الفصل السادس عشر

حيَّة الحرب

نادى على امرأة تطشُّ الخرز، وقال لها: طشِّي فطشَّتْ خرزها، وتحيرتْ وقالت: الريح والبروق، في الصبح والطروق، مصران لو أقبل؛ فالنهار يحتار … وإنْ أدبر فالشوك طلحٌ يابس وحبلٌ حابس. تعرف تقول عوافي.

– عوافي!

– هوَّابة هوَّابة والبرق والسحابة … جلبته بإبرة فلمْ … ينَم بعَبرة … جلبته بأشفى؛ فالقلب ليس يشفى … جلبته بمبرد، والقلب ليس يبرد، تعرف تقول عوافي.

– عوافي!

– أخذته بالينجلب، فلا يرم ولا يغب؛ ولم يزَل عند الحرب، مَن هذا؟

– أخي!

– أخوك لا يعود … يجرُّك معه وتذهبان لغروب الشمس، تدفعان بلمها، وتجذفان مجاذيفها، لكنَّ ماءها عميق وأسود، تجرُّكما إليها وتخرج هي علينا متأخِّرة.

وأنتما تخرجان علينا في الليالي مع النجوم العوالي: أخٌ وأخوه. رأيت أرواد وإنانا وديانا وثريَّا قربَ الشطِّ يشطفنَ الملابس، وكانت صينيةُ الشموع تطوف على الماء … ثريَّا تضع البطاطا تحت الأسلحة وفوقها يتعفَّن النشيد في دفاترها … تعفن القنفات في غرفنا. ذهبنا إلى الناصرية؛ كي لا نموت … حيَّة سومر تصارع درَجها تحت الصواريخ والقنابل، الحية تريد أن تصعد على الدرَج، وتنفث سمَّها على الناس.

انفتح العالم الأسفل مثل السبتتنك، وظهرت كائناته الممسوخة وتسلقتْ أدراجَ الزقورات … أحفاد تيامت المنفوخةِ البدنية الفاطسة منذ آلاف السنين ظهروا، وظهر الدُّود من مَعاوِر جسدها يدبى علينا … طهرت الطهارة، المستنقع ببقبق.

تعفَّنت صرخة الديك في الفجر وحلَّ محلها الدويُّ … تعفَّن الناس وتوسَّلوا الموتَ … قبَّلوا أقدامه (خُذْنا أو فلتكُفَّ).

تفتح ثريَّا الثلاجةَ وتُخرج ألواحَ الطين وتقشِّرها … وأنا أقرأ في العماء نقوشًا مسمارية من نوعٍ جديد، لا سومرية ولا بابلية، نقوشٌ أخرى مستحيلة، لا يمكن أن تُحلَّ.

جاء أسطولُ الطائرات … يا إلهي، ليلةً واحدة فقط نبقى أحياء … ليلة!

ما الذي دهى أطرافنا؟ تحوَّلت إلى أطراف سحلياتٍ وعقارب … لماذا نحن هنا؟

نتسلل أنا ومنصور إلى السطح، ونكرع ربع عرق دون ماء ومزة، وننظر لأسراب الطائرات … ماذا يمكن أن تكون عليه قصيدة النثر في التسعينيات؟ قال لي.

قلتُ له: محليَّة.

إذن؛ تركنا الشوارع لهم، وخُتلنا.

أخت العالم بين أيدينا ولا نفعل شيئًا.

اللمبة في يدي وأنا أدثر أطفالي، وأزيز الطائرات يمخر.

– انظر … انظر! صاروخ هوك أسود يمشي مثل العربيد في السماء … انظر!

يقع هناك على سُوق؛ فينتحر ألف متصوِّف في القرن الرابع الهجري … ويتمزَّق شملُ عقائد متماسِكة، وتظهر حشرات في التاريخ جائفةٌ مخربطة.

لمَن مات كلُّ هؤلاء؟ لمَن تعاركنا في سراديب الزمن صعودًا، ووصلنا إلى النقطة؟

اللمبة في يدي وأنا أدثِّر أطفالي … لم أعُد أسمع سوى صوتِ اللهب، كلَّ يوم أسمع أنفاسَهم أيضًا، ما لهم أطفال؟ ماتوا من الرعب أم من الجوع أم من الوسخ.

لماذا يا دموزي … أنت وضعتَنا في السيوف، وشويتَ أجسادنا لماذا يا وردة؟

ألِأننا منحناك القسوة؟

نستاهل.

ما الذي نتهجَّاه في خرائط جولاتنا اليومية التائهة دائمًا؟ شكل المجزرة … لماذا؟

خلقهم إنكي مخصيِّين ومشوَّهين، ودفعهم إلينا … نحن نريد أن تخلقنا ننماخ … هل فهمت؟ إنكي يخربط وهو سكران يمسك بالطين أعوجَ، ويصنع شناديخَ وإبرًا ويضع عيونًا زائدة وأيديًا كثيرةً للضرب.

كفى مسلخًا … كفى غبارًا.

سيوف تقرضنا قرضًا … الحرب غولةٌ مغلولة والجبال مجدولة.

– ارقيني يا امرأة … ارقيني.

– أرقيكَ من عينِ عاثر، وورم آجر، ونظرةِ ناظر … من برٍّ أو فاجرٍ وخفيف طائر؛ بنجمٍ طالع، وبرقٍ لامع، ووبلٍ سافع، وديكٍ ساقع … إدعِ على الحرب إدعِ!

– لا أعرفُ ماذا أقول!

– قلْ معي: شَمال يشملكِ … دَبورٌ يدبركِ، وريحٌ تحملكِ؛ خذْ معي هذا الحصو … خذْ وارجُمْها!

– حصاني يُهبطك … عصاتي تلبطك، روحي بعدَ ألف سنة. روحي، ولا يموت فيكِ القريب. روحي، ولا يموت فيكِ البعيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