عالم غريب!
في المساء ذهب الشياطين الثلاثة مرة أخرى إلى ميدان «مادراس» … كانت حركة المرور على أشُدِّها … خاصة من راكبي الدراجات الذين يعدون بالألوف … وطلب «أحمد» من «رشيد» أن يبقى خارج المحل للمراقبة … بينما اتجه مع «بو عمير» إلى شارع «لال» …
استقبلهما رجل نحيل القامة … لامع العينين … يغطي أصابعه بالخواتم الفضية … في وجهه أثر جُرح غائر يكاد يقطع خدَّه إلى نصفين.
قدَّم نفسه قائلًا: خادمكما «سنج»!
قال «أحمد»: إن «ماهاويلي» يبلغك سلامه.
أحنى الرجل رأسه في خضوع شديد ثم نظر حوله مرارًا … كان المحل يشبه سردابًا طويلًا، على جوانبه الواجهات الزجاجية التي تحوي الصخور الطبيعية الملونة … وقد غطَّى الزجاج بها عشرات من أنواع الأحجار الكريمة …
لم يكن هناك إلا رجل آخر في نهاية المحل، يجلس أمام الخزينة، وكان منهمكًا في استخدام «حاسب إلكتروني» صغير … من خلفه ستائر حمراء ثقيلة … كان المكان كله يعبق برائحة البخور … ويلفه جو من الغموض المثير … أشار لهما الرجل أن يتبعاه … فمرَّا داخل المحل، ثم فتح الرجل الستائر الحمراء، ومضى أمامهما في ممر مظلم عُلقت على جُدرانه أنواع من الأسلحة البيضاء غالية الثمن … ونزلا بضع درجات … ووقفا أمام باب دقَّه «سنج» برقَّةٍ ثم تركهما يدخلان، واختفى.
وجدا نفسيهما في غرفة واسعة مزدحمة بعشرات الأشياء … مضاءة بنور خفيف، وفي نهايتها مكتب ضخم جلس إليه رجل ضخم أيضًا، غزير شعر الرأس واللحية والشارب … حتى لا يبدو منه غير أنفه المعقوف، وعيناه السوداوان …
قال الرجل: مرحبًا يا صاحبي!
رد «أحمد»: مرحبًا.
الرجل: فهمت أنكما تعرفان «مهاويلي»!
أحمد: نعم!
الرجل: وماذا أيضًا؟
أحمد: معي رسالة إلى «مهارشا»!
ومد «أحمد» يده بالرسالة إلى الرجل … الذي فتحها وأخذ يقرؤها بعناية ثم قال: عظيم … والآن، ماذا أستطيع أن أقدِّم لكُما؟
أحمد: كمية من البضاعة!
أخذ الرجل يعبث بشاربه لحظات ثم قال: كم معكما؟
أحمد: لا نملك شيئًا … ولكن طُرقنا في مصر سالكة … ففي إمكاننا الدخول بالبضاعة وتوزيعها!
الرجل: وكيف تعود النقود؟
أحمد: لنا عملاء يمكنهم تحويل أي مبلغ إليكم هنا.
عاد الرجل يعبث بشاربه، وهو يرمقهما من تحت جَفنين ثقيلين، ثم مد يده إلى جهاز التليفون، وأدار ظهره حتى لا يرى «أحمد» و«بو عمير» الرقم الذي طلبه، ثم تحدث سريعًا باللغة الهندية … وسمعا كلمة «مهاويلي» تتردد مرات، ثم وضع الرجل السماعة، وقام واقفًا وقال: هيا بنا.
•••
كانت مفاجأة ﻟ «أحمد» و«بو عمير»؛ لأن «رشيد» كان في انتظارهما بالخارج، ولكن الرجل لم يُضِع وقتًا؛ فتح بابًا خلفه وسار معه وأخذ الدهليز الذي ساروا فيه يصعد تدريجيًّا حتى وصلوا إلى «جراج» مُغلق، اصطفت فيه بضع سيارات وسرعان ما سمعوا صوت محرك يدور، ثم أقبلت ناحيتهم سيارة ضخمة من طراز «مرسيدس ٤٥٠» من طراز قديم، وركب الرجل بجوار السائق وأشار ﻟ «أحمد» و«بو عمير» فركبا في المقعد الخلفي، ثم انطلقت السيارة ناحية باب «الجراج» الذي فتحه أحد الحراس، وغادرت السيارة الجراج إلى طريق جانبي ساكن ثم خرجت إلى الميدان.
