إشاراتٌ وهوامش

بعد انتهاء حربِ الخليج الثانية ١٩٩١م، بدأتُ بجمع المادة اللازمة لكتابة عملٍ أو نص ملحمي للمشهد الذي خلَّفته الحرب، وللخراب الذي أصاب العراق. وشرعت في ذلك العام بكتابة بعض مقاطعه. وفي منتصف ١٩٩٣م، انتهيتُ من الكتابة النهائية لهذا النص المفتوح الذي أسميته «حيَّة ودرَج»، وهو اسمْ للعبةٍ شعبية كان يمارسها الصبيان في العراق على ورقةٍ مقسَّمة إلى مائة مربَّع تتخللها ثعابينُ وسلالم، ويتنافس فيها لاعبان للوصول إلى رقم ١٠٠ بعد اجتياز الأفاعي والاستعانة بالسلالم. وقد أوحتْ لي هذه اللعبة أنَّ البلد تحوَّل إلى أفاعٍ تُنزل الناس إلى الهاوية، وإلى سلالمَ تصعد بهم في لحظةِ حظٍّ إلى الأعلى. كانت هذه اللعبة تمثِّل شكلًا ما لمَا يحصل في بلدٍ تدجَّج بكلِّ هذا التاريخ المأساوي. وكنتُ قد غلَّبت العفويةَ على الصنعة والشعبيةَ على الأصولية في اللغة، وجعلت من الأسطورة شحنةً باطنية للعمل، وترادف العمل بين قيعان ذاتية ومسارح جماعية للحدث الرهيب.

في ٤ / ٨ / ١٩٩٣م قرأتُ العملَ لأول مرة لصديقي الشاعر منصور عبد الناصر، وبعدها بشهرٍ قرأتُه لأصدقائي الشعراء (حكمت الحاج، هادي القزويني، عبد الواحد طه، خالد البابلي، حسين السلطاني، ركن الدين يونس) في أوقاتٍ متفرِّقة.

وفي ٧ /٢ /١٩٩٤م قرأتُ العملَ لصديقي الشاعر رعد عبد القادر، والمترجِم سمير علي، وكانت زوجةُ الشاعر رعد عبد القادر القاصَّة «إلهام عبد الكريم» حاضرةً في سهرةٍ عائلية في بيتي.

وفي ٩ و١١ /٢ /١٩٩٤م قرأتُ العمل للشعراء حسن النواب، ومحمد تركي النصار، وكريم الزيدي.

وفي ١١ /٤ /١٩٩٤م قرأتُ العمل كاملًا، وعلى مدى ثلاث ساعات متواصلة، في أمسيةٍ في مدينة العمارة على أثر استضافةٍ لي من أدباء ميسان في قاعة اتحاد النساء في ميسان، وقدَّمني في الأمسية الشاعر نصير الشيخ.

وفي ٢٣/ ٤ /١٩٩٤م قرأتُ العمل في «نادي الشِّعر» في اتحاد الأدباء والكتَّاب في بغداد أمام جمهور محتشِد بالأدباء والشعراء.

بسببٍ من طبيعة العمل وغرابته؛ أصبح العمل مشهورًا، وكان الأصدقاء يطلبون منِّي نشرَه، لكنَّ كلَّ الصحف والمجلات العراقية رفضتْ نشرَ ورقةٍ واحدة منه آنذاك؛ لأنه كان يسبِّب لهم الذُّعر. ورفضتْه مجلاتٌ مثل الأقلام بحُججٍ واهية.

وفي بداية عام ١٩٩٥م، قرأتُ جزءًا من العمل في رابطةِ الكتَّاب الأردنيين في عمان، وقدَّمني في الأمسية القاصُّ والروائي المرحوم مؤنس الرزاز، ثم أعطيتُ العمل كاملًا للشاعر عدنان الصائغ (وكان يعمل في مكتب سعد البزاز)؛ أملًا بنشره في منشوراتِ «سعد البزاز» التي كانت قد بدأتْ للتوِّ الظهور بمنشوراتها العراقية، وقد بقي العمل أكثرَ من ستة شهور عند عدنان الصائغ، ثم فاجأني بأنه كتَبَ نصًّا طويلًا وطلب مني أن أطَّلِع عليه. وقد هالني ما كتَبَ عدنان؛ فهو لم يكتب طوالَ حياته قصيدةَ نثرٍ واحدةً ولا نصًّا نثريًّا طويلًا، وكان مضمونُ نصِّه الجديد الذي كان اسمه «نشيد أوروك» هو الحرب وما خلَّفته. وبأسلوب قريبٍ من «حيَّة ودرَج» فطلب مني أن أكتب كلمةً عن العمل؛ فرفضتُ وتعجَّبتُ من جُرأته، إذ لم أستطع أن أتحدَّث معه عن الأمر، فكيف يطلب مني ذلك. فنشَرَ نصَّه في كتابٍ واحد بعد وقت، بينما سحبت الذي أدركتُ استحالةَ نشره بعد ما حصل، وأنِّي لشديدُ الخجل من ذِكر حادثةٍ سابقة مع صديقٍ شاعر في بغداد، ذكرتُ اسمه في التواريخ السابقة، والذي سارَعَ لكتابة نصٍّ شبيه بحيَّة ودرَج، لكني صارحتُه بالأمر فاعترف ووعَدَني بعدم نشره قبل أن أنشُرَ عملي؛ فطلبت منه ألَّا ينشره أبدًا؛ لأن ذلك يعدُّ بمثابة السرقة.

