التعدد الدلالي وازدواج بنية النص
استنادًا إلى التحليلات السابقة التي كشفت عن الازدواج الدلالي، سواء على المستوى الرمزي أو على المستوى الأسطوري، يمكن القول إن النص لا ينطوي على بنية كلية كبرى واحدة.
(١) تكوين النص وازدواج المركز البنيوي
ويمكن تقسيم هذه المتون إلى متنين كبيرين، وفق مصدر الرواية أو الحكي. المتن الأول يحكيه لنا والد الراوي، ويحرص الراوي حرصًا كبيرًا على تسجيله، مثل: حكاية سلوانس ورؤيته للمسيح الذي بشَّره بمولد لعازر/أغابيوس، وحكاية العم منقريوس الذي قابل المسيح مرةً، والملاك ميخائيل مرةً أخرى، وأخيرًا حكاية تاسوني إيريني التي أماتت جسدها وشهواته الدنيوية وملذاته العاجلة، من أجل الفوز باللذة الكبرى إلى جوار المسيح، في العالم الآخر، بعد الموت.
«هل هذه الخطابات المتبادَلة مجرد سرد لمشكلات وربما مآسٍ عائلية عادية وصغيرة، فقط؟ هل هي مجرد وثائق اجتماعية لحقبة من تاريخ بلدنا، تاريخ حقبة حرب لا شأن لنا بها إلا أننا من بعض ضحاياها؟ هل هي أيضًا تاريخ هذه العائلة من مصر، فقط أم هي — فيما أرجو — صورة لحياة نفوس تجتاز مضض محنٍ روحية وجسمانية، مادية ومعنوية، كما يقال؟
أم أنني أواصل ما فعله أبي، فأسجل — كما أستطيع — تواريخ الاقتران والافتراق والانقضاء، في كتابٍ آخر، كما لو كنت أريد استنقاذها من قبضة نسيان لا مهرب منه؟» (ص١٢٨)
(٢) ثنائية الروح والجسد: أبادير، الشكَّاك المتسائل
تُعد شخصية أبادير من الشخصيات التي يُحيط بها غموض ٌكبيرٌ في النص؛ فهو — من ناحية — تدور حوله شبهات التورط في مقتل أخته الكبرى سالومة، كما تروي ذلك أخته الصغرى مارينا. ومن ناحية أخرى، ينطوي أبادير، في دخيلته، على قدرٍ كبيرٍ من الشك والتساؤل حول العقيدة المسيحية وتعاليمها التي تحرص عليها الكنيسة حرصًا مقدسًا يتأسس — بالدرجة الأولى — على الإيمان القلبي والروحي دون أدنى شكٍّ أو تساؤل.
«قد يبدو أنه لم يكن من الضروري — أبدًا — أن يأتي هذا الفصل هنا، ولا — حتى — أن تضمه هذه الرواية أصلًا.
هل هذه رواية؟ نعم بالمعنى المألوف، وربما لا.
وعلى أي حالٍ، فما الضروري في الفن وما غير الضروري؟ ألسنا نحن الذين نوجِد الضرورةَ إيجادًا في قلب الحرية؟ عندما نقول أو نعتبر أو نجد أن شيئًا ما ضروري؟ قال: لم أستطع أن أقاوم إيماني بتجسد الإلهي في داخل الإنساني، ولماذا أقاومه؟
لك أن تقرأ هذا كله أو أن تطويه طيًّا، بطبيعة الحال. وليس ذلك من قبيل اللامبالاة أو الاستهانة، بل، على العكس تمامًا، فكم أحب أن تقرأ وأن تفكر وأن تختلف أو تتفق معي، لكني لا أعرف إنْ كان ذلك كله يهمك في شيء، ولا أريد بالتأكيد أن أثقل عليك.
وعلى أي حالٍ مرةً أخرى، مَن يضمن لك — أو يضمن لي أنا نفسي — أن ما يُقال هنا، سواءً كان ذلك في حكاية الأحداث أو ابتعاث الشخوص أو طرح الأقوال والأفكار والمشاعر هو شيء كانت له أو ما زالت له ضرورة؟ أو أنه هو ما حدث، أو لم يحدث، أو هو ما نسميه الواقع أو حتى نسميه الفن؟ ليس ثمَّ ضمان لشيء، كما هو بديهي.
