الأخطاء التي تحوَّلتْ إلى دم
عادت بي الأفعى إلى البرك الصغيرة … فأمسكتُ عصاي وعاودتُ السَّير … نظَّفتُ ملابسي وجنطتي ويدي من المياه الآسنة، وقمتُ بمعونة أربع فراشاتٍ ليلية.
حين وقفتُ، رأيتُ ما لا يصدِّقه عقل!
ألوان الليل تنبش ما دفنت من النساء في جسدي: امرأة الذهب الأحمر، امرأة الشعاع الخوخي الفاقع، امرأة البياض الغيتاري، امرأة الطرَّة الحمراء البستانية، امرأة السجَّادة الصفراء، امرأة السيف الأسود، امرأة الوردي المخلوط، امرأة الفوَّهات البركانية، امرأة الشبق الدفلي، امرأة التطريز الخمريِّ، المرأة الحيَّة الحمراء الرمَّانية، امرأة الشمس السائلة، امرأة الركعة الصفراء، امرأة النهر المرعوص، امرأة الخوص، امرأة الرائحةِ الحنطة، امرأة النار.
مضى تجرُّه الشوارع، وتسحبُ عنقَه النجوم … مضى وفي جيبه صُورها، ومعه المنديل الذي تطرَّز بأسمائها الاثني عشر وألقابها السبعة، مضى وحده وشقَّ الطريق الطويل بذكرياتها … سيكون طريقه وعرًا، لكنَّ القمر معه سيحبُّه ويرعاه ويمسِّد له شَعره كلَّ ليلة … ستهديه المنائر والقباب التي سيصادفها، وسيعرف من الأذان أوقات اليوم، مضى ولا أظن أنه سيتيه؛ فقد أوصتْه أن يتذكَّرها كلَّما لاقى مصيبةً. ولكنْ، هل يعود؟ هل يعود؟
اليوم انكسرتْ صورته المعلَّقة في الغرفة؛ فانفجرت أكثرُ من نقطة دمٍ في بيتها … كان حبيبها يسرِّح شَعرها ويختار لها أحذيتها، وكان يضع لها حُمرة شفاهها بعد أن يُشبعها قُبلًا، وكان هو الذي يُلبسها الخواتم والقلائد، وكان لا يشبع منها أبدًا. لكنَّها ذاتَ مرة قالت له: أنت متعلِّق بي أكثر ممَّا يجب … أرجوك، هذا حُب عنيف لا أستطيع عليه … هل يمكنك أن تحبَّني نصفَ هذا الحُب؟ بدأ يفكِّر في كلامها، وشيئًا فشيئًا بدأ يبتعد عنها، ولم يعُد يسرِّح شَعرها، ولم يعُد يضع لها حُمرة شفاهها … ثم لم يعُد … ولم يعُد … ولم يعُد أبدًا.
عُمرنا يركض … ولا يمشي، ولا تأتي المعجزات … لماذا إذن كلُّ هذه الدرنات في أفواهنا؟ … ولماذا عِقد الخُرْنوب، هذا الذي نتلمَّسُه تحتَ جلودنا؟ وخزةُ ألمٍ في اليد … ودمعُ الشموع يغطِّي هذه السهرات النرجسية العِرقية التائهة.
اضربني على الطبل من أجلها … اضربني أيها الغناء العميق … في السرِّ لَبسَ أساورَه، وتحلَّى بكحلةٍ وخواتمَ مشينة. السرور يملأ أطلَسَه، وأطلسه يملأ الحنين.
كمْ من الخمور سأعبُّ لأستعيد أيامي مع النساء؟ كمْ من الحوارات سأحاول كذبًا؟ كمْ من الدموع؟
المرأة العيطة … الحلوة … أمُّ الأرداف الزينة … الدفلى … أمُّ الطول العنباويِّ … أمُّ ثنيةِ الشبوط … أمُّ دفِّ الورد … المرأة الناقة … المرأة الباقة … المرأة البِلَّور.
احكِ … احكِ؛ في يدك تنحسر ضبابات القرون المطعونة الخاوية … احكِ … ليزول الملطخ الغزير.
احكي … جلدي مهروشٌ من بقِّ الحروب … من مطر الحروب.
احكي لي عن الحُب، وتغسلين معي رهطًا يتدافع في الأسواق ويبحث عن كيلو طحين.
تتغلَّب علي عيوني وتدور.
تتغلَّب علي متوني وأنا أحمل الحطبَ كلَّ يوم.
متوني تغلظ … وتغلظ معها أقدامي.
الحوصلة الحمراء لهذه الأيام تلمع في انتظارِ الإنذار … لماذا لا نثقبها بدبوس ونجعلها تفشُّ؟ جلدها سميك ولا يستطيع كركٌ أن يثقبه.
ستنفجر علينا وتُدمينا الحوصلة هذه، خزينُ أخطائنا الإملائية، والنحوية والبلاغية والفقهية والعلمية والروحية والفنية والشِّعرية، ولا بد أن تنفجر.
– لكنها ستنفجر دمًا.
– الأخطاء عندما تُترك؛ تتحوَّل إلى دم يسيح في الشوارع.