إنني شديد الحرص على أن أُثبت هذه التواريخ، وقد فاتَنِي الكثير غيرها (مثل قراءتي للعمل في ١٩٩٤م في بعقوبة، وفي الحلة، وفي الإسكندرية وغيرها)؛ لسبب بسيط جدًّا هو أنَّ هذا العمل منذ يومِ إعلانه في عام ١٩٩٣م، وحتى هذا اليوم يتعرض إلى سرقات وانتهاكات لا حصرَ لها. وحتى عندما نشرتُ بعضَ مقاطع منه في جريدة «الأديب» الأسبوعية، في عامَي ٢٠٠٤-٢٠٠٥م، لاحظتُ أن هناك بعض النصوص التي نُشرت لشعراء قد وقعتْ في المشكلة ذاتها. وهنا لا بد من الإشارة إلى نصَّين محدَّدين لشاعرَين من بابل والموصل.

أعترف أني أخطأتُ في عدم نشري للعمل عام ١٩٩٣م أو بعده، وأعترف أن العمل ما زال بالنسبة لي واحدًا من أهمِّ أعمالي الشعرية إنْ لم يكُن أهمَّها. ولكني اليوم أضع هذا العمل بين يدي القارئ وأنا على ثقةٍ أنه سيشعر بنبضِ زمن كتابته؛ لأن في ذلك ضرورةً لا بد منها رغم أن البلاد ما زالت تعيش مخاضًا أشدَّ صعوبةً من تلك الأيام.

•••

في «حيَّة ودرَج» لجأتُ إلى أسلوبٍ جديد في النَّص المفتوح؛ انطلاقًا من فكرة تعدُّد الأساليب الشعرية التي أصبحت فكرةً تلازِم تجربتي الشعرية وتصوُّري عن التجريب الشعري؛ فالتجريب الشعري يعني — فيما يعنيه — الانتقال من تجربةٍ لأخرى، وهو يعني عدم الثبات والاستقرار، وهذا ما يتطابق مع فكرة تعدُّد الأساليب الشعرية. لقد كان، وما زال، المفهوم الشائع عن التجريب الشعري، على أنه الاشتغال (بنوعٍ من التطرف) في تصعيدِ آليةٍ معيَّنة، ومحاولةُ جعلِ هذه الآلية مركزًا للعمل الشِّعري، وتجاوزًا لمَا يطرحه النَّص من مضامينَ وأفكارٍ وأهدافٍ … إلخ.

إننا إذا نقلنا فهمنا للتجريب الشعري من مركزه في نصٍّ معين إلى مجمل نصوص الشاعر وتجاربه؛ فإننا سنوسِّع ولا شك دائرةَ التجريب الشعري، وسنجعله رديفًا للتعدد الشعري.

إذن، كان الدافع الفني لكتابة نصٍّ شعري جديد بعد «عكَّازة رامبو» موجودًا في فكرة التعدد الشعري، أمَّا الدافع الذاتي فهو الألم المريع لمَا حصل، أمَّا الدافع الموضوعي فلا شك أن ما تَبدَّل في حياتنا بعد الحرب كان كبيرًا وصارخًا وعنيفًا، حتى إنه يُلقي علينا سؤالًا يوميًّا: هل سنبقى نكتب بالطريقة ذاتها؟

اجتمعتْ هذه الدوافع الثلاثة في سياقٍ واحد، كان هاجسه كتابةَ نصٍّ شعري جديد … وكانت الخطة تقتضي جمعَ المادة الخام أولًا من الحياة اليومية، ثم فتح سراديب ومخابئ الحياة الروحية التي تنبض في الأعماق دون خوفٍ أو وجَل … ثم اختيار الطريقة الجديدة التي يجب العمل بها، وهذا أصعب الأمور.

