنبياء كموسى ومريم وعيسى»: وممن ذكروا الصورة النصرانية الأعشى، كما سبق فبنى من الصورة فعل «صَارَ»:

وصَلَّبَ فيه وصارَا
يريد الرَّاهبَ الذي نَصَب الصليب في الهيكل وزَانَه بالصور، وتُسمَّى الصورة «تمثالًا»، قال في التاج (٨: ١١١): «التمثال الشيء المصنوع مُشبَّهًا بخلق من خلق الله عز وجل، «قال»: والتماثيل هي صور الأنبياء وكان التمثيل مباحًا في ذلك الوقت.» وكانت تلك الصور تُتْقَن بالفنِّ وينقشونها بالألوان ويطلونها بالذَّهَب، قال عبد الله بن عجلان٥٣ (الأغاني، ١٩: ١٠٢):
غَرَّاءُ مثلُ الهلال صُورتُها
ومثل تمثالِ صُورةِ الذَّهبِ

«قال» ويُرْوَى: بِيعَة الذَّهَب، وروى ياقوت لشاعر قديم (٣: ٥٢٥):

حتى إذا كُنَّ دَوَيْنَ الطِّرْبَالْ
بَشَّرَ منه بصهيلٍ صَلْصالْ
مُطهَّر الصورةِ مثل التمثالْ

ومثله للأخطل (ديوانه، ص١٢):

حَلْيٌ يشبُّ بياض النَّحْر واقدُه
كما تُصَوَّر في الدَّيْر التماثيل

وكانوا يَطوفون حول الصور، لا سيما في أعيادهم، قال الحارث بن خالد المخزومي (الأغاني، ١٥: ١٣٣):

وبشرةُ خُودٌ مِثلُ تِمثالِ بِيعَة
تظلُّ النصارى حوله يومَ عيدِها
ومثل الصورة والتمثال «الدُّمية»، جَمْعُها الدُّمى وأصلها من السريانية ومعناها الشبه، قال في التاج (١٠: ١٣١): «الدُّمْية الصورة المنقَّشة من الرخام «عن الليث»، وفي الصحاح: الصورة من العاج ونحوه أو عام من كل شيء مُستحسَن في البياض أو الصورة عامة «وهو قول كراع»، قال ابن الأثير: هي الصورة المُصوَّرة؛ لأنها يُتَنَوَّق في صنعها ويُبالَغ في تَحسينِها … والدمية أيضًا الصَّنَم … لتزيينها وتنقيشها كالدُّمَى المُصوَّرة.» ولذلك ضربوا المثل في حُسْنِها فقالوا: «أحسنُ من دمية.» (أمثال الميداني، ١: ٣٠٠)، وقد شَبَّهُوا بها نساءهم، قال الأعشى (التاج، ٦: ٣٤٤):
وحُورٍ كأمثالِ الدُّمَى ومَناصِفٌ
وكان سبقهم داود النبي إلى هذا التشبيه فوصف في المزامير (مز ١٤٣: ١٢): بنات المنافقين «المُتزَيِّنَات كدُمى الهياكل»، ومعظم الشعراء القدماء الذين ذَكَروا الدُّمى خَصُّوا بها بِيَع النصارى ومَحاريبهم دلالة إلى عادتهم المألوفة بتزيين كنائسهم بالصور ليكرموها، لا ليعبدوها كالأصنام، قال عدي بن زيد (في الكامل، للمبرد ed. Wright, 460):
كدُمَى العاجِ في المحاريبِ أو كالْـ
ـبَيْضِ في الرَّوْضِ زَهرُه مُستَنيرُ

ومثله للأحوص في الإسلام (الأغاني، ٤: ١٤٢):

كأنَّ لُبْنَى صَبيرُ غَاديةٍ أو
دميةٌ زُيِّنَت بها البِيَع

وقال عمر بن أبي ربيعة (الكامل، ص٣٧٠):

دميةٌ عند راهب ذي اجتهاد
صَوَّرُوها في جانبِ المِحْراب

وقال أُمَيَّة بن أبي عائذٍ (ديوان الهُذَيلِيِّين، ص١٧٧):

أو دمية المحراب قد لَعبتْ بها
أيدي البُناة بزخرفِ الإتراصِ

وتَبِعَه أبو العتاهية فقال (الأغاني، ٣: ١٥١):

كأنَّ عَتَّابةَ مِن حُسْنِها
دُميةُ قَسٍّ فَتَنتْ قَسَّها

وممن وصفوا الدُّمى امرؤ القيس حيث قال (ديوانه في العقد الثمين، ص١٢٨):

كأنَّ دُمَى سُقْفٍ على ظهر مَرمرٍ
كسا مُزبَدَ الساجوم وَشْيًا مُصوَّرًا

ومثله النابغة الذبياني (العقد الفريد، ص١٠):

أو دميةٍ مِن مَرْمرٍ مرفوعةٍ
بُنِيَتْ بآجُرٍّ تُشادُ وقَرْمَدِ

وكذلك قال عَبيد بن الأبرص (الأغاني، ١٩: ٨٦):

وأَوانس مثل الدُّمى
حورُ العيونِ قد اسْتُبِينَا
وقال سُلْمى بن ربيعة (الحماسة، ص٥٠٦، ed. Freytag):
والْبِيضُ يَرْفُلْنَ كالدُّمى في
الرَّيْط والمُذْهبِ الْمَصونِ

وقال زياد بن حَمَل (الحماسة، ٦١٤):

فيها عَقائلُ أَمثالُ الدُّمَى خُرُدٌ
لم يَغدُهنَّ شَقَا عَيشٍ ولا يَتَمُ

ويظهر من شعرهم أن هذه الدُّمَى كانت تُصطَنع في بعض أنحاء العرب كَهَكِر قيل: إنه موضع في اليمن، قال امرؤ القيس (ديوانه، ص١٢٤، في العقد الثمين):

كَناعِمَتَيْن مِنْ ظِباءِ تَبالةٍ
على جُؤْذَرَيْنِ أو كَبعْضِ دُمَى هَكِرْ

وكذلك ميسنان وقيل: إنها مَيْسان بين الواسط وبصرة، قال سحيم:

وما دُمْيةٌ من دُمى مَيْسَنا
نِ مُعجبةٌ نظرًا واتِّصافَا

ولعلهم أطلقوا أيضًا على الصورة اسم «النُّصْب»، وهو في الأصل كل ما كان يُنصب فيُعبد من دون الله تعالى والجمع أَنْصَاب ويقال: نُصُب بضمتين والجمع نَصائِب، وقد خصوها بعبادة الأوثان فأرادوا بها حجارة كانت حول الكعبة كانوا يصبون عليها دماء الذبائح، ولعل النصارى أرادوا بها معنى الصورة عمومًا دون الوثن لوُرُود اللفظة في شعر البعض منهم.

وأَعْجَب من هذا أنهم استعملوا لفظة «الوثن»، للدلالة على صورهم والكلمة حبشية بهذا المعنى، وقد استعملها الأعشى بمعنى الصَّليب، قال (المفضليات، ص٥٤٩، ed. Lyall ولسان العرب، ١٧: ٣٣٤):
يَطوفُ العُفاةُ بِأبوابه
كطَوْف النَّصارى بِبَيتِ الْوثَن

«قال»: أرادَ بِالوثَن الصَّلِيب.

•••

وقد امتازتْ كنائسُ النَّصارى «بالناقوس»٥٤ وكان قديمًا خشبة طويلة يَقْرَعون عليها بخشبة قصيرة اسمها «الوَبِيل» أو «الأَبِيل»، يقال: نَقَس بالوَبيلِ النَّاقوسَ نَقْسًا إذا ضرَبَه، ثم جعلوا بدلًا من الخشبة لوحًا من نحاس كانوا يقرعون عليه، وهو اليوم «الجَرَس» على صورة نصف المخروط وهو عربي أيضًا، ذكره في التاج قال (٤: ١١٨): «والجَرَس الجُلْجُل … والذي يُضْرَب به.» وتَكرَّر في الشعر الجاهلي ذِكْر النَّواقيس، قال المُتلَمِّس يَذكُر خروجه إلى بلاد غَسَّان حيث كثرت الكنائس والنواقيس (راجع: طبعتنا لديوانه):
حَنَّت قَلُوصِي بها والليلُ مُطرِق
بعدَ الهُدوِّ وشَاقَتْها النَّواقيسُ

قوله: «بَعد الهُدُوِّ»؛ أي عند السَّحَر لأن عادةَ الرُّهبان أن يَقرَعوا نواقيسهم للصلاة قبل الفجر، ومثله قال المُرَقَّش الأكبر (المفضليات، ص٤٦٥):

وتَسمعُ تزقَاءَ من الْبُوم حَولَنا
كما ضُرِبَت بعد الهُدوِّ النواقِسُ

ومثلهما للأعشى (راجع: الجوهري، في مادة حد)، ويُرْوَى لعنترة (العقد الثمين، ص١٧٩):

وكأسٍ كَعَيْن الدِّيكِ بَاكرْتُ حَدَّهَا
بِفِتْيان صِدْقٍ والنَّواقِيس تُضْرَبُ

وقال الأسودُ بن يَعفر، وجمع الناقوس على نُقُس (التاج، ٤: ٢٦٣):

وقد سَبأتُ لِفتيانٍ ذَوي كرم
قبل الصَّباح ولما تُقْرَع النُّقُسُ

وأكثرُ ما كانت النواقيس في الدَّساكِر والقُرَى قال لبيد (ديوانه، ص١٣٧):

فَصدَّهُم منطق الدَّجاجِ عن العَهْدِ
وَضَربُ الناقُوس فاجْتُنِبَا

قال الشارح: «والناقوس إنما يكون في القُرى فلما مَرُّوا بالقرى كَرِهوا دخولها فعَدَلوا عنها واجتنبوها وكانت قصدًا على الطريق.» ومثله للجعدي:

ودَسْكَرةٍ صوتُ أبوابِها
كصوتِ المَوائِح بالْحَوأَبِ
سبقتُ صِياح فَراريجِها
وصَوتَ نَواقِيسَ لم تُضْرَبِ

وكان ضارِب الناقوس الراهب والراهبة والقَس، قال ربيعة بن مَقروم من أبيات مرَّت ذكر فيها الراهب (الأغاني، ١٩: ٩٢):

لَصَبا لِبَهجَتِها وحُسْن حَديثِها
وَلَهُم من نَاقوسِه يَتَنزَّل

وروى في الأغاني لبعض الأغفال عن راهبة:

تَضْرِب بالناقُوس وَسْطَ الدَّيْرِ
قَبْل الدَّجاجِ وزُقاءِ الطَّيْرِ

ومثله لجرير في القس (البكري، ٢١٥):

صَبَّحْنَ ثَرْمَاء والنَّاقوسُ يَقرعُه
قَسُّ النصارى حَراجِيجًا بِنَا تَجِفُ

وقال جرير أيضًا (البكري، ٣٦٨):

لما تَذكَّرْت بالدَّيْرين أرَّقَني
صوتُ الدَّجاج وقَرْعٌ بالنَّواقِيس

وقال الأعشى ودعَا ضاربُ الناقوس بالأَبِيل وهو أيضًا الحَبْر كما مر (راجع: حماسة البحتري، ص٥٦):

فإنِّي ورَبِّ الساجدِينَ عَشِيَّة
وما صَكَّ ناقوسَ الصلاة أَبيلُها
أُصالِحُكم حتى تَبوءُوا بِمثلِها
كَصَرْخَةِ حُبْلَى بَشَّرَتْهَا قَبولُهَا

ويؤيد ذلك قول المثل في القاموس: «رأيتُ أَبيلًا على وَبِيل»؛ أي حبرًا على عصا رِعايَتِه، وقيل: بل الأَبِيل هو عصا الناقوس كالوَبِيل.

