الفصل الثامن عشر

درَج صانعِ الأجنحة

صانعُ الأجنحة يتيه في الشوارع، لحظةُ النوم تُذكِّر بأبعدِ نقطةِ في الخَلق، آدم وهو يسقط من الفردوس، إدريس وهو يصعد إلى الفردوس، الخضر وهو ينزل من الفردوس، المسيح وهو يصعد إلى الفردوس.

دورة كاملة من الصعود والهبوط … متى يأتيه الدور؟

الموسيقى في يده وفي حنجرته … قادرٌ دائمًا على أن يبثَّ النوتة في رواياته … ومع ذلك، توجد بقايا من العِظام في أسفل أغانيه … من أين له هذا؟ من الدناصير أم من السحليات.

في يده الهبوطُ للظلام … في يده الخروجُ منه.

تيامت ولدتْ كلَّ هذا العالَم … بيضة العالم تحت كتابي. ما هذا الرذاذ الذي يلامس أطرافي؟ بقايا الحوتِ الذي ينام في رئتَيه العالَم … لغز النوم المقفَل.

مشَّط ونقَّط … مشرقٌ كالورد، حمَّرتْه الشمس، ومدعوكٌ بالذهب المرِح الطائش، يضيء هذه المعضلة … المهم دعْها عنك وراوغ المارَّة.

صانع الأجنحة يتحوَّل إلى صانع أحذية، ويستقرُّ في محلٍّ صغير في شارع الرشيد، عليه لافتةٌ صغيرة «أحذية الأجنحة».

بين يديَّ الشمعةُ البيضاء الذابلة من السهر … صينية الآس والحنَّاء، الجرَّة الباردةُ الماءِ … النُّورانية … أمُّ الشَّعر الطويل … أمُّ الدقَّات … أمُّ رائحة الهيل … أمُّ الجبين المعرَّى للسماء … أمُّ رفَّة المُتون الهائجة المبخَّرة … أمُّ رائحةِ العطَّاب … صدرها الوافر يسخِّن القميص … الصدر الوافر عسلٌ ينكت لوزًا وكلامًا وفضَّة. في يدي المخبأُ فوحٌ مالحٌ وحار كلَّ صباح، ثم يوضِّب وردًا طازجًا، ويخرج مقندَلًا ليؤدِّي التحيةَ إليها.

كان يطير فوق بغداد بأجنحته الصغيرة، وينظر في أيِّ الأسواق هي الآن … في أيِّ الشوارع.

أخذها قربَ السراسخ وكانت باردةً وحمَّمها فانتعشتْ.

وهي نائمة سرط بيض الفُسَيفِس وانتخم، ولاحتْهُ قرصة برد. فوطة مُرقَّشة ومُهزبَرة، في يدَي القرى المدمَّرة.

في ذلك اليوم المطير، دخَلَ إلى مقهى حسن عجمي … يجلس الأصدقاء في سحابة الدُّخان والشاي، ويتحاورون من أجل الأوهام … من أجل مجدٍ لا وجودَ له … يتقاتلون … يتغاصبون، بعضهم ملَّ من النقاش لسنين؛ ففقَدَ عقله، وانزوى يعدُّ الذين يمرُّون أمام زجاج المقهى.

بعضهم مزَّقتْه الأوهام … يده مجبَّرة عكَّازه بين يديه، فمه … عينه … شِعره في جيوبه. يشربون قصائدَ بعضِهم مثل الشاي … آخِر مباخر الشعر، وآخِر حورياته مقتولةٌ في المقهى … الرحم ثانية داخل الشاعر. أقصى غايات الابن أن يتوحَّد مع الأب.

الأب أسد يُمسك سيفًا … يقيه الابن في شِعاب الغابة، رُوحه المجيَّشة الطينية، أسطرلابها وقسوتها.

أقدامه المُفلطَحة تطمس في الزبد … طحالب وحصى ومحارات، تظهر في أعمال هذا النوتي … سننجرف باتجاه دمه. دمه غزير وغرائزه في أعنف نشاطها، يهروِل ومئزره لا يستُر ساقَيه … يسقط ضلعه الثاني عشر، يركض هربا من الكتب، رأى ما لا يصدِّقه عقل … الفحولة تضيع في القراءة.

كان يخطِّط ليكون طبيبًا كبيرًا، لكنَّ الشعر حرَفَ مسارَه … لا بد من العودة إلى الطب، وإلى الفلسفة … وإذا كان من إضافةٍ؛ فلا بد من الدراسة المقارنة للأديان … أليس أقصى غايات الشعر أن يكون دينًا؟

سقطَت الجواميس في الفضيلية … وتغطَّت القرية بجُثثها وببكاء الفلاحات، قطَعَ إجازته وعاد إلى بغداد، لَبسَ صديريته، ودخَلَ غرفة تحضير اللقاحات؛ لا بد من ثلاثة ملايين جرعةٍ أخرى من لقاح الطاعون البقري. في تجاويف الجمجمة نسير … في مُدنها وشواطئها.

سقطتْ ثيران ديموزي في الماء … فصار أحمر وأثبتَت الكروم الأغاني … حمراوات الشَّعر، شبقيَّات، وأصولهن ترجع إلى زُحل.

تطلع من الكنعان … تطلع من التِّين … تطلع من النار، وتدخل أصابعي … تدخل عروقي وأنا أزفُّها … أزفُّ الحجلَ ويدها تلسع.

زنبقةٌ في محارةِ يدي، وعيناي مغمضتان من النشوة.

قِحفه يتلألأ مثل ماسة … خمرٌ أم خِضاب؟

كتَبَ الأبجدية السومرية على عصاه، فكلما هزَّها ظهرَت.

أرواح الكتابة، وتمشَّت الآلهة في شوارع بغداد … يأخذون بيده كأنه أعمى، ويُدخِلونه أحلى التفانين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