الفصل الرابع

حيَّة نفقِ ساحة التحرير

حيَّةٌ الْتفَّت على عصاه، وعصاه في يده، وعلى كتفه عباءةُ الفضَّة والذهب، في خنصره خاتَمُ عقيق، ولون الخمر يترقرق في عيونه، وعزف الوتر على لسانه … الرخو … النحاسيِّ … الحماسيِّ العاهر … الوردان.

يسترخي والمعدانُ حوله يحملون شفاعتَه المنتشرة في الماء مثل بيضِ السمك.

حين لَبطَ السَّمَك وتزاهَر؛ أثقلتْه الدفوف وغار فيه السُّم الناري، غار اللَّون المحموم.

نادانا جميعًا فخرجنا من بيوتنا بالدشاديش والبجامات وتُراب النعاسِ ما زال على عيوننا، فنبتعد ونطوف معه شوارعَ وأرصفةً ونطلُّ برءوسنا على حدائقَ مذهِلة … لكنه بسرعةٍ يسحبنا وراءه. ظَهرَ من عصر العماليق، وراءه، يدخل بوَّابةً ضخمة يوصِدها بوُجوهنا فنتعذَّب، ونطرقها ونحن لا نعرف هل ننام … أم نستمرُّ؟ وفيما نحن كذلك، يرمي لنا بوصلةً تشير إلى اتجاهٍ ما؛ فنتعارك فيما بيننا، فيرمي لنا بخريطةٍ ثم بمغانيطَ وأبخرةٍ … فنعتصم به، ولكنه لا يفتح الأبواب … ماذا يعني بكلِّ هذا؟

ماذا يمكن أن يشير؟

وجدنا شقًّا في الجدار فنفذنا منه وتبعناه، كان هو قد وصَلَ إلى ضفَّة النهر وغَطسَ فلَمْ نعُد نراه.

مَن قال إنه غاب؟

يخرج الإنسان عاريًا من الرَّحِم، ويرجع عاريًا إلى القبر … الرَّحِم في الأعلى، والقبر في الأسفل وبينهما نلبس الثياب. هل الحياة هي الثياب؟

يخرج الإنسان بريئًا طاهرًا من الرَّحِم ويرجع شريرًا وسِخًا إلى القبر … الرَّحِم هو الجنَّة، والقبر هو الجحيم وبينهما الملوِّث.

في ساحة التحرير، خرَجَ ديموزي من النَّفق ودخلتْ أخته في النفق المقابِل … حين دخَلَ، كانوا يشْوون تكَّة وكَبَابًا، وكان هو يبيع الخرز وصُورَ الممثِّلات والأختام. ماشات شعره صفراء، وتحت أصابعه الوسخ.

أكَلَ وارتاح وشرِبَ لبنًا ومسَحَ فمه بكمِّه، ثم جرَّ خلفه شبكة الصيد. يقولون إنه كان صيَّادَ سمَكٍ طيِّب … مرةً صاد سمكةً لبطتْ في يده، فأحبَّها وأحبتْه، ونام معها. لكنَّها حنَّتْ إلى العالَم القديم، وراحَت للبحر ونزلتْ للعالَم الأسفل وجرَّته معها.

أمامها حصانٌ يجرُّ قتلاها ويرفع شَعْرها، وذراعها تتوغل في أحشاشه؛ كأني مخذولٌ آشوري أمام بابل السكرانة … أمام التين والحانة.

من هنا … من هناك.

أصفِّق وأُجرِّسُ وأَطرُقُ وأنال.

هبَّت ريحٌ عاتيةٌ سوداءُ مُشنتِرة، ولمحتُ فوانيسَ مخنفِسة. لمحتُ حانةً عباسيةً.

هذا «سِياط» المغنِّي.

وهذا «منصور» زلزل بيده العُودَ والشبُّوط، وصفٌّ من الينابيع ينفجر حوله ويغنِّي بين الخلاسيات:

مَن رأى مثلَ حِبَّتي
تشبه البدرَ إذْ بدا
تدخلُ اليومَ ثمَّ تَدْ
خُلُ أردافُها غدا

يتفطر الناس في دُخان الغرائز والخمر، ويتحولون إلى شُعَل، وتسقسق الأوتار … إناء عسل عشتار يَنكفِئ، وتلتهب سكراتُ البلاط المُثخَنة.

