الفصل الثاني
عن مفهوم اللغة والنص
منذ الفصل الأول في رواية صخور السماء يتضح أن مشكلة
الأدب عند إدوار الخراط ترتبط ارتباطًا عميقًا بمشكلة اللغة من ناحية، وبمشكلة النوع
الأدبي
من ناحية أخرى، كما توجد محاولة دءوبة وإصرار شديد — من جانب المؤلف — على الوصول إلى
«أبجدية سحرية» تُتيح انتصار الروح. ويناقش إدوار الخراط هذه القضية في خاتمة الفصل الأول
من الرواية، لكن قبل تحليل هذه المناقشة أقوم — أولًا — بتحليل المشهدين اللذين أثارا
هذه
القضية.
يبدأ الفصل الأول بحديث الراوي الشيخ الذي أشرف على الموت، أو يعاني من حدة النهايات،
ولم
يبقَ له شيء سوى الذكريات. وبالفعل، ينجح الراوي الشيخ في التذكُّر والتغلُّب على مشاعر
الموت، فيبدأ النص الذي يتكوَّن من نسيج هذه الذكريات؛ يبدأ من الطفولة: طفولة العمر
وطفولة
الحب. وقد استطاع الراوي الشيخ أن يستعيد — في هذا الفصل — مشهدين له مع حبيبته مارينا:
المشهد الأول وهما جنب الزير في بيت عمته ديماريس، أما المشهد الثاني فهو في حوش بيت
مارينا، حيث كانا يتأرجحان معًا. وأحاول — الآن — تحليل هذين المشهدين تحليلًا محايثًا،
في
محاولة للكشف عن بوادر مشكلة اللغة في علاقتها بالتجربة عند إدوار الخراط.
(١) لحظة الأنس بالوجود معًا: الحسُّ النقي
يصف الراوي المشهد الأول الذي جمعه بحبيبته الطفلة مارينا، والذي حدث في الصباح
الباكر، بجانب الزير، بأنه «لحظة الأنس بالوجود معًا»، ويمضى المشهد على النحو الآتي:
«كان جالسًا على أرض البسطة الحجرية، بجانب الزير العالي يكاد يلتصق ببطنه
الفخاري المحبب بثغرات دقيقة جدًّا، مندى
ندى خفيفًا بنضح الماء عليه، يعطيه هذا النضح ملاسة وليونة على صلابة جسمه
المتين، نصفه منير بوهج الصبح الباكر ونصفه الآخر معتم قليلًا لكنه واضح
الاستدارة والكمال.
كان حسُّه بالطفلة إلى جانبه حسًّا نقيًّا.
وكان يعرف أن اسمها مارينا.
الأنس بمجرد وجودها معه عاد إليه، بكل قوة الطفولة،
أنس يتجاوز الحب أو الشهوة. سوف يعرفهما، الحب والشهوة، بكل
عرامتهما وجموحهما وإلحاح نهشهما لروحه — مع هذا الأنس نفسه، بوجود التجسد
الأخير لمارينا معه — في الزمن الأخير، لكن حسَّه بهذا الأنس هذا الصلح، أشمل
وأعمق من سورات النشوة القادمة في مقتبل الزمان، أهدأ وأروح وغير موضع للسؤال
أو تقلُّب الهواجس.» (ص٨)
قبل المضي في اقتباس بقية المشهد، لا بد من ملاحظة أن هذه اللحظة — لحظة وجوده مع
مارينا في هذا الصبح الباكر — تكتسب بُعدًا ميتافيزيقيًّا؛ حيث تتحوَّل هذه اللحظة إلى
أصلٍ تُقاس عليه بقية التجارب التي سوف يمرُّ بها
الراوي على طول حياته، وأهم ما يميز هذا الأصل أنه
حسٌّ
نقيٌّ، ويعني هذا الوصف غلبة الروح على الجسد حتى صار الجسد روحًا
وأُنْسًا يتجاوز الحب والشهوة. إنها
لحظةٌ أصلية ليست
موضوعًا لأي تساؤلٍ؛ إنها فوق السؤال أو المساءلة. والمقصود بوصف هذه اللحظة بأنها
«أصلية» أنها
معيار و
نموذج يحدد قيمة التجارب اللاحقة. ثم يمضي المشهد على النحو الآتي:
«كانت القصعة المسطحة الواسعة تحت الزير تترقرق بماء صافٍ في مثل صفاء روحه الطفلية، تناثرت فيه حبَّات قليلة من نوى
المشمش، بلونها البني الخشبي المرسوم بخطوطٍ منبعجة طولية في غاية الرهافة،
يضخم الماء المتموج فوقها من حجمها، بينما كان يعرف أن قعر الزير، من جُوَّة،
قد امتلأ بنوى المشمش، وفصان [كذا] البلح الصغيرة المستدقة …
كان باب غرفة النوم الكبيرة مردودًا، خشبه الثقيل قد بهت لونه قليلًا عند
حافة احتكاكه بالحائط الحجري، وكان عاليًا جدًّا في عيني
الطفل، يحجز دونهما، هو ومارينا، عالم الكبار الحافل بما هو غير مفهوم
وربما غير ضروريٍّ.» (ص٨-٩)
تنطوي هذه الفقرة — من المشهد الأول — على تعارض حاد بين
الروح
الطفلية، وهي روح الراوي الطفل ومحبوبته مارينا، من ناحية، و
عالم الكبار الذي يحفل بما هو غير مفهومٍ وغير ضروري من
ناحية أخرى. إن عالم الكبار عالم حسيٌّ غير نقي؛ لأن الكبار الذين امتلئوا بالأخطاء لا
يقدرون على رَوْحَنَةِ الجسد، لا يقدرون على صيرورة الجسد روحًا. وتمثِّل
الروح الطفلية المُحِبَّةُ والعاشقةُ
لحظةَ النقاء الفطري التي هي نفسها لحظة
الأنس
بالوجود معًا، فالروح الطفلية لا تفهم الخطأ، وتراه غير ضروريٍّ، لأنها
لا تفهم الجسد، ومِن ثَمَّ تراه روحًا أو حسًّا نقيًّا تخلَّصَ من الحسية ومن أي نزوعٍ
حسيٍّ. ولذا، تتصف الروح الطفلية بالبراءة، وهي تستحق ملكوت السماء، ثم يتواصل تذكر
الراوي الشيخ لبقية تفاصيل المشهد على النحو الآتي:
«خرج إلى بسطة السلم فوجد مارينا قد استيقظت قبله، وجلست تحت الشبَّاك الذي
تخترق الشمس ما بين أخشاب ضلفتيه، خطوط من النور رفيعة مستقيمة تقع على جانب
وجهها وشعرها، وهي متربعةٌ على حجر بسطة السلم، ساقاها الصغيرتان — حتى في هذه
الطفولة — مليئتان ومخروطتان بانسيابٍ، انكشفتا تحت فستانها الخفيف المشجَّر
بالأحمر والأزرق، يشفُّ عن قميص داخليٍّ ضيق غامض اللون.
هل كان ذلك أول الصبح بدري؟ لم يكن في البيت الكبير صوت، لم تدبَّ إليه بعد
ضجة الحياة اليومية المليئة بالأحداث.
كانت أشعة الشمس تسقط على الماء الذي تهتز له موَيْجات رفيقة في القصعة
العريضة العميقة، تنفذ خيوط الضوء، حادة وناعمة في الوقت نفسه، إلى عمق هذا
الماء، وتقع على حبَّات نوى المشمش فتعطيها حياة أخرى
وتبدو كبيرة، مليئة بالسر.
قطرات الماء تسقط، مدوَّرة، ناضجة، كبيرة، واحدة بعد الأخرى، بتمهلٍ …
بين هبوط قطرة الماء وتكوُّن القطرة التالية
وانفصالها عن جسم الزير زمنٌ يتصوره طويلًا جدًّا، ترتطم بسطح
الماء المشعِّ فتستدير لها موجة دائرية تنداح باتساعٍ وتخفت حدة دورانها حتى
تصطدم بحافة القصعة وتذوب بهدوء.» (ص٩-١٠)
توجد في هذه الفقرة علاقة بين أشعة الشمس التي تنفذ من الشباك وتقع على جانب وجه
مارينا من ناحية، وأشعة الشمس التي تنفذ حادةً وناعمة إلى عمق الماء الموجود في القصعة
تحت الزير، وتقع على حبات نوى المشمش، وهذه العلاقة علاقة تناغم وذوبان هادئ، بحيث يمكن
القول إن الراوي حين دخل على مارينا — وهي في هذا الوضع — فقد دخل إلى حياة أخرى ليست
من هذا العالم، حياة مليئة بالسر وزمنها جدُّ طويل لا نهاية له. والطريقة التي يجري بها
وصف هذا الجزء من المشهد، تتسم بالحسية العالية لكنها حسية نقية؛ حسية تخلصت من حسيتها.
ووصف الحسية النقية يستعمله الراوي نفسه حين يقول: «كان حسه بالطفلة إلى جانبه حسًّا
نقيًّا.» (ص٨)
«مارينا دائمًا أشجع منه وأقدر على المبادرة — تمدُّ يدها الصغيرة وتلعب
بحبَّات النوى تحت الماء المروَّق الذي سوف نشرب منه.
سمع صرخة ثاقبة.
كان أبوه قد قال له: هذا الصقر، يُحلق عاليًا جدًّا في السماء يا ولدي، لكي
يحرس أخميم من كل شرٍّ، هذه صرخته الحادة إذ يلتقط ببصره النافذ تلويات
الثعابين على الأرض، فيهرب الثعبان إلى جحره بأسرع ما يستطيع قبل أن ينقضَّ
عليه الطائر من السماء.
