كراسات الموسيقى تتطاير في الشوارع
عسى نأكل هذه الليلة شيئًا نادرًا.
نعم … معي ما يخصُّ الزراعة … عشرة محاصيل، لكنَّ اليد مكسَّرة والزراعة بائرة، شلَّ اليد والفأس … هدَّ اليدَ الفم … سدَّ اليدَ والكأس. أخفى اليدَ والنار … شدَّ اليدَ بالغد … دام الماءُ والسد … هذا المدُّ يأخذنا. مهر جهرم … في يده حرفةُ الصائغ … في يده التقاويم.
عذراء تحت سُلطة السُّكر، والهوى غامض عجيب، يلعب بها ليلَ نهار؛ شفتاكِ مشتعلتان وجسمكِ يتلوَّى، والغرام، الغرام القوي يفتك بكِ.
كراسات الموسيقى تتطاير في الشوارع … مدوَّنات النوتة العمياء، أكثر البنات صاحبةُ أفخاذٍ مفتولة ونهودٍ زعلانة وعيونٍ بُركانية، أخذتْني بين أحجار الجحيم الحمراء، وأرتْني في الدربيل الطيورَ البعيدة، وأرتْني المياه العميقة … أرتْني أعشابَ سرَّتها وشفراتِ غليانها، أرتْني الأبسو. بكاءٌ مُر مرمريٌّ، وقوارب الرُّوح الغاصَّة، أكياسُ الشعير ورطلُ الدمِ الحائر في قاموسي، وفي قبَّتي … المفتاح الفوَّاح والشمس الحنطاوية.
يتردَّد بين الحبِّ الزيجي الأبيض والحبِّ المدنَّس الأسود … أملحُ يلعب البيضةَ والحجر … واوي يركض بين البيوت … حاوٍ عنده حيَّات … أزعر، دمه يلعب … مأوى قلبه أبيض. لم يهدأ إلى الآن … مرةً في الغيمة، ومرةً في المستنقع. كان التهليل الجيَّاش … الهلال الفاحش يفتح أبوابي، ويرشُّ دموعي، يرشُّ قمري، ويهشُّ على مَن مرَّ وفرَّ، فجرٌ يتشيطن ويغزو الشوارع … أسماك وصحون يفضحها الضوء.
ينخبز خُبز الصباح؛ فالذي يأكل أولَ رغيف تموت أمُّه، والذي يأكل لبَّ البصل يموت أبوه … والذي يأكل من رأس الباقة يأتي زواجه في المطر … أمَّا الذي يأكل كلَّ الطعام ويترك الناس يجوعون فيصير رمادًا.
يأتي عليه الذبان … يأتي عليه الغربان … تأتي وتمشي الجيوش، تقرع وتغشى الدفوف.
ينثرون فوق العروس سكَّرات تدفع الشرَّ … ينثرون فوق الماء حَب رُقى. اللبن المخيض شكوتي … لبنٌ مخيض يختصر رائحةَ العالَم، شكوتي تتفطَّر ويعلوها البخار … شكوتي الحارَّة تكوي شفتي … شكوتي المشكاة والخيط وترديد طعامي.
في كركوك وتحت أجنَّةِ البيوت … تحت بيوتِ القصب … في كركوك تحت عرَصَات الطين وضعتِني أمي، وكنتُ صغيرًا بحجم السمكة الصغيرة، ملفوفًا بقماشِ أبيض … أخذتْني القطعة وهربتْ بي إلى الشارع، وركض وراءها أبي فتركتْني وانهزمتْ … كانت أمي ما زالت في غيبوبة الولادة.
كنت سأموت كما وُلدتُ، وكان يمكن أن تكون زيارتي لهذا العالَم أخفَّ بكثيرٍ ممَّا هي عليه الآن … دائمًا أفكِّر، مَن يقول إنَّ القطط لن تأكلني ثانيةً … دائمًا أقول إنَّ المسألة مسألةُ وقت … ثم مَن يقول إنَّ القطط لم تباشر بأكلي … دائمًا أشعُر بأعضاء مأكولة فيَّ.
تخرج ثانيةً … تخرج … أمُّ الماء … أمُّ النار … أمُّ لفَّة الحطبِ التي تركض في الحقول ونهودها تهتزُّ … مرورها يحرِّك الريح؛ فتمطر الغيوم، مرورها فستق … مرورها عنَّاب … مرورها أحباب … مزامير داود تحرسها … مزامير تموز، مزامير الورد الباتع … مزامير الغفران.