وبعد مرحلتَي الحياة اليومية على مدى سنتين بعد الحرب، والحفر المتصل في الحياة الروحية؛ وجدتُ أن في هذين السبيلَين تكمُن طريقةُ كتابة العمل الجديد؛ فهما يتضمَّنان هبوطًا وارتفاعًا مريعين للحياة عن استرخائها الأفقي. خطرتْ في بالي لعبة «الحيَّة والدرَج» الشعبية فوضعتُها ظهيرًا لكتابة النَّص … وأصبحتْ طريقةُ اللعب شكلًا للنَّص … وقلتُ: حقًّا، إنَّ حياتنا عبارةٌ عن «حيَّة ودرَج»؛ فالصعود والهبوط في مثل هذه الظروف هو القانون الذي يحرِّك حياتنا.

تتضمَّن لعبة الحيَّة والدرَج آفاقًا هائلة للتعبير عن حركة يوم أو سنة أو عُمرٍ بأكمله … ثم إنَّ كتابة نَص شعري على أساس لعبة شعبية أمرٌ فيه الكثير من الجدَّة والطرافة والحيوية؛ فقررت أن أدخل اللعبة وألعبها مع نفسي وأكون في الوقت نفسه «اللاعبَ والغريم»، أو أدَع القدر يلعب معي وأكون اللاعب الذي تحركه حركة نرد تقتضي أن يكون رقم ١ هو نقطة الانطلاق … ورقم ١٠٠ هو الغاية أو الهدف. عليَّ إذن أن أتحرَّك في رحلةٍ عمادها يومٌ واحد حقيقتها عمرٌ كامل … فتظهر أمامي التفاصيل، ويلتحم الذاتي بالموضوعي لدرجة الانصهار ببعضهما … وأثناء الرحلة أجِدُ الحيَّات التي تمثِّلها الكوارث، والأمراض، والحروب، والأقبية، والأخطاء، والشرور، والجحيم، والعالَم الأسفل، والمقابر؛ وأجِدُ الدرجات (الدُّروج) التي يمثِّلها الطيران، والحلم، والخيال، والاتصال بالماضي، والجنة، والسماء، والمعراج، والأفراح، والنشوة، والصعود، والشفاء، والإكسير، والجمال.

وهكذا تضمَّن النَّص ثلاثَ حركات:

  • (١)

    الحركة السُّفلية، وهي حركة الأفعى التي تبلغ إلى المغاوِر وهي سبعُ حركات؛ أيْ: سبع حيَّات، وهذا ما يتناغم مع الشياطين السبعة الذين تذكرهم الأساطير العراقية القديمة عند أبواب العالَم السُّفلي السبعة.

  • (٢)

    الحركة العُلوية، وهي حركة الدرَج الذي يصعد بالإنسان إلى أعلى وهي سبع حركات، وقد يتناغم مع الطبقات السبع للسموات والكواكب السبعة وغيرها.

  • (٣)

    الحركة الأفقية وهي الحركة التقليدية … حركة المشي العادي أو المشاهدة اليومية للأحداث … حركة الواقع وهو ينبض بما فيه وما في أعماقه خالطًا ظاهرَه بأعماقه، وتلتمع على سطحه الأساطير العراقية القديمة مشعَّةً حارقةً، حيث لا نعرف الحقيقة وأيهما الأسطورة وكلاهما وجهٌ للآخَر … وعدد هذه الحركات في النَّص ١٤ حركة تتخلَّل حركاتِ الحيَّة وحركاتِ الدرَج.

وهكذا يتكوَّن النَّص من ٢٨ حركةً، وهي عدد الحروف الأبجدية العربية. تستهلها مقدمةٌ قصيرة بمثابة الهمزة، وتختمها فقرةٌ قصيرة بمثابة النقطة الأخيرة للنَّص.

يبدأ النص بخروج الشاعر من بيته، في رقم ١ على لعبة الحيَّة والدرَج ذاتَ صباح، وينمو العمل بالحركات الثلاث المتكرِّرة (الحية، الدرَج، المشي)؛ حتى تصل الحركة ما قبل الأخيرة إلى آخِر نقطةٍ في آخِر الليل وهو الرقم ٩٨، ويدرك الشاعر، وهو ثمِلٌ ويخوض الحوارات مع الذين حوله، أنَّ مجيء القدَر بنقطتَين (النرد) وهو يحمل «دو» سيخلِّصه نهائيًّا وسيصل إلى هدفه (الرقم ١٠٠). لكنَّ القدَر يرمي بالنرد فيظهر النردُ بنقطةٍ واحدة (يك)؛ فتبتلعه حيَّةٌ طويلة كبيرة تمتدُّ من الرقم ٩٩ إلى الرقم ١ حيث يعود إلى بيته. وتمثِّل الحية الطويلة هذه الشوارعَ آخِر الليل وهو في سيارة الأجرة، حيث تمتد الشوارع مثل حية طويلة ملتفَّة، ويبدو أن لا سبيل للخلاص أو الوصول إلى الرقم الأخير أبدًا. وفي البيت يحكي لابنته الصغيرة قصةَ الرجل الذي ظلَّ طول عمره يصعد الدرجات، وتبلعه الحيَّات دون فائدة، حتى بلعتْه حيةٌ كبيرة وعاد إلى القبر، وتختلط هنا صورةُ البيت بالقبر. هذا هو الشكل الذي كتبتُ النصَّ على أساسه. أمَّا اللغة التي كُتب بها النص فيمكنني أن أقول: إنَّه تضمن ثلاثةَ سياقاتٍ لغوية وهي:

  • (١)

    اللغة الشعبية، وهي اللغة السائدة والتي تتشكَّل بعفويةٍ وتلقائية، دون الاكتراث الدقيق بتجذيرها اللغوي الفصيح؛ فهي لغة الشارع والناس والحوارات العابرة، ولكنَّها بالتأكيد لا تنحدر إلى المستوى الشعبي الرثِّ.

  • (٢)

    اللغة الأسطورية، حيث تقفز لغةُ الأساطير السومرية والبابلية بين كُتل اللغة الأُولى، وتمتزج معها وتشكِّل الواحدة الأخرى كأنهما توءمان، وتُلمح في النَّص كِسَر الأساطير العراقية القديمة وهي متناثرةٌ ومعادة الصياغة أحيانًا.

  • (٣)

    اللغة الإيروسية: وهي لغةٌ حية تفتحها الحواس البشرية على هذا المشهد الشعبي الأسطوري، وتطري أحداثه … هذه اللغة تُتشرَّب في أخاديد النَّص وتلتمع هنا وهناك.

تتضافر هذه اللغات الثلاث في الْتحامٍ وامتزاج؛ لتشكِّل لعبةً وحياةً وواقعًا وذاتًا وموضوعًا وغورًا في الماضي والحاضر.

إن التوتر الذي تُحدِثه اللغة مع الأحداث يمكن أن نلمسه في حقيقةِ أنَّ هذه الاحداث تأتي مرةً على لسان الشاعر، ومرةً على لسان امرأة، ومرةً على لسانِ الراوي، ومرةً على لسان الغائب، ومرةً على لسان الجماعة.

هذا العمل هو خلطةُ جوقاتٍ وأعمال وأساطير وأرواح وأمزجة ووقائع مريرة. لا أستطيع أن أقول إنه ينتمي لأحد أعمالي السابقة مطلقًا؛ فهو نفيٌ لها من حيث هو تصعيد للجوانب المهمَلة فيها.

النَّص، إذن، هو نصُّ لعبةٍ مفتوح، وهو يبدأ بالتمهيد لهذه اللعبة بظهور الشاعر الذي هو محور العمل واللعبة بصورةِ «مهندز» يحمل حقيبةً فيها شيءٌ غير معروف، فيلمحه أصدقاؤه الشعراء والفنانون وهو يخرج حاملًا هذه الحقيبة ويدور بينهم سِجال طويل حول ما يحمله في حقيبته كمؤشِّر على غموض أهداف هذا الشاعر وما كان يتركه بين أصدقائه من حيرةٍ وجدل، لكنَّ إجاباتهم تشي برغباتهم وخصوصياتهم هم. أمَّا آخِر صديق له وهو مجهولُ الاسم وغامضُ الشخصية؛ فهو الذي يرمي النرد لتبدأ لعبةُ الحيَّة والدرج.

في بداية اللعبة، هناك ما يشير إلى وجوده في بيته وهو يستيقظ صباحًا من نومٍ في القرون الوسطى، التي هي القرون التي تمثِّل مزاجه وذوقه الثقافي والروحي، فهو يعيش فيها متأملًا تضاريسَها الروحية والفنية والأدبية والشعرية، ولذلك تبدو مثل الليل الذي كان نائمًا فيه ثم يسرد نسله الذي يمتدُّ لآدم، متأملًا ظهور الخبز في المعابد والكتب في الجوامع والآلهة في الماء، فيما مضى عندما انفطرَت المِرآة وتبعثر مشهد المضاجعة … فيما مضى عندما ظهرتْ أمراض النهار وأمراض النحيب، ولبس الناس ملابسَ سوداءَ، وقصُّوا شعور رءوسهم على شكل طرَّة سوداء حُزنًا على ديموزي. فيما مضى عندما حزنوا عليه ودقُّوا الدفوفَ والزناجيل على ظهورهم، فيما مضى عندما كانوا يلطمون جماعاتٍ جماعات على موت ديموزي وعطشه.

وتظهر الأم الخصيبة في شكل عشيقةٍ له فهي الخاتون وهو المضنى بجسدها، ويرمز هذا إلى العصر الفردوسي الذي كان يعيش فيه الإنسان أي العصر الأمومي الذي يماثِل ظهورَ الإنسان كجنينٍ في الرحم، حيث يولد بعدها وينسى هذا الفردوس بعد الولادة مباشرة.

