ازدواج الدلالة الرمزية وتوترها
وقبل فحص ماهية الذكريات وطبيعتها وكيفية عمل الذاكرة واكتشاف آلياتها، سوف أقوم بتحليل «صورة أدبية»، يمكن عدُّها الصورة المفتاحية في النص، بل يمكن من خلالها الكشف عن أعراف النص والتقاليد الأدبية التي يعمل النص في إطارها.
(١) الصورة الأدبية الافتتاحية: العَيْش من خلال الذكريات
- الفقرة الأولى: «جسده المضني انحسرت عنه سورات النشوات القديمة، التي لم يعرفها بعد، وكانت كامنة فيه. فجوة واحدة بين صخور الجبل الرمادي الحار، مفتوحة على سماء حجرية لا استجابة منها، بيضاء غير صافية البياض، مشتعلة. شجرة الدَّوْم نحيلة، عتيقة، عليها طبقة خفيفة من التراب، أغصانها تَنُوسُ في نعمتها القاحلة، على الجذع المكين المشقق، يعرف أنه لا حظَّ له منها إلا نظرات أخيرة، واهنة، ربما، لكن فيها حدة النهايات.»
- الفقرة الثانية: «أحسَّ في سمائه الداخلية رفرفة طيور الفراق، ما زالت جُثُومًا بعدُ، فهل هي على أهبة الانطلاق؟»
- الفقرة الثالثة: «الألم في ضلوع صدره رقيقٌ لكنه لا يريم وفي عينيه سحابات غائبة.»
- الفقرة الرابعة: «رأى في غَبَش سحابةٍ ملتبسة، الجسم الأنثوي الصغير عاريًا، لا مناعة له في الظاهر، لكنه حصين في نعومته، يبدو أنه مُعَرَّض للبلي سريعًا.»
- الفقرة الخامسة: «ها هو الآن قد هاله الزمن، يقف أمام نهايته، وبجانبه أسد مقتول — هل قتله أم سوف يقتله؟ — ممدَّد الأطراف، مخالبه المقوسة الطويلة ناشبة في تراب الأرض الخام غير المستوية، بلا جدوى، رأسه نازل على الكتفين المنهارتين، فيه خصلٌ ملبَّدة بالدم، لكن فيه كرامة لا تُنال.»
- الفقرة السادسة: «كان كلُّ شيءٍ صامتًا رماديًّا أغبر في هذا الفجر الساخن الذي يُخايل بأنه فَجْرٌ صعب المجيء.»
- الفقرة السابعة: «صمت بدء الخليقة قبل أن تنطلق صرخات الطيور من وكناتها.»
- الفقرة الثامنة: «فلما عاد إليه ذلك الصباح، رأى بالتأكيد، أنه على بسطة السلَّم الحجري، من غير سياج، ملاصقًا لحائط البيت القديم، تهبط درجاته إلى الفناء الواسع الذي لم تصله أشعة الشمس بعد. رأى نفسه طفلًا، صغير الجسم جدًّا، يقظ الوعي.» (ص٧-٨)
من الواضح — للوهلة الأولى — أن هذه الصورة شديدة القوة والإيحاء، وفي الوقت نفسه ثرية وعلى درجة عالية من التركيب. وعلى سبيل المثال، تُوحي الفقرة الأولى بأننا أمام رجل شيخ، يوشك على الموت وحيدًا، وقد عانى أنواعًا مختلفة من الحرمان، حيث تبدأ الفقرة الأولى بهذه العبارة: «جسده المُضنى انحسرت عنه سورات النشوات القديمة، التي لم يعرفها بعد، وكانت كامنة فيه.» لقد انحسر الشباب عنه بكل ما ينطوي عليه الشباب من نشوات وصبوات، وما يُثير الدهشة أنه لم يجرِّب هذه النشوات القديمة، ولم يعرفها قط، فهل كانت هذه النشوات مجرد رغبات تناوشه ويعجز عن تحقيقها؟ من الواضح أن هذه الرغبات والنشوات لم تتحقق أبدًا؛ الأمر الذي يعني وجود حالة من حالات الموت المعنوي التي يُعاني منها الراوي الشيخ.
في الحالة الأولى، سنكون أمام استعارة تصريحية؛ وسيصبح الراوي الشيخ هو نفسه شجرة الدَّوم العتيقة الشامخة، ومِن ثَمَّ نفهم — بحكم الدلالة الاستعارية — أن الراوي الشيخ هو مَن يتغذى على الجثث: جثث الذكريات مثلًا. أما في الحالة الثانية، التي تكون فيها شجرة الدَّوْم مجرد كيان آخر يقف في مواجهة الراوي، فمن الممكن القول إن شجرة الدوم تنتظر موت الراوي الشيخ، الوشيك، حتى تتغذى على جثته.
ولعل الفقرة الثانية القصيرة جدًّا، من هذه الصورة، توحي بترجيح هذه الحالة الثانية؛ حيث يقول النص: «أحسَّ في سمائه الداخلية رفرفة طيور الفراق، ما زالت جثومًا بعد، فهل هي على أهبة الانطلاق؟» وفي حقيقة الأمر، تشكل هذه الفقرة، القصيرة جدًّا، صورة أدبية قائمة بذاتها؛ نظرًا إلى ما تنطوي عليه من تكثيفٍ استعاري على درجة عالية من التركيب والثراء. ويزيد من تأكيد هذا الإيحاء الفقرة الثالثة: «الألم في ضلوع صدره رقيق لكنه لا يريم وفي عينيه سحابات غائمة». ويبدو أننا أمام حالة تأهب قصوى لموت عضوي حقيقي؛ فالفقرة الرابعة تُشير إلى حالة تداعٍ تصحبه ذكرى ملتبسة، حيث يستعيد الراوي الشيخ — فيما يُشبه الرَّمق الأخير — صورة جسم أنثوي صغير عارٍ. وعلى ما يبدو في نظره، فهذا الجسم الأنثوي — على صغره — معرَّض للبَلْي سريعًا؛ الأمر الذي يوحي بسرعة مرور الزمان، واقتراب الموت، وهو موتٌ وشيك. أو يُوحي بأن ذكرى هذا الجسم وَمَضَتْ في نفسه ومضة خاطفة سرعان ما انطفأت، وعلى كل حالٍ يؤكد الانطفاء اقتراب الموت.
ويدعم هذا الإيحاءَ الفقرةُ الخامسة، فمرور الزمان السريع يُثير في نفسه حالة من الهول والفزع، الأمر الذي يستدعي بقوة الصورة الحسية الآتية: الراوي الشيخ يقف أمام نهاية الزمان — التي هي موته الوشيك ونهايته الحقيقية — وبجانبه أسد مقتول، أطرافه ممددة، ومخالبه ناشبة بقوة وصلابة في تراب الأرض، ولكن هذه القوة والصلابة لا معنى لها؛ لأن رأسه مثقوبٌ، ثقبته طلقة واحدة فصرعته على الأرض، والدماء تنزف منه. ويوحي السياق بأن هذا الأسد المقتول هو نفسه الراوي الشيخ، وذلك على النحو الذي يكشف عن عنف المعركة التي خاضها الراوي الشيخ مع الزمان؛ إذ يبدو أنه قد عاش طويلًا، يجوس خلال الأرض كما يشاء مثل أسد. ورغم أنه قد خسر المعركة — فالزمان لا غلاب له — فهو يتمتع بكرامة لا يمكن النيل منها أبدًا؛ خسر ومات ولكنه أسد.
واللافت للنظر أن الفقرات السادسة والسابعة والثامنة من هذه الصورة الأدبية تقلب الدلالة رأسًا على عقب، فما كنَّا نظن أنه استعدادٌ وتأهب لحالة موت عضويٍّ حقيقي، تدعمها الكثير من الصور الجزئية المؤكدة لها، صار حالة ولادة أو بعثًا من جديدٍ. فالفجر ساخن «يُخايل بأنه فجر صعب المجيء»، والصمت المتولد عن جُثُوم طيور الفراق — في الفقرة الثانية — صار — في الفقرة السابعة — «صمت بدء الخليقة قبل أن تنطلق صرخات الطيور من وكناتها»، أما الفقرة الثامنة فتشهد على ميلاد الذكريات وميلاد النص: الحياة الجديدة.