يتفرج هو على لغات الحيوانات والنباتات والإنسان وهي تتناسل بينها، يدرك النوتلت المستحيلة والشمس تزخُّ رمادَ جثَّته.

الغزلان تخور وتتمدَّد في النفق وهو يعزف قصته علينا.

لماذا لا يلتقط هذا النَّص المدفون في الكحول.

لماذا لا يفعلها أبو عيونِ الجرادة … عينه مركَّبة من آلاف العيون يشوف بها كلَّ شيء — أمامه، وراءه، شماله، يمينه — ولذا فالكتابة في المَغاوِر أكثرُ جَدْوى.

زهرة البطاطا تُعرض عن الضوء، ربلة ساقك تهزُّ كِياني.

سأجعلكِ تصيدِين الثعابين، تصيدين المحارات، وتركبين على «أبو الجنيب» مثل فارسة.

سأجعلكِ تفتحين الحلبات، سأجعل مراسيم الشهرة في يديكِ.

هيَّا تعالي نطرِّ الأرضَ ونحفر في خشم الثور الكوني الذي يحملها.

«أين فحل البيت؟ … أين الكوسرة؟» أمَّا أنت يا مصيري فخُذْ كبشةَ الماس هذه وانصرفْ … انصرفْ يا ملعون، يا مهيون، يا مركول، يا غافي.

هذا بَخورٌ لجذب الملائكة، وهذه مسدسات لتخويف المارَّة. أول زلزال حدَثَ في بغداد، خرَّب المنازل والحصون، وهَطلَ مطرٌ غزير بعده لأيام، حتى نبَتَ العُشب فوق سطوح المنازل. حدَثَ هذا مباشرةً بعد نفي شاعرٍ إلى البحر.

حدث هذا عندما سقطت الكلمة تحت السيف ولمعت خرزُ الدم على الكتب الخاصة.

أنساب التين والزيتون، أنساب الساعة، أنساب عزازيل … يا أرضَ الحجارة … يا دِموزي المقتول في البريَّة. خلفَه حرَسٌ وأمامَه حرَسٌ. خُطَّته في الهرب أوزية … يغطُّ من هنا، ويطلع من هناك، والحرس مثل البراغيش يركضون وراءه وهو يغطُّ ويطلع.

كان يشيل الصايةَ الحمراء، وكان نايُه اللازوردي في جيبه والدم يتساقط من جبينه، الورد الأبيض يبكي والورد الأصفر يحكي ثم يمتلئ الوادي بالورد الأحمر.

يمشي بين المقصَّات ولا ينقطع.

مَن منكم بلِحيةٍ سوداءَ محمرَّة؟

ومَن منكم يمشي مرفوعَ الذيل؟

ومَن منكم فحلُ الليل؟

ومَن مشجوجُ الرأس والنَّحر؟

ومَن منكم كُوبُه بين أقدام ماشيته؟

ومَن منكم الورد المدلَّى من الشُّرفات؟

ومَن منكم أبو الخواتم والنجوم التي تقطر دمًا؟

يا نحيبَ العاريات.

يا نحيبَ الشاقَّاتِ الثوبَ والشيلة.

تمسك عمتي «شنينة» كتابَ العزاء وتصدح، تمسك الكتاب الزينبي وتنوح، ودم دموزي يقطر من عيون الباكيات؛ النسغ الصاعد في النبات، والنبات.

تمسك «شنينة» الكتابَ وتجعلهنَّ يردحنَ وينثرنَ شعورهنَّ.

وضاعْ وضاعْ يا عمَّه … وضاعْ وضاعْ من إيدي.

أحوه … أحوه.

يا إلهي … كمْ من الجمال نرى حتى نشبع.

حوشٌ كلُّه نساء بصدورٍ عارية، ينثُرن الشَّعر إلى الشرق، ينثرن الشَّعر إلى الشمال ورُءوسهن في مراكز الصُّلبان والدمعُ يجري … يستنزلنَ المطر.

أيُّ فلكٍ … وأيُّ رمادٍ … وأيُّ شُهبٍ … وأيَّ أُبَّهةٍ تُخزي العيونَ بجمالها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