انطلقت السيارة في زحام المدينة نحو ساعة، ثم بدأت طريقها وسط المزارع الكثيفة حول «مادراس» وانطلقت كالوحش في طرقات مظلمة تحفُّها الأشجار واستمرت تسير بسرعة عالية حتى وصلوا إلى شاطئ المحيط … ونزل الرجل وقال: هيا.
نزل الصديقان، ودخل الرجل إلى طريق جانبي أدى إلى مرسى صغير، وقفت فيه ثلاثة زوارق، بدت كأشباح خرافية بلونها الأسود، ومشى الثلاثة على ممر خشبي ودخلوا أحد القوارب … وألقى الرجل ببعض التعليمات باللغة الهندية، وسمع الصديقان صوت محرك الزورق يدور، ثم ينطلق ولكنه لم يخرج إلى المحيط، بل اتخذ طريقًا حلزونيًّا بين مجموعة من الجزر ثم انحرف داخلًا إلى قناة لا يكاد أحد يستطيع رؤيتها من الخارج، وسار فيها مسافة طويلة ثم توقَّف عند نهايتها … وعلى ضوء المشاعل الكثيرة التي كانت مشتعلة في المرسى الصغير الذي توقَّفوا فيه لاحظَ الصديقان عددًا من الفيلة الضخمة تقف بالقرب من الشاطئ تحت الأشجار …
أسرع عدد من حُرَّاس الفِيَلة بالتقدُّم بفيلين ضخمين أشار الرجل إلى أحدهما وقال: اركبا.
وساعد الحرَّاس «أحمد» و«بو عمير» على ركوب الفيل، وعندما أصبحا فوقه همس «بو عمير» في أذن «أحمد»: ما هذا؟
أحمد: إجراءات أمنٍ … إنها عصابة رهيبة!
بو عمير: ما يقلقني هو «رشيد»!
أحمد: سينضم إليه «عثمان» بعد ساعات، وقد نجد وسيلة للاتصال.
بو عمير: لا أعتقد أن هناك أية وسيلة اتصال في هذا المكان المنعزل!
سار الفيل يتبع الفيل الأول في مدقات داخل غابة كثيفة … وكانت أصوات حيوانات الغابة ترتفع كلما اقترب الفيل من عُشِّ طائر من الطيور … أو من شجرة عليها قردة … وكان صوت زئير النمور، يهدر بين حين وحين … وأحس الصديقان أنهما دخلا عالمًا لم يمر بهما مثله من قبل … عالم لا يمكن الفكاك منه …
ووصل الفيل إلى منعطف كبير، وبدأت الأشجار تخف نسبيًّا، وشاهدا أضواءً كهربائية ضعيفة تظهر بين الأشجار معلَّقة في ارتفاع بيت كبير …
توقف الفيل خلف الفيل الأول … ثم مشى الصديقان خلف الرجل في ممرٍّ طويل نصف مُضاء … تحيطه أشجار جوز الهند … ثم وصل الجميع إلى ساحة واسعة في وسطها قصر غريب المنظر مبني من الخشب، ومطليٌّ باللون الأحمر القاني وحوله رجال مسلَّحون.
صَعِدوا الدرجات الخشبية … وفُتح باب القصر … وهبَّت رائحة البخور القوية تملأ المكان.
أشار الرجل إلى مقعدين في الصالة فجلس «أحمد» و«بو عمير» بينما اتَّجه الرجل إلى باب في جانب الصالة دقَّه، ثم دخل وأغلق الباب …
أخذ الصديقان يتأملان المكان … كان مؤثثًا على الطريقة الهندية … بالوسائد الحريرية والمقاعد الخشبية والتماثيل الضخمة، وقد عُلِّقت على جُدرانه أنياب الفيلة، ورءوس النمور المحنَّطة وجلودها … وكانت السيوف الفضية، والذهبية، والخناجر المخيفة تلمع على الجُدران … وسمعا حركة ما … وصوت أقدام ثقيلة يأتي من دهليزٍ في أحد جوانب الصالة … وظهر نمران ضخمان تلمع عيونهما الذهبية، وكان أحد الحراس يمسك بلجام من الجلد ويسير خلفهما … نظر النمران ناحية «أحمد» و«بو عمير» وأطلقا صوتًا خافتًا مثل صوت الرعد المكتوم.