ولو تناولنا الدلالة السياقية الكلية في الصورة الأدبية، فعندئذٍ تصبح شجرة الدَّوْم — في الفقرة الأولى — بديلًا استعاريًّا عن الراوي الشيخ، الذي سوف يتغذى — من الآن فصاعدًا — على جثث الذكريات؛ فتنفتح الحياة — مرة أخرى — أمام الراوي الشيخ، وينفتح النص أيضًا.
(٢) الذاكرة والخيال والرمز
حتى الآن، يبدو أن هناك، في الأدب أو الإبداع الرمزي، علاقة قوية بين الذاكرة والخيال والرموز. وسوف أحاول، في هذه الفقرة، إيضاح أبعاد هذه العلاقة بما يخدم عمليات التحليل النصي، وبما يكشف في الوقت نفسه عن آليات انبناء النص.
تبدو الذكريات في النص — كما يتضح من خلال تحليل الصورة الأدبية الافتتاحية — قوة ملهمة، كما تبدو الدليلَ الوحيد على استعادة الحياة، بعد أن أوشك الراوي الشيخ على الموت. ومِن ثَمَّ، يُعد العَيْش من خلال الذكريات أسلوب المواجهة الأمثل، من أجل إيقاف مرور الزمان الذي يعني الاقتراب من الموت والنهاية. ومن ثمَّ أيضًا، يمكن القول إن الذكريات هي التجسيد الحي الملموس للروح الحرة الطليقة التي تجوب عبر الزمان بلا قيدٍ أو عائقٍ.
الإسكندرية في ٢٧ يونية ١٩٤١م
ولدنا العزيز
وهذه السرعة الزمنية ليست معقولة، ولا تتماشى مع طبيعة المرحلة الزمنية التي تدور فيها أحداث الرواية، فضلًا عن أن هذه المرحلة الزمنية كانت قد بدأت فيها الحرب العالمية الثانية، ومن المعروف أن حركة البريد في وقت الحروب تتعثَّر نسبيًّا قياسًا إلى الأوقات العادية.
ويدل هذان الشاهدان — بلدة أباهور المختلَقة اختلاقًا وتواريخ الخطابات والردود عليها — على أن ملكة الخيال تتصرف في النص — مع أنه نص الذكريات بحق — تصرفًا قويًّا يفوق الوصف، إلى الدرجة التي يتأكد معها أن النص ما هو إلا إنشاء خيالي.
ولو رجعنا، مرة أخرى، إلى الصورة الأدبية الافتتاحية، التي سبق تحليلها، فسنجد أننا بإزاء تشكيلٍ رمزي يُوحي بنوعٍ من الصراع بين الموت والحياة، بين الراوي الشيخ الذي أوشك على الموت والراوي الصبي الذي يفتتح سيل الذكريات المتدفق؛ إنه الصراع بين نهاية الزمان وبدايته، بين الحسِّ المأساوي الناتج عن الشعور بالوحدة والعزلة التي تفرضها حالة التأهب والاستعداد للموت من ناحية، والحيوية الناتجة عن المشاركة والشعور بالألفة داخل العائلة التي تفرضها حالة الطفولة والصبا. وكما رأينا، ينتهي هذا الصراع لصالح الطرف الثاني: الحياة، الصبي وسيل الذكريات المتدفق، بداية الزمان، الحيوية والمشاركة والألفة وسط الجو العائلي البهيج المليء بالدفء والحب.
يبدأ النص بعد الصورة الأدبية الافتتاحية، وقد كانت صورةً واعدةً، في استدعاء سيل متدفق من الذكريات: ذكريات الطفولة والصبا والمراهقة ثم الشباب، فيقدم واقعًا رمزيًّا للحياة في الصعيد؛ وعلى وجه الخصوص بلدتي أخميم (الحقيقية) وأباهور (الخيالية). وما بين الوجود الواقعي والوجود الخيالي يصبح القارئ غير متيقنٍ من حقيقة ما يحدث أو خياليته، وفي الوقت نفسه، يواجه القارئ سيلًا متدفقًا من اليقينيات والشكوك، من الأسئلة والإجابات الملتبسة، كما يواجه الدراما والفواجع والنهايات المأساوية، والإيمان الديني المتصلب والرجوع عنه.
وما يهمُّ أغراض التحليل — الآن — الذهاب مباشرة إلى تحليل الصورة الأدبية التي أرى أنها تمثِّل ختام النص، والتي تمثِّل، أيضًا، استكمالًا جوهريًّا للصورة الافتتاحية. وذلك بغرض الوقوف على طبيعة التشكيل الرمزي وحقيقة الدلالة الرمزية التي ينتجها هذا التشكيل، والتي تمارس نفوذها على سائر النص فيما بين مفتتحه وختامه. إذ أرى أن هذه الصورة الأدبية الكلية — بمفتتحها وختامها وما تنتجه من دلالاتٍ رمزية مزدوجة — تمثِّل الصورة المركزية التي تؤثر في طرائق إنتاج الدلالات الرمزية، على طول النص، فيما بين المفتتح والختام.
(٣) الصورة الأدبية الختامية: التوتر الرمزي
«أبي
ولعله من المهم، هنا، ملاحظة أن الراوي — في الفصل الأول — بعد أن انتهى من سرد المشهد الأول له مع مارينا — قد انتقل مباشرة إلى الحديث عن أبيه، وكأن الحديث عن الأب لازمةٌ من اللوازم المصاحبة للصورة الأدبية الافتتاحية — في الفصل الأول — وللصورة الأدبية الختامية في الفصل الأخير. ثم ينتقل الراوي إلى سرد لحظات موت أبيه في الإسكندرية — بعد أن كانت العائلة قد انتقلت إليها — وتشييع الجنازة. كما يستطرد في السرد عن استكماله الدراسة الجامعية وكدحه وعمله اليومي من أجل تحصيل العلم ولقمة العيش في وقتٍ واحدٍ. واللافت للنظر، في هذا الفصل الأخير، أن الراوي يستعمل ضمير المتكلم، على عكس الفصل الأول الذي بدأ مباشرة بضمير الغائب.
«تخرجت من الكلية وقد حصلت أخيرًا على شهادة التخرج، لا أدري ماذا أفعل بها، مكتئبًا، ليس في الحدث كله فرح ولا احتفال ولا حس بالتحقق أو الانتصار.» (ص٤٥٣)
«في الليل بنات آوى بآذانها المنتصبة وأجسامها المرنة مرونة شريرة وأفواهها الطويلة المسحوبة المنتهية باللون الأسود اللامع المبلل، تحت سماء صافية ممتلئة بالنجوم وثقيلة كالرصاص، تجوس معي كأنها تتعقَّبني تصاحبني وتطاردني معًا، أتعثَّر بين أطلال وأحجار، ليس هناك غير ذلك، الدمار قد تمَّ والحصار قد استحكم، الناس لم يبرحوا بيوتهم الخانقة، متربصين أو صابرين، لم يتركوها منذ حقب ودهور طويلة.» (ص٤٥٣)
«ما زال يصعد الجبل الخاوي، بعد ليلة بنات آوى، صخوره الشمَّاء، ترتفع فجأةً هنا وهناك فتحجب عنه نور الشمس ويهبُّ به هواء بارد به رائحة تراب قديم. وتنفتح تحته فجأةً وديان سحيقة معتمة تكاد تزلُّ قدماه إليها، المغاير [كذا في الأصل] وشقوق الأرض الفاغرة، يُخيَّل إليه — فيما يعرف أنها خيالات ولكنها تراوده بغواية لا يستطيع صدَّها — أن ثمَّ غابات من الشجر النضر الوارف طري الورق منعش يستروح إليه الصدر المُعَنَّى، وأن هناك على البعد، صحيح، ولكن في متناول السعي الحثيث، آجامًا من النخل السامق ينوس سعفه السلس في نسمات أنيسة.» (ص٤٥٣)
إن أصوات الجبل الغامضة تُرجِّع أصداء الذكريات، أصوات الجبل هي نفسها أصوات بنات آوى، وهي نفسها الذكريات وصدى الذكريات، التي لعبت فيها الخيالات دورًا كبيرًا. لقد سقط الراوي والنص معًا في هاوية الذكريات. وما الذي فعلته الذكريات؟ إنها لم تأتِ له بالوحدة الكلية التي كان ينشد استعادتها — الوحدة الكلية التي كان يطمح إليها — بل سقطت به في وحدة وعزلة، وانفصال لا قرار له.