في أول درَج له يصعد إلى السماء تحيط به الملائكة ومربعٌ من الحواريين يرفُّون حوله، ثم يدخل هيكل إبليس وينقله من الفضاء إلى أغوار النفس أو أغوار المدينة، ويصعد من جديد ليتأمل الناس يسرقون بعضَهم ويطلبُ من نانشة (إلهة السمك والمعرفة في سومر) أن تجفِّف له الطريق لكي تصبح الحياةُ أفضل، ويدخل في حوارٍ مع شاعر اللافتات ويحتقره، ثم يراقب صعود عشتار ليستقبل ربيعًا قادمًا. هكذا تظهر لنا هذه الحركة الدرَجيَّة وكأنها انتقال بين السماء والأرض. إنها حركةُ كشفِ الأغوار الداخلية بدلالة الصعود، وتشوُّقٌ دائم للخصب، وأول معاينة لخراب بغداد بعد الحرب.

يسير الشاعر في الحركة الثالثة قُرب مخارجِ بغداد. يرى جثث المحاربين، ويلمح مجزرةً تحت أغشيةِ المدينة، فلا يرى فائدةً من الشِّعر، ويحاول أنْ يُنقذ ما يمكن إنقاذه من هذا التاريخ المنتحر المدمَّى.

يتزود الشاعر بطاقته الإيروسية من المرأة، وحواء التي تحمل في خاتمها البذور، ثم يرى في الشارع الناس، ويرى ننماخ (الأم الخصيبة) وهي تعاني من سقطِ متاع الحروب التي صنعها إنكي في لحظة سُكر، إلى موظفين فاشلين فتحاصرهم وتسجنهم تحت الأرض لكيلا يهدِّدوا الإنسان، ثم تتحول ننماخ إلى خبَّازة في زمن الحصار لتوفِّر الخبز للناس. لكنَّ الشاعر تبلعه حيَّة وتؤدي به إلى نفقِ ساحة التحرير في بغداد، الذي تحوَّل إلى مزبلةٍ ومكانٍ للخراب. وفي هذا الفصل يتماهى الشاعر مع ديموزي الذي يكون قد سقط في هذا العالَم الأسفل (ساحة التحرير)، لكنه بدلًا من أن يراه إلهًا للخضرة والوفرة والجمال، فإنه يراه بائعًا للخرز وصور الممثلات والأختام، ويربط شعره بماشاتٍ مصبوغة بالأصفر، وتحت أصابعه الوسخ. أمَّا قصته مع إنانا فتتحوَّل إلى حكايةٍ شعبية عن الحوريات، لقد تحوَّلت قوة الخصب إلى ضعفٍ مبدَّد، ثم يلمح حانة عباسيَّة يرى فيها المغنِّي «سياط» والعازف «زلزل» والناس تسكر بقوةٍ وتتداعى صورُ العالم الأسفل الموحية بالجنس الأسود، وتظهر خرز الدم على الكتب الخاصة وتسقط الكلمة ويُنفى الشعراء، لكنَّ ديموزي يكمل دورته المأساوية عندما يسقط بين يدي العسس والمخبِرين وتظهر عمَّة الشاعر وهي تندب الموتى وتُحيي مراسيم العزاء الطقسية، حيث يتذكَّرها الشاعر عندما كان يجلس في غرفته الصغيرة وينظر بخوفٍ ورهبةٍ ورغبة إلى النساء، أيام كان صبيًّا في مدينة الثورة في بغداد؛ لتظل صورة لطْمِ النساء عالقةً في وجدانه، حيث تجِد غورَها البعيد في طقوس استنزال المطر المرسومة على طبقٍ فخاري في سامراء قبل ثمانية آلاف سنة مرسومٍ عليه أربعُ نساءٍ عاريات ينثرن شعورهن نحو الشرق لتتشكل صورة الصليب المعقوف (السواستيكا)، التي ترمز في العراق القديم إلى الخصب وصلاة الاستسقاء؛ الصورة ذاتها لطْمُ النساء في باحة بيت أهله ونثر شعورهن الآن وقبل آلاف السنوات.

