حسنًا … كفَّ عن تمشيطي وتعالَ قبِّلني
في منعطف الشارع، نزل إنكي وترنَّح في مشيته كالطاووس، يحمل الفِجل والطماطة … يا له من ماكر! كان بالأمس يحمل الكلاشنكوف … اركضْ … اركض، واعملْ زلاطة وكلْ … إله الماء يستجدي الخضروات، مبهذَل وأيديه مسخمةٌ من العمل … ما الذي حصلتَ عليه يا إنكي بعد كلِّ هذا اللَّهط؟
هل تذكُر أنه في يومِ كذا ومكانِ كذا، قام أبو العلف، وطاف في أركان البيت، وجاء بالخيار والبقول والكرَفْس والكرَّاث؟ علف أكثر ثم دار، ودار مثلَ خروفٍ سمين، وكشكَشَ ثوبه، وأردانه تلمع … والجرس يرنُّ في رقبته.
ثم ظهر قصَّابه من بين الجدران وجزَرَه.
أنت الآن في مرحلة الخروف يا إنكي … اعلفْ … اعلفْ أكثر وسترى.
كلامُ نيق … كلامُ مرتاح … كلامٌ غرغَرَه؛ انظرْ … انظرْ إلى مزرعة الخيار واركضْ عليها … صارت مفرَّك الأخير.
أسطورة سمفونية.
سوناتا عِصابٍ وغموضٍ ورُقي.
شَعره مثلُ العرفِ، طائرٌ في الهواء؛ وخدوده مصابيح … سَنْطُور يده يعزف للنعسان ألحانًا … حصانٌ يقفز تحت عجيزته.
تنفتح الكاميرا داخل ماضيه؛ فينفرج على فراريجه يدخلْنَ ويخرجنَ من غرفته بالفندق وهو يشرب الفودكا ولا يملُّ.
جَمالك ذلَّني يا فُراته.
تزرع في الطاسة … حليب وياسه، وترشُّ ماء الورد على الجالسين في العرس، لون ملطَّخ وغزير، يفرك الليل، تغلبتْ عليه عيونه … وعيونها لمبة … وعيونها دق الشمع، وعيونها سكرانة. اللبنُ المخيض يدُها … اللبن المخيض الشكوة. عندما ذهبت؛ تفطَّرَت الشكوة، وسال اللَّبن منها، وعلاها الذُّباب. لا أريدكِ هكذا ذكيَّة وشاطرة وتعرفين الأماكن التي أضع فيها خمري … أريد حقًّا من عسلِ … أريد غيمةَ النار … أريد امرأةً تزرقُّ في النشوة، وتزرِّق العقلَ الشفَّاف والعقلَ الشغاف … أمَّا العقل اللحاف؛ فسأتركه لأعدائي.
إذن، المرأة تقتفي خطواته في الشارع، وتسجِّل حشائشه وصنوبراته. كلُّهم سلَّطوا المرايا عليه، وبدءوا يسجِّلون لغته الصامتة الحبلى، التي تلد أساطيرَ وملائكةً … لغته التي تلد أمعاءً لا نهاية لها.
القراءة والكتابة بهذه الطريقة عطل الحياة … العيش أفضل.
عيونه عيون الباز، والنساء عاريات تحت المطر بانتظاره … اركع تحت القربان … اركع يا ولد … نذرناك لحُب النساء والصعود معهنَّ إلى الفنادق … نذرناك لصناعة النبيذ … نذرناك لبخورهن … نذرناك لصم الماس … نذرناك لورد الرأس … نذرناك لتُغوي البنات … نذرناك النهار … نذرناك.
كانت امرأةٌ تناوله المشط وهو يمسُّ ثديَيْها بركبتَيه، يمشطها ويبكي:
– لماذا تبكي؟
– لأني أحبكِ.
– حسنًا كفَّ عن تمشيطي وتعالَ قبِّلني!
– أخاف!
– ممَّ؟
– من قوة حبي، تقتلكِ.
– أريدها.
كان يحلب نفسه عندما يحبُّ … كان ينسى … كان يعمى … كان ينشل، وكانت أعضاؤه بعضها يحبُّ بعض ويأكله … كان يتبخَّر، ثم يسمها … كان يتعالى، ثم يقبض على أعماقها ويصرعها.
ماذا يفعل إذن؟ ماذا يفعل؟
اعترفْ … اعترفْ وقلْ ما بك، تتسلَّق على الأشجار وتصرخ وتلطِّخ أيديك كلَّ يوم بالخِضاب؟
– أخشى أن أقول، فلا تصدِّق.
– لا … قلْ ما بك؟
– شبقٌ جامح يعصرني … فلا أعرف أين أسرِّبه … لا يدَع طولي طولًا، ولا يدع ميزاني عدلًا … شبقٌ شهواني أحمر يستعمر جسدي ويقليه … شبقٌ كحولي … شبقٌ نُهودي، شبقٌ كُفولي … شبقٌ بروحي … شبق تُموري … شبقٌ علي … شبقٌ شمالي … شبقٌ جنوبي … شبقٌ.
– فلماذا تصعد على الأشجار حين ينتابك؟
– لكي أنسى.