ولعل هذه النتيجة تردنا — مرة أخرى — إلى المناقشة القوية التي أثارها الراوي، في نهاية الفصل الأول، عن الفرق بين اللغة والتجربة الحية، وانتصر فيها للتجربة الحية على اللغة وعلى كتابة التجربة.
«في سطوع الشمس رأى أن هذا الحضور ليس إنسانيًّا وإنْ كان أنثويًّا، في هذا المثول كان شعرها المنسدل يكسو عري جسدها المتطاير فوق صخور السماء، رأى أن هذا الجسد ممزقٌ، أشلاءً غير متصلة لكنها متقاربة متماسكة لا تفصل بينها إلا خطوط مضيئة مشعة ورأى أن لهذا الجسد جمالًا خارقًا أوشك أن يدفعه للبكاء، وعندما اختفى الطيف — أو هو تقلب في نور الصبح الباهر — خُيِّل إليه أنه يرى ذلك القميص الحريري الفضي الذي طالما تمرغ في طياته طلبًا للحنان الذي لم يأتِ إلا بعد أن تعبت قدماه من الصعود على قُنن الجبل وشعابه، ومشارَفَة السقوط في هُويِّه ووهاده السحيقة، حتى سمع منها كلمة «يا حبيبي» قالتها بلغته هو، بنبرة يعرفها هو في صميمه، هزَّت روحه التي كانت قد أوشكت أن تجف، وما إن قاوم نزوعه القديم إلى الدموع حتى خُيِّل إليه أنه يراها تسقط من إحدى صخور الجبل تنهمر حولها دفقات من الحنطة والذرة وحبوب الحقل ورأى خيوط الألم الزرقاء الداكنة تخطط جسدها الممشوق المتنزي بالتمرد حتى في سقوطه، بينما أزهار عباد الشمس الصفراء تزدهر بسرعة، وتقوم، وتونع، وتتجه برءوسها المشععة للشمس، ثم تنحني، وتذوي.» (ص٤٥٤-٤٥٥)
«وسوف يقول: مارينا أسطفانوس، في بكرة الصبا، رامة ناجي في ذروة العمر وفي تحدُّره، كأنني أهواها — وهي مستحيلة — في كل تجلياتها، طول العمر.» (ص٣٨)
ومن ثَمَّ، يمكن القول إن جسد الأنثى — على طول النص تقريبًا — يكتسب أبعادًا رمزية وليست واقعية؛ فهو رمز على السقوط لو وضعنا في الحُسبان تعاليم التراث المسيحي الأرثوذكسي؛ وهي تعاليم أخلاقية متشددة. ويؤكد هذه الرمزيةَ إيحاءاتُ التداعي والانهيار ومُشَارَفَة السقوط التي يصرِّح بها الشاهد المقتبس. إنه جسدٌ مدنس تصدر عنه الشرور والآلام الرهيبة، ويحيطه الموت والفناء. إنه ليس «أنس العالم» كما اعتقد الراوي في الفصل الأول، وإنما هو أنس ووحشة معًا.
«وما إن سار صاعدًا بصعوبة في الجبل على المدقِّ الضيق حتى وطأت قدماه بالرغم عنه عظامًا نظيفة داكنة الصفرة وكاد يتعثَّر بها، وتدحرجت جمجمة فاغرة العينين مقفلة الفكين عن أسنان قوية تبدو بينها فجوات صغيرة جدًّا. تخبطت الجمجمة، كأنها تصرخ، بالصخور والحصى والحجارة حتى سقطت في الهُوَّة بارتطاماتٍ متعاقبة جافة، وإذ وقف مسحورًا رأى أنها لم تتهشَّم ولم تتكسر حتى استقرت في أحد شقوق الأرض، محجراها الخاويان يحدقان إلى أعلى.» (ص٤٥٥)
«الفتحات الغائرة تحت الرموز قد خلت من ساكنيها وانهال عليها تراب القرون وحجارتها المنقضَّة القاضية على البداية والنهاية مُفرغة العيون من مآقيها مجففة العظام نازعة اللحم المتآكل المهترئ الذي نهشه الدود ثم مسحت الصقور والعقبان على الحيوات اللزجة الزاحفة المتورمة بحمرةٍ شاحبة بذيئة ولم يبقَ الآن إلا الصخور الصلدة غير الناطقة بمعنى ولا بشيء.
دمث النظرة، وديعًا، أبيض ضاربًا إلى لون عاجي فاتح، قرنه الوحيد المخروطي منبثق من وسط جبهته المرقطة بغدائر عُرْفه السوداء.
في رؤياه أن وحيد القرن نزل من الصخرة إلى فسحة من الجبل ترقد فيها امرأة بكر طاهرة بنت بنوت، أحنى الحيوان الجسيم هائل الجرْم رأسه أمام المرأة النائمة بسلامٍ، وضع رأسه، وقرنه الوحيد على حِجْرها، برفقٍ، بين فخذيها المضمومتين، وعلى الفور هبطت شبكة ضخمة مفتولة الحبال وأحاطت بالجواد الكركدن وحيد القرن الذي ارتفع له خوار صهيل خشن ثاقب رددت الجبال أصداء وحشته النهائية.» (ص٤٥٦)
«أوثان الجبل الشرقي في أخميم ترتجف، ويذوب قلبها في داخلها. الصنم الذي يقف الآن أمامه، شائه المعالم، صَلِفًا، شاهقًا، وجهه الحجري ممسوحٌ ومنقور، طلسم لا يقدر أحد أن يعبر منه ولا أن ينفذ من جانبه، سدٌّ غير مرئي ما أقواه! ما أصلب قوامه! متلفع بالسماء لباسًا، لا مهرب منه ولا مهرب إليه.
يده اليمنى الممدودة إلى الأمام مكسورة، لكن ذراعه طويلة جسيمة تومض فيها شرايين دقيقة كثيرة حمراء كالعقيق وصفراء كالزمرد، تهبُّ الرياح حوله بصفيرٍ مدوٍّ لا ينقطع يصمُّ الآذان، اهتزَّت أساسات الصخور من ويْل الصوت، واحترقت شفة صاحب الرؤيا إذ مسَّها اللهب المتطاير شرره من عيني الوثن الصاعد إلى عنان السماء. ما زال التنين القديم تتقد عيناه بالنار.» (ص٤٥٦-٤٥٧)
«في ليلة الخميس — الجمعة ٢٨ مارس — كنتُ في محطة السكة الحديد في سوهاج، عبرت إليها النيل من أخميم، سرتُ في الشوارع الخاوية على ضوء المصابيح الكهربية فوق أعمدتها الطويلة، وكانت أعواد الحلفا والهيش في ساحة المحطة تبدو جيَّاشة حيَّة بما فيها من عنفٍ مكتوم، تنمو على حفافي قضبان السكة الحديد، وتحت سور المحطة الحجري، وتتسلق أعمدة الجسر الحديدي المرتفع الذي يمتد فوق المحطة من آخر رصيف إلى الشارع.
كنت قد عبرت جسرًا خشبيًّا ضيقًا على الترعة الصغيرة، خشب الجسر مُغطًى ببساطٍ أحمر كثيف الوبرة، وجدت أنني أمتطي صهوة جواد فارهٍ أشمَّ أتلع العنق بكبرياء، يمشي الهوينى مختالًا على البساط الأحمر، وأنا على ظهره، ثابتًا بلا سرجٍ ولا لجامٍ. ثم وجدت أني أجري وحدي.
ساحة المحطة تبدو رملية، وخالية، البلد كلها قد نامت بعد أن غادر آخر قطار محطتها.
لماذا أجري الآن لألحق به، وأنا أعرف أنه قد مضى، مضى إلى غير رجعةٍ، حمل الناس ومقاطفهم ولففهم ونسوانهم وزلع المش والجبن القديم، تدفقوا على أبوابه وشبابيكه، صفَّر القطار ونفث دخانه الأبيض وصلصلت عجلاته، ومضى. المحطة خاوية وأنا ما زلت أجري لكي أصل قبل أن يقوم القطار.
