الفصل الثامن والعشرون

حيَّة ٩٩

يا إلهي دو … دو، وينتهي كلُّ شيء … يا إلهي اثنان وأصِلُ إلى المئة … أيها القدَر … أيها القدَر الذي يرمي بالزار … اثنان فقط … ارمِ … ارمِ.

– يك.

– معقولة!

ألملم أغراضي وأحمل الجنطةَ وأقفرُ من فم الأفعى الضخمة الساعةَ الثالثة بعد الليل … خارجٌ من غبار المكان … خارجٌ من غبار الزمان، تبلعني الحيَّة وأنا مُتخمٌ بالعويل … مُتخمٌ بالجنون، ثمِلٌ لا أعرف رِجلي من رأسي.

الشوارع أمعاء المدينة … مثل الحيَّات مسنَّحة ونائمة … تقوم ببطءٍ آخرَ الليل، وترفع أجسامها فوق المدينة … تتلوَّى، وتنفث، وتلعب.

تحت أعمدة متراصَّة … يشتعل غليونه … التاريخ يتطاير ويبوخ وهو يراقبه بحُزن.

رمادُ عقله يسقط بين يديه.

في يده الحنان، ولكنه لا يستطيع. يصعد مع عمود النور المسلَّط عليه … يرى الأسواقَ ويحبسها … حفلٌ مدرسيٌّ مربِك.

كنت مختبئًا في بيتٍ صغير اسمه بيتُ أطفالي … فلماذا خرجتُ؟

كمْ من القسوة سأرى؟

كانت الكتابة تهيِّجني، ومنظر البومة يستفزُّ أشجاري.

أمَّا الآن فلا أعُد بشيء.

لم تعُد الكتابة تغري.

عن ماذا يتحدَّث التاريخ؟ عن أُحجية! عن فلاةٍ مزدحمة بالخرفان! عن ربيعٍ منتهك!

الطبيعة تمنحنا الجمالَ فنحرقه … الطبيعة تمنحنا الصمتَ فنخرقه … الطبيعة تمنحنا الوفاءَ فنلعنه.

مَن … مَن سببُ الحرب؟ نايٌ بليدٌ وأعمى يعزف للماعز منذ اكتشاف الزراعة. سببُ الحروب طفولةٌ مقطَّعة وأغانٍ سوقيةٍ لا بدَّ لنا من الجنون كلِّه حتى نشفى.

زهرة الأكاسيا تؤرخ لسيدة كابل وهي تمنع بمهفَّتها الفيروساتِ عن العالم.

رطبةٌ … لدنةٌ … تجلبُ المتعةَ والخطيئة.

أدَّى صلوات الشُّكر بعد أن تجوَّل في العصور.

فخذٌ مخردَل ومتبَّل والنار نازلة منه كنبيذ … أصواتٌ تشبه الرماد في ذاكرته.

«اسمع ستأتي
خالبة الألباب … هيِّئها لي
أطعمْها … شرِّبها
أمام تمثال الأسد، لاطِفْها
وستأتي اللبوة … ستأتي
لباب الخمر … أنا أنتظر.»

الْتهبت عروقه، وصعد في عيونه الشمعدان … السمك النابض لطَّفَ فمه بالدخان وتمطَّق وشمشم، المتعوس الوردان الشيطان هذا.

في يده ملقُ النساء … سينجح.
«اسمع يا صاحبي … اسمع
ستأتي فؤاد الكمان … ستأتي
وردة الشمبانيا … ستأتي
باللطف، ستأتي بالوهج
ستأتي بالفجر وتوسِّدني،
حضِّر لها الخمرَ … والرحيق
الشفاه اللزجة مثل الزهرة
الصدر الذابح مثل زجاجة.»
الإغواء الحقيقي لزندها.
ألاطفُ أسَدَ أقدامها وأفوت.

في الرِّجل امرأةٌ منقرِضة، يُسمع صداها يتردد ولا نعثر عليها … نبحث عنها في امرأةٍ فلا نجِدها … نبحث عنها في الخمرة فلا نجدها … نبحث عنها في الدُّخان … نبحث عنها في الضلع فلا نجدها … أين ذهبتْ؟

سبب غنائِهِ جثَّة سومر في داخله التي تأبى التفسُّخَ … يمطرح الأرض ويقلِّبها … يُخرج الحصى والبيضَ والحشرات من شَعرها، ثم يفرك جسدها ويورِّده … أصبحت صالحةً للإخصاب. صحيحٌ أن قصيدته شعبية، ولكنها مزروعةٌ بالأسرار.