أما «الجَرَس» فلم نجده في شعر قديم، وإنما ورد ذِكْرُه في الحديث، قال في أُسد الغابة لابن الأثير (١: ٣٥١) عن لسان محمد في الوحي: «أحيانًا يأتيني — أي الوحي — في مِثال صَلصلة الجَرَس.» وفي حديث آخَر رواه مسلم (٤: ٤٥٠):

«الجَرَس مَزاميرُ الشيطان.»٥٥

•••

وكانوا يُنِيرون كنائسهم بالأنوار ويُسرِجُون فيها السُّرُج ويُضِيئونها بالمصابيح،٥٦ قال عمر بن أبي ربيعة (الأغاني، ١٥: ٧):
نظرتُ إليها بِالمُحصَّبِ من مِنى
ولِي نظرةٌ لولا التَّحرُّجُ عارمُ
فقلتُ أَشمسٌ أم مَصابيحُ بِيعَة
بدَتْ لكَ خَلْف السُّجْفِ أم أنتَ حالِمُ

وكانوا على الأخصِّ يُقيمون فيها الرُّتَب الدينية، مَرَّ ذِكْر صلاتهم وسجودهم وتسبيحهم في كنائسهم، وكانوا يُقرِّبُون القرابين في القُدَّاس، ومنه قول الأعشى:

وما قَدَّس الرُّهبان في كل هَيكلِ …

ومثله قول البكري في معجم ما استعجم (ص٣٦٩) يصف رُتْبَة قُدَّاس النصارى «وضَجَّ الرُّهبان بالتقديس.»

ومن مناسكهم «القُرْبَان»٥٧ هو في الأصل كل ما يُتَقرَّب به إلى الله، وقد خُصَّت بقربان النصارى، قال أُمَيَّة (كتاب البدء، ٢: ١٤٥):
أيَّام يَلْقَى نَصاراهم مَسِيحَهم
والْكائِنِينَ له وُدًّا وقُرْبانا

وروى في اللسان لجرير (١٥: ١٢٥):

أو تَتركُون إلى القَسَّيْنِ هِجرَتكم
ومَسْحَكُم صُلْبُهم رخْمَان قُرْبانا

وقد بَنَوا منه فعلًا فقالوا: «تَقرَّب» إذا أخذ القربان، قال الأعشى يمدح هوذة بن علي النصراني الذي أَعتقَ مائة من أسرى تميم يوم الفِصح (تاريخ الطبري، ١: ٩٨٧):

بهم تَقرَّب يومَ الفِصْح ضاحيةً
يَرجو الإلهَ بما أسدى وما صَنعَا

ومثله ما أَخْبَر صاحب الأغاني (٢: ٣٢) عن عدي بن زيد، وهند بنت النعمان، كيف دَخلَا يوم خَميس الفِصْح كنيسة الحيرة «ليتقرَّبَا» يريد تَناوُلَهما الفِصْحِيَّ.

وكانوا يَدْعُون القربان «الشَّبَر»، ولعل اللفظة سريانية وهي الطعام والغذاء أرادوا بها قُوت النفوس، وقد ورَدَت في الشعر القديم، قال عدي بن زيد يحلف بالقربان (شعراء النصرانية، ٤٥٢؛ ولسان العرب، ٦: ٥٨):
إذْ أتانِي نبأٌ من مُنعِمٍ
لم أَخُنه والذي أَعطى الشَّبَرْ

قال الشارح: «الشَّبَر هو الإنجيل والقُرْبان»، وقد وردت الكلمة في شعر العجاج فافتتح إحدى أراجيزه بقوله:

الحمدُ لله الذي أعطى الشَّبَر
فشَرَحوا الشَّبَر بالعَطِيَّة والموهبة، وكأنها تعريب اللفظة اليونانية أفخارستيا (Έυχαριστία) ومعناها الموهبة الصالحة فأطلقوها على القربان، وورد لابن السِّكِّيت في إصلاح المنطق (طبعة مصر، ص١٥٩) في شرح بيت عَدِي: «قيل في الشَّبَر ههنا: إنه القُربان.»
وقد خَصُّوا بالذكر «خمر القربان» ورووا صلاة النصارى عليها وتقديسهم لها، وقد مَرَّت في ذلك أبيات أيمن بن خُرَيم٥٨ (الأغاني، ١٦: ٤٥):
وصهباءَ جرجانيةٍ لم يَطُفْ بها
حَنيفٌ ولم تَنْغَرْ بها ساعةً قِدْرُ
ولم يَشْهَد القَسُّ المُهَيْنِمُ نارَها
طروقًا ولا صَلَّى على طَبْخِها حَبْرُ

ومثله فيها للأعشى (شعراء النصرانية، ص٣٧٨):

لها حارِسٌ لا يبرحُ الدَّهرَ بَيْنَها
وإن ذُبِحَت صلَّى عليها وزمزمَا
ببابلَ لم تُعْصَر فَسالتْ سُلافةٌ
تُخالِط قِنديدًا ومِسْكًا مُختَّما

فبذكره للصلاة عليها خَصَّ الخمر المُقدَّسة، وقال الأعشى أيضًا:

وصَهباءَ طافَ نهاميُّها
وأَبْرزَها وعليها خَتَمْ
وقابَلَها مُستَهامًا لها
وصَلَّى على دَنِّها وارْتَسَمْ
تَمزَّرْتُها غَيرَ مُستكبرٍ
على الشرْبِ أو مُنكرٍ ما عُلِمْ
النهامي صاحب الدير، وقد مرَّت ورُوِي (قطب السرور، Ms ed Paris ff. 67): «طافَ يهوديها.» ولعله تصحيف؛ لأن اليهودي لا يُصلِّي على الخمر ولا يُطِيف بها، وكذلك قال علقمة وذكر «الكأس» وخص خمرها بصفات أقرب إلى الخَمْر المُقدَّسة:
كأسُ عزيزٍ٥٩ من الأعناب عَتَّقَها
لبعض أربابها حانِيةٌ حُومُ
تُشفِّي الصُّداع ولا يُؤذِيكَ طالِبُها
ولا يُخالِطُها في الرأس تَدويمُ
ظَلَّت تَرقرَقُ في النَّاجُود يَصفُقُها
وليدُ أَعجَمَ بالكتَّان مَفدومُ

قالوا: أراد بالعزيز الملك، وقالوا: بل أراد كبيرَ النَّصارى كقول أوس بن حجر يذكر فصح النصارى:

عَليه كمصباحِ العزيز يَشُبُّهُ
لفِصحٍ ويحشوه الذُّبال المُفتَّلَا

وكما شربوا خَمْر القربان أَكَلوا خُبْزه المُقدَّس، وقد بَيَّنَّا (ص٧٢ و١٣٩)، أن هجو بعض الشعراء لبني حنيفة النصارى على «أكلهم لرَبِّهم»، إنما أرادوا به تَقرُّبَهم من القربان الأقدس فقَرَّعُوهم بما لم يَدْرِكوا معناه فقالوا:

أَكلَتْ حنيفةُ رَبَّها
زَمَن التَّقحُّم والمَجاعهْ
لم يَحْذَروا من ربهم
سوءَ العُقوبةِ والتباعَهْ

ومثله قول الآخر:

أكلَتْ رَبَّها حَنيفةُ مِن جو
عٍ قديمٍ ومِن إعوازِ
والنصارى يشيرون إلى القربان «بمائدة الرَّب»، كما دعاها بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس (١٠: ٢١)، واللفظة شاعت عند عرب الجاهلية أخذوها أيضًا من نصارى الحبش وهي عندهم ، وقد وردت في القرآن بهذا المعنى (في سورة المائدة، ع١١٢ و١١٤)، حيث يذكر أن الحواريين طلبوا من المسيح أن يُنزل عليهم مائدة من السماء فأنزلها، وأراد بها العشاء السري.
ولا شك أنه كان لهم في كنائسهم «منبر»٦٠ للكرازة وأعظم شاهد على قولنا ان اللفظة ليست عربية، بل مستعارة من نصارى الحبش أي مجلس وكرسي الخطابة ثم أخذها المسلمون،٦١ قال الفرزدق في آل أبي العاصي (راجع: ديوانه، ed. Boucher, p. 19):
ولنْ يزالَ إمامٌ منهمُ مِلكٌ
إليه يَشخَصُ فوق المِنْبر البصرُ

(٧) مفردات نصارى الجاهلية الخاصة بمساكن الرُّهبان

قد تَوفَّرت المفردات العربية التي ورد ذِكْرُها في المعاجم والشعر القديم دلالة على مساكن الرهبان فجمعنا منها ما تَيسَّر لنا على تَرتيب حروف المعجم، وفي وَفْرَتِها شاهد ناطق على شيوع العيشة الرهبانية في أنحاء العرب.

فمن ذلك «الأسطوانة» وهي السارية وفقًا لمعناها الأصلي في اليونانية ίστών، وقد اتخذها العرب بمعنى العمود الذي كان يَتعبَّد فوقه بعض الرهبان المَدْعُوِّين لذلك بالعَمُودِيِّين (Stylites)، قال ذو الجدن (سيرة الرسول، لابن هشام، ص٢٦، ed. Wüstenfeld):
فإن الموتَ لا ينهاه ناهٍ
ولو شَربَ الشفاءَ مع النَّشُوقِ
ولا مُترهِّب في أُسطوانٍ
يُناطحُ جُدْرَه بيضُ الأَنوقِ

قال الشارح: الأسطوان والأسطوانة ها هنا موضع الراهب المُرتَفِع، وقال في التاج: الفرق بين الأسطوانة والعمود أن العمود حَجَر واحد، والأسطوانة بناء.

ومنها «الأُكَيْراح»، وهي قلَّاية الراهب، ومثلها الكِرْح، وأصل الكلمة من السريانية ، قال في المخصص لابن سيده (١٣: ١٠): «الأُكَيْراح بيوت ومواضع تخرج إليها النصارى في بعض أعيادهم وهو معروف.» وقال في معجم البلدان (١: ٣٤٥): «الأُكيراح بيوت صغار تسكنها الرهبان الذين لا قَلالِي لهم.» وهي أيضًا موضع بعينه وأنشد لبكر بن خارجة:
دَعِ البساتينَ من آسٍ وتفَّاحِ
واقصد إلى الشَّيخِ من ذات الأُكَيراح
إلى الدَّساكر فالدَّيْرِ المُقابلها
لدى الأُكَيْراح أو دَيرِ ابن وضَّاحِ
ومنها «التامور» ويُروى بالهمز تَأْمور، قال في التاج (١: ٢٠): «التأمور صومعة الراهب وناموسه … وقال ابن دريد: إن أصل هذه الكلمة سريانية.» ولم نجدها في المعاجم السريانية بهذا اللفظ، ولعلها من بالطاء فتكون كالمطمورة في العربية شبهوا بها مسكن الراهب، أو كالطَّمار أي المحل المرتفع، والله أعلم، وقيل: إن أصلها من «تَبُر» الحبشية فأبدلوا الباء من الميم،٦٢ ووردت الكلمة في الشعر الجاهلي في قول الشاعر عن الراهب:
ولَهَمَّ مِن تامُورِه يَتنزَّلُ
ومن ألفاظهم الشهيرة «الدَّيْر» وهي لفظة سريانية الأصل ، ومعناها المسكن عمومًا لا سيما المُحَصَّن، ثم خَصُّوا بها مسكن الرهبان، قال ياقوت في معجم البلدان (٦: ٦٣٩): «الدَّيْر بيت يتعبد فيه الرهبان ولا يكاد يكون في المصر الأعظم، إنما يكون في الصحارى ورءوس الجبال.» وقال في اللسان (٥: ٢٨٧) عن ابن سيده:

«الدير خان النصارى والذي يسكنه ويعمره دَيَّار ودَيْراني.» وقال ابن الأعرابي: «يقال للرجل إذا رأس أصحابه: هو رأس الدَّيْر.»، وقد شاع استعمال الكلمة في الشعر القديم، قال عدي بن زيد (معجم البلدان، ٢: ٦٨٠):

نادمتُ في الدَّير بني عَلْقمَا
عاطَيتُهم مشمولةً عندما
كأنَّ رِيحَ المِسْك من كَأسِها
إذا مَزجناهُما بماء السَّما

وقد عدَّد ياقوت والبكري وغيرهما في معاجم البلدان نيفًا ومائة دَيْر مما ورد ذِكْره في الشعر القديم، بل ذُكر لأبي الفرج الأصفهاني كتاب في الدِّيَارات خَصَّه بذكر الأديرة القديمة بين العرب.