لا أصل أبدًا؛ المحطة بعيدة وخاوية.» (ص٤٥٩)
والآن، أنتقل إلى تحليل مثال من الأمثلة الكاشفة عن عمليات التشكيل الرمزي وطبيعتها فيما بين مفتتح النص وختامه. ولعلَّ المثال المناسب — في هذا السياق — هو تحليل شخصية سالومة وحادث موتها والغموض الذي يحيط به؛ إذ أرى أن المؤلف قد حمَّل شخصية سالومة ثقلًا رمزيًّا عاليًا، مؤثرًا وموحيًا، فيما يتعلق بمسار النص والتقاليد الأدبية الرمزية التي ينضوي تحت لوائها.
(٤) ازدواج الرمز: سالومة، الحب حتى الموت
«ذاهب إلى الأمام، يُدير شئون زراعته بنفسه، ينزل الغيط كل يوم، يعرف فلاحيه واحدًا واحدًا، ونسوانهم وعيالهم بالاسم، يقولون عنه أزرق الناب، واعر، عَضْمة زَرْجَا، عيناه الضاربتان إلى خضرة عميقة نافذة … حساباته في رأسه محكمة ومحكومة، لا تخرُّ الماء، وهو مع ذلك يقرأ الأهرام بعناية، كل يوم بعد الظهر، بل عرف كتب محمد حسين هيكل والعقاد بعد أن كان قرأ مصطفى لطفي المنفلوطي وجبران خليل جبران … زياراته للقاهرة … فيها فسحة لشراء الكتب … أما امرأته فوتْنه، الأمينة المبتسمة الصموت فهي راضيةٌ به، مرضيَّة، دءوب في شغل بيتها وتربية أولادها الخمسة … لا شك أنه كفءٌ قويٌّ وله فنون في السرير … لكنه أيضًا حبِّيب دون جوان كما يُقال، ما من امرأة حطَّ عليها عينه أفلتت من شباكه، مرح قوَّال إذا كان على راحته، كما هو في الشغل صارمٌ فعَّال، نسوان فلاحيه يلِدْن أحيانًا أولادًا خُضر العيون … أما الغرام الذي يُسديه إلى سالومة، زوجة ابن عمه ميساك، فلا يجرؤ أحد في المديرية كلها أن يفتح فمه بكلمة عنه، لا يملك أحد أن يدوس له على طرف، لا في حسابات الشغل ولا في حسابات القلب.» (ص٤٨-٤٩)
«قال: هو «أنا» الآخر، كأنني فيه أتقمص ذاتًا مفقودة أو مكنونة كأنه الظهور الأخير في تجلٍّ مغاير تمامًا ومثيل معًا، لمرقص البشير كاروز الديار المصرية، حامل جرَّة الماء، الذي استكان له أسد الفراعين القدامى.» (ص٤٩)
ولا يكتفي الراوي بجعل مرقص سلوانس تجليًا مغايرًا مثيلًا لشخصية مرقص البشير الذي أدخل المسيحيةَ إلى مصر، بل يكاد الراوي — في الوقت نفسه — يضفي عليه أبعادًا تقرِّبه من شخصية المسيح، فمرقص سلوانس يقود أحداث التمرد في أباهور ضد جنود محمد بيه نبيه من أجل الحرية والعدالة والخلاص؛ يركع في بيته العامر ويغسل أقدام أتباعه — في التمرد — بالماء، وفي بيته أيضًا رأى الأتباعُ، ومنهم ميخائيل قلدس الراوي، «الوجهَ الساطع الذي لا يطيق أحد مرآه بعد … وعلى مائدته … أكلوا الخبز الشمسي فإذا هو الجسد الحي الذي لا يناله بِلى ولا دثور، وشربوا النبيذ المعتق في دنان البيت فإذا هو دماء عذبة نقية لا تغيض.» (ص٤٩-٥٠)
ومن اللافت للنظر أن المؤلف يضع شخصية مرقص سلوانس على أول قائمة الشخصيات الرئيسية، في فهرس الشخصيات الذي ألحقه المؤلف بنهاية الرواية، ويصفه بأنه «البطل في عنفوانه» وحبيب سالومة، في الوقت الذي يضع فيه المؤلفُ الراويَ في المرتبة الخامسة من الترتيب ويصفه بأنه «الحالم الأبدي» والطالب الثوري (انظر: ص٤٦١)؛ وبذلك يمكن أن نفهم أن شخصية «الحالم الأبدي» تجد تحقُّقها في شخصية «البطل في عنفوانه».
حين سمع مرقص سلوانس — الذي «لم يكن يترك يومًا — تقريبًا — دون أن يُلِمَّ بسالومة امرأة ابن عمه ميساك» (ص٨١) — خبر موت سالومة معشوقته، انطبع موتها على جسده وروحه معًا، يقول الرواي الحالم الأبدي:
«عندما سمع الخبر رأيتُ وجهه يمتقع، وكأنما فَقدَ نصف وزنه، كأنما غارت عيناه إلى داخل محجريهما، وانخسف خدَّاه وبرز عظم الوجه كأنما تعرَّى من اللحم.» (ص٨٢) فنحن مع هذا الشاهد أمام تجسيدٍ حي للموت، وهو تجسيد يوحي بالعنف والقسوة اللذين يصاحبان موت سالومة.
رأس يوحنا المعمدان، رأس سالومة
«كان ليل أخميم حارًّا، سماؤه نقيةٌ قاسية النقاء، تنتثر فيها نجوم مشعة قليلة، سماءٌ صارمة الزرقة متوهجة بالقمر الساطع المدوَّر محدد الدوران حادِّ الحوافِّ، قطعة عملة فضية ضخمة تدور بسرعة وعليها رأس يوحنا المعمدان المجزوز، لا يكاد يُرى، سالومي ذات الغلالات السبْع هي التي طلبت رأسه المقطوع.» (ص٥٤)
«وفي فجر اليوم الذي ذُبحت فيه ماجدولينا، وعلى هذا السطح الذي قيل إنها سقطت منه رأت سالومة رأسها في طبقٍ ملتهبٍ في عين الشمس، شعلة نار متقدة في مياه عينيها النقية.» (ص٨٦)
وتنطوي هذه الإشارة على انقلابٍ في الأدوار، فسالومة الجديدة تأخذ مكان يوحنا المعمدان، ومن ثَمَّ، يمكن لنا الذهاب إلى أن سالومة، زوجة ميساك، التي تعشق مرقص سلوانس — في نص إدوار الخراط — تمثِّل الخير المطلق الذي كان يمثِّله يوحنا المعمدان.
ومن ناحية أخرى، يمكن ملاحظة أن إدوار الخراط قد جعل رأس يوحنا المقطوع موضوعًا على سطح القمر الذي بدا كأنه قطعة عملة فضية كبيرة عليها رأس يوحنا، في حين جعل سالومة الجديدة ترى رأسها مقطوعًا في طبقٍ ملتهبٍ في عين الشمس، وذلك قبل موتها مباشرة. ومن خلال هاتين الاستعارتين يمكن استخلاص العلاقات الآتية: القمر في مقابل الشمس، يوحنا المعمدان في مقابل سالومة أسطفانوس.
سالومة الجديدة: الرمز الكوني
من الملاحظ، في البداية، أن الراوي يضفي على سرده تفاصيل مصرع سالومة جوًّا من الغموض المثير، حيث يبدأ الفصل بهذه العبارة «سقطت سالومة من سطح البيت» (ص٨١)؛ فالعبارة تقريريةٌ مباشرة، لكنها سرعان ما تتنامى وتتشعب وتتسع في اتجاهات كثيرة. ويساعد على هذا التنامي، والتشعب، والاتساع، استعمالات مجازية جزئية، تُكوِّن في النهاية شبكةً رمزيةً، تجعل من مصرع سالومة — مع نهاية الفصل — رمزًا كونيًّا لا يمكن تجاهله.