لم تكن الصرخة نذيرًا في السماء الساطعة بشمس هذا الصباح، بل لعلها كانت في
حسِّه نوعًا من تأكيد الحس الشامل بالأنس
وبنعمة اليوم الجديد.
لا يستطيع أن ينسى مشهد الماء المهتز على سطح القصعة الفخار الملساء، وفي
قاعها العريض العميق وعليها حبات نوى المشمش، تخترق جسم الماء خطوط شمس صبحية
أخميم، بنعومة ومضاءٍ معًا.
مرقت أمامهما بسرعةٍ عقرب كبيرة متجهة إلى جحرٍ لها في ركن البسطة، كانا
يرقبانها بلا قلقٍ، بشيء من اللامبالاة، وبفضولٍ. مرَّت من أمامهما بسلامٍ.
كان مثول هذا المشهد، ودوامه في روحه، احتفالًا
متجددًا بنعمة لا نكران لها حتى إنْ شابتها وضربتها طعنات
كثيرة.
وجه مارينا دمث السمرة، شعرها الأكرت مضفور ضفيرتين صغيرتين مربوطتين بفيونكة
من قماش فزدقيٍّ انفكَّت أطراف عقدتها وتهدَّلت، عيناها الخضراوان الواسعتان
شمس أخرى في هدأة نصف العتمة نصف النور التي تكسو وتبطِّن كل شيء بنوعٍ من
السكون والصمت لا حاجة فيه للكلام.»
(ص١٠-١١)
إن وجود الراوي الطفل مع مارينا محبوبته «نعمة
لا نكران لها»، نعمة إلهية لا تحتاج إلى تبرير، ولو كان هذا التبرير هو تبرير الكلام.
فالنعمة الإلهية، هنا، هي نعمة منح يوم جديد بالقرب من الحبيبة؛ إنها نعمة الوجود من
جديدٍ. والوجود من جديدٍ تجربة فريدة بحدِّ ذاتها لا تحتاج إلى الكلام. ويزيد من فرادة
هذه التجربة أنها بالقرب من الحبيبة التي صارت عيناها شمسًا أخرى، ليست من هذا العالم،
بل يصفها الراوي بأنها «أنس العالم»:
«هل يذكر أيَّ كلام دار بينه وبين أنس
العالم في ذلك الصباح؟ لعله لم يكن بحاجة إلى الكلام إلا بعد
ذلك بسنواتٍ كثيرةٍ، ليته ما كان بحاجة إلى الكلام.» (ص١١)
لا يحتاج الوجود إلى جوار «أنس العالم» إلى أي لغة. ففي حالة الأنس تتعطل اللغة؛
لأن
اللغة لا تقدر على نقل الإحساس بالأنس. تتعارض تجربة أنس الوجود
معًا مع اللغة؛ فاللغة لا تقدر على نقلها أو التعبير عنها، إن اللغة
قاصرةٌ عن التعبير عن تجربة هذا الأنس.
وينتهي تحليل المشهد إلى إدراك أننا بإزاء لحظةٍ أصليةٍ تعلو على المساءلة أو السؤال،
ولذا فهي لحظة ذات بُعد ميتافيزيقي. ويدعم هذا البعد أن الروح السائدة هي الروح الطفلية
أو روح البراءة التي لم تتلوث بأخطاء هذا العالم البشري. فالمشهد يُجسِّد حياة أخرى
مليئة بالسر؛ حياة أبدية لا يمكن الوقوف على تفاصيلها من خلال اللغة، نعمة إلهية تعلو
على الكلام واللغة؛ إذ كيف يمكن أن يُحيط الكلام أو اللغة ﺑ «أنس العالم»؟
ولذا، يمكن القول — عند هذا المستوى من التحليل — أن هناك بوادر مشكلة تتعلق بالعلاقة
بين التجربة واللغة، وتتعقد العلاقة بين التجربة واللغة مع المشهد الثاني الذي يتذكره
الراوي الشيخ، ويجمع بين الراوي ومحبوبته مارينا، وهما في أواخر مرحلة الصبا.
(٢) مشهد الأرجوحة: «قليلًا من أنفاس الجمال»
يختلف التعبير عن وجود مشكلة في العلاقة بين التجربة واللغة في هذا المشهد عنه في
المشهد السابق؛ فالراوي بعد أن يتذكر المشهد يحاول تسميته، أيْ يحاول إطلاق اسم عليه،
ويبدو أن لديه شعورًا بعدم كفاية سرد المشهد لغويًّا فيحاول تحديده بإطلاق اسم عليه.
وإذا كان المشهد الأول يعبر عن حالة الطفولة وبراءتها فإن مشهد الأرجوحة يدور في فترة
المراهقة أو مطالعها وبواكيرها الأولى، يقول الراوي:
«كنت قد استعدت بغموض ذكرى مارينا الطفلة ونحن جنب الزير في بيت عمتي
ديماريس، أما الآن فهي قد نضجت ونَهَدَ صدرها الصغير، وكانت عيناها الخضراوان
النجلاوان تضرب قلبي بحبٍّ لا يُرد.» (ص٢٨)
ومِن ثَمَّ، يُصور مشهد الأرجوحة لحظة من اللحظات الحميمة بين الراوي وحبيبته في
بواكير المراهقة، ويمضي المشهد على النحو الآتي:
«في حوش بيتهم المعتم قليلًا المحاط بجدران عالية مصمتة كأنه بئر واسعة
وعميقة تُطلُّ عليها مزقة من السماء، وعلى مقربة من الفجوة المسدودة بعوارض
خشبية ناحية الحائط الشرقي، أقيمت أرجوحة بين عمودين من الخشب مثبَّتين في
الأرض، أتأرجح عليها أنا مرة، وأسطفانوس مرة، ومارينا مرة، على التوالي، وعندما
يخلو لنا الحوش نجلس معًا، أنا ومارينا، على خشبة المرجيحة، ملتصقين جنبها إلى
جنبي، فخذها إلى ساقي، أحيط خصرها النحيل بذراعي، وتهتز الخشبة ثم تصعد قليلًا
وتعود لتهبط وإذ أدفع حركتها بجسمي ترتفع الخشبة وتتوتر الحبال المعقودة
بطرفيها ويئزُّ العمودان الخشبيان وتتيقظ ذكورتي ونحن نرتفع حتى نرى الحيطان
المحيطة بنا وقد مالت كأنها تسقط ثم اعتدلت ومالت من الناحية الأخرى كأنها تسقط
في الاتجاه المضاد، وفي حموة الصعود والهبوط المتسارع المتلاحق أسمع صرخةً
صغيرة هل هي مارينا أم مزقة السماء التي تميل معنا وتعتدل فوق رأسينا؟ وأحسُّ
جسدها المتوفز ينتفض ويزداد التصاقًا بي بينما تتمزق السماء فوقنا وتمتزج بأرض
الحوش في نبضات متتالية تأخذ في التراخي حتى تعتدل خشبة المرجيحة وتهتز تحت ثقل
جسمينا المتوهجين بالمغامرة وحس الخطر ومرح الروح
وصعود دماء الجسد.
عندما هبطنا، ننهج، كان وجهها الأسيل مضرجًا بدماء داخلية دفَّاقة وقد التصق
فستانها الخفيف بدوران بطنها وما بين فخذيها، وكانت جلابيتي البيضاء قد انحسرت
عني في صعود المرجيحة ثم عادت، أما الآن فقد كانت مرفوعة على هيئة مخروط بين
ساقيَّ، وكالعادة في كثير من الأحوال أخذت هي المبادرة وأشارت إلى الانبعاج
الواضح الصلب وسألت بمزيج من الفضول والمكر النسائي وباللهجة البحيرية: إيه ده؟
ولم أجب بالطبع، ولم آخذها في حضني لأنني عندئذٍ كنت مع البنات أكثر بكارة من
البنات.
فهل هذا ما كنت أسمِّيه «قليلًا من أنفاس الجمال، رغم
كل شيء»؟» (ص٢٨-٢٩).
يحاول هذا المشهد تكرار الشعور بالأنس: أنس الوجود
معًا، بالقرب من مارينا، التي هي «أنس
العالم»، كما وصفها الراوي في المشهد الأول، غير أنه في مقابل البراءة
الطفلية في المشهد الأول نجد، في هذا المشهد، الحبيبين في أواخر مرحلة الصبا ويشرفان
على بواكير مرحلة المراهقة.
وفي حقيقة الأمر، يمكن القول إن حركة الأرجوحة المهتزة بالحبيبين معًا، وهما في حالة
قرب والتصاق جسدي، بالإضافة إلى الصرخة التي سمعها الراوي ولا يعرف إنْ كانت صرخة
السماء أم صرخة مارينا؛ كل هذا يدفع إلى القول إن هذه الحركة بديل رمزي عن لحظة الجِماع
بين الحبيبين اللذين يُشرفان على مرحلة المراهقة. يحدث الجماع على المستوى الرمزي فقط،
وتوحي الفقرة الأولى من المشهد إيحاءً قويًّا بذلك؛ الأمر الذي يجعل هذا المشهد قريبًا
من الشعور بالإحساس بالخطيئة، لو وضعنا في الحسبان التربية الدينية الأخلاقية الصارمة
التي نشأ عليها ميخائيل في طفولته، كما سأوضح في فقرة بعنوان «المعمودية: وعد الخلاص
من
العذاب» الواردة في الفصل الرابع.
وتتضمن الفقرة الثانية حوارًا بين الحبيبين، حيث تسأله مارينا سؤالًا لا يُجيب عنه
الراوي، وبذلك، يقتحم «الكلام» المشهد، على عكس المشهد الأول الذي لم يَدُر فيه أيُّ
كلام بين الحبيبين؛ إذ لم يكونا محتاجين إلى استعمال اللغة.