ومنها الرُّكخ، قال في المخصص (١٣: ١٠٢): «من أبيات النصارى، قال: ولستُ من هذه الكلمة على ثقة.» «قلنا»: ولعل الكلمة تصحيف «الكِرْح» الآتية.

ومنها «الصَّرْح»، وهو في الأصل البناء العالي، وقيل: إن الصرح في النَّبطية القصر، ولعل الأصح أنها حبشية ومعناها الحُجرة والقلَّاية.٦٣
ومنها «الصومعة» ومثلها الصومع بناء للراهب محدد الطرف، قال في التاج (٧: ٤١١): «الصومعة كجوهرة بيت النصارى ومَنار الراهب سُميت لدقة في رأسها.» وقال زين العابدين: «الصومعة المنارة.» وهي في الأصل مُتعبَّد للراهب، وقد مر ذكرها في الفصول السابقة (راجع [القسم الثاني، الجزء الأول، الدين ومقاماته ومناسكه])، وأصل الكلمة من الحبشية ومعناها الدير والقلاية، وقد وردت بهذا المعنى في القرآن (سورة الحج، ع٤١)، ونطق بهذا الشعراء القدماء، روى سيبويه لأحدهم:
أوصاكَ ربُّك بالتُّقى
وأولو النُّهى أَوْصَوا معه
فاخْتَر لنفسك مسجدًا
تَخلُو به أو صومَعهْ

ومنها «الطِّرْبال» وهو كل بناء عالٍ مرتفع، وقال أبو عبيدة: هو شبيه بالمنظرة من مناظر العجم كهيئة الصومعة وأنشدوا لدُكين (راجع ياقوت، ٣: ٥٢٥؛ والتاج، ٧: ٤١٦):

حتى إذا كان دُوَين الطِّرْبالْ
رجعن منه بصَهيل صلصالْ
مُطهَّرَ الصُّورة مثل التمثالْ

وقد وردت الكلمة بمعنى البِيعَة ومَعْبَد النصارى ولعلها أعجمية.

ومنها «العُمْر»، قال في التاج (٣: ٣٢٠): «العُمر المسجد والبِيعَة والكنيسة سُمِّيت باسم المصدر لأنه يُعْمَر.» والصواب أن الكلمة سريانية وهي الدير، قال المتلمس (راجع: معجم ما استعجم للبكري، ص٦٩٦):
ألكَ السَّديرُ وبارقٌ
ومَبايضٌ ولك الخَورنَقْ
والعُمْر ذو الإحساء واللَّذَّات
مِن صاعٍ ودَيْسَقْ

«قالوا» العُمر في شعر المُتلَمِّس الدَّيْر أو البِيعَة والكنيسة.

ومنها «القلَّاية»، أصلها من السريانية اشتقها السريان من اليونانية ϰελλίον، وقال البكري (في معجمه، ص٣٦٩): «إن كانت القلاية مضافة إلى المواضع فإنما هو العمر، والعمر عندهم اسم الدير، قال الثرواني:
وإن أنتما حَيَّيتُماني تحية
فلا تَعْدُوا ريحان قلَّايةِ القَسِّ»

ومنها أيضًا «القُوس»، وهو الدير وأصل الكلمة من الفارسية، قال صاحب اللسان (٨: ٦٩): «القوس الصومعة أو موضع الراهب، وقال ياقوت (٤: ٢٠٠): «هو مَعبد الراهب» وأنشد في اللسان:

لا وَصْل إذ صُرِفَت هندٌ ولو وَقفتْ
لَاستَفْتَنَتْني وذا المِسْحَين في القوسِ»

وأنشد الأصمعي لذي الرمة:

على أمرِ مُنقدِّ العِفاءِ كأنه
عصا قَسِّ قُوسٍ لِينُها واعتدالُها

قال: القَس القِسِّيس، والقُوس صومعته.

ومنها «الكِرْح»، وهو مقام الراهب من السريانية بمعناه، وقد مر مع الأُكَيْراح.

ومنها «المَنْهمة» وهو مسكن النُّهام أو النُّهامي؛ أي الراهب، قال ذو الجدن (سيرة الرسول، ٢٦-٢٧):

وَعمْدان الذي حُدِّثتَ عنه
بَنَوْه مُسمَّكًا في رأس نِيقِ
بَمنْهَمةٍ وأسفلُهُ جروبٌ
وحُرُّ المَوْحَل اللَّثقِ الزَّليقِ
بمَرمَرةٍ وأعلاهُ رُخامٌ
تحامٌ لا يُغيَّب في الشقوقِ
مَصابيحُ السَّليط تَلوحُ فيه
إذا يُمْسَي كتَوْماضِ البُرُوقِ

قال الشارح: المنهمة موضع الراهب.

ومنها «الناموس»٦٤ قال في اللسان (٩: ١٣٠): «الناموس بيت الراهب.» ولعله «أراد الناووس من اليونانية ναςό وهو الهيكل.» وجاء في التاج: «الناؤوس مقبرة النصارى.»

(٨) مفردات لنصارى الجاهلية في أعيادهم ومواسمهم السنوية

نَذكُر هنا الأعياد النصرانية الثابتة والمنتقلة التي شاعت عند عرب النصارى كما عرَفَها غيرهم.

أولها عيد «السُّبَّار»، يريدون به ما ندعوه عيد البشارة واللفظة سريانية الأصل ، قال البيروني في الآثار الباقية عن القرون الخالية (ص٢٩٤): «السُّبَّار دخول جبرائيل — عليه السلام — على مريم مُبشِّرًا بالمسيح.» ولم نجد اللفظة في الشعر الجاهلي، وإنما وصف أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت البشارة بآيات رويناها سابقًا.
ومنها عيد «الميلاد»، وقد سماه البيروني (ص٢٩٣) عيد يَلْدا من السريانية أي ميلاد المسيح.
ومنها «القَلَنْدس» ذكرَه المسعودي في مروج الذهب (٣: ٤٠٦) ودعاه البيروني القَلَنداس (ص٢٩٢)، قال: وهو رأس السَّنة وتمام الأسبوع من ولادة مريم، واللفظة لاتينية Kalendæ قال المسعودي:

«يكون فيه بالشام لأهله عيد يُوقِدون في ليلته النيران ويُظهِرون «الأفراح» لا سيما بمدينة أنطاكية، وما يكون في كنيسة القسيان بها من القداس عندهم وكذلك سائر الشام، وبيت المَقدِس ومصر وأرض النصرانية كلها، وما يظهر أهل دين النصرانية بأنطاكية من الفرح والسرور وإيقاد النيران، ويساعدهم على ذلك كثير من عوام الناس وكثير من خواصهم.»

ومنها «الدِّنْح» ذكَره ابن سيده في المخصص (١٣: ١٠٣) عن ابن دريد قال: «الدِّنْح عيد من أعياد النصارى ولا أحسبها عربية، وقد تَكلَّمتْ بها العرب.» والكلمة سريانية ومعناها الظهور؛ أي ظهور السيد المسيح لبني إسرائيل يوم معموديته، قال البيروني (٢٩٣):

«وفي السادس من كانون الآخَر دِنْحا وهو عيد الدِّنْح نفسه ويوم المعمودية الذي صَبَغ فيه يحيى بنُ زكريا المسيحَ وغَمَسه في ماء المعمودية بنهر الأردن عند بلوغ ثلاثين سنة من عمره واتصل به روح القدس شبه حمامة نزلت من السماء على ما ذُكر في الإنجيل.»

ويعرف عيد الدِّنْح بالغطاس أيضًا، وعلى هذا اللفظ وصفه المقريزي في الخطط (١: ٤٤٩٤)، ويُسمَّى أيضًا بيوم العماد.

ومنها «السَّباسب»، قال في المخصص (١٣: ١٠٢)؛ وفي التاج (٤: ٢٩٤): «يوم السَّباسِب عيد للنصارى ويسمونه يوم السَّعَانِين.»٦٥ ويقال: شَعانين بالشين، والسَّباسِب الأغصان يريدون بها سَعف النخل، الذي قَطَعه اليهود يوم استقبلوا المسيح في دخوله أورشليم، وقد دَعَوا أيضًا هذا العيد بعيد الزَّيْتونة، أما السعانين فمُشتقَّة من العبرانية חושצנא «هوشعنا» التي كان يتهلل بها اليهود أمام المسيح، وقد وردت لفظة سباسب في الشعر القديم، قال النابغة يذكر عيد السَّعانين بين بني غَسَّان:
رِقَاقُ النِّعال طَيِّبٌ حُجُزاتُهم
يُحَيَّونَ بالرَّيْحانِ يوم السَّباسبِ

ومنها «خميس العهد»، قال المقريزي (١: ٤٩٥): ويسميه أهل مصر من العامة خميس العدس ويعمله نصارى مصر قبل الفِصْح بثلاثة أيام ويَتهادَون فيه، وقد عرفه العرب أيضًا بخميس الفِصح، ورد على هذا اللفظ في ترجمة عدي بن زيد الشاعر الجاهلي في كتاب الأغاني (٣: ٣٢)، حيث ذكر دخول هند بنت النعمان كنيسة الحيرة، قال: «خرجت في خَميس الفِصح وهو بعد السعانين بثلاثة أيام تَتقرَّب في البِيعَة.»

ومنها «الفِصْح»،٦٦ كانوا يَقدِّمون عليه الصوم الأربعيني، وقد ذكره العرب، أنشد سيبويه لبعضهم (في كتابه، ٢: ٢٧):
صَدَّت كما صَدَّ عمَّا لا يحلُّ له
ساقي نصارى قُبَيل الفِصْح صَوَّامُ
ومن كلامهم في ذلك «تَنَخَّس النصارى»،٦٧ إذا تركوا أكل اللحم، وقال ابن دريد:
«تَنخَّس النصارى» إذا تركوا أكْل الحيوان، وهو كلام عربي صحيح، ولا أدري ما أصله (التاج، ٤: ٢٥٥)، ولعله من «تَنخَّس الرجل» إذا جاع، ويقول البعض: تَنهَّس بالهاء، وهو من تصحيف العامة، أما الفِصح فمن السريانية وأصلها חספ العبرانية وتكرَّر ذكر الفِصْح في الشعر العربي الجاهلي، قال الأعشى يمدح هوذة بن علي النصراني الذي كان أطلق أسرى بني تميم يوم عيد الفِصح تقرُّبًا لله:
فَفكَّ عن مائةٍ منهم إسارَهم
وأصبحوا كلُّهم من غُلِّه خُلَعَا
بهم تَقرَّب يومَ الفِصْح ضاحيةً
يَرجُو الإلهَ بما أَسدَى وما صَنعَا

وكانوا في الفِصْح يُوقدون المشاعل، قال أوس بن حجر، يصف رمحه، وقد شبه سنانه بمصباح يوقده رئيس النصارى يوم الفِصْح (شعراء النصرانية، ص٤٩٤):

عَليه كَمِصباح العزيزِ يَشُبُّه
لِفِصْح ويَحشُوه الذُّبالَ المُفتَّلَا

قال الشارح: «أراد السنان الشديد الائتلاق وهو مثل مِشعل الجليل العظيم الشأن من بطارقة الروم، لا سيما إذا ألهبه في ليلةَ الفِصح، وإذا كان في مثل هذه الليلة كان أنور وأكثر ضوءًا.» وقال عدي بن زيد يشير إلى تعمير قنديل الفِصْح (الأغاني، ٩: ٥٣):