الشمع مدفونٌ ويداه تصيح.

ارتعبت الخيول أمام الماءِ، وصهلتْ بعنفٍ فظهرتَ.

فجرُ ظهوركَ ذهبٌ وإلى الأزل كلماتك عافيةٌ.

في يدك الأذن الصاغية.

وجهٌ مخمليٌّ وزنبقيٌّ وحارٌّ … في يده عنبرة … في يده مرمرة … والشمس تقلع جذورَ الجزر … رُد … رُد … عن مرامكَ وتعالَ بالحلال.

– يا حلال، يا حرام! الدنيا انقلبتْ؛ الفوق تحت، والحرب لم تمسَّ شيئًا إلا ومسخته. تعالي أدلُّكِ على شيءٍ واحد صحيح؛ هل تنظرين هذا الطريق؟

– أين؟

– هذا الطريق الطويل … هذا.

إلى اليمين دُر … عادةً سِر … لا تلتفتي، هذا ليس عالمكِ. رغبة بالموت تعتريه … ماذا يفعل، أخَذَ من كيس البذور وهو في السيارة وطشَّ صمَّ البذور على الموتى … على الجرحى … على المستشفيات … طشَّ البذورَ على المقابر … طشَّ البذورَ على المياه … طشَّ البذورَ على الأسواق … طشَّ البذورَ على الكراجات … طشَّ البذورَ على البيوت.

يرعاكم الله … ولينبت الجمال فيكم من جديد.

الحيَّة الطويلة المشعشَعة المشندخة أم الشوارب … حيَّةُ الشوارع التي تتلوَّى من ساحة الأندلس حتى أطراف البيَّاع وهو يخترقها بسيارة أجرة الساعة الثالثة بعد منتصف الليل … حذاؤه يلمع وهو ذاهب إلى العالم الأسفل … سيبهدلونه هناك … يُهيلون التراب على رأسه، وأقصى ما سيكون عليه أن يصبح زبَّالًا هناك، لكنه مع ذلك سيراقب مجرَّة الماء هذه المحصورة بين النهرَين.

جحيم المياه، يا لجلاله!

أشعل زيوسدرا النار وقدَّم القرابين؛ فشمَّت الآلهة الرائحةَ والْتمَّتْ عليه كالذُّباب.

أمسك شمعةً وجابض أطراف البحارِ الكوني … أراد أن يعرف أطراف جسده، تتدافع في جسمه الأسماك وتطير، الورد أعمى.

إلهةٌ شبِقة رمتْ تماثيلها في الماء، وجعلتنا نتهيَّج؛ فابيضَّ ماءُ الطوفان، ثم ازورَّ، ثم ظهرَت البثور على جلودنا.

أين الصيدليات لكي نتداوى.

أين المعابد لكي ننطرح.

أين الطعام لكي نأكل ونقوى … حسنًا، أين الكاميرا لنأخذ الصور؟

جرق – صورة لإبليس وهو يقذف ماء الطوفان من فمه.

جرق – صورة للمعدان يحملون القُفف ويهربون.

جرق – صورة لمَا تبقى من أطفال لا يعرفون كيف يضحكون.

جرق – صورة لأمِّ حسن النواب تهلِّهل لغيمةٍ بيضاء وسطَ الدخان، وتصيح: هذا صاحب الزمان.

جرق – صورة للأفاعي تخرج من مغاورها وتدخل البيوت التي هجرها الناس.

جرق – صورة للأولياء يتحرك رُفاتهم ضجرًا من القنابل.

جرق – صورة لعشتار ترشُّ على أبنائها الملايين السمَّ بالفليت.

جرق – صورة للطبيب والفيزيائي والشاعر وهم يحملون ماءَ الشرب على المطايا.

جرق – صورة لخرافاتنا تأكلنا واحدًا واحدًا.

جرق – صورة للأم تدفع الباب وتمنع دخول ابنتها للبيت؛ لأن الطعام قليل .

جرق – صورة لأرواحنا يقرضها أبو الجنيب، ويدوسها إيرا.

جرق – صورة للزمان … صورة للمكان … صورة للفرسان … صورة بالألوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