غير أن الكلام الذي يقتحم المشهد هو كلام مارينا وليس الراوي؛ فمارينا تسأل وهو لا
يُجيب، في محاولة منه للاحتفاظ بنوعٍ من الصمت يتناسب مع بكارته التي هي أكثر بكارة من
البنات. إنها محاولةٌ للاحتفاظ بالبراءة، إذ لا بد أن تكون لحظة الأصل بلا أدنى شَوْبٍ
من خطأ أو خطيئة. فهل تظهر اللغة، وتظهر الحاجة إلى الكلام، حين الاقتراب من الشعور
بالإحساس بإمكان الخطيئة؛ أيْ حين الاقتراب من اجتراح البراءة الطفلية التي حافظ عليها
المشهد الأول؟
ولعل ما يؤكد هذه النتيجة أن الفقرة الثالثة من المشهد يقوم فيها الراوي بمحاولة
تسمية التجربة التي يتضمنها هذا المشهد في عمومه؛ فهو يستعمل اللغة من أجل إطلاق اسم.
ولكن هذا الاسم ليس صافيًا، إنه اسم مَشُوبٌ، وهو شَوْبٌ يتناسب مع «مرح الروح»
المَشُوبِ ﺑ «صعود دماء الجسد»، حيث يقول الراوي: (فهل هذا ما كنت أسمِّيه «قليلًا من
أنفاس الجمال، رغم كل شيء»؟) وتنطوي صياغة التسمية في إطار من التركيب الاستفهامي على
التشكيك في التسمية نفسها ومصداقيتها. فالتسمية — «أنفاس الجمال» — تسمية قلقة
ومَشُوبَةٌ؛ لأن طرفيها — «أنفاس» و«الجمال» — يجمعان الجسد إلى الروح.
ومِن ثَمَّ، يمكن القول إن انتصار الروح — الذي تحقق جليًّا في المشهد الأول — لم
يتحقق بالقدر نفسه في المشهد الثاني؛ فانتصار الروح — هنا — ليس نهائيًّا وحاسمًا؛
الأمر الذي يبرر ظهور الكلام ومحاولة البحث عن اسم
باستعمال اللغة.
تظهر اللغة، ويظهر الكلام، حين لا يكون انتصار الروح حاسمًا، وعليه، يمكن القول إن
هذا المشهد الثاني يتضمن الإيحاء بجانبٍ آخر من جوانب العلاقة بين التجربة واللغة، وهو
جانب معقدٌ ومركب ويثير الكثير من التساؤلات. ولعلَّ شيئًا من طبيعة هذه التساؤلات يتضح
بعد تحليل المناقشة التي يُثيرها الراوي الشيخ بخصوص العلاقة بين التجربة واللغة في
نهاية فصل «مارينا».
(٣) القداسة: بين التجربة واللغة
كما سبق أن أشرت، تنتمي رواية صخور السماء إلى نمط
«الرواية الجديدة». ولعل من أهم السمات اللافتة في هذا النمط الروائي، تدخُّل الراوي
بالتعليق أو المناقشة؛ من أجل كسر الإيهام بواقعية الأحداث (ومن الممكن، في هذا السياق،
النظر إلى الراوي بوصفه قناع المؤلف، ولعل مفتتح الفصل السادس عشر، الذي يحمل عنوان
«التجسد»، يكشف بجلاء عن فكرة أن الراوي هو قناع المؤلف؛ ففيه نسمع لأول مرة صوت المؤلف
الذي يتكلم عن مدى ضرورة وجود هذا الفصل ضمن روايته؛ انظر: ص٣٩٣).
وفي حقيقة الأمر، يمتلئ نص صخور السماء كله —
تقريبًا — بمثل هذه التدخلات التي تقوم بوظيفة تعرية الإيهام، فتدعو قارئ النص إلى نوعٍ
من التأمل والتفكير يكاد يقترب من الدور الذي يقوم به المؤلف نفسه. ولذا، فالقارئ شريكٌ
أساسي في إنتاج هذا النوع من النصوص؛ إذ يبقى النص معلَّقًا، أو مغلقًا على نفسه، حتى
يأتي القارئ الذي يفضُّ هذا التعليق، أو الانغلاق.
وما يهمني من تدخلات المؤلف — في هذا الموضع — المناقشة التي يختم بها المؤلف الفصل
الأول، والتي تخصُّ العلاقة بين التجربة واللغة، وتبدأ هذه المناقشة بهذا التدخل:
«وعند هذا الحد يا عزيزي يمكنك إذا شئتَ أن تكفَّ عن القراءة، وأن تطوي ما
بقي من كلام، في هذا الباب، وما يجري مجراه في سائر الأبواب.
ومع ذلك أزعم لك — أو آمل — أنك سوف تجد في قابل الكلام متعة أو على الأقل
حافزًا لإعمال قليل من أمرٍ ثمين نفيس نادرًا
ما نستخلص نفاسته هو قليل من التأمل أو
التفكير.» (ص٣٠-٣١)
إن هذا التدخل الذي يقوم به المؤلف — لو أخذناه مأخذ الجدِّ — يفضي إلى نتائج مذهلة،
فالفقرة الأولى منه تنطوي على دعوة القارئ إلى التوقف عن القراءة؛ فالقارئ يمكنه — فيما
يقول المؤلف — أن يطوي ما بقي من كلام في هذا الباب وما يجري مجراه في سائر الأبواب.
ويكمن السبب في أن ما جرى سرده — أو فعله — هو
شيءٌ يتصف
بالسذاجة. وفي هذا الصدد، يتدخل الراوي الشيخ بالتعليق على أفعال الصبي
الذي كانه، على النحو الآتي:
«… فهل كنَّا مجرد صبيين ساذجين نفعل شيئًا مبتذلًا قرأناه في الروايات
وتوهمنا أنه جادٌّ وخطير وفي غاية الرصانة بل القداسة؟
أم كان الأمر بالفعل قدسيًّا، على كل سذاجته؟» (ص٣٠)
ويَرِد هذا التعليق، أو التدخل، في السياق الآتي: فبعد أن انتهى الراوي الصبي من
رواية مشهد الأرجوحة الذي أسماه «
قليلًا من أنفاس
الجمال»، يذكر أن الحب قد فاض بقلبه، فأخذ يحكي لصديقه مصطفى جانبًا من
مغامرات حبِّه الذي يصفه ﺑ «حبي الساذج»، من غير أن يُشير — ولو بالتلميح — إلى سيدة
غرامه الصغيرة، التي حرص على إخفاء اسمها، وبدوره، حكى له صديقه قصة حبه، وانتهى هذا
الموقف بأن تعاهد الصديقان على كتمان أسرار حبهما، ثم قاما بأداء «شعيرة الأخوة بالدم»:
«وبكل رصانة الصبا وسذاجته «ومثاليته» فعلنا ما كنَّا قرأنا مثله في روايات
الجيب، وتكريسًا لحفظ العهد بل تكريسًا للصداقة «الأبدية».
أخرج مصطفى قاسم إسحاق مطواة جيب حادة …
وضع مصطفى سنَّ المطواة على النار حتى احمرَّت وتوقدت، وانتظر قليلًا حتى
بردت دون أن تمسَّ شيئًا ووخز شريان معصمه الأيمن بعمقٍ، تقطرت نقطة نزرة من
دمه على رُسْغِه، أعطاني المطواة فحمَّيتها مرة أخرى، ولما بردت وخزت رُسغي
الأيسر وظهر الدم النزر.
وضعنا معصمينا أحدهما على الآخر بكل جديَّة أداء طقس أو شعيرة حرجة وحاسمة
ولما امتزجت دماؤنا رسمتُ بها على أسفل رُسغه تحت الكفِّ قليلًا رسْم حرف «م».
جاء الرسم غير حاد الخطوط، وسال الدم به على الفور تقريبًا. وهو أدى نصيبه من
الشعيرة فرسم أيضًا حرف «م» على رُسغي الأيسر، كان رسمه أقوى وأوضح إذ كان الدم
قد بدأ يتجلَّط ويتجمَّد إلى حدٍّ ما.
ضغطنا الذراعين حتى انقطع تقطر الدم.
وطوينا المطواة دون أن نقول كلمة.
كنا قد أدينا شعيرة الأخوة بالدم، لن ينقضها شيء على طول السنين.
(لكنها بالطبع قد انتقضت.
فهل كنَّا مجرد صبيين ساذجين نفعل شيئًا مبتذلًا قرأناه …)»
(ص٢٩-٣٠)
إن الأفعال التي قام بها الراوي الصبي مقدسةٌ: أفعال الحب والصداقة. لكن المشكلة
أن
هذه الأفعال المقدسة حين يجري التعبير عنها باللغة تبدو كما لو كانت أفعالًا ساذجة،
وحقيقة الأمر أنها تبدو كذلك. ومن هنا، تنشأ المشكلة الحقيقية التي تجسِّدها العلاقة
بين التجربة واللغة. فاللغة غير قادرة على نقل الإحساس بالقداسة أو التعبير عنه، ولذلك
فبعد أن دعا المؤلفُ القارئَ إلى الكفِّ عن قراءة هذه الأشياء الساذجة المبتذلة، عاد
يقول: «ومع ذلك أزعم لك — أو آمل — أنك سوف تجد في قابل الكلام متعة أو على الأقل
حافزًا لإعمال قليل من أمرٍ ثمين نفيس نادرًا ما
نستخلص نفاسته، هو قليل من التأمل أو التفكير.» (ص٣١)
إن الأمر «الثمين النفيس» ليس قراءة النص، وإنما هو «قليل من التأمل أو التفكير» الذي
يَنتج — في نفس القارئ وعقله — عن قراءة النص. فالنص بحدِّ ذاته ليس ثمينًا نفيسًا، بل
الثمين النفيس هو التأمُّل والتفكير الذي يُثيره النص في نفس القارئ وعقله. وبتعبيرٍ
آخر، ليست لغة النص هي المهمة، وإنما المهم تجربة التأمُّل التي تُثيرها هذه اللغة؛
التأمُّل الصامت دون كلام أو لغة. وتشبه تجربةُ التأمل تجربةَ الفعل المقدس الذي تقصر
اللغة عن التعبير عنه.
