الفصل السابع

وفاة مهندز بغداد

يفتح الجريدة ويقرأ في صفحة الوَفيات (مات الحجَّاج بن أرطأة) مهندز بغداد، وواضع خريطتها، والمشرف على بنائها … كان صديقُه، يا إلهي استرنا.

هل توفي حقًّا، أم السُّم البطيء شقَّق جسده.

الشقوق تظهر على سور بغداد.

توفي في نفس سنة بنائها.

المنصور والمهندز يتقابلان.

السيف والفرجال يتحاوران:

– إمَّا أنت، وإمَّا أنا.

– أنا أكمِّلك … وأنت تكمِّلني.

– أنت تنافسني، وتتسابق معي.

– والمدورة!

– مدورتي لا مدورتك … هل تسمع الدهرَ ماذا يقول؟

– أنت المركز وأنا المحيط.

– بل أنا المركز والمحيط … ثم مَن قال بأنَّك لن تَصنع لغيري مثلَها.

سفنٌ كثيرة احترقت، وظهر في شقوق السور دم، وباض الغراب فيها بيضًا أسوَدَ ظهرتْ منه الأفاعي بعد خمسة قرون.

عينان قريبتان من النهر ويده تتستر على فنِّه، كفَّاه معطرتان بالحماس والغواية … كأنه الرفيع المقام … كأنه السرور المبجَّل النشيط، يصنع خرافته ويمرُّ دون أن ينحني.

عيون السمندل تتربص به، مرةً أخرى يتشهَّى هذه الغيوم. لمسة حارَّة من أعماق الينبوع تملأ عيونه دموعًا. تعلَّق بغبار المرآة الحمراء وبلبدة السَّبع الشمسي وأمسَكَ بذيل التزيُّن، وتفرَّج على معارض الأحذية ومجلات الأزياء وسجلات الرصيد تاجوي، وتعاليم المتصوِّفة، وصليل أجنحة الرُّهبان، وحمَّامات بغداد وطبقات خرافاتها العشرة. ولقيَ سومر فيها، هورنات الشوارع وحوادث المرح والزلازل الخفية، وبنايات مستشفى الولادة، ومِعجَن صَلْصال ننماخ، وشاهدات المقابر، ومدافن الخلفاء العباسيين وسراديب الإشراقيين، ومحلات البقالة والمشروبات الروحية؛ وتأمَّلَ في لغات أطفالها، ودُكنة طوابع البريد، وكوابيس السياسة، وأخشاب صليب الإله ننار، وثعابين نرجال، وصيد السمك وقليه، وعيد البذار، وعيد الحصاد، وفن صياغة الحلي والمحاريث وطيور الذهب، والكتب المستورة، وورق القمار، وميداليات الأصابع، وأسواق الملابس المستعملة، ومشاتل الأزهار، ومقابر اليهود.

الكاهن يقطِّر ماء الورد على رُءوس التائبات واحدةً بعد أخرى، ويتمتِمُ بدعاءٍ للتائبين:

تفضل … تفضل.

ألَا تشبعون من الالتصاقِ ببعض.

تفضَّلْ، ادخُل الدهليزَ وصُمْ

تفضَّلي ارمي بنذركِ.

تفضَّل، ادخُل التوبةَ وانزعْ ساعتك.

تفضلوا … تفضلوا كفِّروا بالهدايا. كلما كثرَت الأخطاء … كثرَت الأرباح، يطبكم مرض.

عينُ الحصان مثل الساعة، ولمعانُ جِلْدِه وارتفاعُ ذيلِه أوامر.

أخاديد الغروب، ودِنان السُّكْر، وسيلٌ داكن … بحيرةُ وردٍ، وبيرة … بحيرةُ قمر، ويدوم تراخي اليدَين … يدوم تراخي العينَين.

استقرَّ الربُّ في عيني، ثم في أحشائي، ثم في عقلي؛ وأصبحتُ أراه في كلِّ شيء.

اقرأْ … اقرأْ لي النورَ الصبيَّ … هذه اتصالاتُ نهضةِ الربيع بما قبلها … الأمم الزرقاء خرجتْ من المِعجَن، وتدفَّقت في اللحم … الأمم الصفراء تدفَّقت في محوحِ العِظام.

الأسماك تكاثرت في يده، وبيضُها صار خضابًا.

انحنى على أعواد الرطب يقطفها … نضجتْ قبل الأوان.

ليلة الغبار … ليلة الدفن، الجميع خذلوه.

نُنصت … ننصت لهذا الخرير … أختُنا.

مبحوحٌ ومطبَّعٌ بالكثير من الهزائم.

شَعرُه يتصلَّب وأعضاؤه تدخل في الكسوف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