بَكروا عليَّ بَسحرةٍ فَصَبحتُهم
بإناءٍ ذي كَرمٍ كقُعْبِ الحَالبِ
بزجاجةٍ ملءِ اليدين كأنَّها
قِنديلُ فِصْحٍ في كنيسة راهبِ

وممن أشاروا إلى أفراح النصارى في عيد الفِصْح عبد الله بن زبير قال (الأغاني، ١٣: ٤٦)، يهجو حَجَّار بن أبجر أمير بني عِجْل:

فكيفَ بِعِجلٍ إنْ دنَا الفِصحُ واغْتدتْ
عليكَ بَنو عِجْل ومِرجلُكم يغلي
وعندَك قِسِّيس النصارى وصُلبُها
وغانِيَة صَهباءُ مِثلُ جَنَى النَّحْلِ
ويدعون أيضًا الفِصح بالقيامة لتذكار قيامة السَّيِّد المسيح من الموت يوم الفِصْح، ومن الألفاظ العربية في ذلك «الباعوث» ودعاها في المخصص (١٣: ١٠٢) الباغوت بالغين قال: أعجمي مُعرَّب عيد النصارى، وفي تاج العروس (١: ٦٠٢): «الباعوث استسقاء النصارى وهو اسم سرياني، قيل: هو بالغين المعجمة والتاء المنقوطة.» وهو بالسريانية ومعناها الصلاة والدعاء، وقد خصوا بها رتبة تُقام ثاني يوم عيد الفصح، وقد وردت اللفظة في حديث عمر لمَّا صالَح نصارى الشام شَرَط عليهم «أن لا يُحْدِثوا كنيسة ولا قلية ولا يُخْرِجوا سعانين ولا باعوثًا.»
ومنها «السُّلَّاق»،٦٨ قال البيروني في الآثار الباقية (ص٣٠٨): «وبعد الفِطْر — يريد الفِصح — بأربعين يومًا عيد السُّلَّاق ويتفق أبدًا يوم الخميس، وفيه تَسَلَّق المسيحُ مصعدًا إلى السماء من طورزيتا وأمر التلاميذ بلزوم الغرفة التي كان أَفْصَح فيها ببيت المَقدِس إلى أن يُبْعَث لهم الفارقليط وهو روح القدس.» وأصل الكلمة من السريانية ومعناها الصعود، وروى البكري (٣٧٠) لشاعر إسلامي:
بِحُرْمةِ الفِصْح وسُلَّاقِكم
يا عاقدَ الزُّنَّار في الخَصْرِ

ومما ذكروا من أعياد النصارى «الهِنْزَمْن» وروى ثعلب الهِنْزَمْر، قالوا: عيد للنصارى (المخصص، ١٣: ١٠٢)، ولم يَزيدوا إيضاحًا، وقد ورَدَت اللفظة في شعر الأعشى:

إذا كان هِنْزَمْنٌ ورُحتُ مُخثَّما
قال صاحب التاج (٩: ٣٦٨): «الهِنْزَمْن الجماعة مُعرَّب هَنْجُمَن أو أَنْجُمَن عند الفُرس ويُطْلَق على مجلس الشرب، أو لمَجْمَع الناس مطلقًا، أو لعيد من أعياد النصارى.» وقد دخلت اللفظة في السريانية ويراد بها الحفلة.
ونُضِيف إلى ما سبق لفظة «الشَّمْعَلة»،٦٩ قالوا: هي قراءة النصارى واليهود في أعيادهم، وذكروا عن الخليفة المتوكل أنه حَرَّم على النصارى «أن يُظْهِروا في شعانينهم صَليبًا، وأن يُشَمْعِلوا في الطريق.»٧٠ وقال جحظة يصف دير العذارى (ياقوت، ٢: ٦٩٧):
وقد نَطَق الناقوسُ بعدَ سُكونه
وشَمْعَلَ قِسِّيس ولاحَ فَتيلُ

وقال مُدْرِك الشيباني (تزيين الأسواق، ص٣٣٠):

بِحَقِّ قومٍ حَلَقوا الرُّءوسا
وعالَجوا طُول الحياةِ بُؤسًا
وقَرَعوا في البِيعَة النَّاقوسا
مُشَمْعلِين يَعبدونَ عيسى

(٩) مفردات جاهلية لوصف ملابس٧١  النصارى

كان نصارى العرب يَلبَسون الثياب كغيرهم من أهل البادية، لا يَمتازون بها غالبًا عن سواهم، غير أن في المعاجم وبعض الشعر الجاهلي مفرَدات ورَدتْ في وصفهم النصارى أو شرحوها بقولهم: إنها من ثياب النصارى، نَذكُر هنا ما عَثرْنَا عليه منها في مُطالَعاتنا.

فمنها «الآخنيُّ»، قال في التاج (٩: ١١٩): الآخِني الثوب المُخطَّط، وقال أبو سعيد: الآخِنِي أَكسِيَة سُود لِيِّنَة يلبسها النصارى، قال البُعَيْث:

فَكرَّ علينا ثم ظَلَّ يَجُرُّه
كما جرَّ ثَوبَ الآخِنيِّ المُقَدِّسُ
(يريد بالمُقَدِّس الراهب الذي رحل إلى زيارة القُدس)، وقال العجاج (ed. Ahlwardt, p. 67):
كأنَّه مُتوَّج رُوميُّ
عليه كَتَّانٌ وآخِنِيُّ
أو مِقْوَلٌ تُوِّجَ حِمْيَريُّ

وقال أبو الخراش:

كأنَّ المُلاءَ الْمَحضَ خَلْف كُراعِه
إذا ما تَمطَّى الآخِنِيُّ المُخَدَّمُ

ومنها «الإضريج» كساء أحمر من الخَزِّ، ويقال أيضًا للخَزِّ الأصفر، وقيل: بل هو كساء يُتَّخَذ من المِرعِزَّى من أجود صوفها، وقد ذكره النابغة في ديوانه (العقد الثمين، ص٤) حيث قال يصف أعياد النصارى الغَسَّانيين:

رِقاقُ النِّعالِ طَيِّبٌ حُجُزاتُهم
يُحَيَّونَ بالريحانِ يَوم السَّباسِب
تُحيِّيهم بِيضُ الولائد بَينَهم
وأكْسِيَة الإضريجِ فوق المَشاجِبِ

ومنها «الأَرَندَج واليَرَنْدَج»، قال أبو عبيد في المخصص (٤: ١٠٣): «هو بالفارسية رنده، قالوا: هو ضرب من الأدم أسود.» وجاء في اللسان (١٨: ٣٠٤)؛ والتاج (٢: ٥٠) أن اليَرَنْدَج جِلد أَسْوَد، تُعمل منه الخِفاف يَحْتَذُون بها، وقد خَصَّها الشَّمَّاخ بالنصارى، فقال يصف نَعامًا في بَرِّيَّة:

ودَوِيَّة قَفرٍ تَمشِي نَعامُها
كمَشْي النَّصارى في خِفاف اليَرَنْدَجِ

ومنها «الرَّيْط» وهي الملاءة المنسوجة قطعة واحدة، وقد ذكرها الراعي في وَصْف بَطْرَك النَّصارى (التاج، ٧: ١١١)، فقال يصف ثورًا وحشيًّا:

يَعلُو الظَّواهر فردًا لا أَلِيفَ له
مَشْي الْبطرك عليه رَيْطُ كَتَّانِ

ومنها «الزُّنَّار» قالوا: هو ما على وسط النصارى، وقال في التهذيب: ما يلبسه الذميُّ يشدُّه على وسطه، وقد اشتقوا منه فعلًا فقالوا: زَنَّره إذا ألبسه الزُّنَّار، وقد جاء الزنار في الشعر الجاهلي، قال عدي بن زيد وكان معاوية يعجب به:

يا لَرهْطِي أَوقَدوا نارًا
إن الذي تَهْوُون قد حارَا
رُبَّ نارٍ بِتُّ أَرمُقُها
تَقْضِم الهِنْدِيَّ والْغَارَا
ولها ظَبْي يُؤجِّجُها
عاقِد في الخَصْر زُنَّارَا

ويُرْوى:

عِنْدَها خِلٌّ يُثَوِّرُها
عاقدٌ في الجِيد تِقصارَا

التِّقْصار القِلادة، ومثله لابن الضحاك (البكري، ص٣٧٠):

بِحُرمَة الفِصْح وسُلَّاقِكم
يا عاقِدَ الزُّنَّار بالخَصْرِ

ومنها «الكتَّان» كما رأيتَ في شعر الراعي والعَجَّاج، ومنها «الْمُوق» جمعها أَمْواق قال ابن سيده: «هو ضَرْب من الخِفَاف وقيل: خُفٌّ غليظ يُلْبَس فوق الخُفِّ، وهو عربي صحيح.» وكان العبادِيُّون يَنْتَعِلون بالأمواق، قال النمر بن تولب (التاج، ٧: ٧٣؛ واللسان، ١٢: ٢٢٧)، ويُرْوَى لسلامة بن جندل:

فتَرَى النِّعَاج بها تَمْشِي خَلْفَه
مَشْي العِبادِيِّين بالأمواقِ

وكانت هذه الخِفَاف تُتَّخذُ من الجلد المَدبوغ بالقُرَظ فيَدْعُونه السِّبت ويَنتَعِل به السادة، قال عَنتر في مُعلَّقته:

بَطلٌ كأن ثيابه في سَرْحةٍ
يُحْذَى نِعالَ السِّبْتِ ليس بِتوأَمِ

ومن لبس زُهَّادهم «المِسْح»، وهو ثوب الرهبان من شعر، قال جرير وسَمَّى الرَّاهِبَ ذا المِسْحَين (التاج، ٨: ٦٩):

لا وَصْل إذ صرمت هند ولو وقفت
لَاستَفْتَنَتْنِي وذَا المِسْحَين في القُوسِ

هذه بعض ألفاظ نقلناها، وقد صَرَّحوا فيها بذكر النصارى، ولا شك أن ألفاظًا أخرى، دخلَت في العربية بواسطة النَّصارى من الحَبَش والروم والسريان، كما يدل عليها أصلها الأعجمي؛ كالبُرْجد، والإكليل، والتاج، والبُرنس، وأبي قلمون، والقَلَنْسوة، والجِلْبَاب، والسُّنْدُس وغيرها، وإن لم يَخُصَّها الكتبة بالنصارى وَحْدَهم.

(١٠) ألفاظهم في الكتابة وأدواتها

رأيت في فصل سابق أن الكتابة دخلت بين العرب بفضل النصرانية، فلا عجب أن تكون الألفاظُ الدَّالة على هذه الصناعة قد وردت خصوصًا في آثارهم ولذلك ترى أدوات الكتابة مَقرونة في أشعارهم بذكر الزَّبُور وكُتُب الوحي التي كان الرُّهْبان يَتناقلونها في جزيرة العرب ويَتأنَّقُون في كتابتها.