وتبدأ الحكاية حين ذهب الراوي ميخائيل قلدس إلى بيت ابن عمه مرقص سلوانس في وقت الظهر تقريبًا، والجو تكتنفه حرارة شديدة. وكان الغرض الحقيقي من ذهابه أن يتلقف من ابن عمه أخبار حبيبته، مارينا، أخت سالومة. وبعد أن يسرد الراوي أثر خبر الموت في ابن عمه مرقص، ينتقل — مباشرة — إلى رواية تفاصيل حادثة الموت على لسان مارينا، كما حكتها له.
«قالت لي مارينا إن الماء كان ينسكب من آخر السطح على سلالم البيت الحجرية القديمة، وقد اغبرَّ لونه قليلًا من التراب وينسال في سرسوبٍ صغيرٍ على السلالم، ينزل إلى الحوش حتى يصل، في بركة صغيرة، إلى قائمتي المرجيحة المنصوبة في دِرَا السلم، أمام الفجوة الكبيرة في الحائط الشرقي.
قالت: رأيت فجأةً أن الماء قد تحوَّل إلى دم، والمسيح الحي، دم، قاني اللون، كثيف القوام، يسقط على السلالم وينزلق عليها ولا يترك عليها أدنى أثر. لم أصدق عينيَّ، خِفت أن أنطق بكلمة، كان الدم نذيرًا، وعرفت في قلبي بغموضٍ أن مصيبة ستحدث، ثم انزاحت الغاشية وعاد الماء متربًا مغبرَّ اللون كالعادة ينسرب على درجات السلم ويتجمَّع في بركته الصغيرة تحت سفحه، في آخر الحوش.
سقطت مياه عدن العذبة على جسم الفادي دمًا يغسل الخطيئة الأصلية بالدم تحبلين يا امرأة ينهمر دم خصوبتك في مواقيته وبالدم تموتين.» (ص٨٣)
«في عشية غسيل الغلة تعثَّر مرقص، وهو في طريقه إلى أباهور، بجثة المهرة الصغيرة التي تحبها سالومة.
كانت مضروبة على يسار عنقها ضربة سكين عميقة وعريضة، بركة الدم تحيط برأسها الجميل مفتوح العين مطبق الفم، مطروحًا على الأرض أمام بيته.» (ص٨٤)
«كانت سالومة، عندما تأتي إلى بيت بنت عمِّها فوتنه، في درب الظنِّي، تجد في زيارتها وفي تحبُّبها الصادق الحقيقي لزوجة حبيبها، نوعًا من لذة الانتصار الخفي لا يشاركها فيه أحد، رقصة صعبة منفردة.» (ص٨٤)
«وعندئذٍ كانت تطلب من روماني أن يُخرج لها مهرتها؛ المهرة التي تحبها وتسمِّيها باسمها الخاص عندها «ماجدولينا»، فيأتي بها إلى الحوش البحري الكبير، عندما تراها ماجدولينا تحمحم من الفرح فتعطيها قطعة من السكر تحملها معها من أباهور.
وكان روماني يأخذ المهرة لغاية رقعة الأرض المخضوضرة بالعشب الطري تحت مئذنة الجامع على رأس الشارع، وتطل عليها سالومة، من فُرجة الباب، كأنها معها في المرعى الممرع الخصيب.
منمنمة المهرة والمئذنة والأرض اليانعة، والعشق المغدور.» (ص٨٤-٨٥)
«سالومة عارية في قبضة الحب والشهوة، عريها اللدن المنطلق في جموح الجري على أرض محرمة تحدٍّ لمقتلها الوشيك الذي كانت تعرف، في صميمها، أنْ لا بد مدركها، عريها دحض لانقطاع الجسد وانصهار بظَهْر مرن قوي العضل بلا سرج ولا لجام، انكشافها للضوء سفور للحياة من أقنعة الزمت الثقيل واطراح للحُجُب التي تحجز دماء دفاقةً بالعرامة والحرارة المحرقة. بعريها تتوحد مع عري الكون كله في حبها حيث ران القمع القديم منذ عشرين قرنًا منذ سقط الآلهة القدامى، تضرب سطوة الكبت وتشتهي الحرية وتنالها ولعلها تشتهيها أكثر مما تشتهي الذكورة.
ماجدولينا المتمردة عارية الجموح قضمت الحبل الذي ربطها به روماني في الوتد القائم أمام اصطبل مرقص أفندي، وعلى عكس الجوادين الآخرين لم تكن ماجدولينا قد روضت تمامًا، لم تكن تتعرَّف على أحدٍ، أو تطمئن إلى أحدٍ، حتى لو كان مرقص أفندي نفسه، باستثناء واحد وحيد هو سالومة.
هل كانت سالومة هي التي أرخت من وثاقها، وأتاحت لها أن تقضم ذلك الجزء المتحلل الضعيف من الحبل الموثقة به؟ أم كانت أسنانها القوية ورأسها المحني حتى آخر عزمه هي التي فكَّت إسارها؟» (ص٨٥)
تقف سالومة — أو المهرة ماجدولينا — على الأرض المحرمة: الحرية العارية المتوحدة مع عري الكون. وبذلك، ينقل النص شخصية سالومة من كونها شخصية روائية إلى مستوى الرمز الكوني، وتعمل العلاقة الاستعارية بين سالومة والمهرة ماجدولينا على تأكيد الرمزية الكونية لأن المُهرة تنتمي إلى مجال الطبيعة وليس البشر، أي لا تخضع للأعراف والمواضعات والتقاليد البشرية التي تشكِّل الأرض الحرام؛ إذ مع الطبيعة والكون العاري لا يوجد ما نُسميه — نحن البشر — الأرض المحرمة.
«انطلقت من درب الظنِّي إلى درب أشعيا، تقتحم السويقة الكبيرة وترمح بجانب جبَّانة الأقباط، تمضي في شوارع أخميم كالعاصفة الهوجاء، تخطف من أمام الشونة وتحت مبنى المركز أمام حديقته المروية بعناية، تحت الجوامع والكنائس والبيوت تحسُّ ثقل فارسها على ظهرها العريان من غير سرجٍ ولا لجام، ظهرها الأسيل المتسرح الذي يتخايل على بشرته الناعمة، من الآن، وهْم علامة الأصابع الخمسة المغموسة بدمائها هي، كأن في تضحيتها بحياتها — قسرًا أو عنوة — قربانًا لما هو يفوق القدسي ويخترق الطابو، دون أدنى مبالاة ولا عناء، لأنه قربان لما هو أسمى وأذهب في أجواز المطلق من كل طابو، ما الشر هنا؟ وما الحرام؟ الحب كالموت يغفر بل يكرس كل فعل من أفعال الشهوة وكل نزعةٍ إيروسية، هي الآن كائنٌ واحد يتحدَّى وينتصر على قانون الفناء، كائن متحد مع مطلق القدسية دون أن تقوم بينه وبين جوهر الكينونة نفسه حدود أو سطوح خارجية تحدد الجزئي وتفصله عن الكلي غير المسمى حيث يفقد كل شيء هُويَّته ليندمج فيما هو غير الموصوف غير القابل للوصف غير القابل للمعرفة.» (ص٨٥-٨٦)
«هي نفسها ماجدولينا الجموح عارية الظهر لا يكبحها شيء عن أن تذرع حقول الروح الكثيفة بالزروع المُحيية والسامَّة على السواء، تكاد تسمع في حنجرتها نفسها صهيل المهرة تتردد أصداؤها في العالمين، حتى وصلت إلى الطريق المفضي إلى النيل، حوافرها تُثير زوابع صغيرة متلاحقة من التراب والهباء وهي تصهل صهيل الفرح بالحرية، مياه عينيها مشتعلتان بنارٍ داخلية لا انطفاء لها حتى بعد أن سقطت وانحطَّ رأسها الشامخ الفخور على الأرض أمام الإسطبل، مطعونة مغدورة.» (ص٨٦)
«كابوس العشق الجسدي القدسي الذي يفوق كل التزام وكل ضرورة، ويبدو الخير والشر أنفسهما بلا معنى، فما الفرق عندئذٍ بين أن تجود بروحك أو أن تقتل حبيبتك أو أن تهجرها؟ ليس الجسد أصل الخطيئة فقط بل هو أيضًا أصل القداسة، لا الجسد يشتهي ضد الروح ولا الروح يشتهي ضد الجسد، لا الحب ضد القتل ولا ضد الهجران، ولا الموت نقيض الحب، بل الخيانة هنا لا معنى لها. ولتكن الخطيئة قاتلة، بكل ما فيها من لذةٍ، فإن البرَّ الأعمق فوق الخطيئة وفوق الخيانة.» (ص١٠٧)
«حلمها — مثل حلمنا — إرادتها الخفية — مثل إرادتنا — وإن لم يتحقق هذا الحلم أو تلك الإرادة، نبض حياتها الذي يلوح أنه كفَّ وصمت، يظل يدق في ظلمة روح شاملة تضمُّها، تضمنا، أو هكذا أتمنى، هكذا أتوهم، مهما سُيِّر ما بقي من جسدها في خطوطٍ مرسومة سلفًا على قضبان شعائر لا حِوَلَ عنها ولا حيود.» (ص١٠٨)
«ألهذا ركع أغابيوس، في كنيسة أباهور القديمة، جثا يُصلي بصوتٍ خفيضٍ، تحت التابوت، كأنما يتعبَّد لجثمان قديسة طهور، رفع يده وفي إصبعه الخنصر خاتم بفص الأماتيست حجر المحبة الذي كانت منَّة قد أهدته إيَّاه في الزمن القديم، كأنه يتبرَّك بالتابوت الذي سُجيت فيه سالومة، مطيَّبة، مضمَّخة بالعطر، على وجهها الناعم الباسم تقريبًا الآن، غطاء شفاف من التُّل الأبيض الخفيف وقد انحسر كل أثر للكدمات عن أديم البشرة الأسيلة، وكل أثر للطعنة الغائلة في يسار العنق، عيناها المغمضتان تملآن الكنيسة بأشواقٍ غير مفهومةٍ.