في الشمس الإنفلونزية الفاقعة التي تخرج نهارًا أو ليلًا يظلُّ الشاعر معذبًا بين هزات الحروب ولوعاته الجسدية … مخرِّماتُ أحلامنا الطويلة الأكفان، والفواتح مرابعنا التي لا تشيخ … ويرى في نهاية كلِّ هذا العذاب الليطَ في يده والعُملة المزيَّفة، ويرى البالوعاتِ المفتوحةَ والشوارع المحفَّرة؛ آثار اللهط على المجد. ويرى تماثيل الأقوياء تقطر دمًا ورصاصًا. أمَّا نحن فلا تماثيل لنا … ولكنها تقطر مطرًا. وفي الفصل السادس يصادفه درَجٌ يصعد به إلى عربات «نبو»، حيث يشاهد مكتبةً في الطابق الثالث، ويرى كتبًا غامضة وسريَّة ربما يكون قد كتبها هو في مخطوطاتٍ ما زالت غير منشورة، أو تمنَّى أن يكتبها. وتمثِّل هذه الكتب مجموعةَ اهتماماته المعلَنة والسريَّة في الثقافة. ويصعد فيرى البابليين الجُدد يحتفلون بعيد رأس السنة (الأكيتو)، لكنه عيدٌ مفجَع؛ حيث استولى الأعراب عليه ودمَّروه. وتستمر فصولُ حيَّة ودرج، ويشهد وفاة مهندز بغداد «الحجاج بن أرطأة»، ويطابق بين بغداد اليوم وبغداد الأمس؛ حيث يقتل السياسيُّ المبدِعَ في الاثنين، فيرثي هذا الخرابَ المتواصِل ثم ينزل في حيَّةِ الغريزة إلى الجحيم، ويطوف فيه ليعرف تضارُبَه، ويرى ثعابين الطِّب التي الْتفَّت على العصا، ويرى أبناء ليلبث التي أنجبتْ أولادَ الليل، ويرى في الشوارع الأكباد المتفسِّخة التي تسمَّى نصوصًا (في إشارةِ سخرية لمَا يُكتب في عصره من شِعرٍ تافه يكتبه مدَّاحو السلطان الجديد، ويكتبه المتشاعرون الحديثون). وفي درَجِ نوح يتصل الشاعر بنوحٍ تليفونيًّا عبْرَ سلك طويل يمرُّ عبْرَ العصور وعبر ماء الطوفان، ويُعرف منه بأنَّ أصل الناس هنا غيرُ معروف، وأنهم لم يصعدوا مع نوحٍ في السفينة، ثم يستمرُّ النَّص في صعودٍ ومشي وهبوط، حتى نصل في الفصل الثامن والعشرين إلى مربع يحمل ٩٨، ويكون الشاعر قد انتهى في جولته اليومية هذه إلى المكان الذي اعتاد أن يلتقي فيه أصدقاءه، في آخر الليل، في نادي اتحاد الأدباء في بغداد قُربَ ساحة الأندلس، وتكون الساعة قد قاربت الثالثةَ بعد منتصف الليل وهو يخوض معهم في نقاشاتٍ طويلة في الشِّعر والجمال والثقافة والحرب فيسأل: مَن … مَن سببُ الحرب؟ نايٌ بليدٌ وأعمى يعزف للماعز منذ اكتشاف الزراعة، سببُ الحروب طفولةٌ مقطَّعة وأغانٍ سوقية. لا بد لنا من الجنون كلِّه حتى نشفى. ويستنجد بالقدَر لكي يرمي نردَ اللعبة وأن تأتيه درجتان (دو)؛ لكي يصل إلى الرقم ١٠٠ ويفوز وينتهي كلُّ شيء … لا يعرف طبيعةَ النهاية، ولكنَّ كلَّ شيء يجب أن ينتهي. لكنَّ القدَر يأتيه ﺑ ١ ليقفز إلى المربع ٩٩ الذي يحمل أطول حيَّة تهبط به إلى الرقم ١ من جديدٍ، وهناك يكون بيته، فيركب سيارة الأجرة وهو مطوَّح بالتعب والسُّكر والكلام، وتخترق السيارة شوارع بغداد من ساحة الأندلس إلى مجمع حي السلام قُرب البيَّاع، وتبدو له هذه الشوارع مثل جسد حيَّة ملتوية وهي تبلعه في آخِر الليل ليختتِم بها رحلةَ يومه التي تتكرَّر كلَّ يوم بنفسِ الطريقة وبمشاهدَ مختلفة، وهكذا تظهر رمزيَّةُ الحية والدرَج كلعبةٍ خفيَّة تحت أقدامنا؛ حيث تلعب بنا أقدار النرد الذي لا نعرف مَن يرميه، وأين? ولماذا؟ … إنها أقدار العراقي المدجَّجة بالعبث والموت المجانيِّ والقسر والإلحاق والحروب والدمار والخراب والصدفة والمهانة وأمواج التاريخ المتدافِعة في شوارع الحاضر. وقبل أن يصل الشاعر إلى بيته يرسم صورةَ بغداد الحزينة النائمة على جراحها وهي تئنُّ في آخِر الليل … ولكنه يتذكر بأنه حمل صباحًا معه كاميرا؛ فيخرجها ويصوِّر صورًا لإبليس وهو يقذف ماء الطوفان من فمه، والمعدان وهم يهربون ويحملون القُفف، والأطفال الحزاني، والأمهات، والأفاعي، والأولياء، وعشتار المدمَّرة، وصورة لفرسان الحروب والموت بالألوان. ويصل الشاعر إلى بيته، فتلقاه ابنته الصغيرة التي أهدى العمل لها والتي وُلدت في فم الحرب، ويحكي لها حكايةَ كلِّ ليلة، لكنه ينصحها وينصح أبناءه ألَّا يفكروا بالكمال والمُثل وألَّا يسعون لنيل الحقيقة كاملةً ممثَّلة بالرقم ١٠٠؛ لأنهم سيخسرون أشياءَ كثيرةً، وأنَّ عليهم أن يتمتعوا بالحياة كما هي؛ لأنَّ الكمال هو الجحيم والوصول إليه مستحيل، والحياة، كلها، عبارةٌ عن حيَّة ودرَج.