فأول ما ذكروه «القلم» قال معاوية الجعفري (معجم البكري، ص٥٨٢)، يصف منازل دارسة:

فإن لها منازلَ خاويات
على نَملى وقفتُ بها الرِّكابَا
مِنَ الأجزاع أسفل من نُمَيلٍ
كما رَجعَتْ بالقَلِم الكتابَا

ومثله لكعب بن زهير (البكري، ص٤٤١):

أتعرف رسمًا بين زُهمان فالرقم
إلى ذي مَراهيط كما خُطَّ بالقلم

وقال لبيد في معلقته:

وجلَا السيولُ عن الطِّلَال كأنها
زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أقلامُها
وكانوا يكتبون على الجلود وجريد النخل والعظام وألواح الرصاص، ومن أشهر ألفاظهم «القِرطاس»،٧٢ وهي فارسية كالكاعِد، ويقال: قرطس أيضًا، وقد وردَت في الشعر الجاهلي، قال المِخش العُقيلي، يصف رسوم دار شبهها بخط الزَّبُور على القرطاس، قال (التاج، ٤: ٢١٥):
كأنَّ بحَيثُ استُودِعَ الدَّارُ أَهْلَها
مَخطَّ زَبورٍ مِن دواةٍ وقَرْطَسِ

ومنها «الأديم»؛ أي الجِلْد كانوا يَصقلُونه ويُرقِّقُونه، فيَكتُبون عليه، قال المُرقَّش:

الدارُ قَفْرٌ والرُّسوم كما
رَقَّش في ظَهْر الأديمِ قَلَمْ
وكانوا يَدْعُون الأَدَم الرِّقَاق «ورَقًا»٧٣ قبل أن يَصطَنِعوه من القطن تشبيهًا بورق الشجر في تصفيحه، قال جرير (البكري، ص١٠٦):
لِمَن الدِّيَار بعاقِلٍ فالأَنْعم
كَالوَحْي في وَرَق الزَّبُور المُعْجَمِ
وهو «الرَّق»٧٤ أيضًا، جمعه الرُّقُوق للجلد وللصحيفة البيضاء والكلمة حبشية الأصل، كما يُظنُّ، قال الخالد بن الوليد المخزومي (الأغاني، ٣: ١١٢):
هل تَعرِفُ الدَّارَ أَضحَتْ آبُها عَجبًا
كالرَّقِّ أَجْرَى عليها حاذقٌ قَلمَا

وفي القرآن: «رَق مَنشور»، وقد دعوا الأديم والصحيفة البيضاء والحَصِير المَنسوج خيوطه سيور «قَضِيمًا»، قال النابغة (التاج، ٩: ٦٩)، وفي وصف الرسوم:

كأنَّ مَجرَّ الرَّامساتِ ذُيولَها
عليه قَضِيم نَمَّقَتْه الصوانعُ

وقد دَعَوا القرطاس والصُّحُف البِيض «بالمُهْرَق»، وهي لفظة فارسية مُهْرَه، قال الصغاني: المُهْرَق ثوب حرير أبيض يُسقى الصِّمغ ويُصْقل، ثم يُكْتَب فيه والكلمة قديمة، قال الحارث بن حِلِّزَة في معلقته:

واذْكُروا حِلْفَ ذِي المَجازِ ومَا قُـ
ـدِّمَ فِيه العهودُ والْكُفلاءُ
حَذَر الجَوْرِ والتَّعَدِّي وهل يَنْـ
ـقُضُ ما في المَهارِق الأهواءُ

وقال أيضًا (التاج، ٧: ٩٦) في الأطلال شَبَّهها بكتابة الحَبَش:

آياتُها كمَهارقِ الحُبْشِ

وقال الأعشى يذكر الأدعية المرقومة في المَهارق (اللسان، ١٢: ٢٤٧):

رَبِّي كريمٌ لا يُكَدِّر نِعْمةً
فإذا تُنوشِد في المَهارق أنشدَا

وكذلك كتبوا على «العَسيب»؛ أي جريد النخل، قال امرؤ القيس:

لِمَن طَللٌ أَبصرْتُه فَشَجانِي
كَخَطِّ زَبورٍ في عَسيبٍ يمانِي

وفي الهُذَلِيَّات قوله:

أو زُبر حِمْيَرَ بينها أحبارُها
بالحِمْيَريَّة في عَسيبٍ ذابلِ

وكَتَبوا أيضًا على الألواح «واللوح»، كل صَفِيحة عَريضة من خشب أو عَظْم كالكتف كانوا يكتبون عليها، وقد ورد في القرآن: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ.

«والرَّقِيم» اللَّوْح من الرصاص، قال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت يذكر اللوح الذي كان مع أصحاب الكهف حيث رُقِم نَسَبُهم وأسماؤهم ودينهم (البيضاوي، طبعة ليدن، ص٥٥٥):

وليسَ بها الا الرقيم مُجاوِرًا
وصَيْدُهم والقومُ في الكَهْفِ هُجَّدُ

وسَمَّوا مجموع الأوراق المكتوبة «كتابًا»، قال زُهَير في معلقته عَمَّا يَخفَى في قلوب البشر فيدينه الله في الآخرة:

يُؤَخَّر فَيُوضَع في كتاب فيُدَّخَر
ليومِ الحسابِ أو يُعَجَّل فيُنْقَمِ

وقال عدي بن زيد الشاعر النصراني في الإنجيل (شعراء النصرانية):

نَاشَدْتَنا بكتابِ الله حُرمَتَنا
ولم تَكُن بِكتابِ الله تَرتَفِعُ

ودَعَوا الكتاب «بالقِطِّ» جمعه القُطوط، وهو في الأصل الجِلد الذي يُكتب عليه، وقال أُمَيَّة يذكر قومه بني إياد (التاج، ٥: ٢٠٩):

قَومٌ لهم ساحةُ العِراق إذا
سارُوا جميعًا والقِطُّ والقلمُ

وقيل: أراد بالقِط هنا الإنجيل، وقال مثله الأعشى:

ولا المَلكُ النعمان يوم لَقِيتُه
بغبطته يُعطِي القُطوط ويَأْفقُ

أي يمنح الصكوك للجوائز، وكذلك «الصحيفة» فهي الكتاب أيضًا، قال لقيط الإيادي (تاريخ ابن الأثير، ١: ١٥٧):

سَلامٌ في الصحيفة من لقيطٍ
إلى مَن بالجزيرة مِن إيادِ
ويُروَى: «كتاب في الصحيفة»، وسَمَّوا الصحيفة «بالمُغَلْغَلة» قالوا: إنها الرسالة المنقولة من بلد إلى بلد، قال صَخْر الغي في الهُذَلِيَّات (ed. Kosegarten, p. 13):
أَبلِغْ كبيرًا عَنِّي مُغَلْغَلة
تَبْرُق فيها صحائِفٌ جُددُ
فيها كِتَاب ذَبْر لِمُقترئ
يَعرفُه البُهْم ومَن حَشَدوا

ومن أسماء الكتاب عندهم «المصْحَف» وردَت في شعر امرئ القيس للدلالة على كُتب الرهبان قال:

قِفا نبكِ مِن ذِكرى حبيبٍ وعرفانِ
ورسمٍ عَفَتْ آياتُه منذ أزمانِ
أتَتْ حِججٌ بعدي عليها فأَصبحتْ
كخَطِّ زَبور في مَصاحفِ رُهبانِ

ومن أسماء الكتب «المِجَلَّة» قال ابن دُرَيْد في الاشتقاق (ص١٩٢):

«المِجَلَّة الصحيفة يُكتَب فيها شيء من الحكمة.» واللفظة آرامية، قال النابغة يَذكُر الكتب المُقدَّسة التي كانت في أيدي بني غسان (التاج، ٧: ٢٦١):

مَجَلَّتُهم ذاتُ الإله ودِينُهم
قَويمٌ فما يَرجُون غيرَ العَواقبِ
ومثلها «السِّفر» للكتاب من التوراة والإنجيل، وقد مَرَّت، وكذلك سمَّوا الكتاب «سِجلًّا» كما ذكر في المخصص (١٣: ٨) وفي التاج (٧: ٣٧) والكلمة لاتينية sigillum بمعنى الخاتم والكتاب المختوم، قد عَرَفوا «القِمَطْر» وهو ما يُصانُ فيه الكتاب فأنشدوا (التاج، ٣: ٥٠٦):
ليس بعلمٍ ما يعي قِمَطْرُ
ما العلمُ إلا ما وَعاه الصَّدرُ
وكما ذَكروا الكتاب كذلك ذكروا «الخط»، قال حسان بن ثابت (سيرة الرسول، ص٤٥٤، ed. Wüstenfeld) في رسوم الدار:
عَرفتُ دِيارَ زينب بالكثيب
كخطِّ الْوَحي في الورقِ القَشيبِ

وكذلك قالوا في «السَّطر»: إنه الخط والكتابة، وأصل الكلمة من الآرامية، وروي في تاج العروس لبعضهم (٣: ٦٧٢):

إني وأَسْطارٍ سُطِرْنَ سَطرًا
لَقائلٌ يا نَصْرُ نَصْرًا نَصْرا

وقال الشماخ (اللسان، ٥: ٢٢٩):

كما خَطَّ عِبرانيَّةً بيمينه
بتيماء حَبْرٌ ثم عَرَّضَ أَسْطُرا

وكانوا يَتَّخذون للكتاب سِمة وديباجة حسنة وهو «العنوان»، قال أبو دؤاد الإيادي (التاج، ٩: ٢٧٢):

«لِمَن طَلَلٌ كعنوانِ الكتابِ؟»
وكانوا يُعْنَون بَوَشْي الخط وتَنمِيقه،٧٥ قال علقمة بن عَبْدَة (معجم ما استعجم، للبكري، ص٥٠٥):
وذَكَّرَنِيها بعدَ ما قد نَسيتُها
ديارٌ علاها وابلٌ مَتَبعِّقُ
بأكنافِ شمَّاتٍ كأن رسُومَها
قَضِيمُ صَنَاعٍ في أَديمٍ مُنَمَّقِ

وقال المُرقَّش الأكبر وبه لُقِّب مرقَّشًا:

الدار قَفْر والرسوم كما
رَقَش في ظَهْر الأديم قَلَمُ

وقال حاتم الطائي (الأغاني، ٧: ١٣٢):

أَتعرف آثارَ الديار تَوهُّما
كخَطِّك في رق كتابًا مُنَمْنَما
وخص رُؤْبَة الإنجيل بالتَّوشِيَة فقال (ed. Ahlwardt, p. 149):
إنجيلُ أَحبارٍ وحَى مُنَمْنِمُه
ما خَطَّ فيه بالمداد قَلَمُهْ

وأشاروا إلى بعض حروف الكتابة كقول مرار بن منقذ في وصف رسوم الدار يشبه بحرف اللام ما مثل منها:

وتَرى منها رسومًا قد عَلتْ
مثلَ خطِّ اللَّامِ في وَحْي الزُّبُرْ
وكان الكتبة يضاعفون العناية في كتابة صورة العنوان، قال الأخنس بن شهاب (المفضليات، ed. Lyall, p. 410):
لابنةِ حِطَّانِ بنِ عوفٍ مَنازلُ
كما رَقَّشَ العنوانَ في الرَّقِّ كاتِبُ

وقال أبو الأسود على خلاف ذلك (الأغاني، ١١: ١١١):

نظرتُ إلى عُنوانِه فنَبذْتُه
كَنَبذِكَ نَعلًا أُخلِقَت من نِعالكَا
ومما ذكروه أيضًا من أدوات الكتابة «الدَّواة»،٧٦ قال سلامة بن جندل (ديوانه، ص١٥، من طبعتنا):
لمن طَلَلٌ مِثلُ الكِتابِ المُنَمَّقِ
خلَا عهدُه بَيْن الصَّلِيبِ فمُطرقِ
أَكبَّ عليه كاتِبٌ بِدواته
وحادِثُه في العين جدَّةُ مُهرَقِ
وكذلك صَرَّحوا بذكر «المِداد»؛٧٧ أي الحِبْر، قال المُتلَمِّس يذكر الكِتَاب الذي أعطاه عمرو بن هند لعامله في البحرين يُسِرُّ إليه بقتله (ياقوت، ٤: ٢٢٨):
وأَلقيْتُهُ بالثَّنِيِّ مِن بطن كافرٍ
كذلكَ أُفْنيَ كلُّ قِطٍّ مُضلَّلِ
رَضِيتُ بها لما رأيتُ مِدادَها
يَجولُ بها التَّيارُ في كل جَدْولِ
ومثله «النِّقْس» جمعه أَنقاس،٧٨ قال زهير بن عاصم (البكري، ص٥٢٤):
إن بلادي لم تكن أملاسا
بِهنَّ خَطَّ القلمُ الأَنقاسَا
مِن السَّبِيِّ حيثُ أَعْطى الناسَا
فلم يَدَع لُبسًا ولا الْتِباسَا

وفي الأصل: الأنفاسَا بالفاء، وهو تصحيف.