تدخل إلى كنيفها … محتارةً ماذا تفعل.
تضرب على الطابعة، تلبس الصديري الأبيض، تأكل لفَّة، تفرقع الدهن كلَّ صباح، تغنِّي بمحاسنك، تضع أحمرَ شفاه، تسقي النباتات، تخيط شرشفًا، تبلع حيَّة، تفحص شرائح الأنسجة بالميكروسكوب، تقطع الكلاوي، تثير الورد بأرنبةِ ثديها … ماذا تفعل؟ كلُّ هذا لا يكفي.
تزرِّر قميصها وتخرج إلى العالم … تحمل من السوق ما يُسكر … آثارُ حفرة طويلةٍ ملتوية على الأرض … ثعبان منقرِض مرَّ فيها، رائحة البنات الشهوانيات المارَّات في الزبَد، المخترقات البُخارَ تسرِع … صاحبها سيذهب، هل هذا هو الحلُّ؟ لا نعرف؛ هذا نوعٌ من الحلول السريعة.
مبربع … أليس كذلك؟ طبعًا … قلعةٌ وثنية يمكن أن تجعلنا نطير إذا استخدمنا سِحر الكشفو … أردانه وسخةٌ وسُترته حمراء، حقله الواسع يغلي حبوبًا … حقله يتدفَّق.
يفرِّق قوته في الخمر والكتابة ليتحاشى الجنس … يُغدق على رغباته الكثير، يُغدق على ترَفه ومخمله وجنونه … يتنغَّم … يتلهَّى … يتغندر، يده على عينه ترى عيني، يده على فمي تكلِّم يدي، الصلوات له ولي، في مائه الذي يجري القصب … تظهر الأسماك، نام على ظَهْره فوق الماء وهو يقرأ المجلة.
يخشخشون والنهار وراءَ القضبانِ، صامتٌ وحزين، تحت مخدته التاج — ضامنها! — المياه والشرك والنجوم له … ماذا يريد أكثر من هذا؟
مخبَّل والقرآن بصدره يقتحم أعتى الحِراسات … يقتحم الفجر قبل أن يظهر … ويرى أنْ لا نهايةَ أعظمُ من الجنون.
بيضة العالم تحت كتابه، وفي يده يهتزُّ الصليب، رسم قوس سقوط آدم وحواء وحدَّد إحداثيات مكانِ سقوطها … تقريبًا على ضفَّة دجلةَ في منطقة الشواكة … لا أحدَ يشاطره هذا الرأي … ومع ذلك، توجد آثارُ أقدامِ آدم في الصالحية.
لماذا؟ … لماذا يا سيد سريوط؟ … لماذا وقفتَ حزينًا أمام التاريخ؟ كان الموج يضرب أقدامك وأنت تحمل الكَطاطين وتُعطيها إلى الناس، وكانت راياتُ سومر المفصَّصة ترفُّ وراءَك.
ولدتْه أمُّه في أيام القحط حيث لا ماء ولا طعام فسرطته. وأعادته إلى بطنها … وحين ظهَرَ الماءُ والطعامُ أنجبتْه ثانيةً، فقام إلى الماء وكاثرَهُ، ونثَرَ الطعام على الأهوار؛ فامتلأتْ بالغلَّة.
أنت الطير الطائر فوق المدن المائية … أنت الإيكاروسيُّ الإدريسيُّ، حفيد الراعي إيتانا والراعي آدابا، الشمس مسحاتُك والطواويس عرباتُك إلى الفردوس، طِرتَ إلى السماء وثبَّتَّ الشمسَ بالدبابيس، وفي الليل وضعتَ القمر بين قدمَيك وتنحَّيتَ عن المشهد.
آلاف الكتب تلفُّها الشموع والرياحين … مخبَّأة في السراديب، سيقرؤها ليعرف ماذا حصل في القرن السابع الميلادي … عصر الهرامسة الطافرين في المدن المُلاحَقين بالإبر والغبار.
يلتهم الأصدافَ والشموع والرياحين … يلتهم عيونَه الليلُ … تلتهم آذانه الشمسُ … يلتهم الجهاتِ … يتحوَّل … يكسف حواسيَّته … يلمس يبوسيته، يغفو … يحلم … يكاد يموت … ينهض في دامو … نسْخُ البناتِ والنباتِ هل يعيد دائرةَ المصير كلَّ مرة؟ يشتري كتابَ الماديل لسليمان الملك، وكتاب اليزرع، وكتاب الكنزا ويدخل في القبو.