يبدو، حتى الآن، أن هناك تعارضًا بين النص اللغوي (الأدبي على وجه التحديد) والفكر
التأملي؛ فالفكر التأملي أعلى في القيمة من النص اللغوي، حيث يحتل الفكر التأملي
المنزلة الأولى في حين أن النص الأدبي — نص المؤلف — يحتل المنزلة الثانية. وهذه
النتيجة، التي توصَّل إليها التحليل حتى هذه اللحظة، جد مهمة في سياق مناقشة المؤلف
للعلاقة بين التجربة واللغة، وهي المناقشة التي سأقوم بتحليلها الآن. فبعد أن قام
المؤلف بكتابة تدخُّله، تطرَّق إلى المناقشة الآتية:
«فمن لحظة الأنس بالوجود معًا، فقط، في ذلك
الصباح تحت الزير الممتلئ البطن بالماء النيلي العكر بخصوبته، أمام نوى المشمش
في القصعة العميقة العريضة المتموجة بالماء المروَّق الصافي، عرفتُ، من غير
تحديدٍ قاطعٍ، أن ليس للجسد لغة، وأن الكلام هنا شيءٌ
«أجنبي»، غريب، هو بالفعل «شيء» وليس خبرة مباشرة أو تجربة
عضوية ولا يمكن أن يكون، وقد تأكد ذلك نهائيًّا في لحظة
الأرجوحة الصاعدة الهابطة بجسدينا معًا.
عرفت أن ليس للجسد — ولا للموت — لغة.
كلاهما — الجسد والموت — يقع في المنطقة الهيولية التي ليس فيها حدود، أي ليس
فيها تحديد قاطع ولا محدودية قاطعة، منطقة العماء قبل أن تتكوَّن منها أية
صورة، منطقة الضباب المدوَّم اليقظ الصاحي بل العارم، والظلمة الموَّارة
بالديناميكية، من غير كلمات. فهي ليست خرساء، لأن الخرس يعني افتراض — ثم
افتقاد — المقدرة على النطق، وتلك «مقدرة» أو إمكانية لا ضرورة لها أصلًا هنا
وليست محلًّا للافتراض ولا للافتقاد.
هذا عن الجسد، أما عن الموت فهي منطقة المجهول المطلق، أظنها منطقة العدم
المطلق حيث لا إدراك، لا وعي، لا شيء.» (ص٣١)
يحتل النطق والكلام — فيما يرى المؤلف — المنزلة الثانية، على حين تأتي في المنزلة
الأولى التجربة العضوية أو الخبرة المباشرة التي تُمثل «الأنس بالوجود معًا» أو «الحس
النقي» أو «القليل من أنفاس الجمال»، وهي التعبيرات التي يحرص المؤلف على استعمالها،
حين يصف علاقته بمارينا، فما السبب؟ لعلَّه من المناسب تتبُّع المجال الدلالي للنطق
والكلام فقد يفيد في إيضاح السبب.
يُشير صاحب اللسان إلى أن «نَطَقَ» تعني «تَكَلَّمَ»، و«المَنطِق» يعني «الكلام».
١ ومِن ثَمَّ، يحيل «النطق» إحالة صريحة ومباشرة إلى «الكلام». غير أن صاحب
اللسان يذكر أن الكلام، بالإضافة إلى أنه يعني «القول»، يعني أيضًا «الجُرْحُ»، وفي هذا
السياق يقول:
«كَلَمَه يَكْلِمُه كَلْمًا وكَلَّمَه كَلْمًا: جرحه … وقوله تعالي: «أخرجنا
لهم دابة من الأرض تُكَلِّمهم»؛ قُرِئت: تَكْلِمُهم وتُكلِّمُهم فَتَكْلِمُهم:
تجرحهم وتَسِمُهم، وتُكَلِّمُهم: من الكلام، وقيل: تَكْلِمهم وتُكَلِّمهم سواء
كما تقول تَجْرحُهم وتُجَرِّحهم، قال الفراء: اجتمع القُرَّاءُ على تشديد
تُكَلِّمهم وهو من الكلام، وقال أبو حاتم: قرأ بعضهم تَكْلِمُهم وفسَّر
تَجْرحهُم، والكلام: الجراح، وكذلك إن شدَّد تُكَلِّمهم فذلك المعنى
تُجَرِّحهم، وفسر فقيل: تَسِمهُم في وجوههم …
والتَّكْلِيمُ: التَّجْريح.»
٢
وإذن، ينطوي الكلام على معنى النطق والقول من ناحية، وينطوي من ناحية أخرى على معنى
الجُرْحِ والوَسْمِ؛ وكل جُرْحٍ وَسْمٌ وعلامة. والجُرْحُ أيضًا قطع ونهش: إنه إسالة
دماءٍ وهتك في نسيج متماسك.
إن الكلام يخدش الحضور الحي المتواصل ويهتك نسيجه المتدفق، إن الكلام توقف: توقف يقطع
سيلان التجربة العضوية والخبرة الحسية المباشرة. إنه يوقف سريان «الأنس بالوجود معًا».
إنه يخدش صمت الأنس، ويهتك الشعور به. ولذا، الكلامُ مستبعدٌ، ويأتي في المقام الثاني
بعد التجربة الحية والخبرة المباشرة اللتين تؤديان إلى الشعور بالأنس.
ومن أجل فَهْم هذه التفرقة التي يعقدها المؤلف بين «الكلام» و«التجربة الحية أو
الخبرة المباشرة» التي يُسميها «الأنس بالوجود معًا» لا بد من التعرُّف إلى المجال
الدلالي لكلمة «أنس». يُشير صاحب اللسان إلى أن معجم «الأنس» يتضمن الدلالات الآتية:
«الأَنَسُ: خلاف الوَحْشَةِ … والأُنْسُ والاستئناس هو
التَّأَنُّسُ …
والإِنْسُ: البشر … وهم بنو آدم …
واستأنستْ وآنَسَتْ بمعنى أبصرتْ …
والأَنَسُ: أهل المَحَلِّ، والجمع آنَاسٌ …
وكانت العرب القدماء تُسمِّي يوم الخميس مُؤْنِسًا لأنهم كانوا يميلون فيه
إلى الملاذِّ …
وقال مُطَرِّفٌ: أخبرني الكريمي إِملاءً عن رجاله عن ابن عباس، رضي الله
عنهما، قال: قال لي عليٌّ، عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى خلق الفِرْدَوْسَ
يوم الخميس وسمَّاها مُؤْنِس …
وآنَسَ الشيء: أَحَسَّه. وآنَسَ الشخص واسْتَأْنَسَه: رآه وأَبصره ونظر إليه
…
أَنِسْتُ بفلان أي فَرِحْتُ به، وآنَسْتُ فَزَعًا وأَنَّسْتُهُ إذا
أَحْسَسْتَه ووجدتَهُ في نفسك …
قال الأزهري: وأصل الإِنْسِ والأَنَسِ والإنسانِ من الإيناس، وهو الإبصار
…
والإيناس: اليقين …
ابن الأعرابي: الأَنِيسَةُ والمَأْنُوسَةُ النارُ، ويُقال لها السَّكَنُ لأن
الإنسان إذا آنَسَهَا ليلًا أَنِسَ بها وسَكَنَ إليها وزالت عنه الوحشة، وإنْ
كان بالأرض القَفْر.ِ»
٣
إن المجال الدلالي الذي تتحرك فيه كلمة «الأنس» غنيٌّ ودالٌّ في سياق استعمال إدوار
الخراط؛ إذ يُمكن رصد الدلالات الآتية: الدلالة على زوال الوحشة، الدلالة على وجود
الإنسان أو بني آدم، الدلالة على الحسِّ بالشيء وإبصاره والنظر إليه ورؤيته، الدلالة
على حصول اللذة ونعيم الفردوس، الدلالة على الفرح والسرور، الدلالة على اليقين.
وتؤكد هذه الدلالات السابقة كلها أسبقية التجربة العضوية والخبرة المباشرة والحس
النقي دون كلامٍ، دون حاجة إلى الكلام؛ لأن الكلام عن التجربة لا يفي بالتجربة: لا يفي
بتجربة الحسِّ أو النظر أو اللذة أو النعيم أو اليقين. فالكلام في هذه الحالة — كما
يقول إدوار الخراط — «شيء أجنبيٌّ وغريب، هو بالفعل شيء وليس خبرة مباشرة أو تجربة
عضوية ولا يمكن أن يكون، وقد تأكد ذلك نهائيًّا في لحظة الأرجوحة الصاعدة الهابطة
بجسدينا معًا.» ثم يستطرد المؤلف في مناقشته على النحو الآتي:
«ومهما تكلَّم علم النفس التحليلي — مثلًا — عن قوى اللاوعي التي يُمكن أن
تُعبِّر عن نفسها في الحلم، مثلًا، أو عن التحليل، فإن اللاوعي الذي يقع الجسد
فيه غير قابلٍ للتفسير، وغير قابلٍ للتجسيد، أي للتعبير، أما ما يحدسه الصوفية
بأنه «ما لا ينقال» فإذا أمكن أن يُعرَّف أو ينعرف فليس ذلك عن طريق اللغة ولا
عن طريق التحليل ولا عن طريق الرمز حتى أو الإيماء بل هي معرفةٌ أقرب أو هي
تنتسب إلى معرفة غنوصية مباشرة من غير وسيطٍ متجاوزة كل «تعريف» لأنها إما أن
«تنعرف» من تلقائها ومن غير أداة ولا ذَرِيعة ولا وسيلة، وإما أن تبقى في
عمائها المجهول الموَّار بعنفه الخاص الفريد يتحدى «المعلومية» كما يدحض كل
تكنولوجيا المعلوماتية.