(١١) بعض ألفاظ أخرى مُتفرِّقة لنصارى العرب

نذكر هنا بعض ألفاظ ورَدتْ في آثار الجاهلية بخصوص النصارى وأولها اسم «النصراني»، وجمعها النصارى، قال العَجَّاج في مفردها (ديوانه، ص٦٩):

كما يَعودُ العيدَ نَصرانيُّ
وبِيعةً لِسُورها عَلِيُّ

وقال جابر بن حُني في جمعها (شعراء النصرانية، ص١٩٠):

وقد زَعَمتْ بَهْراء أنَّ رماحَنا
رماحُ نَصارى لا تَخوضُ إلى دمِ

وقال طُخَيم بن الطخمة الأسدي يمدح قومًا من أهل الحيرة من بني امْرِئ القيس بن زيد مناة بن تميم رهط عَدِي بن زيد (ياقوت، معجم البلدان، ٢: ٩٥٧):

بَنُو السِّمْط والجَدَّاء كلُّ سَمَيْدعٍ
له في العُروقِ الصَّالحات عُروقُ
وإنِّي وإنْ كانوا نصارى أُحِبُّهم
ويَرتَاح قلبي نَحْوَهم ويَتُوقُ

وقال القطاميُّ يَذكُر نساءَ النصارى في صَومِهن (التاج، ٨: ٩٩):

يَلُذْنَ بأعقارِ الحِياضِ كأنَّها
نِساء النَّصَارى أَصبحتْ وَهْيَ كُفَّلُ

ومثله لحسان (ص٢٤، من طبعة تونس):

فَرِحتْ نَصارى يثرب ويهودُها لما
توارَى في الضَّرِيح المُلحَدُ

ولعبد الله بن الزبير في حجَّار بن أبجر العجلي (الأغاني، ١٣: ٤٦):

سَليلَ النَّصارى سُدتَ عِجلًا ومَنْ يَكنْ
كذلك أهلٌ أن يَسودَ بني عِجْلِ

وقال في التهذيب: وجاءت أنصار، جمع نَصْران؛ «أي النَّصْراني» وأنشد:

لما رأيتُ نَبطًا أَنصارا

يُريد نَصارى مِنَ النَّبَط (اللسان، ٧: ٦٨؛ والتاج، ٣: ٥٦٩).

وكذلك قالوا في مؤنث نَصْران «نَصْرانة» قال أبو الأخزر يصف ناقتين طأطأتا رَأْسَيْهما من الإعياء، فشبههما بالنصرانية تُطأطِئ رأسها بصلاتها:

فَكلتاهما خَرَّت وأَسْجَدَ رأْسَها
كما أَسْجدَتْ نَصرانةٌ لم تَحنَّفِ

وبَنَوا منه فعلًا فقالوا «تَنصَّر»؛ أي دخل في دين النصرانية، قال حاتم الطائي، يذكر ديار لحيان وكانوا نصارى (الأغاني، ١٦: ١٠٤):

وما زلتُ أسعى بين نابٍ ودَارةٍ
بِلِحيان حتى خِفْتُ أن أتَنصَّرا

وقال جعفر بن سراقة أحد بني قُرَّة يهجو جميل بن معمر وقومه (الأغاني، ٦: ١٥):

نَحنُ مَنعنا ذا القرَى مِن عَدُوِّنا
وعُذرةَ إذ نَلْقى يهودًا وبُعثُرا
مَنعنَاهُ مِن عُلْيا مَعَدٍّ وأنتمُ
سَفاسيفُ رَوحٍ بين قرحٍ وخَيْبرَا
فَريقانِ رُهبانٌ بِأسفلَ ذي القرَى
وبالشَّام عرَّافون فيمن تَنصَّرَا
ومما خصوه بالنصارى «الإِرَان»٧٩ وهو سرير المَيِّت أو تابوتٌ من خشب كانوا يحملون عليه موتاهم، هكذا رواه شارح ديوان طرفة (شعراء النصرانية، ٣٠٠)، حيث قال في مُعلَّقته يصف ناقته:
أَمونٍ كألواحِ الإرانِ نَشأْتُها
على لاحبٍ كأنَّه ظَهرُ بُرْجدِ
قال التبريزي في شرح المعلقات (ed. Lyall, 33): الإرانُ تابوتٌ كانوا يحملون فيه ساداتِهم وكُبراءهم دون غيرهم، وقال امرؤ القيس (ed. de Slane, p. 30):
وعَنْسٍ كألواح الإرانِ نَشأتُها
على لاحبٍ كالبُرْدِ ذِي الحِبِراتِ
قال الشارح (id., p. 99): الإران سرير موتى النصارى.
ومنها «الناؤوس» جمعها نواويس،٨٠ قال في التاج (٤: ٢٥٦) النواويس مقابر النصارى، والمُرجَّح أن أصل الكلمة من اليونانية ναός ومعناها الهَيْكَل والمَدْفَن، ومما ذكروه للنصارى «البُوق»٨١ وهو النَّفِير الذي يُنفخ فيه، أنشد الأصمعي (التاج، ٦: ٣٠١) للعلبكم «كذا» الكندي:
زَمْر النَّصارى زَمَّرتْ في البُوقِ

يريد هنا الروم الذين كانوا ينفخون الأبواق في حفلاتهم.

ومن غريب ما نَسبوا إلى النصارى إكرام «الْوَثَن»، كما مر سابقًا وقالوا: «الوَثَن الصَّلِيب»، وكذلك دَعَوا الصليب والتماثيل التَّقَويَّة عند النصارى «أصنامًا»، كما دعاها جرير «بالزُّون» بمعنى الصنم أيضًا، حيث قال (تاج العروس، ٩: ٢٢٩):

مَشْيَ الهَرابذِ حَجُّوا بِيعَة الزُّون

وفي هذه الأقوال غلطٌ فاحش؛ لأن النصارى لم يعبدوا قطُّ الوثن أو الصَّنم أو الزُّون، فضلًا عن كون الهَرابذة هم المَجُوس، وإنما يُكَرِّمون الصَّلِيب والصُّور لِمَا تُمثِّل لهم من شَخْص السيد المسيحِ المصلوب وأولياء الله، وشتَّانَ بين هذا وعبادة الأصنام.

