الفصل الخامس عشر

بدأ الكسوف فامتطى حمارَه

بدأ الكسوف؛ فامتطى حماره، وأخذ جوقةً من الأطفال وراءه، يقرقعون بالملاعق والسكاكين … ويسألون الشمس المحتضرة طعامًا قبل أن تموت.

كلُّ أسماء البروج سومرية … أمَّا مصادر الحظِّ فمجهولةٌ، دائمًا زهرات. السماء في يديه وهو يتفحَّص تقاويم المناخ … يرصد التنين أم يفكُّ معادلةَ نجمةِ المحراث؟ … كلُّ هذه مخاوف، وإلا لماذا هذه الرشقات الخفيفة من الظلام أثناء النهار، ثم أن كلَّ المشاكل تكمن في يده؟

كانت شاطرةً في الجراحة والتطبيب وفي التهييج … تقطع وتحيط وتعلو وتفرك وتلمس وتهمس … لمسةٌ من لمساتِ السِّحر والخفَّة … أين وضع اليد؟ في جيب بنطلونه مع الأسف.

في يده شرائع السماء والأرض … في يده اﻟ «مي» … إياك أن تضيع اﻟ «مي» منك … إياك أن تنفرط … ثم يجب أن تحذر من أن تقع منك في ساحة الأندلس وأنت تخرج في آخِر الليل.

أين ذهبتْ مفاتيح المعابد الكلدانية؟ لمح واحدًا منها بياعٌ في الباب الشرقي … وآخَر قُرب المتحف … يدمدم أمامَ المتحف (أي كاتب هذا الذي لا يجيد اللغة السومرية: دُب سار إيمي زير نو مو أون زو ئا أي أنام أم دب سار أي ني) من حوَّل لغتنا … مَن ألغى كلَّ هذه الذاكرة؟

كان كاهنًا فأخطأ الطريقَ، وأصبح شاعرًا لكنَّ الهدفَ ظلَّ نفسه … ها هم يردِّدون صلواتِ الشُّكر بعد تجوُّلِه في العصور ولباب الخمر في يده … وفي يده الملَق حتى يعيش … هريسُ لحمِ حمص، شعر، أغانٍ، كلام … لكنه قربَ المتحف يرى كلَّ يوم صفوفَ النادبين تتجمَّع، يلبسون الأسود وقمصانهم ممزَّقة من الخلف عند عظمَي الكتف.

الْتهبت عروقه، وصعد في عيونه الشمعدان … السمك النابض، والأشباح الزراعية البدائية المتصلة بالمطر … سحر الماء ومكره، ونسخة الصاعد في سيقان النبات … نقطة الضوء التي تصارع الظلام — الماء في باطن الظلام — عرق ماسٍ في مَنجمِ فحم؛ هذا منشأ خزائيل، وقبلة ديموزي، وقبله أبو السحر الزراعي ينشِّط منطقة «العلاوي» ويهفهف بقوة قربَ حافات النهر … كانت ديانة عشتار حاميةً شاملة، تبناها الصياديون؛ لأنهم اعتقدوا أنَّها أمُّ الأسماك، وتبناها الفلاحون؛ لأنهم اعتقدوا أنها أمُّ الثمار … على كلٍّ، هناك مَن يلتقط هذه الأبَّهات ويعتقد بها.

حبات النور على خدِّها وهي تسوق السيَّارة … أجنَّة ملفوفةٌ وغامضة تحت سياج المتحف … آلاتٌ كاتبة على طول الأرصفة تدوِّن ممشى الناس وخرافاتهم.

ليس للشاعر أمٌّ … أمُّه إمَّا إينانا، وإمَّا النخلة … أخذ الحمام ريشي … أخذ الحمام الخفَّة … الدهاليز المرتشحة التي تضطرب والنجوم مخلوطةٌ مع القواقع … خالته بيضاءُ ومغرية، ولها ظفائر شهوانية، ماذا يفعل بكلِّ هذا الذي يحمله؟ … حمَلَه الدماغُ على أعضاء الجسد … الحملةَ المفضوحة … حملةُ الغرائز التي تلعب بالأعضاء لعبًا، رائحةُ المضجع المشمشيَّة … صعدتْ في الدُّخان سرَّتها، وصعدت يدي وراء السرَّة.

سلسلةُ أساليبه لا تنتهي … كلُّ عصر يمنحه أسلوبًا، وكلُّ لغةٍ تهبه تقنياتٍ وهو يلعب ولا يملُّ … يتجرَّع الحنان … يده على سمكةِ صدرها … ومثل ممرَّدة ومطحونة، سرُّ المخضوضرة … وسرُّ اضطرابها، وهي دائمًا منطرحةٌ في مياهه، وهو لا يملُّ من البحث في نجومها ودقَّاتها وهُلَبها، يأتي الإنسان باكيًا ويذهب باكيًا … أين حيَّاته إذن؟ مجموعة من الجِمال تجعر أمام المسلخ، وهي ترى بعضها يُطرح ثم يسبح في دمه … الثيران تنتصب قضبانها … آخِر اندفاعات الحياة في الخصيتَين.

لاطَفَ طيري وغشَّني … لاطَفَ مُهري وغشني … لاطَفَ طِفلي وغشَّني.

أسمع همساتِ نبضه يجتاحه شوقٌ مجلجِل. تحت أعمدةٍ متراصَّة، يُشعل غليونه، دخانه مثل التاريخ يتحرك ببطءٍ، ثم يتبدَّد. بضاضةٌ أنثوية، لبَّنه نشوبُ أصابعه، ظهَرَ حامل الأختام وأفزعنا … قلْ بالضبط ما اسم هيكلك؟

اللمعان الأحمر.

كأنه أرشيدوق خرج من صالة، وكان في يده الكمان يلمع.

تسمي سومر الحرية «أمارجي» وتعني الرجوع إلى الأم … أي التخلُّص من الأب … ذلك يعني الرجوع إلى الرَّحِم … حيث الفردوس، لا أحد يملك شيئًا … كلها في طريقها للزوال … ماذا سيبقى؟ الكلمات المكتوبة هي الكائنات الحيَّة … أمَّا نحن فأتعسُ من الحجر.

قبل أن ينتهي كسوف الشمس، هشَّ على جوقة الأطفال، وأبعَدَ الحمار … إنَّ الله ينفخ الحياةَ في النخلة. وكان طلعُ الفتيات الجميلات يتناثر على الأرصفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