ومِن ثَمَّ فإنها قابلة لأن يُقال عنها (لا أن تُقال) بأكثر من لغة كلها لغات
غريبة عنها، أجنبية عنها، مستعارة لها، قد تكون نابعة «عنها» أو منبثقة «عنها»
— وليس «منها» — على أفضل الأحوال، لكنها ليست هي هي، ليست هي الجسد، وإذن
فليست هي «لغة-الجسد» بل هي «لغة-عن-الجسد» بل قد تكون لغة تُشَوِّه خبرة
الجسد، تُغرِّبها، تُؤطرها، وفي كل الأحوال تزيغ عنها.» (ص٣١-٣٢)
يُشير المؤلف، في هذه الفقرة، إلى أن الجسد غير قابلٍ للتفسير، وغير قابل للتجسيد
أي
للتعبير؛ فاللغة أداةٌ أو وسيلة أو ذريعة للتعبير عن خبرة الجسد، وليست هي خبرة الجسد
نفسها؛ ذلك أن الجسد نفسه هو «ما لا ينقال».
إن تجربة الجسد، أو خبرته، هي أقرب إلى التجربة الغنوصية؛ أي هي «معرفة إشراقية صادرة
عن الفيض الإلهي، عرفان الحقائق والأسرار الدينية والكونية»،
٤ وهذا النوع من المعرفة أكبر وأوسع من اللغة، فلا تقدر اللغة على التعبير
عنه، وتقصر عن تجسيده.
اللغة مجرد أداةٍ فقيرة وقاصرة؛ «وإذن فليست هي «لغة-الجسد» بل هي «لغة-عن الجسد»
بل
قد تكون لغة تشوِّه خبرة الجسد، تُغَرِّبُها، تُؤطِّرها، وفي كل الأحوال تزيغ عنها» كما
يقول إدوار الخراط. فلماذا تشوه اللغةُ خبرةَ الجسد وتزيغ عنها؟ يوضح المؤلف السبب في
ذلك على النحو الآتي:
«ذلك ببساطة أن «العبارة» (أي اللغة) إنما هي «تعبير»، فهي «عبور» أي تمرير
أو مرور من خبرة مباشرة حية بحياتها الفريدة غير قابلة للانتقال إلى وسيطٍ آخر،
فكل وسيط آخر له قوانينه الأخرى وشروط وجوده الأخرى، وذلك على الأخص وسيط
اللغة.
الخبرة التي يعيشها — أو يعرفها — الجسد ليست حسية فقط، بل هي «إدراك» على
مستوى أعمق — أي أكثر غورًا — وربما أعرض وأشمل من أي إدراك أو وعيٍ عقلي له،
كذلك، أدواته وقوانينه وشروطه الأخرى المغايرة لكل من «الخبرة الحسية»، أو
«اللغة-عن-الجسد» أو كلتيهما.
الآن أعرف أن «اللغة» لم تكن قط ساحتي، قد تكون بل هي حقًّا، ساحة التجلِّي
عندي، لكن ذلك أمرٌ مختلف.» (ص٣٢)
وعلى هذا النحو، يضع المؤلف — بشكلٍ صريحٍ — الفارق بين الخبرة أو التجربة من ناحية،
واللغة أو التعبير عن التجربة من ناحية أخرى؛ فاللغة هي تجلي التجربة من خلال وسيط
اللغة، وهذا التجلي ليس هو التجربة أو الخبرة. ويكمن سبب ذلك في أن اللغة لها قانونها
وشروطها المغايرة لقانون التجربة وشروطها، والمختلفة عنها تمامًا. وينطوي هذا الاختلاف
الأساسي بين التجربة واللغة على نتائج مهمة فيما يتعلق بتصور المؤلف عن الأنواع
الأدبية، وهو ما سيتضح مع استمرار تحليل مناقشة المؤلف.
(٤) تراتب الأنواع الأدبية
تكتسب التجربة نوعًا من القداسة تعجز اللغة عن مجاراتها أو التعبير عنها؛ لأن التجربة
تحقق نوعًا من «الأنس بالوجود معًا» ونوعًا من «اليقين» لا تقدر اللغة على توصيله. وفي
هذا السياق، يستطرد المؤلف في مناقشته قائلًا:
«ساحتي هي قلب الحياة التي لا عبور منها ولا عبارة تفي بها، اللغة قد تنصهر
بخبرة عن الجسد، أو برؤية عن الكون، أو بعلاقة مع الآخر أو مع الأخرى — أو حتى
«الذات الأخرى» — ولكنها ليست هي نفسها الخبرة في ذاتها، لأن الخبرة تظل عصية
على كل تحديد (كل تحديد يُفقرها ويبترها ويُغرِّبها) ويظل الجسد بلا لغة ولا
حدود.» (ص٣٢-٣٣)
يظل الجسد — فيما يقول المؤلف — بلا لغة ولا حدودٍ، وتعيدنا هذه النتيجة النهائية
إلى
مفتتح المناقشة التي بدأها المؤلف، والتي يرى فيها أن الشيء «الثمين النفيس» ليس هو
النص الأدبي الذي يتوسَّل ﺑ «وسيط اللغة»، وإنما الثمين النفيس حقًّا هو التأمل الذي
يُثيره النص اللغوي في نفس القارئ وعقله.
وبذلك، يضع المؤلف نفسَه في مأزقٍ يبدو أنه لا مخرج منه؛ نظرًا إلى أن النوع الأدبي
الذي يندرج فيه نص
صخور السماء هو الرواية. والرواية
بوصفها نوعًا أدبيًّا ليست نصًّا فكريًّا أو تأمليًّا، كما أنها ليست أيضًا نصًّا
شعريًّا، وإنما هي نصٌّ أدبي روائي، يندرج ضمن ما يُعرف — في دراسات الأدب على وجه
العموم — بمنظومة الأنواع الأدبية الحديثة. غير أن المؤلف — على ما يبدو — يجد مخرجًا
من هذا المأزق، ويتضح هذا المخرج مع استمرار المؤلف في المناقشة:
«لكن الشعر ينقذني من هذا المأزق أو يكاد، لأن الشعر، على أنه بالضرورة
وبالتعريف لغة، إلا أنه يتجاوز ويدحض «اللغة» ويدخل ساحة الإيحاء والإشارات
الإلهية.» (ص٣٣)
ما يُثير الاندهاش، حقًّا، هو اختيار المؤلف؛ فهو يختار الشعر بوصفه مخرجًا من هذا
المأزق، وكان من المتوقع أن يختار المؤلف — مؤلف صخور
السماء التي هي نص أدبي روائي بامتياز — الرواية بوصفها المخرج. وفي
حقيقة الأمر، ينطوي هذا الاختيار على نوعٍ من التراتب الذي يجعل الشعر، بوصفه نوعًا
أدبيًّا، في منزلة أعلى من الرواية. وما يُثير الدهشة أن هذا التقييم الذي يُعْلِي من
شأن «الشعر» ويرفعه فوق «الرواية» يأتي في ثنايا نصٍّ روائي. ويتمثَّل السبب — من وجهة
نظر المؤلف — في أن الشعر أقرب إلى تجربة القداسة؛ لأنه يتجاوز «اللغة» ويدحضها، فيدخل
ساحة «الإيحاء والإشارات الإلهية»، وكأن الرواية بوصفها نوعًا أدبيًّا لا تفعل
ذلك.
ولكن المؤلف لا يقصد أيَّ شعر ولا كلَّ الشعر، وإنما يقصد نوعًا معينًا من الشعر:
الشعر الذي يوحي بما هو إلهي، الشعر الذي يوحي بما هو روحاني ومقدس؛ إنه يقصدُ الشعرَ
الحقَّ، الشعرَ الذي يحقق انتصار الروح من خلال أبجدية سحرية. وفي هذا السياق، يقول
مؤلف النص الروائي:
«الشعر — أعني الشعر الحقَّ، وما أغرب اجتماع هاتين اللفظتين: الشعر والحق،
وما أجمل وقوعهما معًا — ليس قاطع الحدود طبعًا، ولا هو مغلق على معناه
المحدَّد أو المحدِّد، بل هو يومِئ، بأكثر من وسيلة للإيماء، إلى ما هو وراء
اللغة، بالجرْس الموسيقي، وبالصورة المجازية، وبالتراوح النغميِّ، وببنية
الحرية المحكومة وبغير ذلك — حتى ليكاد الشعر بذاته أن يكون خبرةً حسية-روحية
معًا — لكنه بما أنه «ينقال» يظل في أسر أنه «يكاد» ولا يستحيل إلى تماهٍ كامل
أو ذوبان تام في الخبرة ومع الخبرة. لكنه على أي حالٍ يتخطَّى حدود ساحة اللغة
ويكسر محدوديتها ويكاد يكسبها ثراء الخبرة التي لا تنقال.» (ص٣٣)
ومِن ثَمَّ، يتسم «الشعر الحق» بالسمات الآتية: ليس قاطع الحدود، أي لا ينطوي على
معنى واحد ووحيد، بل يقدم المعنى في تعدده وتباينه من خلال الإيماء إلى ما وراء اللغة.
ووسيلته — في هذا الإيماء — الموسيقى والإيقاع والمجاز، وهي الأدوات التي تفتح المعنى
على التعدد فلا تكتفي بدلالة واحدة. وبهذه الطريقة، يكاد الشعر — فيما يرى المؤلف — أن يكون بذاته خبرة حسية روحية في آنٍ
معًا. يكاد الشعر ولا يكون؛ نظرًا إلى أنه لا يتماهي
مع الخبرة أو التجربة تماهيًا كاملًا، ولا يذوب فيها.
