حدِّثني يا ولد عن شنعار
تحت أنفي ألواحُ الشعر أحرسها، الخمر يفوح في أقصى الحرِّ، وتغطِّي فراشاته وردتي، فأنبش نصِّي المدفون في الكحول … أنبش حتى أصِل إلى الطبقة السابعة في الخمر (طبقة الهاء)؛ فيخرج لامعًا مثل ماسة، فأهرب به مخترقًا الأسواق والتجَّار، والعميان، والبرصان، والخرفان … مخترقًا السوَّاق والسكنية وبائعي المخضرِّ والفافون والبرلون … مخترقًا العارفين والذابلين والتائهين … مخترقًا السيارات والباصات والشوارع.
أريد أن أصِلَ إلى البيت بسرعة، في يدي ماسةُ النَّص.
أركض … أريد أن أنقل المدوَّنةَ الماسية الكحولية المدفونة في العقل على ورقة.
من الخمر إلى العقل، إلى الماس، إلى الورق؛ هذا هو الطريق السِّري للكتابة. متى أصِل لأصون الماسةَ … الحية ودرَج؟ … متى أصِل لا ورقة، ولا قلم؟ متى أصِل؟
دعني أردِّد فكرةَ النَّص:
«إله السمكة إنكي، وابنه خز … إله الهواء إنليل، وابنه عل، السمكة تطير في الهواء … فيخرج هو ممتزجًا بالوغف وهو يتعثَّر بالثمر حوله، وما زالت الأجنحة على أكتافه والزعانف قُربَ أقدامه.»
هل هذا هو النص؟ لا … لا هذا ظهيرُه.
النَّص هو:
يركض … يركض.
قبل أن يصل إلى البيت، يستوقفه الرجل الكبير أبو اللحية والنظَّارة: حدِّثني يا ولد … حدثني من أين أتيتَ؟
– من شنعار.
– شنعار! وردتْ في كتب كهانتي على أنَّها بلدُ القمر، اسمعْ يا ولد، اسمعْ … لماذا لا تردِّد معي هذه الأسئلة إذا كنتَ لا تعرف الجواب؟ هل اليونان من نينوى؟ هل نينوى من يونس النبي الآشوري المبلوع؟ هل اليونان الحوت، النون؟ هل نينوى يونس؟
اليونان بلعتْ نينوى وامتصتْ إرثها.
هل روما من رومان، أو رامان، أو رحمان، أو الإله أدد إله الرعد في بابل؟
هل الهلال قرن الثور؟
هل الشمس هي العجلة المولودة حديثًا عندما تُشرِق وهي المذبوحة عندما تغرب؟
هل المسيح كاهن «المشماش»، أي الماسح بالزيت في بابل؟
هل بابل هي باب؟ هي باء؟ هل باء بعد الله؟ … من أين أنت يا ولد؟
– من «أوزموا» في نفر.
– من سرَّة السماء والأرض … آه يا حبيبي. أنت من النقطة التي كانت فيها الأرض والسماء متصلتَين … آه يا ولد … أنت من الحبل السُّري للكون … افرحْ يا ولد … افرحْ هذا امتياز لك على أبناء البشر.
ماذا تحبُّ أن تكون؟
– شاعر.
– وهل يليق الشِّعر لغيرك … أعظم ما اخترتَ، ستكون. لقَّح الله الشرق بالشمس؛ فحبل جنوب المتوسط وطلقَ، وأنجبَ شمال المتوسط … ما هذا الرحم الخصيب … رحمي، ورحم أمِّك، احلفْ به يا ولد، احلفْ.
كل شيء خرج من شنعار … كل شيء خرج من القمر، سيد الولادة وماسِك شعفةِ المياه في المدِّ وفي الجَزر.
حدِّثني يا ولد … حدثني يا ولد، يا كلداني عن الشار … عن السار … عن الشعر … عن السحر، عن دائرة الكون التي مركزها عيناك، عن دائرة الله وعن مركزها الإنسان … رمزها واحد، مسمار عمودي.
هناك يا ولد، هناك يا خيزل، في أقصى أعماقك ينبض السِّرُّ، الشار، الشعر، عشتار، أشيرا، عاشور، ممهور، مزمور.
أركُضُ … أركُضُ أريد أن أَصِل … أصبحَت الماسة في يدي كبيرة. نفخ الشيخ بها والْتمعتْ وكبرتْ … آه، أعظم نصٍّ في حياتي، لا بد أن أدوِّنه ولا أنساه … أركض أمرُّ بالمقاهي والأسواق والدوائر، شاعرٌ موظَّفٌ صغير … مقعقِعٌ وعيونه ضامرة … نور خدِّه اليابس عسلوجٌ، مثلُ قوقع … أكثر ثقلًا من رائحة الفَوح … يبقبِق تحت الأقدام … يفتح كِيرَه والدنيا تمطر جمالًا، ويجعر والدنيا في لبِّ الصمت تتهادى، وهو الخبصة … غير دقيقٍ في مشيته، يضرب المزهريات التي على الطريق ويكسرها … وفي كل خطوة يضرب أيدي مَن يمرُّ بهم … مزعِجٌ حدَّ الموت … مبلَّل من فرطِ الماء الذي في مثانته، يرفس عندما يُعطي ورقة، ويُسمِع صوته عندما يسكت، يحبُّ الشاي والعلاوة، المحبرة أكبر منه … قال أنت تشوِّش عليَّ الشِّعرَ؛ قلتُ له: وأنت. قال: أنا أُعيده إلى صوابه.
قلت: حسنًا؛ دعْني أذهب. أنت عاقلٌ، وأنا مجنون.
قال: لا … يستدعي ما فعلتْه محاكمةٌ كبيرة، وراح يهذي؛ أعضُّه أم أشمره من السطح! هذه أمارات المُلك بين أيدينا له كلها. ولي الخلاص منه فقط … خطف مني الفرَس، وركبها، وسجنني وراءَ الفرَس مكتَّفًا. ماعت الماسة، ماعتْ وهربَ النصُّ تحت القيود.