  • مروة: ابنة الشاعر التي أُهدي لها هذا العمل، ولدتْ في ١٢ /٣ /١٩٩١م، وكان مخاض ولادتها صعبًا وعسيرًا، بسبب الحرب التي اندلعتْ منذ ١٧ /١ /١٩٩١م؛ فقد انعدمَت المواصلات والاتصالات والكهرباء والمياه، واندلعتْ بعد توقُّف إطلاق النار ثوراتٌ واضطرابات في المحافظات العراقية، وقد بدأ الشروع بكتابة «حيَّة ودرَج» بعد ولادتها مباشرةً، حيث يظهر والدها/الشاعر وهو يحمل الحبلَ السُّري لها ويحاول دفنه في مكانٍ ما جريًا على العادة الشعبية في العراق بدفن الحبل السُّري للوليد في مكانٍ يتمنَّى الأهل أن يرتبط به كالمدرسة أو مكان العمل … إلخ.
  • المهنذر: المهندس، وقد وردتْ في الكتب العربية التراثية بصيغة مهنذر.
  • جنطة: حقيبة في اللهجة الشعبية العراقية.

أسماء أصدقاء الشاعر الواردة في «قبل اللعب» هم من الشعراء والتشكيلين والمسرحيين العراقيين المحيطين بالشاعر. وهناك تناسُق بين ظنونهم حول ما يحمله الشاعر واهتماماتهم أو ذكريات الشاعر بهم بصورةٍ عامة.

  • (١)
    ديموزي: الإله الراعي في الأساطير السومرية، وكانت طقوس الحزن على موته تجري في عيد الزكَمك الثاني الذي كان يجري في شهر أيلول، وتتضمن قصَّ الشَّعر من الجوانب ونسمِّيه اليوم بالعامية حِلاقةَ «الحَواف».
    عبد الزهرة: كان يمكن أن يكون هذا هو اسم الشاعر بعد أن ظهر الطالع على يد عرَّاف، ولكن والده أصرَّ على اسم «خزعل».
    صحن صيني: الصحن المصنوع من الخزف الصيني.
  • (٢)
    نانشة: إلهة السمك عند السومريين.
    سكالي: اسم وزير الإله إنكي إله الماء والحكمة السومري في أسطورة إنكي وننخرساج.
    نانا، ننار: أسماء إله القمر السومري.
    الزايرجات: علوم عِرافة قديمة تعتمد على الأرقام والحروف.
    عشتار: إلهة الحُب والجمال البابلية، والإشارة إلى شهر آب تتضمن إشارةً إلى غزو الكويت في ٢ /٨ /١٩٩٠م.
  • (٣)
    ننماخ: الإلهة السومرية الأم.
    إنكي: إله الماء والحكمة السومري.
    نركَال: إله العالم السفلي السومري.
  • (٤)
    سياط، منصور زلزل: مغنيان من العصر العباسي.

    البيتان الشِّعريان العموديان لشاعرٍ عباسي مغمور.

    عزازيل: اسم من أسماء الشيطان.
  • (٥)
    إي-أو-في: كلمة سومرية تعني الماء.
  • (٦)
    نبو: إله الحكمة البابلي «ابن مردوخ»، والآشوري «ابن آشور».
    البقرة نوت: إلهة السماء التي تصوَّر على أنها بقرة في الأساطير الفرعونية.
    المندالا: الدائرة ذات المركز.
    ساروس: دورة فلكية بابلية.
    النحل الأورفية: مذاهب سريَّة في الديانة الإغريقية تُنسب إلى أورفيوس.
    النساطرة: مذهبٌ مسيحي شرقي انتشر في العراق وإيران.
    الكنزا: الكتاب المقدس للصابئة المندائيين.
    حرَّان: مدينة اشتهرت بتاريخها الديني الخاص.
    عشيرا: الإلهة الأم عند الكنعانيين.
    علي باليل: أحد أهمِّ شعراء البند في العراق.
    ك/ن: حرفان مقدَّسان، وهما عنوان البيان الشِّعري الثالث للشاعر.
    عقدة الأفاعي: رواية أندريه موريان، ويُقصد بها القلب.
    علم الجفر: علم عِرافةٍ قديم يستعمل مقابلة الأرقام بالحروف.
    الكَالو: جند الشياطين القساة في الأساطير السومرية.
    زمَّارو: اسم عازفِ الناي بالسومرية.
    الأكيتو: عيد رأس السنة البابلية.
  • (٧)
    الحجاج بن أرطأة: مهندس بغداد المدورة في عصر أبي جعفر المنصور.
  • (٨)