من خلال الموسيقى والإيقاع والمجاز، يقدر الشعر على الانفلات من أسر اللغة ومحدوديتها
فيكتسب ثراء الخبرة التي لا تنقال. وبذلك، يقترب الشعر من القداسة، ويكاد أن يكون
مقدسًا، شأنه في ذلك شأن التجربة الحية أو الخبرة المباشرة. وبذلك أيضًا، يُثير الشعر
—
أكثر من غيره من الأنواع الأدبية الأخرى — حالة التأمُّل أو التفكير، التي هي الشيء
«الثمين النفيس»، فيما يرى المؤلف. ويختم المؤلف مناقشته — والفصل الأول أيضًا — بهذا
السؤال:
«أليس ذلك كله صخرة غير قابلةٍ للكسر من صخور السماء؟» (ص٣٣)
وهو السؤال الذي يردُّنا، بشكلٍ مباشرٍ وصريحٍ، إلى النص الروائي: صخور السماء. وذلك على نحوٍ يدعو إلى التفكير والتأمل في
العنوان الذي يجمع بين مجالين دلاليين يبدو للوهلة الأولى أنهما مختلفان تمامًا. ولكن
قبل الانتقال إلى تحليل هذين المجالين الدلاليين، لا بد من التذكير بالنتائج التي
توصَّل إليها التحليل حتى الآن.
يضع المؤلف حالة التأمُّل أو التفكير في منزلة أعلى من المنزلة التي يتمتع بها النص
الأدبي اللغوي؛ فالنص الأدبي اللغوي يكتسب أهميته من قدرته على إثارة حالة التأمُّل في
نفس القارئ وعقله. وتجاوبًا مع هذا الفارق بين التأمُّل والتعبير اللغوي، يقوم المؤلف
بترسيخ التعارض بين التجربة واللغة، على نحوٍ يجعل التجربة أعلى في القيمة من اللغة؛
نظرًا إلى أن اللغة قاصرةٌ عن التجربة. وبالتوازي مع هذا التقييم، يُعلِي المؤلفُ من
شأن الشعر ويرفعه فوق الرواية؛ لأن الشعر أقرب إلى الإيحاء والإشارات الإلهية المقدسة،
وأقدر على الاقتراب من حدود التجربة أو الخبرة المباشرة.
وبناءً على ما سبق، يمكن استنتاج أن الرواية — بوصفها نوعًا أدبيًّا — لن تتمتع بأي
قيمةٍ إلا إذا اقتربت من حدود الشعر، فهل يقترب نص صخور
السماء من حدود الشعر؟ سوف أقوم بمحاولة الإجابة عن هذا السؤال ابتداءً
من تحليل عنوان النص أولًا.
(٥) صخور السماء: بين الرمز والأسطورة
يفرض العنوان على القارئ — منذ البداية — نوعًا من التأمُّل والتفكير؛ نظرًا إلى أن
العنوان يجمع بين مجالين دلاليين يبدوان للوهلة الأولى مختلفين تمامًا. ولعل هذا
الاختلاف هو الذي يدعو القارئ إلى التأمُّل والتفكير، وسأبدأ — أولًا — من تحليل المعنى
الحَرْفي لكل كلمة من كلمتي العنوان على حدة.
الصُّخُورُ جمع، وواحدتها الصَّخْرَةُ، ويُشير صاحب اللسان إلى أن الاسم من «صَخَرَ»
هو:
«الصخرة: الحجر العظيم الصُّلْب، وقوله عز وجل: يَا
بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي
صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ؛ قال الزجاج:
قيل في صَخْرة أي في الصخرة التي تحت الأرض …
وفي الحديث: «الصَّخْرة من الجنة»؛ يريد صَخْرة بيت المقدس. والصَّخَرَة:
كالصَّخْرة؛ والجمع صَخْرٌ وصَخَر وصُخُور وصُخُورة وصِخَرة وصَخَرات …
والصَّاخِر: صوت الحديد بعضه على بعض.»
٥
إن الصخرة حجرٌ عظيم صُلْبٌ لا يقبل الكسر بسهولة، وأحيانًا يستحيل كسره. والغالب
على
الصخر أن يكون متواريًا مدفونًا تحت الأرض؛ حيث يكتسب الصخر تحت الأرض القوة والصلابة
أو الصلادة. ومِن ثَمَّ، تستدعي كلمة الصخور — بصيغة الجمع — معنى الطبقات المدفونة تحت
الأرض أو في بطون الجبال، كما يوحي هذا الاستدعاء بفكرة التاريخ والتراكم التاريخي.
ولذا، تحمل كلمة «الصخور» معنى الزمن، ولا معنى للزمن دون الإنسان. الصخور تُسجِّل
الحيوات الإنسانية وتدوِّنها؛ إنها تحمل آثار حيوات مغرقة في القدم، وهي آثارٌ صلبة
كالصخر نفسه الذي يحملها، إنها صوت الماضي، صوت حديدي رَنَّانٌ. وبناءً عليه، يمكن
القول إن الصخور دنيوية.
غير أن صاحب اللسان يُشير إلى معنى آخر توحي به كلمة «الصخرة»؛ فالصخرة من الجنة.
وإذن، ثمة مصدر آخر من مصادر الصخر هو السماء نفسها. وعلى هذا النحو، تتأرجح دلالة
«الصخور» بين الدنيوي والمقدس. لذا، توحي كلمة «الصخور» — على المستوى الرمزي — بما هو
جسدي وروحي في آنٍ معًا، ويزيد من هذا الإيحاء، ويدعمه، كلمة «السماء». وفي سياق الحديث
عن كلمة «السماء»، يورد صاحب اللسان الدلالات الآتية:
«سما: السمو: الارتفاع والعلو … وسما الشيء يسمو سُمُوًّا، فهو سامٍ، ارتفع …
وسماء كل شيء: أعلاه، مُذَكَّرٌ … والسماء: سقف كل شيء وكل بيت، والسموات السبع
سماءُ …
والسماء: السحاب. السماء: المطر … ويُسمَّى العشب أيضًا سماء لأنه يكون عن
السماء الذي هو المطر، كما سَمَّوا النبات ندى لأنه يكون عن الندى الذي هو
المطر … وفي الحديث: صلَّى بنا إِثْرَ سماءٍ من الليل أي إثر مطرٍ، وسُمِّي
المطر سماء لأنه ينزل من السماء …
وسَماوةُ كل شيء: شخصه وطلْعتُه … والصائدُ يَسْمُو الوحشَ ويَسْتَمِيها:
يَتَعَيَّنُ شُخُوصَها ويَطْلُبُها. والسُّمَاةُ: الصيادون، صفة غالبة مثل
الرُّماة، وقيل: هم صيادو النهار خاصَّة … وإذا خرج القوم للصيد في قفار الأرض
وصحاريها قلت: سَمَوْا وهم السُّماةُ أي الصيادون …
واسم الشيء وسَمُه وسِمُه وسَماه: علامته … والاسم ألفه ألف وصلٍ، والدليل
على ذلك أنك إذا صغَّرت الاسم قلت سُمِّيٌّ.»
٦
ومِن ثَمَّ، تتراوح كلمة «السماء» بين مجموعة من الدلالات شأنها في ذلك شأن كلمة
«الصخور»، ويمكن تحديد هذه الدلالات على النحو الآتي: دلالة الارتفاع والعلو والسمو،
الدلالة على السحاب والمطر والعشب، دلالة التحديد والتعيين والصيد، دلالة الوَسْمِ
والعلامة. ولذا، تُوحي كلمة «السماء» أيضًا — على المستوى الرمزي — بما هو روحيٌّ وجسدي
في آنٍ معًا، على نحوٍ يمكن معه القول إن كلمتي العنوان تُرَجِّع إحداهما صدى الأخرى
رمزيًّا. ومن ناحية أخرى، تُشير السماء إلى كل ما هو أسطوري؛
٧ فالسماء هي مصدر العقيدة والدين. وعند هذا المستوى، يجمع العنوان بين
دلالاتٍ رمزية ودلالات أسطورية. وعن دلالات عنوان الرواية بوجه عام، يقول محمد الكردي:
«فالصخور هي أقرب ما تكون إلى القيم الثابتة النازعة إلى السمو والعلو، ولكن
هذا العلو السماوي ليس بالضرورة «ترنسندنتاليًّا» تجريديًّا وإنما ممتد الجذور
في قلب الحياة نفسها بوعورتها وأسباب معاناتها إذ تبرز الرواية أن كل فصل بين
الروح والجسد وبين الرغبة والفضيلة فصلٌ تعسفي وظاهري بحت لأن المحبة بمعناها
«الغُنوصي» العميق لا بد أن تجمع بين المعرفة والتجربة وبين الروح والجسد،
وأخيرًا بين كل أشكال السمو والتعالي وضروب السقوط والتردي في الوقت نفسه، إذ
هذا هو الإنسان.»
٨
على حين يؤكد السيد فاروق رزق هذه الدلالات بشكلٍ أعمق، حيث يقول:
«
صخور السماء إنجاز معماري استطاع فيه
الفنان أن يُحاكي إنجازات الأجداد الذين برعوا في العمارة منذ آلاف السنين.
البناء الذي يُشكِّله إدوار الخراط يتخذ أبعادًا روحية وجسدية، سماوية وأرضية،
واقعية ورمزية، وهو غالبًا ما ينتهك الحدود الفاصلة بين الثنائيات، ويضع أركان
عالمه في منطقة وسطى، أو على حواف كل طرفٍ من أطراف هذه الثنائيات.»