سمعت أبانا أغابيوس يتضرع بصوتٍ هامسٍ تحت التابوت: اغفري لنا. سامحينا يا أمي، يا أختي، يا حبيبة، سامحينا يا ست النور، نحن الخطاة، نحن الآثمون.» (ص١٠٨)
ولأن أغابيوس يفهم جيدًا رمزية سالومة الكونية فإنه لا يرى في عشقها لمرقص أيَّ نوع من الخطأ أو الإثم بل جعل منها «ست النور»؛ وست النور هي السيدة مريم العذراء التي حملت المسيح يسوع بلا دنسٍ؛ أيْ دون علاقةٍ جنسية بشرية. ولا بد من الوضع في الحسبان أن أغابيوس يكاد يكون مثيلًا لشخصية الراوي ميخائيل قلدس، كما سيتضح من التحليل فيما بعد.
وحتى الآن، لعلَّه يكون قد اتضح من التحليل أن حادثة موت سالومة — أو قتلها — تتجاوز مجرد إيقاع العقاب على زوجةٍ خائنةٍ عاشقة، تفرض التقاليد والمواضعات الإنسانية — وبخاصة في مكان مثل صعيد مصر — وجوب قتلها تخلُّصًا من العار؛ فقد أصبحت سالومة من خلال عمليات التشكيل الرمزي رمزًا على الحرية والحب الإنساني والتوق إلى التحرر من كل المواضعات والأعراف البشرية المقيِّدة، بل أصبحت رمزًا على ما هو كونيٌّ وقدسي في آنٍ معًا. ويحاول النص بكل سبيلٍ ممكنٍ دعم هذه الدلالة الرمزية. وقد رأينا كيف توسل النص بالوظيفة الاستعارية التي تجعل من المهرة ماجدولينا بديلًا عن سالومة، وفي الوقت نفسه يجعل من سالومة بديلًا عن المهرة، من خلال عملية استعارية غرضها النهائي تأكيد المعنى الرمزي الدال على الحرية والشوق الإنساني المتأصل الطامح إلى التوحُّد مع عري الكون بجلاله التلقائي المتألق، دون حدٍّ أو قيد.
«كأنما نحن بمحضر طقس توديعًا لحيوان ضُحِّيَ به قربانًا، لم نكن نعرف أنه لم يكن قربانًا ولا أضحية، بل نذير وقرين.» (ص١٣٧)
«وفي الصبح، عندما جاء بالفلاحين ليغسلوا الغَلَّة، رأى على حائطٍ بيت الدكتور ميساك علامة الأصابع الخمسة مصبوغة بالدم على شمال الباب، ولم يقل لسالومة إنه رأى هذه الأمارة التي لا تخيب.» (ص٨٤)
«قالت لي مارينا إنها حضرت غسيل جثمان أختها، وإنها رأت على أسفل بطنها علامة أصابع خمسة مصبوغة بالدم، وأن كل مياه الغسل وكل الدعْك بالليفة الحمراء والصابون الممسِّك لم تستطع، كلها، أن تزيل العلامة، كأنها صُبِغت بوشمٍ لا يزول. قلت ثمن اشتهاء الجسد فادحٌ. لماذا وصمة المرأة لا تزول بينما الجاني لا يلحقه عوار؟» (ص٨٤)
«هذه يا بنيتي علامات الموت، تظهر بعد أن يخرج السرُّ الإلهي من أسره.» (ص٨٧)
«ليلتها اكتسحت العقارب البلد، سقطت من الجبل الغربي الذي انهمرت عليه فجأةً سيول جارفة، قعقع الرعد في اصطفاق مروع يخلع القلوب، وهبت عاصفة متضاربة التيارات أثارت معها دواماتٍ من الرمل والتراب وارتفعت بالحصى والحجارة الدقيقة في وسط الرياح التي دارت بالبلد كالدوامات، انقطع السيل فجأةً إذ انحرف بعيدًا عن البلد، وجاءت مع دوامات الرياح أسرابٌ متكاثفة مضطربة ومتصادمة من العقارب والجعارين تلفُّ في الهواء وتضرب بسيقانها الدقيقة.
هبطت العاصفة بأحمالها الحية الصلبة الدقيقة المرتطمة بعضها ببعض، على حوافِّ البلد وصفرت بين أطلال البيوت المهدَّمة التي هجرها سكانها وخبطت حيطان الكنيسة وألقت أحمالها على سطوح البيوت وفي الحارات والأزقة والخرابات والشوارع الخاوية. زحفت العقارب إلى داخل البيوت والجحور تلتمس الحمى والدفء والكِنَّ، وحفرت الجعارين لنفسها بيوتًا في التراب، لدغت العقارب ليلتها سبعة منهم ورسانة ولم ينجُ من الموت إلا ثلاثة، وشفيت ورسانة، وعادت إلى بيت الدكتور ميساك.
لم يعُد أحدٌ في أباهور — أو في أخميم — يقول: ليلة ماتت سالومة بل هي دائمًا ليلة العقارب.» (ص١١٠-١١١)
وهكذا، يسلك النص طرقًا مختلفة من أجل تشكيل الرمز الكوني الذي تُمثِّله سالومة، بدءًا من النُّذُرِ الغريبة التي تُشير إلى قرب مقتل سالومة وموتها: بدءًا من مقتل المهرة ماجدولينا ودفنها — وهي قرينة سالومة في البحث عن عناق الكون — مرورًا بتحول الماء إلى دم، ووجود علامة الأصابع الخمسة المغموسة بالدم مطبوعة على الباب وعلى جسد سالومة أسفل البطن، وانتهاءً بالعاصفة الشديدة والسيول التي جرفت العقارب إلى البلدة بعد دفن سالومة مباشرة، وهي كلها علامات تجعل من شخصية سالومة وموتها حدثًا استثنائيًّا يُقرِّبها من معنى الرمز الكوني الجليل والمقدس.
الرمز الكوني بين القداسة والفجور
عنف هذه الشهوة نفسها، حتى لو وقع القتل، كما لا بد أن يقع، إنما هو نفي للموت، ليس في حدود المجاز اللغوي، بل في ساحة تقع وراء المجاز النصي الذي أفعله الآن، كما تقع وراء ساحة الواقع الذي استنمنا إليه وركنَّا إلى مألوفه المريح.» (ص٩٧)
«ماذا قال الماركيز دي ساد العظيم:
ليس ثَمَّ فاسق عربيد ولو كان قد قطع شوطًا ضئيلًا في مسيرة الفجور إلا ويعرف أيَّ سحرٍ يوقعه فعل القتل على الحواس.