١  وردتْ هذه الأبيات في كتاب الحيوان للدميري (٢: ١٩٥) وروى هناك: «والنعماء والفضل … حمدًا وأمجد.» وذكر أيضًا قول محمد نبي الإسلام لما سمع هذه الأبيات.
٢  وكذلك دعَوه قدوسًا، قال العجاج (لسان العرب، ٨: ٥١): «علم القُدُّوس مولى القُدسِ»، ومثله للأخطل (أغاني، ٨: ٨٥): «قُدُّوس قُدُّوس».
٣  ورد في تاريخ دمشق لابن عساكر (٣: ١٢٤): قال عبد الله بن مسلم الدينوري: سُئلتُ هل وجدتَ لجهنم ذكرًا في الشِّعر القديم؟ ونقلت: هذا يحتاج إلى تَتبُّعٍ وطلَبٍ، وقد أتذكر فلم أذكر إلا شيئًا وجدتُه في شعر أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت فإنه قال:
فلا تَدنو جَهنَّمُ من بريءٍ
ولا عَدْنٌ يُطالعها أثيمُ
إذا شبَّت جهنمُ ثَم وارتْ
وأَعرضَ عن قوانسها الجحيمُ
وروى البيت في المخصص (٩: ٦):
جهنمُّ تلك لا تُبقِي بغيًّا
وعَدْنٌ لا يُطالعها رجيمُ
وذكر للعُدَيل بن الفرخ (ياقوت، ٤: ١٠١٧) قوله في نار جهنم وجنة الخلد:
أما تَرْهَبان النارَ في ابني أبيكما
ولا تَرجُوان الله في جنة الخُلدِ؟
وقد ورد اسم جَهنَّام في شعر الأعشى قال (التاج، ٧: ٣٧٢):
دعوتُ خَليلي مِسْحَلًا ودَعَوا لهم
جَهنَّامَ جدعًا للهجينِ المُذمَّمِ
(قال) مِسْحَل شيطان الأعشى، وكذلك قال الفرزدق (نقائض جرير والفرزدق، ٧٦٨-٧٦٩):
لقد قَلَّدتُ حِلفَ بني كُلَيبٍ
قلائدَ في السَّوالفِ باقياتِ
قلائدَ ليس مِن ذهبٍ ولكنْ
مواسمُ مِن جَهنَّمَ مُنْضَجاتِ
٤  وروى الباقِلَّاني في إعجاز القرآن (ص٧٢): كما يُنَبَّه من نَوماتِه الصَّعِقُ.
٥  كذا في الأصل، والصواب جَرز، يقال: أرض جَرْز وجَرَز وجُرَز؛ أي مُجدِبَة.
٦  راثَ؛ أي تأخَّر، يريد أن الناس يكونون في انتظار الساعة فيقول بعضهم لبعض أَيَّانَا؛ أي متى يحل يوم الدين؟
٧  كذا في الأصل، ونظن أن الصواب «الكانتين» أي الخاضعين.
٨  الدُّسفان المرسل، يريد أن المسيح تقدمهم كالرائد الذي ينتجع الكلأ، ولعل في هذا إشارة إلى قول السيد المسيح في إنجيل يوحنا (١٤: ٣): «إني ذاهب لأعد لكم المكان»، وفي كتاب البدء: وأرسلوه كسوف الغيب، وفي اللسان: يسوف الغيث.
٩  جاء في حماسة البحتري لعتاهية بن سفيان الكلبي (ع٣٩١):
فأضْحَوا أحاديثًا لغادٍ ورائحِ
يَدِينُهم بالخيرِ والشَّرِّ ديَّانُ
١٠  ويروى لثعلبة بن عمرو (المفضليات، ٥١٣):
أقْسَم يَنذُرُ نَذرًا دمي
وأقسمتُ إنْ نِلتُهُ لا يَئوبُ
١١  اطلب مقالته في: المجلة الآسيوية الأميركية (The Origin and History of the Minaret, JAOS, XXX, (1910) p. 132–154).
١٢  قال جرير (نقائض جرير والفرزدق):
أَنخْنَا فَسبَّحْنا ونُوَّرتِ السُّرى
بأعرافِ وردِ اللونِ بُلْقٍ شَواكِلُه
قال الشارح: فسَبَّحْنَا يريد فصَلَّيْنا الغداة، والسُّبْحَة الصلاة، ويقال: السُّبْحَة النافلة.
١٣  ومما قيل في الوحي قول أبي قُصاص لاحق النصري في وصف دار (ياقوت، ٢: ١٤٣):
عَفَتْ وخَلَتْ حتَّى كأنَّ رسومَها
وُحِيُّ كِتابٍ في صحائفِ مُنْصِحُ
وقال جرير (ياقوت، ٣: ٦٦٨):
بَيْنَ المُحصرِ والعزَّافِ مَنزِلةٌ
كالوَحْي من عهدِ موسى في القراطيسِ
١٤  وردَت السورة أيضًا في كتاب الشجر والنبات (البلغة، ٢٢: ٢٣) لجندل بن المثنى:
يا رَبُّ ربَّ المُرسَلِين بالسُّوَرْ
بِحُكم الفُرقانِ يُتلَى والزُّبُرْ
وقال جرير يهجو البُعَيث الشاعر وكان الفرزدق من بني مجاشع النصارى (نقائض جرير والفرزدق):
إن البَعَيْث وعبدَ آل مُقاعِسٍ
لا يَقْرَءُون سورةَ الأحبارِ
(قال): عبد آل مُقاعِس هو الفرزدق، وأراد بسورة الأحبار ما ورد فيها: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
١٥  راجع: كتاب نولدك (Noeldeke: Gesch. d. Qorans, pp. 25–27).
١٦  وفي خزانة الأدب (١: ١١٩): من فضل سَيْبٍ.
١٧  أي ارْضَي يا مريم بما يَطلُب الله منكِ فأُبشِّرُكِ بمولد ابنٍ؛ أي المسيح، وابْنِم كابن والميم للتفخيم.
١٨  وممن ذكروا الزبور منصور النمري من شعراء ربيعة (أغاني، ١٢: ١٨):
وما لِبَني بناتٍ من تراثٍ
مع الأعمام في وَرَق الزَّبُورِ
وقال مجنون ليلى يصف صلاة الراهب بالزبور:
كأنَّه راهبٌ في رأس صومعةٍ
يتلو الزَّبُور ونَجْمُ الصُّبحِ ما طلعَا
ومثله الفرزدق (نقائض جرير والفرزدق، ٧٨٧):
عرفتُ المنازلَ مِن مَهْدَدِ
كوَحْي الزَّبُور في الغرقدِ
وكذلك جرير (ياقوت، ١: ٣٩٠):
حيَّ الديارَ بعاقلٍ والأنعُمِ
كالوحي في رقِّ الزَّبُور المُعجَمِ
وقال أيضًا في رثاء أم حرزة بجُلاجل (نقائض، ٨٥٠):
وكأنَّ منزِلةً لها بجُلاجلٍ
وحْيُ الزَّبور تَخطُّه الأحبارُ
وروى البكري لحسين بن الضحاك (ص٣٧٩):
لمَّا حكاها زنامُ في تَفنُّنها
فافتنَّ يتبعُ مزمورًا بمِزْمارِ
١٩  الجَرَز الأرض المجدبة، وفي الأصل: حَرز.
٢٠  لعل اسم «سوع» في شعر النابغة (اطلب [القسم الثاني، الجزء الأول، مفردات جاهلية لوصف ملابس النصارى]) هو مرادف ليسوع، ويؤيد فكرنا ما جاء في تاج العروس (٥: ٣٩٠) الذي ذكر البيت ثم قال: «ويروى: دَعوى يسوع».
٢١  في الأصل: والعبد ونَظُنُّها تصحيفًا، وقد دعا المسيح عبدًا لله من حيث ناسوته.
٢٢  ومثله لجرير يهجو بني مجاشع، وفي قوله ما يثبت محبة النصارى للمسيح قال (النقائض، ص٨٣):
لقد وَجدَتْ بالقين خُورُ مُجاشعٍ
كوَجْدِ النصارى بالمسيح ابن مَريمَا
٢٣  سبَّح عنها؛ أي أبعد عنها ونزَّهها.
٢٤  يقال: لطَّ الباب إذا أَغْلَقه، ورِمرم علم مكان، والرِّمْرم أيضًا الحشيشة المشوكة المعروفة بالرَّمْرام، فنسب الصحاري إليها، يريد الشاعر أن مريم خرجتْ إلى الصحراء وهناك بَشَّرَها الملاك بمولد ابنها، وهو قول استعاره الشاعر من مزاعم الكَتَبة غير القانونيين.
٢٥  حصَر؛ قَصر عن الكلام، وتَرَمْرَم؛ حرَّك شفتيه بالكلام، يريد أن كلامه لم يكن كمثل كلام البشر.
٢٦  أي لا تُخَيِّبي ظنهم فيك.
٢٧  أعطي ما سُئلتِ؛ أي ارضي بما يَطلُبه منك الرب، وابْنَم تفخيم ابن.
٢٨  ذات قَيِّم؛ أي ذات زوج، والبيت ترجمة قول العذراء (لوقا، ١: ٥): «وكيف يكون ذلك وأنا لا أعرف رجلًا؟»
٢٩  حرج بالرحمن؛ أي كفر، والأصل مُصَحَّف بأخرج، والمعنى كيف آثم أمام الرحمن، فإن صَدَّقْتَ قولي فيه وإلَّا فافعل ما بدَا لك من إقامة أو ذهاب.
٣٠  اعترَّها؛ أي اعترض لها، يُشيرُ إلى قول الإنجيل: إن الروح القدس ظلَّلها، فحَبَلَت بنعمَتِه وقُوَّته بابنها المسيح دون زرع بشري، فالنفخة في صدرها مَجَاز.
٣١  صَرَمه بَتَّه وفصله، وقوله: «مِل أمر»؛ أي من الأمر.
٣٢  في البيت تصحيف، والمعنى أن اليهود لمَّا رأوا ابنها شَكُّوا في بَرارَتِها، وهو زَعْم مِن مزاعمِ أناجيل الزُّور، ومثله قوله عن المسيح: إنه تَكلَّم في المهد ليُبرِّر والدته الطاهرة، ورَدَ ذلك في إنجيل الطفولية المصنوع.
٣٣  لحاه بكَّتَه وعَابَه وفي الأصل: بأن تُلجي وهو تصحيف.
٣٤  قال فيه حسان بن ثابت وفي أبيه زكريا (الأغاني، ٤: ١١):
وإن أبا يحيى ويحيى كِلاهُما
له عَملٌ في دينه مُتقبَّلُ
٣٥  ويُرْوَى: فيُقْبَلا.
٣٦  ورد اسم الحَبْر في أرجاز رؤبة (Ahlwardt, 149):
إنجيلُ أحبارٍ وَحَى مُنَمْنِمُهْ
ما خَطَّ فيه بالمدادِ قَلمُهْ
وقد روى القالي في أماليه بيت أيمن بن خريم: «ولم يحضر القسُّ … ولم يشهد على طَبخِهَا الحَبْرُ».
٣٧  كان العرب يعرفون القسوس بالعبادة والورع، والدليل عليه ما قال الزبير بن بكار عن عبد الرحمن بن أبي عمار: «إنه كان من عُبَّاد أهل مكة، فسُمِّي القس من عبادته (أخبار النساء، لابن الجوزية، ص١٨-١٩).» وقد ورد اسم القس في رثاء حاجب بن ذبيان لأخيه معاوية قال:
تَطاوَلَ بالبيضاءِ لَيلِي فلم أَنَمْ
وقد نامَ قسَّاها وصاحَ رجالُها
أراد بيضاء بني عقيل، ثم بني معاوية بن عقيل وهو المنتفق (معجم البلدان، ١: ٧٩٤).
٣٨  وجمع أيضًا على قساقس وقساوسة وعلى قسيسون.
٣٩  وذكره أيضًا عبد الله بن العباس الربعي (أغاني، ١٧: ١٢٩) قال:
رُبَّ صهباءَ من شرابِ المجوسِ
قهوةٍ بابليَّة خَندريسِ
قد تَحلَّيْتُها بنأيِ وُعودٍ
قَبلَ ضَربِ الشَّمَّاس بالناقوسِ
٤٠  قد بَنَو من هذه اللفظة فعلًا قال في التاج (٧: ٢٠١): «أَبل الرجل إذا تَرهَّب وتَنسَّك.» وفي شروح الشنتمري على أبيات الإيضاح (من مخطوطات مكتبتنا الشرقية، ص١٦٦): «التأبُّل التَّعزُّب عن المرأة.»
٤١  وفي الحديث. «لا صرورةَ في الإسلام.» قال الزجاجي معناه التَّبتُّل وتَرْك النكاح.
٤٢  ورد قبله في اللسان، ١٧: ٣٤٠:
بالخَير أبلجُ مِن سقايةِ راهبٍ
تَجلَّى بِمَوزَنَ مُشرقًا تمثالُها
٤٣  جاء في التاج (٣: ٣٤٤) أن صوران كورة بحمص، وقال ياقوت (٢: ٩١٤): زبد قرية بقنسرين.
٤٤  اطلب: كتاب المُعَمَّرين، للسجستاني (Goldziher. Abhandlungen, XXXII).
٤٥  ومثله المربوط؛ أي الراهب، وفي التاج (٤: ١٤٢) أن الرَّبِيط لقب الغَوْث بن مر من مُضَر.
٤٦  ولعل الرهبان كانوا يُرَبُّون شعرهم على مثال النذير عند بني إسرائيل كما جاء في شعر عدي بن زيد في وصف راهب (أغاني، ٢: ٢٥):
مرعدًا أحشاؤه في هيكلٍ
حسنٌ لُمَّتُه وافي الشَّعَرْ
٤٧  ومثله العابد يجمعونه العُبَّاد والأعابِد، قال أبو دؤاد الإيادي يصف مصابيح الرهبان (التاج، ٢: ٤١٠):
لهُنَّ كَنارِ الرأس في الـ
ـعَلياءِ تُذْكِيها الأعابدْ
٤٨  وردت في شعر أفنون (المفضليات، ٥٢٣) قال:
ألا لستُ في شيء فَروحًا مُعاديًا
ولا المُشفِقاتُ إذ تَبِعْنَ الحَوازيا