٩
وإذن، يمكن القول إن دلالة العنوان صخور السماء
تنطوي على توتر بين ما هو أرضي وما هو سماوي، بين ما هو بشري وما هو إلهي، بين ما هو
مدنس وما هو مقدس، بين ما هو سردي وما هو شعري. وهكذا، تكاد الرواية، منذ العنوان،
تقترب من حدود التجربة الشعرية؛ فالعنوان — بما يحمله من
توترٍ دلالي — يكاد يُفارق السرد إلى الشعر. ولعله
من المناسب، الآن، أن أتتبَّع مفهوم النص الروائي كما يُحدده إدوار الخراط، من خلال بعض
كتاباته النظرية.
(٦) مفهوم النص الروائي: التوتر بين السردي والشعري
يرى إدوار الخراط أن الرواية اليوم — بوصفها نوعًا أدبيًّا — عمل متفرد ومتميز،
ولأنها كذلك فيجب أن تتوفر فيها كل مقومات العمل الفني. ورغم أن شكلها ذاته يفرض عليها
قيودًا صارمة، فمن الممكن أن يتيح لها — هذا الشكل — حرية لا تكاد تتوفر لفنٍّ أو لشكلٍ
آخر من أشكال الفنون. وعلى هذا الأساس يُحدد إدوار الخراط تصوُّره للنص الروائي قائلًا:
«الرواية، في ظنِّي، هي اليوم الشكل الذي يمكن أن يحتوي على الشعر، وعلى
الموسيقى وعلى اللمحات التشكيلية، بالإضافة إلى ما يمكن، ولكنه ليس بالضرورة
على أي حالٍ، أن تحتوي عليه من خصائص الرواية التقليدية التي عرفناها منذ
بداياتها. لست أظن أن الرواية يمكن أن تكون اليوم شيئًا «بلزاكيًّا» ولا يمكن
أن تكتفي بكونها متابعة للشكل الذي عرفته الرواية في القرن التاسع عشر، الرواية
يجب أن تكشف في رؤية الكاتب تنظيمًا مكثفًا … ولكنه، أيضًا ناقلًا وشديد
الإيحاء … لإبداع رؤية نافذةٍ وعميقة … وبجانب هذا كله يجب أن تكون الرواية، في
ظنِّي، عملًا حرًّا. والحرية هي من التيمات والموضوعات الأساسية، ومن الصبوات
المحرقة اللاذعة التي تتسلل دائمًا إلى كل ما أكتب. الحرية المتحققة والمحبطة
معًا.
فإذا تناولنا المسألة بشكلٍ تقنيٍّ أكثر، قلت إنني لا أتطلب من الرواية اليوم
أن تكون واقعة سرد وحكاية، ولا أن تكون حاملًا لشعار أو مغزى، ولكنها بلا شكٍّ
شئت أم لم أشأ ستحمل دلالة. وإذا كنت حسن الحظ، ستحمل قيمة عريضة أو واسعة عن
جانب من جوانب الحياة، لا أن تكون كما يُقال بالتعبير القالبي «شريحة من شرائح
الحياة». أريدها أن تكون شيئًا تتوفَّر له الحرية الكاملة في داخل قيود يفرضها
مضمونها ورؤيتها بنفسه على نفسه، أي أن تبتدعَ لنفسها حريتها وقانونها
معًا.
…
يمكن أن تكون الرواية دفقات من الشعر خالصة
… لكني أظن أنه يجب أن تحكم هذه الدفقة إطارات
من النظام خفية ودقيقة، ولكنها موجودة.
يمكن أن تكون في الرواية أيضًا صورة وجدانية من
الفكر الخالص، هنا أيضًا أظن أنه يجب أن يكون للفكر شعره الخاص، وقوامه
القصصي. بمعنى آخر كما يُستشفُّ من كلامي، أترك للرواية، كما
أترك لجميع الأعمال الفنية، حريتها الكاملة في أن تختطَّ لنفسها الطريق الذي
تريد، وأن تفترض بنفسها لنفسها القوانين المبدعة، هذا هو سر الإبداع، أن تضع
بنفسك القانون، وأن تجد حريتك في داخل هذا القانون.»
١٠
يرفض إدوار الخراط، إذن، الإطار السردي التقليدي، وهذا معناه ضمنًا ابتعاده عن الواقع
الفوتوغرافي الخارجي. وفي الوقت نفسه، يضع تصورًا عن الرواية بوصفها النوع الأدبي
القادر على تجاوز حدوده النوعية الخاصة إلى أنواعٍ أدبية أخرى يأتي على رأسها الشعر.
وحتى حين يرى إمكان أن تنطوي الرواية على صورٍ وجدانية من الفكر الخالص فإنه يشترط لهذه
الصور الوجدانية الفكرية أن يكون لها شعرها الخاص. وإذا استطاعت الرواية أن تحقق هذا
العبور إلى الفكر والشعر معًا، فعندئذٍ يحقق هذا النوع — غير المُقفل على نفسه — الحرية
الكاملة. وبهذا وحده يمكن للرواية أن تكون:
«هذا السعي اللاعج الدائب الذي لا يتوقف أبدًا نحو ما
أُسميه الحقيقة أو إلى حقيقة ما، أيًّا كانت. هذا السعي هو الذي
ندعوه بالصدق الفني. ولتكن هذه الحقيقة ذات أقنعة سبعة ولكن كل قناع منها إنما
هو منسوبٌ إلى حقيقة … أي أن كل قناع منها فيه جانب من جوانب هذا الجوهر، أو
هذا الكنز الذي يقع وراء أربعين بابًا مرصودًا لا تنفتح إلا بقوة الفن.
ارتباطي وإيماني بما هو مقوم للإنسان، حريته التي لا
يمكن أن تُهْدَرَ، توقه إلى العدالة وإلى الجمال، نشوته بالحسِّ، وصوفيته
بالمطلق. مأساته الكونية المحتومة كإنسان، وقدره المجيد في مجابهتها،
تكافله الحميم مع رصفائه في المجتمع، وفي الحياة، وفي الكون … كلها لبُّ
حقيقته المغلقة … وكلها موضوعات أو ثيمات العمل الفني الذي لا
يمكن أن يفي بها الوفاء الحق إلا العمل الفني.
منافذ للخروج من الأزمة كأنها الأبواب الضيقة في الأساطير القديمة لا بد من
ولوجها إلى جوهر الكنز المرصود.»
١١
ومِن ثمَّ، يرتبط مفهوم النص الروائي عند إدوار الخراط بالسعي نحو الحقيقة: حقيقة
الإنسان من حيث هو الكائن الذي ينطوي بداخله على الإلهي والبشري في آنٍ معًا، وتوزُّعه
المستمر بين هذين الجانبين المكونين له، وهذا ما يسمِّيه الخراط: «نشوته بالحسِّ،
وصوفيته بالمطلق. مأساته الكونية المحتومة … وقدره المجيد في مجابهتها». غير أن ذلك لا
يعني أن الكتابة الروائية، عند الخراط، تسعى نحو الخلاص بوصفه حلًّا لهذه المأساة،
حلًّا يحقق العدالة ويُنهي عملية المجابهة المستمرة، المفروضة على الإنسان، أو التي هي
قدر الإنسان. وفي هذا السياق يقول الخراط:
«معرفة الخلاص هذه نعمةٌ مشكوك فيها، يعني نعمة مختلطة المعالم والأشياء،
القديس يعرف الخلاص والصوفي يعرف الخلاص وأيضًا الأيديولوجي الضيق الأفق يتصور
أنه يعرف الخلاص.
بالنسبة لي أتصور أن الخلاص، دائمًا موضع سؤال، وأنه ليس شيئًا مُلقى به على
قارعة الطريق، ولا سهل المنال، ولا يمكن الوصول إليه هكذا، حتى ولو كان هبة من
الله، بل إن الطريق إلى الخلاص … محفوفٌ بالأهوال، ومهدد في كل لحظة باليأس …
وإذن، بهذا المعنى العام، يمكن أن نقول إن معرفة الخلاص معرفةٌ معقدة، وليست
ملقاة ومأخوذة مأخذًا مسلَّمًا به من البداية، وأنها شيءٌ صعب، وأتصور أن السعي
إليه، هو نفسه، مجرد معنى من معاني الخلاص، مجرد السعي ومجرد الطلب، وليس
الوصول، فيه معنى من معاني الخلاص.»
١٢
النص الروائي ليس خلاصًا، وإنما هو سعي نحو الخلاص، يسائل فكرة الخلاص بوصفها غاية
مقررة سلفًا، وإذا كان الأمر هكذا، فهل يضطلع النص الروائي «بدور النبوة أو الفلسفة
بمعناها القديم الشامل المستضيء»؟
١٣
في حقيقة الأمر، يستشعر قارئ أعمال إدوار الخراط أن أعماله الروائية — وبصفة خاصة
رواية
صخور السماء — تقوم بهذا الدور المزدوج: دور
النبوة ودور الفلسفة بمعناها القديم. فهو يقول:
«لأنني أتمنى أن أقتحم ولو مقدار خطوة
في ساحة الحقيقة التي لا حدود لها … لأنني أتمنى أن ترتفع معرفتي ومعرفتكم
بالذات وبالعالم ولو كان ذلك مقدار قامة … لأن العالم لغزٌ … والمرأة لغزٌ …
والإنسان أخي لغز … والكون كله لغز أحمله في حبة قلبي وهو نواةٌ صلبة في جسد
العقل والقلق الذي لا يصل إلى حلٍّ … وأنا بالكتابة مدفوعٌ إلى مناوشة هذه
النواة أهاجمها من كل جانب … بلا أمل في أن أكسرها … ولا يأس من أن أحمل عليها
مرة بعد المرة.»
١٤
إن هذا التصور، الذي يُقدمه الخراط، عن النص الروائي من حيث هو سعي نحو الحقيقة، عبر
مساءلة فكرة الخلاص نفسها — هذا التصور يفرض تصورًا آخر خاصًّا عن لغة النص الروائي.