فهل مسيرة الفجور النهائي الحق تنشعب أو تتصل بمسيرة هذه القداسة؟ مسيرة إيقاع فعل القتل؟
قال أيضًا:
ما من وسيلة لمعرفة الموت خيرًا من أن تربط بينه وبين صورة من صور الفجور.» (ص٩٧)
«لأنه ما الحد — حقًّا — بين التحرر الحسي والتحلل؟ أثمَّ فرق على الإطلاق؟ هل التحلل يعني في نهاية الأمر انحلال الجسم والروح في عناقٍ مع الآخر على عتبة وهْم الخلود وتحطيم الحواجز والذوبان في جوهر الكون، وهو جوهر في صميمه عرضي عابر وزائل كزهرة العشب؟ أليس العنف من أول حقائق الوجود؟ أليس العنف من صميم الشبق؟ في فعل الدخول الجسدي اقتحام لا شك في عنفه، حتى مع التفتح والرضا، وفيه أيضًا تجاوز لمحدودية الذات ونشوة أكبر بكثيرٍ من مجرد التذاذ حسي مقضي عليه بالانقضاء.
أما التبريرات والمعاذير والتحفظات والتفسيرات الأخلاقية والسيكلوجية فلا معنى لها هنا، لأن الصدق العاري الخشن الخام أكثر دماثةً وأمانة من كل زَمْت. وإذا كنَّا نعيش بالظفر والناب في غابة هذه الحياة المزدحمة بالشر والعنف فلنقل ذلك — كما أقوله الآن — ولكن هل أطمح أن أنظر إلى ما وراء التكالب والهبْش والنهْش؟» (ص٩٥)
وعند هذا المستوى، يمكن القول إن سالومة لم تَعد رمزًا كونيًّا على الخيريَّة الخالصة، وإنما هي رمزٌ مزدوج يتأرجح بين القداسة والفجور، بين الخير والشر، بين الفضيلة بمعناها الشامل والرذيلة بمعناها الشامل أيضًا، وتمثِّل هذه الضفيرة التي تجمع بين أمورٍ متناقضة أساسًا كونيًّا راسخًا.
الازدواج الرمزي وتعدد الفاعلين
إن الازدواج الذي تعاني منه البنية الرمزية التي تندرج فيها سالومة يطبع نفسه على كل شيء تقريبًا فيما يتعلق بشخصية سالومة وحادث موتها، وهو الحادث الذي تُحيط به درجة عالية من الغموض، إذ لا يستطيع القارئ أن يُخمِّن مَن القاتل الذي ارتكب هذه الجريمة، والأمر نفسه ينطبق على موت المهرة ماجدولينا التي وُجدت مطعونةً بالسكاكين وغارقة في بركة من الدماء. وليس الغموض ناتجًا عن البنية البوليسية التي تُلقي بظلالها على حادث موت سالومة، أو حتى على موت الأنبا باخوميوس، بقدر ما هو ناتجٌ عن «غابات الرموز» التي يمضي من خلالها النص أو يشقُّ طريقه بين أحراشها، على نحو ما رأينا من التحليلات حتى الآن.
وعلى كل حالٍ، يبدو لي أن درجة الغموض العالية التي تُحيط بمحاولة تحديد فاعل القتل تتناسب مع شبكة الرموز التي تندرج ضمنها سالومة، إذ يمهد هذا الغموض بشكلٍ منطقي إمكان القول بتعدد فاعلي القتل. ومن ناحية أخرى، يكشف القول بتعدد فاعلي القتل عن طبيعة العلاقات الاجتماعية المعقدة والتكوين العائلي المحكوم بمنظومةٍ صارمة من القيم والأخلاقيات والمواضعات والأعراف البشرية — السائدة في الصعيد على وجه الخصوص — التي حاولت سالومة اختراقها بالسير في الاتجاه العكسي تقريبًا. وفي هذا السياق، روت مارينا للراوي ميخائيل قصة زواج أختها، سالومة، من الدكتور ميساك، وأشارت إلى أنه كان «زواج مصلحة، حتى لو كان الدكتور ميساك قد أحبَّها، بعد ذلك، حتى الموت، قالت «حتى الموت» قالت إن الزواج عندنا في الصعيد ليس إلا عملية عائلية لا علاقة للحب به.» (ص٨٧) وفي هذه العملية العائلية، تتحوَّل المرأة إلى مجرد شيء؛ شيء محل مساومة: القدرة على الإتيان بالأولاد والبنات وتسوية مصالح الفلوس والأراضي والبيوت، وقد كان عشق سالومة لمرقص، في جانب من جوانبه، تعبيرًا عن رفضها فكرة أن تتحوَّل المرأة إلى مجرد شيء.
«بعد الإكليل في الكنيسة لم تذهب أختي إلى بيت عمي سيداروس في أخميم، جاء ميساك إلى بيتنا في أباهور. كانت أمي كيريا من السطوة بحيث فرضت عليه أمرها، وقَبِل دون كبير معارضة أن ينضوي تحت سقف بيتنا. أنا أظن أنه كان يموت فيها حبًّا، بعد الزواج، ومع حبِّه لها، وبسبب حبِّه لها كان ضعيفًا معها … ضعيفًا.» (ص٨٨)
«هل كان ميساك هو الذي قتل زوجته سالومة، لأنه يعرف ما بينها وبين ابن عمه مرقص، ولأنه لم يستطع إلا أن يصبَّ كل الحنق والغضب والإحباط على هذه المرأة التي هي له، وليست له مع ذلك، بدلًا من أن يصبه على غريمه؟» (ص١٠٢-١٠٣)
وسوف ألجأ إلى اقتباسٍ طويلٍ من النص — وهو الاقتباس الذي يمثِّل اعتراف الدكتور ميساك لأغابيوس، ونقله أغابيوس إلى الراوي — نظرًا إلى أنه اقتباس غني وموحٍ وكافٍ بحد ذاته:
«قال ميساك لأغابيوس في نوبة عربدة الاعتراف غير الكنسي بين قرينين غريمين:
«عندما دخلت البيت بعد أن أغلقت الصيدلية يومها، ناديتها فلم ترد، بحثت عنها وسألت عن أختها مارينا، لم يكن أحد قد رآها بعد أن زارها صموئيل أخوها.
لما دخلت غرفة النوم المغلقة المعتمة وجدتُها راقدة على السرير، ولأول مرة وجدت أنها تغطِّي وجهها ورأسها بطرحة الألنْس التي لا ترتديها إلا في المناسبات، كان ما يبين لي من وجهها يبدو لي في العتمة متورمًا وخُيِّل إليَّ أنه داكن اللون.
أنت لا تعرف محنة الرجل الذي يحب امرأته، ويُخيَّل إليه، ويسأل نفسه باستمرار «هل تحب رجلًا آخر؟» لا تقل لي إن ذلك عسير غير مألوفٍ عندنا في الصعيد، هذا غير صحيح، ربما كنا أحمى دمًا من الآخرين. كان عذابي لا يُطاق، كنت أطيل النظر إلى ولْسُن الصغير، وأسأل نفسي بصمتٍ وما يشبه الجنون «هذا ابني؟» أتلمَّس فيه ما يشبهني وأجد ملامح قريبة منِّي جدًّا، أو ما يشبهه، هو، وخُيِّل إليَّ أن فيه أيضًا ملامح منه، وأسأل نفسي: وليم، ونجت، وديع، ونيسه، هؤلاء أولادي؟ أم فيهم عرقٌ منه؟ مهانة شديدة جديدة عندما أحتمل كل هذه الافتراضات والاحتمالات، وأظل أحبها، لا أطيق هذه المهانة، وأنا أحتملها مع ذلك؟ لماذا؟ أقول لماذا؟ لأنني مهين، ولذلك فأنا شديد الكبرياء.
