الفصل الأول

فيما مضى عندما ظهر الخبزُ في المعابد

نهَضَ من القرون الوسطى … الساعةَ السابعة صباحًا بدشداشته البيضاء، يمكننا أن نقول إنه مَردٌ وكاتبٌ فاحِش … ولكنَّه مع هذا صامت. عندما يخرج في الشارع، كان يحملُ شموعًا ضخمةً لا يراها أحد.

رابسودياتٌ مُهلِكة، تتضح كلَّما علا صوتُ الدِّيك وظهَرَت الشمس.

أكَّد لهم مِرارًا أنَّه لا كاتب ولا بطيخ، هو تحديدًا خيَّاطُ نصوصٍ يعاني من حُب الشُّهرة والوضوح؛ لماذا لا يفهمون ما يقوله؟

كِسَر من الأساطير والفولكلوريات والرُّقى في يديه، سيرمم بها بقية حياته، وكم كان يحبُّ أن تظهر أعماله مثلَ فسيفساء مرقَّعة بالعيون والماسات والخرز والأغاني الشعبية، أغاني الريف والمقام، وسلاسل الحِكم والأمثال القديمة وحواريات الحيوانات وصفوف الأعشاب النادرة والعدسات والتسابيح الوثنية.

أنجَبَ آدم شيث، وأنجَبَ شيث أنوش، وأنجب أنوش قينان، وأنجب قينان مهلائيل، وأنجب مهلائيل إليارد، وأنجب إليارد إدريس، وأنجب إدريس متوشالح، وأنجب متوشالح لامك، وأنجب لامك نوح، وأنجب نوح سام، وأنجب سام أرفخشد، وأنجب أرفخشد أوركاجينا، وأنجب أوركاجينا كوديا، وأنجب كوديا أبي سين، وأنجب أبو سين الكاهن لُلَّلا، وأنجب لُلَّلا أدد، وأنجب أدد نبوناهيت، وأنجب نبوناهيت بالثازار، وأنجب بالثازار يَشكُر، وأنجب يَشكُر سليمان، وأنجب سليمان أشجع، وأنجب أشجع فزارة، وأنجب فزارة أقصى، وأنجب أقصى لكين، وأنجب لكين مخارق، وأنجب مخارق شِنْ، وأنجب شِنْ بدر، وأنجب بدر ماجد، وأنجب ماجد عصواد، وأنجب عصواد سرِّيح، وأنجب سرِّيح حشوش، وأنجب حشوش جبارة، وأنجب جبارة كَعيد، وأنجب كَعيد حمود، وأنجب حمود زناد، وأنجب زناد خزعل، وأنجب خزعل اثني عشَرَ ولدًا توزَّعوا على الأقاليم وزيَّنوا القارات السبع والبحار الخمسة.

فيما مضى … عندما ظَهرَ الخبز في المعابد والكتب في الجوامع، والآلهة خرجتْ من الماء.

فيما مضى … عندما ظَهرَ اسم الإنسان من عِظامه، وعندما ظهر الخمر في الجِرار، فيما مضى عندما ظَهرَ العُصاة والغرابيون وهوَّسوا.

فيما مضى، ضربَت البُروقُ الألسنة فتفرَّقت، فيما مضى عندما على العتبة ذبَحَ الكاهن ديكًا، ودندن العرَّاف بأغاني الكالا والنار.

فيما مضى، عند انفطرَت المِرآة وتبعثر مشهد المضاجعة. فيما مضى … عندما ظهرَت أمراض النهار وأمراض النحيب، ولَبسَ الناس ملابسَ سوداء وقصُّوا شعورهم على شكل طرَّة سوداء حزنًا على ديموزي.

فيما مضى، عندما حزنوا عليه ودقُّوا الدفوف والزناجيل على ظهورهم.

فيما مضى، عندما كانوا يلطمون جماعاتٍ جماعات على موت ديموزي وعطشه … فيما مضى.

فيما مضى … الأم الخصيبة تظهر في النبات … الأم المِقدامة الموزَّرة، التي كانت تدكُّ الأرض. فيما مضى، الدمع يصعد في نُسغِ النبات ويفوح على الورد.

خاتم الخاتون أزرق … خاتم الخاتون ليلو.

وحياتك يا عبدَ الزهرة، وحياتك لم أعاشرْ غيرك … أمْسِ حين رميتُ الخاتم لك، لم أعُد أحتمل. مرمرتَني، كلما أريدك تبتعد. تذكُر حين جاء الساحر أبو الأوفاق والمثلثات، وفتح الكتاب، وطَلعَ اسُمك يشعُّ، قلَبَ الصفحةَ فطلَعَ اسمي، وكتَبَ بماء النشوان على الصحن التعاويذَ ومسَحَها، وشربنا أنت قطرةً وأنا قطرة … عشر مرات.

وحياتك يا عبدَ الزهرة، نضجتْ أجراس ونبضتْ وما عُدتُ أصبر … أريد أن أدقَّ، أريد أن أفوح. وحياتك وحياة القرآنِ المضيء بصدرك، باليوم الواحد ألْفُ مصباح يشتعل في جسمي، لم أعُد أصْبِر، وحياة التيناتِ الحلوات، الشمعات المصفوفات، العَلَق الأخضر والحنَّاء … حتى أصابعي تهتف لك … حتى عيوني لا تنطق غيرك. وحياتك طقَّ النهر وليَّصني، طقَّ الوردَ وشمشمني، طقَّ العسل … طقَّ الحطب، طقَّ القمر.

كَسرَ عصاه السحرية ودفنها في الأرض، ثم رمى كُتُبه في النهر … ومضى يحمل شاهدةَ قبره إلى المقبرة.

لم يعُد هناك ما يغري … كلُّنا زائفون.

ومع ذلك، لم يبقَ سوى المرأة، المرأة المليئة بالروائح الطيبة.

المسربَلة بالثوب المنتقى المحلَّى بالدانتيل المقليِّ بالورود الملآنة النهود.

يا نورَ الفُل، عملتُ منكِ قاموسَ أغانٍ. عملتُ منكِ خلاصة ورد وضبَّة ذهبٍ وفضَّة. عملتُ منكِ «صحنَ صيني» … عملتُ منكِ محلبًا، وروائحَ مِسك، وتنُّور يا نُورَ النُّور.

في أول يومٍ من ولادتي … في نفس اليوم الأول.

في أول الساعات … في نفس الساعات الأُولى.

في أول الدقائق … في نفس الدقائق الأولى.

كنتُ أبكي.

وكانت تهرب بسرعة من ذاكرتي صورُ الفردوس الذي نزلتُ منه … كنت ما أزال أحمل ذكرياتِ الرَّحم يومَ لم يكُن هناك عملٌ ولا فِكر، ولا ليل ولا نهار ولا أمراض، ولا غذاء ولا جوع ولا انتظار، ولا حواس ولا معاني.

في ذلك اليوم الأول، الذي تتكرَّس كل حياتنا لاستعادته؛ كنتُ محمَّلًا بصورةِ المطلق الذي هبطتُ منه.

في اليوم الثاني … في نفس اليوم الثاني تحوَّلت إلى إنسانٍ، ولم أعُد أتذكَّر شيئًا … أصداء أصواتٍ وأضواء، وكلام، وأهل، ورماد. أصداء مفكَّكة للعسل واللَّبن … أصداءٌ تتردَّد عليَّ ولا أستطيع تذكُّرَ قصتها … أو جَمْعها في قصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