وسوف أعرض الآن الخطوط العامة لهذا التصور كما يُقدمه إدوار الخراط بنفسه.
يرى الخراط — بوجه عام — أنه لا فكر ولا حس بدون لغة، بل يذهب أبعد من الوعي إلى
اللاوعي؛ حيث يقول:
«اللغة مقومٌ أساسي من مقومات اللاوعي نفسه بل هي في هذا المستوى تحمل أعماق
الرمز وتختلط بمكونات الحياة الأولية.»
١٥
وفي أعماله الروائية، يسعى الخراط إلى تدمير القوالب اللغوية المصطلح عليها من أجل
أن
يجد بين أنقاض هذه الركامات ما يُسميه «الجوهر الثمين الحي».
١٦ وفي هذا السياق يقول:
«إن اللغة عندنا، بطبيعتها وبأصولها، وكما تجري بذلك التقاليد الألفية، لغة
إلهية، ولها خصيصة القداسة، وسطوتها كاملة وثابتة إلى الأبد. ذلك تراث فادح
الثراء، لا يكاد يُطاق.
وإذن فإنني أسعى، دون تنازل، إلى الحفاظ على هذا الثراء، وأسعى إلى نفي خصيصة
الثبات والجمود عنه … أسعى إلى «نهب» هذه الكنوز الموروثة، بحرية كاملة، وإلى
تجديد القوالب العريقة العتيقة، وإلى الإفادة من مدى عريضٍ وشاسعٍ للهجات
واللُّغَى، من شتى مستويات اللغة، من سلَّم موسيقي بالغ التنوع.
ومِن ثَمَّ فإن اللعب بالكلم، والإصاتة نفسها، يمكن أن تستقطر جانبًا كاملًا
من جوانب العمل الفني بل أن تلخِّص جوهره. فليس هذا … مجرد لعب … ولكنه دَفْق،
ونبض، وشحنة.»
١٧
ويرى الخراط أن هذا اللعب باللغة تفرضه ضرورتان: أولاهما هي «الضرورة الانفعالية
التعبيرية»، أما الضرورة الثانية فهي «إيجاد لغة». وثَمة أسباب أخرى تفرض فكرة اللعب
باللغة فيما يقول الخراط، لعل السبب الأول منها:
«ربما يتصل بتراثنا الصوفي. فالحَرْف عند الصوفيين ليس مجرد اللفظ بصوت ما،
ولكن له دلالات شقَّقوها لأنفسهم.
هي دلالاتٌ تتصل بتمثيل أو تجسيد ما لا يمكن تمثيله أو تجسيده، بالحلول محل
مطلق ما، متسامٍ وعلوي ولا وصول إليه، وإنما هناك سعيٌّ دائب للوصول إليه. أليس
من حقِّي، إذا كانت تجربتي تدفعني لهذا، أن أشقِّق لنفسي دلالات تتجاوز الحسي
العضوي في اللفظ وفي الحَرْف، وإن ظلَّت دائمًا ترتبط بهما بل تعتمد عليهما؟
هناك أيضًا الوجْد باللغة، لا بما أنها لفظيةٌ ظاهرية فقط … بل بما تتضمنه من
بنية موسيقية ومن نسيجٍ سحريٍّ موسيقي، محاولة الغوص إلى طبقة جيولوجية بدائية
في الحس — إذا صحَّ هذا التعبير — بحيث يكون التواصل عبر جرْس اللغة مما يكاد
يكون تواصلًا مباشرًا، أصليًّا، أوليًّا، ولكن المسألة … ليست مسألة ترجيع صوتي
فقط بل هي — إلى ذلك، ومع ذلك — سعي إلى خلق موسيقي.
ليست الموسيقى هنا شيئًا خارجيًّا، ولا حيلة ولا لعبة، بل هي فرضٌ وضرورة، هي
سعي إلى سد الهُوَّة بين اللغة، بما تحمل من دلالاتٍ محددة واضحة، وبين
الموسيقى، بما تحمل من عدم تحدد المعنى، ومن إيحاء الصوت في الوقت نفسه …
مسعاي، ولعله واعٍ أو غير واعٍ إلى إعادة — أو على الأصح خلق — مجد خاص للغة.
والمجد هنا … ليس مجدًا رصينًا فقط ولا جليلًا فقط. أزعم أنني أتمنى أن تكون في
هذه «الرؤية-اللغة» أو هذه «الخبرة-اللغة» رصانة إذا اقتضت ضرورة الفن هذا،
ومعابثة، وتحليق، وخفة، وثقل … أي أن تكون في اللغة مستويات متعددة … بحيث يمكن
لأحد هذه المستويات … أن يكون تسجيليًّا وتقريريًّا بحتًا، ولمستوى آخر أن يكون
… شعرًا صَرَاحًا؛ وكل ألوان الطيف المختلفة أيضًا بين هذا وذاك.»
١٨
(٧) صخور السماء: بين الغنوصية والأغنوصية
لا أحد يستطيع التغاضي عن الجوِّ المسيحي الذي تدور فيه أحداث النص، وقد يذهب بعض
القراء إلى القول إن الكاتب يعرض سيرة حياة الجماعة المسيحية، في مصر، في لحظة من لحظات
تاريخها. وقد يذهب آخرون إلى القول إن الكاتب يُصرح أخيرًا — في هذا النص — بعقيدته
المسيحية المضمرة في نصوصه السابقة. غير أنه لا رأي من هذين الرأيين يصدق حرفيًّا على
نص صخور السماء؛ إذ أرى أن نص صخور السماء يُناقش بشكل أساسي تجربة الإيمان. ومناقشة الإيمان ليست
إيمانًا؛ فالإيمان — بمعناه الأرثوذكسي — عملية تسليم مطلق لا تقبل النقاش أو الجدل.
إما أن تؤمن أو لا تؤمن: هذه هي القضية، والنص في حقيقة أمره يناقش مدى سلامة هذه
القضية.
وفي هذا السياق، يُشير إدوار الخراط إلى نشأته الدينية الممتلئة بسطوة أسطورة الدين
المسيحي، فهو شأنه شأن أي طفلٍ مسيحي يتلقى، ويمارس — منذ البداية — تقاليد الدين الذي
نشأ عليه، ويستجيب لطقوسه كلها، يقول إدوار الخراط:
«وبعد أن كنت مضطرم الإيمان مُحتدم
التدين، فقدْتُ ذلك — ولعلني ما زلت أفتقده — تحت سطوة أسطورة أخرى وإيمان آخر
هو الإيمان بالعقل، ولكنه العقل الذي ينبض بحرارة القلب والحياة دون أن يفقد
نأمة من قوامه العقلي الصلب.
لعل أحد الحوافز على كتابة «صخور السماء» هو، على وجه الدقة، مساءلة هذا
الإيمان المزدوج: الإيمان المفقود والمفتقد والإيمان الماثل المخايل الذي لا
ملاذ غيره … أسئلة الإيمان تشغل مكانًا أساسيًّا في «صخور السماء»، لكنها تظل
أسئلة وليست يقينيات، وأظن أن مَن يُخطئ تلك الروح التي أسميتها «أغنوصية» يخطئ
كثيرًا في تلقي «صخور السماء». ومع ذلك فإن ثمَّ روحًا غنوصية تسري في تضاعيف
ذلك النص الذي يتناقض مع نفسه ويتسق معها في الوقت ذاته، أليس المأمول دائمًا
أن يكون الفن هو سيد المتناقضات.»
١٩
ولعل نص الرواية نفسه يؤكد هذا التراوح: بين مجالي القلب والعقل، بين تجربة الإيمان
الديني وأسئلة العقل الذي لا ينفكُّ عن مساءلة اليقينيات الدينية، بين الغنوصية
والأغنوصية. ويُشير السيد فاروق رزق إلى أن الغنوصية
Gnosticism هي:
«اتجاه ديني يذهب بعيدًا عن الالتزام بالتأويل الحَرْفي للنص، وبالرغم من
شيوع ارتباط اللفظة بمعاني الفَهْم والمعرفة، إلا أن المعرفة الغنوصية تختلف
أشد الاختلاف عما ندعوه بالمعرفة، فالسمة الأساسية للغنوصية هي الإيمان بمعرفة
باطنية سرية تأتي عبر نوعٍ من الوحي أو الإلهام الربَّاني وترتبط بمجموعة من
الرموز والطقوس الدينية الخاصة، وقد شاعت الغنوصية المسيحية في بداية القرن
الثاني الميلادي، وقد يكون للاتجاهات المسيحية أثرٌ على ظهور الغنوصية
الإسلامية في بعض الاتجاهات الصوفية والفرق الشعبية الأكثر راديكالية. إلا أن
الغنوصية المسيحية — كالغنوصية الإسلامية — تدين بشكلٍ كبيرٍ للأديان الشرقية
التي نمت وانتشرت قبلها بقرونٍ طويلةٍ في الهند وفارس.»
٢٠
أما الأغنوصية
Agnosticism فهي:
«لفظة اخترعها ألدوس هكسلي، للتعبير عن موقف اللانفي واللاإيمان تجاه مختلف
القضايا الدينية والميتافيزيقية، وعلى رأسها الوجود الإلهي وطبيعة هذا الوجود
وعلاقته بالحياة البشرية.»
٢١
ومِن ثَمَّ، يمكن القول إن رواية صخور السماء تقع
في المنطقة بين الغنوصية والأغنوصية، بين تجربة الإيمان القلبي اليقيني وتجربة الشك
العقلي المتوتر. ففي حقيقة الأمر، لا يسلِّم النصُّ بصحة أي منهما على حدة، وإنما يراوح
بينهما مراوحة متسائلة وحذرة ومترقبة. ولهذه المراوحة تأثيرٌ قوي في عمليات إنتاج
المعنى والدلالة داخل النص، وهذا ما ستكشف عنه الفصول القادمة من هذا الدرس.