الفصل الثاني والعشرون

درَج المغني

روى أبي مرةً قال: حين لم تحبل أمُّك بك، ذهبتُ إلى جبل، وفرَّعت رأسي، ودعوتُ يا ربِّ فرِّج قنواتي … فرِّج ثمري … يا ربِّ. فصادف أن رأيتُ نسرًا في فم حيَّة، فضربتُ الحيَّة؛ فقال النسر: تعالَ أدلُّك على نبتٍ يُعيد لك قوةَ النسل، ووضعني على ظهره، وصعد حتى صارت الجداول صغيرةً، والجبال ندبًا، والبيوت بحجم رأس الإبرة، وصعد حتى اختفَت الأرض، وصعد حتى وصلنا إلى السماء، وهناك وجدتُ عثقًا ثخينًا، ووجدتُ بقُربه ثمرةً كادت تيبس، فأخذتُها ورجعتُ على ظهر النسر، وراح قلبي وكدتُ أموت من الهبوط وأنا آكل العثق والثمرة، حتى وصلتُ إلى بيتي وبعد سنة جئتَ إلى الدنيا، واليوم ما زلتُ أرى فيك حُب التطلُّع إلى الأعالي؛ فأنت من هناك ولدتَ … من السماء.

إذا كانت هذه هي قصة ولادتي؛ فلا بد لي أن أغنِّي … ولا بد لي من أغنيةٍ عالية كي لا أصحو.

جسدٌ رضراضٌ كبريتيٌّ، ويشعُّ
شمسية في الصيف … شمسية في المطر

تراب الأصابع يتناثر في الكتابة … مرةً واحدة نعثر في حياتنا على الكنز؛ الصدفة … فإذا لم نلتقطه … خلص … لا يعود.

أشعر بأني غير موجود … أحيانًا أنظر في المِرآة فأتفاجأ … هل أنا هو هذا الذي أراه؟ … أصنع حركاتٍ سخيفةً، ثم أقول: هل من المعقول، هذا وجهي؟ … هل من المعقول أنني متزوج؟ … هل من المعقول أني أكتب كلَّ هذا؟ … هل من المعقول أن هؤلاء أبنائي … ما معنى أبنائي؟

لمَ لم أصعد على ظَهر النسر لأنجب هؤلاء الأبناء … أشياءُ عجيبةٌ. غربالٌ، يصفِّيني ويضعني في يومي.

أقدامي تدخل في خنوعها، فتسلك الدرب المستقيم، وجلدي يدخل في ضيقه، فينكمش … الفانوس الشاسع … الممتلكات الناصعة … عيون عروسية … الروح البرتقالية الواضحة … لا بد أن أدوِّن خريفي … هذا رزِّي المرُّ، وهذه جمهراتي الثرية الفاحشة التي يفسِّخها فيروس واحد ويلعنها. منديلي وأعاجيبي مثل ساحرٍ حديثٍ أخرق. أرفع المنديل تخرج حمامة … تخرج حمامة … أين الطقوس؟

الظهيرة هي الوقت الصحيح لممارسة علم فلكٍ سريٍّ؛ قنزعات مزركَشة مطبطبة.

ثم ينهض في ربيع الثلج والأيام الباردة المريبة … الخميس الحزين، اليد المعروقة. في أريدو ينهض النور، وفي شروباك نهض الماء، يا إله النور والماء … يا وجهها، تصير الكواكب شمَّات غروبٍ ونهارٍ ونورٍ … تصير الكواكب ضبَّةَ خواتم … تصير الكواكب حصى تموز أبو المزامير … يغلي ويقرقع … يمشي ويقلع النار من الحطب، والفجر من حنجرة الديك.

تموز المسخَّم بالخمور … لا يعرف مكان بيته … تموز يغنِّي آخِر الليل … وضع ربطة عنق وردية، ووضع الدانتيل الأخضر، وذهب في طريق الأبقار يُعينه صولجان من الغصون. البودرة التي ترشُّ نهارَنا القبيح . الليل الذي تشطفه عيوننا المرهَقة.

أراد أن يحصل على الليل كلِّه … تعقَّب الليل، وتمكَّن منه قبل الفجر، لكن سهامًا آتيةً من السماء شلَّت يده … ما هذا؟ فصُّ الليل؟ ما هذا؟ شص الليل؟ ما هذا؟ رأس الليل؟ حسنًا؛ خُذ هذا الحبل، وجرَّه من الحلقة الموضوعة في أنفه … جرَّه واسبطر، جرَّه واستطر، جرَّه وانشطر.

لا فائدة … لا الليل استطاعه، ولا الأغاني نفعت!

الديك مذبوح، والفجر معطَّل، والعاشق التائه بخمرته يطرق على الأبواب من شدَّة ولَهِه … يمشي ويكلِّم نفسه. الورد السريُّ ورشقاتُه.

عندما أفاقَ ولم يجِد الربيع، استحمَّ بالرماد … أوتاره على صدره مقطَّعة ونازفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