الفصل الثاني

درَجُ جفِّفي لي أولَ الطريق يا نانشهْ

درجٌ صَعدَ به إلى النجوم، تحيط به الملائكة وتدثِّره بالجِزَّة الذهبية، وتضع في فمه زهرةً حارَّة.

شاهدوه بعربة الملائكة وهي تصعد، ومربَّعٌ من الحواريين يرفُّون حوله (الأسد، النمر، القرد، التمساح): يا سُكَّالي … يا سُكَّالي، يا إسمود … يا سُكَّالي، إنه لمن دواعي السرور أن تجلب لي هذه البنتَ، هل فهمت يا سُكَّالي؟

الرجل المعجون بالمعجون … الرجل المدلَّى من بستان التين، الرجل ذو أفخاذ الليف الزجاجية، رجل المعدان، رجل الفافون، رجل البرلون … الرجل أبو الأيادي الأربعة يدخل في كنيفٍ صوفي، تكياتُه أحلى من الوردة، تكياته إيساجيل وزخرفةٌ موسيقية.

دخل هيكلَ إبليس وخربَطَه … وضَعَ النار في العيون والحطب في السُّرة، وضَعَ الشمالَ في اليدَين والجنوبَ في الدماغ، وضع المياه في الخدود والصخورَ في القلوب. وضَعَ أعمدة الهيكل الأربعة في العناصر: الماء، والتراب، والهواء، والنار.

•••

نقَلَ هيكلَ إبليس من الفضاء إلى الأغوار … أغوار النفس أو أغوار المدينة. ما دام الأمر أصبح هكذا؛ عليه أن يصعد. في طريقه للصعود، تأمَّلَ شرائحَ اللَّحم وحلقاتِ البصل، وتأمَّل صفَّ أنبذةٍ بيضاء، تأمَّل باعة الأرصفة يسرقون الناس، تأمَّل الناس يسرقون بعضهم، تأمَّل بعضهم يسرقون الضوء، تأمَّل المدن ورأى أنها أسواقٌ للبضاعة والأفكار، تأمَّل الأمم ورأى أنها تقلب وتنقلب، تأمَّل الحقيقة ورأى أنها تحتجب وتتلوَّن ولا تظهر حتى في أعالي الدَّرَج.

يده متبَّلة بالخواتم وآثارِ التبغ.

صَعدَ مثلَ أميرٍ وكَبدُه مرمَّم.

أصابعي نانا … شعراتي نِنار … لساني دو-ري … عيوني فا-صول … أذناي لا-سي، حُزني فريدٌ وعذْبٌ، ودولتي الجمال.

أُرسِلُ طواعيةً هذا الولعَ من محاجري وشفاهي وخدودي. إشارات لا يفهمها إلا الرهبان. كنتُ فرِحًا بكَ وبسرب الطيور الذي قدَّامك وأنت تسوقه، ولكنَّ المديح أعلى منك ومني … فسَحَبك إلى الهاوية.

فجفِّفي لي أولَ الطريق يا نانشهْ … جفِّفيه وسأعبر، هَفْهِفي لي … شمشمي لي يا بزونهْ … يا مُهرِّبةَ السمك … يا ماحيةَ الأُميَّة.

عسى البيت يبتهج وتمتلئ عيون الصغار بالمحبة.

عسى تنمو، في الشارع، الرحمةُ والسلام؛ والناس لا يُخدعون.

عسى … في الكتابة، تنمو شجرة الحريَّة.

عسى … في الغيوم، تتحشَّد المياه.

عسى النباتات تعلو.

عسى العقول تُضاء.

عسى الأيدي نظيفة.

عسى المساءُ سعيد.

عسى الصباحُ أكيد.

عسى المالُ كثير.

عسى الأنهارُ، كلُّها، سمَكٌ وماءٌ حلو.

عسى العسل يملأ الصحون.

عسى البنات يُصبحن أجمل.

عسى الأولاد يحلمون أحلى.

عسى الفلَّاح يرتاح.

عسى الفلَّاحة تفاحة.

عسى … عسى … جففي لي آخِرَ الطريق يا نانشه.

يلمع مثل الراوند، يلمع مثل الخرزة. عروة قلبه في عيونها وهي نعسانة دائمًا … يمشي وفي أجفانه الطبول.

يداه في الغيمة … لا يركع ولا يهادن. يدغدغ أقدامه ويصعد.

سرِّي يموت في اليدَين، سرِّي يموت في البذرة، سرِّي في لبَّة العنكبوت، سرِّي في النقطة، سرِّي في القطَّة، سرِّي في الأدغال، سرِّي في البوسنا، سرِّي في النار الحرَّاقة، سرِّي في القمر المخسوف كطرَّة، سرِّي في الشمس يدحرجها نَسْر الأعالي بين قدمَيه. صعدتْ معي هذه الحشود وكان العلف بين أسنانها وهي تلوك، لم تلمع في صدرها قطرةُ ماء أو ضوء؛ كلُّها سُخام في سخام. لَمعَ الصِّلُّ، ولم يَلمَع في الزرع النَّدى.

اهتفني، إذن، في عمائها وسترى. سأقلب عليك الهيولى والطُّوسَ وسأقلب … ماذا تتوقع من رجلٍ ممرَّغ بالسُّفليات والمغانيط والزايرجات والخَبل؟

ماذا تتوقع من يدٍ لا تهتف إلا للخمر وللحرارة؟

ماذا تتوقع من أصابع متبَّلة بالضوء؟

ماذا؟ أنت الذي أهملتَ جسدك وحقيقتك.

لستُ معنيًّا بك، ولكن ثقْ أنت أكبرُ خاسرٍ على هذه الأرض، وتأكَّدْ بأنَّك ستموت إذا اكتشفتَ الحقيقة.

هل يعقل أن يجري إنسانٌ وراء اللافتات!

في تقويم عشتار، الإلهة ذاتُ الفم الكرز والعيون البقر … سيولٌ تنحدر في حُزيران. في تقويمها، تقوم نوع من الفيروسات بمهاجمة الأغشية الداخلية للإنسان. وفي تقويمها، وتحديدًا في شهر آب، تنزل بروقٌ وتشجُّ الرءوسَ وتفلق البذورَ التي سبتتْ كلَّ هذه العصور … تخرج أشجارٌ غريبة، وربما تخرج معها الطيور التي كانت تُعَشْعش فيها، وهي طيورٌ مندثِرة.

تصعد الربَّة عشتار من جديد، بعد أن يذوب الجليد، وتنظِّم السدود وتشرف على الامتحانات وتقرص البنات من خدودهنَّ لتحمرَّ. في هذا المكان العالي … في هذه الربوات المفتوحة ترمي عشتار خضابها ووغف صابونها على النساء، فيخرجنَ من المغاور أحلى من عشتار ومن أمِّها … فتتعجب هي وأتعجب معها وننظر إلى النقيبة فيهنَّ:

أكتافٌ رِفاع، ونهودٌ تِلاع، وكفَلٌ ملآن. وربلةُ ساقٍ، وحجلٌ شَعاع. المرأة المضمَّخة مِسكًا وعنبرًا، الحاملة المصباحَ في الليل تبحث عن مهيِّجها والدم يرتجف تحت الجلد ويسطع. امرأةٌ وسطَ الخوخ والخمر والذهب والنار والطين المقمَّر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