(قال) الحوازي: الكواهن، وقد جَمَع الطبري (١: ١٠١٠) الحازي حزاة قال: الحُزاةُ: العلماءُ.
٤٩  قال عدي بن زيد يشبه تشعشع زجاجة الخمر بقنديل راهبٍ في كنيسته (أغاني، ٢: ١٧٢):
بزجاجةٍ ملء اليدين كأنها
قنديلُ صُبحٍ في كنيسةِ راهبِ
وقال عباس بن مرداس (الأغاني، ١٣: ٦٤):
يَدورونَ بي في ظلِّ كلِّ كنيسةٍ
فيُنسونَنِي قومي وأهوى الكنائسا
٥٠  جاءت أيضًا في شعر عمر بن أبي ربيعة (أغاني، ٣: ٨٧):
فقلتُ أشمسٌ أم مصابيح بِيعَةٍ
بدَتْ لك خلفَ السُّجفِ أم أنتَ حالمُ
وجاء في نقائض جرير والفرزدق (ص٥٨) وكانوا يدعون كنائسهم بيت الصلاة، قال الفرزدق يمدح جبيرة بنت أبي بذال من بني قطن من نهشل اسمه بشر بن صبيح:
تَهادَى إلى بيتِ الصلاة كأنها
على الوَعْتِ ذُو ساقٍ مَهيضٍ كُسورُها
٥١  يروى هذا البيت لعبد قيس بن خفاف البرجمي (أغاني، ٧: ١٤٨).
٥٢  الصليب وممن ذكر الصليب بشر بن أبي خازم في مدحه لبني الحداء النصارى (البيان، للجاحظ، ٢: ٧١):
إذا غَدَوْا وعَصيُّ الطَّلح أرجُلُهم
كما تُنْصبُ وسْطَ البِيعَة الصُّلُبُ
وكانوا يلثمون الصليب ويمسحون أيديهم به، قال جرير (النقائض، ص٤٠٢) في بني تغلب:
رُويدَكم مَسْحَ الصليب إذا دَنا
هلالُ الجَزَى واستَعْمَلوا بالدراهمِ
يشير إلى ما وُضع عليهم من الجزية والخراج، وذكر أيضًا في محل آخَر العابدين للصليب (نقائض، ٥٠٦)، وجاء للخالدي (ياقوت، ٢: ٦٤٤) بيت في لثم النصارى للصليب، وقال جرير أيضًا (نقائض، ص٥١٠) في تغلب:
ولم تَمسحِ البيتَ العتيقَ أكُفُّها
ولكنْ بقُربانِ الصليبِ تَمسَّحُ
وكذلك كانوا يزينون صدورهم بالصليب، قال عبد الله بن العباس الربعي في فتاة (الأغاني، ١٧: ١٢٩):
كمْ لثمتُ الصليبَ في الجِيدِ منها
كهلالٍ مُكلَّلٍ بشُموسِ
٥٣  يُرْوى بيتُه في الأغاني (٧: ١٣٨) مع بعض اختلاف في الرواية.
٥٤  راجع ما جاء في ذكر النواقيس في ليتورجية ديونيسيوس برصليبي (BO. II, 178-179).
٥٥  اطلب: Goldziher: Abhhandl, z. arab. Philologie, p. 189.
٥٦  ومن ذلك قول عدي بن زيد المذكور آنفًا، ومثله لجرير (نقائض، ٩٥٦):
قناديلُ صُبحٍ في كنيسةِ راهبٍ
وقال جواس بن حِياضٍ وهو القعطل بن الحارث الكلبي، وله شعر في وقائع مرج راهط، قال (تاريخ ابن عساكر، ٣: ٤١٤):
وأعرضتُ للشِّعْرى العبورِ كأنها
مُعلَّق قنديل بوسط الكنائسِ
وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق عن زين الكنائس ما نصه (٣: ٢٣٤): «وكانوا يزينون الكنائس بالرخام والفسيفساء، قال الحارث بن النمر وشهد يوم اليرموك»:
وتَعطَّلتْ منهم كنائسُ زُخْرفتْ
بالشام ذاتُ فسافسٍ ورُخامِ
وقال في إرشاد الطالبين (ص٣): «وكانوا يعلقون في كنائسهم بيض النعام كما روى ميمون بن مهران عن نصارى نجران»، قلنا: وهي عادة جارية في كنائس الشرق إلى يومنا يشيرون بالبيضة إلى موت المسيح ودفنه في القبر وقيامته، وبالنعام إلى عناية الكنيسة بأبنائها (راجع: المشرق، ٩، ١٩٠٦م، ٣٤٥).
٥٧  قال تميم بن مقبل العامري يصف كنيسة النبط النصارى (جمهرة أشعار العرب، ١٦١):
من مُشْرفٍ لَيطُ أنياطِ البلاط بهِ
كانتْ لساسته تُهدَى القرابينا
صوتُ النواقيس فيه ما يفرطُه
أَيدِي الجُلاذي وجونٌ ما يُغَضِّينا
راجع أيضًا: معجم البكري (ص٣٧١)، وعلى رأينا أن ما يُرْوى في كتب الحديث عن إكرام الخُبز إنما أريد به سابقًا القُربان، فمن ذلك في صحيحي مسلم والبخاري وفي جامع الصغير للسيوطي: (١) أَكْرِموا الخبزَ فإن الله أكرَمه فمن أكرم الخُبز أكرمه الله. (٢) أكرِمُوا الخُبزَ فإن الله أنزله في بركات السماء وأخرجه من بركات الأرض. (٣) أكرِمُوا الخبز فإنه من بركات السماء والأرض، من أكل ما يسقط من السُّفْرة غُفِر له.
٥٨  قال ياقوت في معجم البلدان (٢: ٥١١): إن هذه الأبيات تُرْوَى للأقيشر اليربوعي.
٥٩  قال شارح ديوان علقمة (وهو يروي: عَتَّقَها لبعضِ أحيانها حاشيةٌ حُومُ) «أي أعدَّها لفِصْح أو عيدٍ يريد خمر القُربان.»
٦٠  روى الجاحظ في البيان والتبيين (٢: ٧٢) لوائلة السدوسي قوله:
لقد صَبرَتْ للذُّلِّ أعوادُ مِنبَرٍ
تقومُ عليها في يديك قَضيبُ
٦١  راجع: مقالة للمستشرق بكر (C. H. Becker) عنوانها المِنْبر عند قدماء العرب (Orient. Stud. Theod. Noeldeke. t. 1, 331–351).
٦٢  راجع: المعرب للجواليقي، ٣٧، ed. Sachau؛ وكتاب فرنكل (Fraenkel: Aram. Fremdw. in arabischen, p. 269).
٦٣  اطلب: كتاب نولدك: Neue Beitræge z. Semit. Sprachwissenschaft.
٦٤  لعلهم أرادوا به مَقام الراهب تحت ظُلَّة الشجر كما قال الراعي (ياقوت ٤: ٥٠١):
وسربِ نساءٍ لو رآهن راهبٌ
له ظُلَّة في قُلَّةٍ ظَلَّ رَانِيا
٦٥  وممَّن ذكر السعانين ابن رامين يصف سكارى متفكهًا (أغاني، ١٣: ١٣٠):
إذا ذَكرْنَا صلاةً بعدما فُرِضتْ
قُمنا إليها بلا عقلٍ ولا دينِ
نَمشِي إليها بِطاءً لا حِراكَ بنا
كأنَّ أرجُلَنا تقلعنَ مِن طينِ
نَمِشي وأرجُلُنا عُوجٌ مَطارِحُها
مَشْي الإوَزِّ التي تأتِي من الصِّينِ
أو مشي عميانِ ديرٍ لا دليلَ لهم
إلا العصيَّ إلى عيدِ السَّعانينِ
٦٦  وقد أجاد حسان بن ثابت بمدحه ملوك غسان النصارى وبوصفه حفلات فصحهم قال (الأغاني، ١٣: ١٧٠):
قد دَنا الفِصْحُ فالولائدُ يَنظِمْـ
ـنَ سِراعًا أَكِلَّةَ المَرْجانِ
يَتبارَينَ في الدعاء إلى الله
وكلُّ الدُّعاءِ للشيطانِ
ذاكَ مغنًى لآلِ جَفنةَ في الديـ
ـرِ وحقٌّ تَطرُّفُ الأزمانِ
صلواتُ المسيحِ في ذلك الديـ
ـرِ دعاءُ القِسِّيس والرُّهبانِ
قد أراني هناك حق مَكينٌ
عند ذي التاج مَقعدي ومكاني
٦٧  وفي فصيح ثعلب (ص١٠٥) «تَنهَّس النصراني وتَنحَّس.»
٦٨  ومما ورد أيضًا من أسماء أعياد النصارى في كتب اللغة (اللسان، ٣: ١٢٥) السِّمِلَّاج، قالوا: إنه عيد من أعياد النصارى ولم يزيدوا، وذكر في الأغاني (١٧: ١٣٤) لعبد الله بن العباس الربعي أبياتًا ورَد فيها ذكر عدة أسماء لأعياد النصارى:
يا ليلةً ليس لها صبحُ
وموعدًا ليس له نُجحُ
مِن شادنٍ مَرَّ على وَعْدِه
الميلادُ والسُّلَّاقُ والدِّنحُ
وفي السَّعَانِينِ لو حَماني بهِ
وكان أقصى الموعدِ الفِصْحُ
٦٩  قال في التاج في مادة «شمعل» الشَّمْعلة قراءة اليهود في فِهْرِهم إذا اجتمعوا، والمُرجَّح أن أصل هذه اللفظة من السريانية سمعل بمعنى زَهدَ وتَنسَّك، فيكون المُشْمَعِلُّ الراهب في قول أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت يمدحُ عبد الله بن العجلان (ياقوت، ٢: ٥٢٦):
له داعٍ بمكةَ مشمعلٍّ
وآخَرُ فوقَ دَارته يُنادي
٧٠  اطلب: المجلة الآسيوية الألمانية (ZDMG. XXIX, 639 et XLVI, 44).
٧١  من ملابسهم البُرْنُس، قال في تاج العروس (٤: ١٠٨): «البُرْنُس قَلَنْسوة طويلة، أو هو كل ثوب رأسه منه ملتزق به، دراعة كان أو جبة أو منظرًا، وكان رهبانهم يَلبَسون البرنُس.» قال جرير في نقائضه يهجو الأخطل (ص٩٠٣):
لَعنَ الإلهُ مَن الصليبُ إلهُه
واللَّابِسينَ بَرانسَ الرُّهبانِ
وقال الفرزدقُ يهجو جريرًا (ص٢٧٧):
وابنُ المراغةِ قد تَحوَّل راهبًا
مُتبرْنسًا بتَمسكُنٍ وسُؤالِ
أي صار يلبس البُرْنُس كما يلبسه الرهبان؛ أي قد تَنصَّر ليأخذ منهم شيئًا.
٧٢  ومنه قول جرير (نقائض، ٥٣٧):
كأنَّ دِيارَ الحي مِن قِدَم البِلَى
قراطيسُ رُهبانٍ أحالَتْ سُطورها
أحالت؛ أي أتى عليها حَوْل فتَغيَّرت، وقال المرار الفقعسي (المفضليات، ص٧٤٣):
عَفَتِ الدِّيارُ غيرَ مثلِ الأنقُسِ
بعدَ الزَّمانِ عرفتُه بالقَرْطَسِ
٧٣  وورد في شعر جرير (نقائض، ١٠٣):
أَجدَّك ما تَذكَّرُ أهلَ وادٍ
كأنَّ رسومَها ورَقُ الكتابِ
٧٤  روى ياقوت (٤: ٤٢٢) لعَبَّاد بن عوف المالكي قوله:
لِمَن ديارٌ عَفتْ بالجزع من رقم
كما يُخَطُّ بَياضُ الرَّقِّ بالقلمِ
٧٥  من هذا الباب ما روى في المفضليات (ص٦٩٨):
كتابُ مُحبِّرٍ هاجٍ بَصيرٌ
يُنمِّقُه وحاذَر أن يُعابَا
وروى ياقوت للقَتَّال الكلابي (٢: ٣٦٤):
تُنيرُ ونسْدِي الريحَ في عرصاتها
كما نَمنمَ القرطاسَ بالقلم الحَبْرُ
٧٦  جمعها دوًى ودوي، قال أبو ذؤيب (اللسان، ١٨: ٣٠٦):
عرفتُ الديارَ كخَط الدَّويِّ
حَبَّرَه الكاتبُ الحِمْيري
٧٧  منه قول عبد الله بن غنمة (المفضليات، ٧٤٣):
فلم يَبقَ إلا دِمنةٌ ومنازلٌ
كما رُدَّ في خطِّ الدَّواةِ مِدادُها
وروى هناك لعدي بن الرَّقَّاع قوله يصف ثورًا:
تُزْجِي أغنَّ كأنَّ إبْرَةَ رَوْقِه
قلمٌ أصابَ مِن الدَّواة مِدادَها
٧٨  روى ياقوت لمنظور بن فروة في وصف آثار دارٍ:
كأنَّها بعدَ سِنين خَمسِ
خطُّ كتابٍ مُعجَمٍ بِنَقْسِ
وروى لأبي زياد الكلابي (٤: ٩٧٥):
أشاقَتْك الديارُ بِهَضْب حَرْسٍ
كخطِّ مُعَلِّم ورقًا بِنقْسِ
٧٩  هذه اللفظةُ أصلها من العبراني ןארא معناها الصندوق (J. As. 1836b, 282).
٨٠  وقد مر معها ذكر الناموس (ص٢١٤) وهي يونانية νομός، ومعناها الشرع، وقد ورَد ذِكرُها في الشعر العربي بمعنى الشرع المسيحي، جاء في حديث ورقة بن نوفل (في الأغاني، ٣: ١٥): «لَيأتِيه الناموسُ الأكبرُ ناموسُ عيسى ابن مريم.»
ومن الألفاظ القرآنية التي سبَقتِ الإسلامَ لفظةُ الأبابيل، جاء في سيرة الرسول، لابن هشام (ص٥٩٨)، لأُمَيَّة بن أبي الصَّلْت:
حولَ شَياطينِهم أبابيلُ
رِبِّيُّون شَدُّوا سنَّورًا مَدسُورَا (كذا)
٨١  جاء في نقائض جرير والفرزدق (ص١٠٤١) في رثاء جرير للأخطل:
وتبكي بناتُ أبي مالكٍ
بِبوقِ النَّصارى ومِزمَارِها

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