… لم أقل لها كلمة واحدة ولا هي قالت لي كلمة، كل شيء كان يدور في صمت ينبض بالألم. أعرف — يخيل إليَّ أنني أعرف — أنها تحبه، أعرف أيضًا أنها تحبني. أقارن نفسي به، أحس رجولتي تقوم بعنادٍ وتثبت نفسها ثم تنحسر، أكانت حياتي معها، كلها، وأولادي منها، لا شك أنهم أولادي يا لعازر، قائمة على خدعة طويلة متصلة؟»
…
أكانت تذهب إليه؟
سمعته يُناديها مرة باسمها، مجردًا، سالومة، دون أن يقول لها يا بنت عمي، أو يا أمَّ وليم، في نبرة ندائه لها ما لا أخطئ في أنه حبٌّ بل غرام، وعندما شعرا بي وأنا أدخل سقط عليهما الصمت فجأة وأخذا يتشاغلان بما لا أدري.
… لماذا كانت تزور فوتنه زوجته وبنت عمها دائمًا في أول كلِّ شهرٍ قمريٍّ؟ في منتصف المدة تمامًا بين كل عادة وأخرى، حسبت المدة أنا يا لعازر، وعندما تعود — يا عاري! — كنت أتشمم ملابسها الداخلية أتصيَّد رائحة ذكورية، لا أصل أبدًا إلى يقين، ولماذا أعطاها مهرة من خيله، وهي التي سمَّتها ماجدولينا؟
…
لكني انتقمت يا لعازر.
انتقمت.
طهرت إثمي وإثمها.
أنت تعرف طبعًا يا أغابيوس، لا يُطهَّر شيء — حسب الشريعة — إلا بالدم. ما من مغفرةٍ بغير إراقة دم ذبيحة للرب، بالفعل أو بالرمز، هكذا استراحت أحشاء ربنا يسوع، بعد أن سالت دماؤه على الصليب، وطهَّرنا.
أحسستُ أن الضربة تغوص في عمقي أنا، تمزقني أنا، ومن فرط لذة الضربة انتصبت يا لعازر يا خويْ، وفوجئت بأنني أقذف في نوبة أورجازم من الرعب والمتعة الخالصة.
وعندما عرفت أنها همدت تمامًا ولم يكن من الممكن أبدًا أن تتحرك، رأيت أن كل شيء آخر يتحرك ويتقلب، دارت بي الأرض كأنها لن تتوقف أبدًا، عنف الضربة — بيدي وفي داخلي معًا — هو الذي يحرك الشمس والقمر والأفلاك جمعاء، أغابيوس، أقول لك إنني لم أكن أقرب إلى الله في أيِّ وقت من الأوقات كما كنت في هذه اللحظة، ولن أكون.
لكنني لم أعرف قط، ولن أعرف أبدًا، هذا الرعب الذي سقط عليَّ وأسقطني أمام سالومة، بعد موتها، وجودها، عندئذٍ وحتى الآن، حيٌّ أقوى ما تكون الحياة. ها قد حقَّت عليَّ اللعنة، حتى لو كانت هي التي شاركت بنفسها في ميتتها بما لا يقل عن ضربتي النهائية، ضرْبتُها هي أيضًا صنْو ضربتي، مثيلتها، شريكتها، متواطئة معها.
إن كانت ضربتي على الإطلاق هي سبب نهايتها.
لعلَّها كانت قد انتهت قبل أن أصل، لعلَّني لم أفعل إلا أنني مثَّلتُ بها بعد أن ماتت، لا أدري.»
هكذا انتهى اعتراف ميساك.» (ص١٠٣–١٠٦)
وإذا كان الدكتور ميساك — فاعل القتل المحتمل الأول — ضعيفًا، ثم تحوَّل ضعفه في النهاية إلى سلوكٍ سادي بالمعنى الحَرْفي للسادية، فإن فاعل القتل المحتمل الثاني هو أخو سالومة صموئيل أفندي الذي يتشابه — إلى حدٍّ كبير — مع الدكتور ميساك من حيث التكوين الشخصي والنفسي؛ فهو فيما تقول مارينا: «كان يحب سالومة أختي حبًّا شديدًا، وكان لا يترك يومًا أو يومين حتى يأتي لزيارتنا، وكان لا يستريح إلى مرقص أفندي ومجيئه عندنا» (ص٨٨-٨٩)، وهو، أيضًا، فيما يقول الراوي ميخائيل: «صموئيل أفندي المكسور، باشكاتب حسابات المركز، زوج منَّة الغريب، لا يملك أن يرتفع إلى ذرى الحيوية وعنف الجسدانية عند زوجته منَّة، كأنما امتصَّت عنه كل عصارات الرجولة، وتركته جافًّا مصوَّحًا لا مُنَّة فيه. لم أره إلا لمامًا، وراعني أنه يحدق إلى أخته سالومة بما يكاد يُشبه الشبق المكتوم بالكاد، كان يتتبعها بنظره أينما تحركت، يقيس بنظره النَّهم جسمها الممشوق من وراء فستان البيت الخفيف الذي لا تتحرج منَّا فيه.» (ص٨٩-٩٠)
«قالت لي إن أخاها صموئيل أفندي ترك مكتبه في المركز، يومها، وعبر إلى أباهور، لم تره يدخل البيت — كانت تذاكر في غرفتها بالدور العلوي، دروس الثقافة العامة التي سوف تؤدي امتحانها — لكنها رأت حماره الأبيض مربوطًا أمام الباب، وبعد قليل سمعت من عمق البيت، تحت، أصواتًا غريبة لم تدرك معناها ولا مأتاها، كارتطام جسمٍ صلبٍ بشيء لَدِن، وما خُيِّل إليها أنه أنينٌ مكتوم ولا يكاد يُسمَع، خُيِّل إليها أنها سمعت أصوات شهقاتٍ أو لهاثٍ حادٍّ كأنما هو ممن جاء يجري من شوطٍ سحيقٍ، ينهج ويزفر في إيقاعٍ متناغمٍ مع ارتطام الضربات التي تتسارع وتتلاحق ويَعنُف إيقاعها ثم ساد فجأةً صمتٌ عميق، هو صمت كل الحواس معًا، فلم تصدق أنها سمعت هذه الأصوات وتوهَّمت أن الحرَّ والمذاكرة قد هيَّئا لها تلك الخيالات، قالت إنها أحسَّت كما لو كانت تذوب في هذا الصمت، ويتحلَّل كيانها، وسقطت في نومٍ مطبقٍ لم تصحُ منه إلا على صعودها لمشاهدة غسيل الغلة على السطح، وما خُيِّل إليها مرة أخرى — بل رأته رأي العين — من الدم المتسرب على السلم، لكنها لم ترَ سالومة أختها، واستغربت يومها أنها لم تصبِّح عليها ولم تسأل عنها، حتى جاء الخبر أن سالومة سقطت من سطح البيت.» (ص٨٩)
غير أن ما روته مارينا يظل في إطار الممكن والمحتمل وليس نهائيًّا. فقد يكون صموئيل هو القاتل، وقد يكون أبادير الأخ الأصغر هو القاتل، وبخاصة أن أبادير يتصف بميولٍ عدوانيةٍ منذ الصغر؛ فقد رأته مارينا مرةً يضرب كلبة ضخمة وقوية، كأنه مجنون، ويضغط على فكيها بكل قوته، ثم يرفعها ويخبط بها الأرض حتى فرفرت وماتت، وعندها ضحك ضحكةً غريبة ثاقبة ليست كضحك الصبيان ولا الرجال، ضحكة «رفيعة مسنونة كحدِّ سكين، سمعتُها — هُيِّئ لي أنني سمعتُها — عندما خرج من بيتنا، يومها، في عزِّ الظهر، قالوا بعدها: سالومة سقطت من السطح.» (ص٩١-٩٢)
ويتساءل الراوي على نحوٍ يجعل تحديد القاتل، بناءً على روايات مارينا له، مسألة صعبة: «أم أن ذلك كله من أوهام مارينا القلقة المراهقة وخيالات جسدها المتوفز الذي نضج مبكرًا وتدفق بحيوية تخترق الحدود؟» (ص٩٠)
يمكن، في النهاية، القول إن سالومة وحادث موتها وتحديد القاتل رموز على لغز كوني لا يتمكَّن الإنسان مهما فعل من حلِّه؛ لأن بهاءه وروعته وجماله تنبع من أن يظلَّ لغزًا باستمرارٍ.