    حادثة وفاة أخي الشاعر (خالد) عام ١٩٨٢م في بداية المقطع الثامن، وفوزية هي أخت الشاعر التي تُوفيت وهي طفلةٌ في نهاية الخمسينيات.

    سدرا: اختصار لاسم «زيوسدرا»، وهو نوح السومري.
    بابا: إلهة الطب السومري.
    ننازو: إله العالَم الأسفل السومري.
    ننكشزيدا: إله العالَم الأسفل السومري، ورمزه العصا والثعبان الذي هو رمزُ الطب.
    دامو: الإله الطفل الذي يمثِّل النسخ الصاعد والنازل في النباتات.
    ليليث: شيطانة الليل وهي حوَّاء الباطنية.
  • (٩)
    بشَّار: الشاعر العباسي بشَّار بن برد.
    كرامر ضد كرامر: فيلم من بطولة داتسن هوفمان.
    هاملت بلا هاملت: مسرحية للشاعر، عُرضت في ١٩٩٢م.
    هسِفر سومر: الكتاب الأول للشاعر في حقل الميثولوجيا صدر عام ١٩٩٠م.
  • (١٠)
    منصور: الشاعر منصور عبد الناصر.
  • (١١)
    الهلمَّة: المجموعة أو الحشود.
    الثعلب الذي بال في البحر وقال: «يَاه، كلُّ هذا البحر خرجَ مني.»: مثَلٌ سومري عن التنطُّع.
  • (١٢)
    ______.
  • (١٣)
    جسُّومة: اسمُ والدةِ الشاعر.
  • (١٤)
    ______.
  • (١٥)
    مي: نواميس الحضارة عند السومريين.
  • (١٦)
    تيامت: الإلهة البابلية الأم الأولى؛ إلهة المياه المالحة.
  • (١٧)
    شنعار: ربما كان هو الاسم الذي ورد ليدلَّ على سومر في المرويات الدينية القديمة.
  • (١٨)
    مقهى حسن عجمي: مقهى الأدباء العراقيين في شارع الرشيد/الميدان.
    الفضيلية: قرية تربية الجاموس في أطراف بغداد، أصابها مرض الطاعون البقري.
  • (١٩)
    الأبسو: مياه الأعماق، المياه العذبة في الأساطير السومرية.
    كركوك: مدينةٌ في شمال العراق حيث وُلد الشاعر.
    الشوَّاكة: منطقة وسط بغداد، مكانها الآن شارع حيفا.
    سيد سريوط (سيد سروط): هو السيد سروط بن السيد محسن بن السيد كريم بن السيد إدريس بن السيد علي، وينتهي نسبه إلى الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وهو من أولياء الله الصالحين، والذي كانت له شهرةٌ واسعة في جنوب العراق. توفي في بداية الثمانينيات، وتحكى عن ولادته قصةٌ أسطورية ترى أنه ولد ميتًا أو في الجفاف، فسرطته (بلعتْه) أمُّه وأنجبتْه ثانيةً.
    إبكاروس: الذي صنع له أجنحةً ثم سقط في البحر؛ لأن الشمع الذي يربط الأجنحة ذاب (أسطورةٌ إغريقية).
    إيتانا، آدابا: شخصياتٌ أسطورية سومرية صعدتْ إلى السماء.
  • (٢٠)
    شغب: جاريةٌ ومغنية من العصر العباسي.
    بكو: الطبل بالسومرية.
  • (٢١)
    إيروس: إله الحُب والرغبة الإغريقي.
  • (٢٢)

    في بداية المقطع توظيفٌ واضح لأسطورة «إيتانا الراعي» السومرية.

  • (٢٣)
    ______.
  • (٢٤)
    ______.
  • (٢٥)
    ______.
  • (٢٦)
    أسلوحي: الاسم القديم (السومري) للإله البابلي مردوخ، وهو إله الماء والغيوم.
  • (٢٧)
    ______.
  • (٢٨)
    زيوسدرا: نوحُ الطوفان السومري، وترد في الأسطورة أنه بعد نهاية الطوفان قدَّم تقدمةً للآلهة فشمَّت رائحتها فالْتمَّت عليها كالذُّباب.
    إيرا: إله الطاعون السومري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