– حسنًا … هل تشعر أن هناك مَن يتبعك؟
– نعم … من هناك جاءوا … من هناك، الذين لا يعرفون ثَني رُكبهم، ويأكلون اللحم غيرَ المطبوخ … والذين لم يعرفوا طوالَ حياتهم سكَنَ البيوت … والذين لا يدفنون موتاهم … الذين لا يعرفون ثَني رُكَبهم، دخلوا بغداد وحوَّلوها إلى زريبة … حوَّلوا العمارات إلى إسطبلات.
– حسنًا … حسنًا لماذا يا دكتور جان دمو تركتَ المِقصَّات والمشارِط في بطنه؟ وأنت أكثر مَن يرعى حقول البتولية، وتأمر بتنظيف الشراشف وأرزاق الممرِّضات ذواتِ الصليب.
لم يُجِب … ترَكَ مركز الشرطة الكبير هذا … ووَضَع عقائده في بنطلونه، ومضى في الشوارع يمسح رئتَيه بالعرَق والفلافل … كمْ مضى وهو مُنطرِح هكذا في الفجر … والآخَرون في الغروب؟
لا فائدة تُرجى منك … كلَّ يوم تذهب إلى المستشفى، وتراقب أيدي الراهبات البيضاء المُسلفَنة … ماذا يدفعكَ إلى كلِّ هذه المقالع المرمرية؟
عالم القبالة … الولادة … والتصوف الغيمي، أَم جزالة الجروح، والجسد أخذ صمَّ نشادر واستحمَّ به ونشَّط جسده كأنه خرج الآن من معجن الصلصال، وآثار ننماخ ما زالتْ على جسده وهي تعجنه؟ … فتَحَ صدره؛ فقفزت الحيَّة، ونزلت معه من الفردوس، ثم ظهر هذا النطاسيُّ الواقف بين العِظام والذبابات. هاكم عواصف النور.
– لماذا تتحدثين عن غريمي؟ أنا المُلتاع … الملتاع … أنا الهائم النشوان، ماذا لديه أكثرُ مني … إذا أعطاكِ الحُب سأعطيكِ، إذا أعطاكِ المال سأعطيكِ السمعةَ معه … إذا أعطاكِ النسل سأعطيكِ الحكمةَ معه … ماذا لديه أكثرُ منِّي؟
عندما ماتتْ عشتار تركتْه عند امرأة من العمارة، اسمها جسُّومة.
– اسمٌ آخَر من أسماء عشتار … وتولاه أبٌ صارم وضَعَه على الطريق … انقرض توليد إهداءِ الزهور … لو في يده؛ لأهداه ضبَّةَ وردٍ قويٍّ كالحدﻳ… دمٌ ينفجر من يافوخه ويلطِّخ أركان البيت، ماذا كان يحبُّ؟ أحشاء الطيور والحيوانات … شهيته باطنية، شوربة الحواصل والأكباد ومرق الكلاوي … تكَّة القلب المرشوشة بمسحوق الخبز … ثرب السمك، كان يتتبع الأعضاء ويصِف طريقةَ أكلِ كلٍّ منها.
أحلام الجحيم تتوافد في رأسه … والطعام يقلُّ شيئًا فشيئًا، الهواء الداكن المشبَّح، المتَّبع العنيد الصاعد في كلِّ وهن.
درنات البطاطا تنمو في جنطته … معه مزاميرُ تموز، بعضُها مراثٍ وبعضها أفراح.
رضع صوتَ أمِّه؛ فأحبَّ صالاتِ الغِناء.
في يده وتحت جرَّاته الفخارية، ينبت حشيشٌ وتتلاعب حيَّات أريدو، طول كلٍّ منها عقلةُ إصبع … أجذبك ولو كنت جبلًا، وأجذب أهلك معك وأدوخ، وكلَّ مرة أروي قصةَ آدم ناقصةً، قصة آدم وأحلام … آدم والملائكة … آدم وليليث … لا يمكن أن تكتمل قصة آدم.
حسنًا يا أوهامي … حسنًا؛ سنؤمن أنَّ الحياة مكوَّنةٌ من طبقةٍ واحدة … طبقة ما يحدث أمامنا … الطبقات الأخرى، خرافاتنا، نزيِّن بها الطبقة الأُولى، إذن ما هذا الذي أمامنا؟
غزلان تخور وتتمدد في الشارع.
وتحت فراديسه أوقيانوس مضطرِب وملفع … آلاتٌ تصهل … آلاتٌ تنهق … آلاتٌ تبكي، طاغٍ يسربل القوةَ من يده، ويدفق الوهج السيَّار، النار تمسُّ القلب، يتعطل شيءٌ في المكان … ربما عرق في النبات! أسمع نايًا وسطَ ضجَّةِ هذا السوق … نايٌ يفتن.
نايٌ يعلو.
صيحةُ آه الصيَّاحة.
نايُ رجلٍ مفلوجِ الرأس، تبحث عنه زوجته لتسلِّمه الشياطينَ وهو من بلدةٍ لبلدة يختبئ … عنزاته لحاها مضرجة بالتراب، ومِشجب أكوابه مكسور … أي يملأ أذني؛ فأشاور الريحَ وادعًا أسطولًا من الدُّمى والتماثيل واللَّقَى، يظهر وألمح جزءًا مهدَّمًا من سُور بغداد المدوَّر، يجلس عليه مجنونٌ وفي يده قصبة.