كل شيء هنا — وفي كل مكان وزمان — مراوغٌ، مخايلٌ.
مثلًا هل ما حدث بين مادلين منَّة ولعازر أغابيوس قد حدث فعلًا أو هل حدث فنًّا؟ شأنه في ذلك ما بين مارينا رامة وهذا الراوي الذي لا يفصح عن اسمه مباشرةً قط، أم أن ذلك كله ثرثرة بلا غَنَاء؟
…
كل شيء له أكثر من مستوى للدلالة طبعًا، يعني كل شيء مراوغ لا محالة، مهما أسرفنا على أنفسنا — حتى — في صرامة التدقيق والتحديد.» (ص٣٩٣-٣٩٤)
وباستثناء ما رُوي عن دور أبادير المشبوه في مقتل أخته سالومة، وكذلك دوره أثناء التحقيق في رحيل الأنبا باخوميوس، لا نعرف عنه شيئًا على مدار النص، إلى أن يفاجئنا النص به في هذا الفصل الذي يحمل عنوان «التجسد»؛ ففي هذا الفصل تأخذ شخصية أبادير دور البطولة المطلقة، ويُسلَّط الضوء عليه من جهة العقل الشكَّاك المتسائل. وفي حقيقة الأمر، يمكن القول إن شخصية أبادير مجرد وسيلة فنية لعرض آراء الراوي ميخائيل قلدس، ومن ناحية أخرى يمكن عَدُّه قناعًا من أقنعة المؤلف إدوار الخراط، المتسائل الشكَّاك أيضًا.
«قال أبادير: … كيف يكون الأب والابن واحدًا … هل هذا معقول؟ هذا أمرٌ لا يصدقه العقل: كيف مات ابن الله، إذا كان هو والله واحدًا؟ هل مات الله على الصليب؟» (ص٣٩٦)
«هو شيءٌ معقول يا بني، لا لشيء إلا لأنه مما لا يقبله العقل، إنه أمرٌ محقق، لأنه مستحيلٌ، لكنه حدث، حدث بالفعل، أما العقل فلا شأن له هنا.» (ص٣٩٦)
وبهذه الإجابة التي يجيب بها الأب تاوفيليس نكون أمام تعارض صريح بين الإيمان الديني والعقل، أو ما يُسميه الراوي، ميخائيل قلدس، التعارض بين الغنوصية والأغنوصية، وهو التعارض المؤثر في بنية النص تأثيرًا واضحًا. فالعقل، أو العقلانية، تتأسس دائمًا على ما هو مادي محسوس، وتجريبي. أما الإيمان الديني فلا يحتاج إلى تجربة، لا يحتاج إلى شيءٍ ماديٍّ، ذلك أن محوره يدور حول إما أن تؤمن أو لا تؤمن. ومن هنا، ينشأ التعارض بين الجسد والروح، بين التصديق العقلي المشروط والإيمان الروحي دون قيدٍ أو شرطٍ.
«قاطعه أبونا تاوفيليس باندفاع مَن تراءت له الرؤى: اسمعني يا بني … إن المسيحية تنادي بأن الأقانيم الثلاثة الأب والابن والروح القدس إلهٌ واحد. الثالوث يمثِّل الله الواحد، بعقله وروحه، كما نقول إن الإنسان بذاته وبعقله وروحه كائنٌ واحد، وإن النار بنورها وحرارتها وشعلتها كيان واحد.» (ص٣٩٨)
«نعم ولكنهم ليسوا إلهًا واحدًا، بل تزوج أوزيريس بإيزيس وأنجبا حوريس عن طريق التناسل. وليس في الثالوث المسيحي امرأة ولا زواج حاشا، الابن في المسيحية هو عقل الله الناطق أو نطق الله العاقل، وبنوَّة الابن من الأب هنا مثلما نقول «العقل يلد فكرًا» ومع ذلك فالعقل وفكره كيان واحد لا علاقة لهما بالتناسل الجسداني. الفكر يخرج من العقل ويظل فيه غير منفصلٍ عنه.» (ص٣٩٨-٣٩٩)
«أنت يا أبي تقول … إن الأقانيم المسيحية لا انفصال فيها لأقنوم عن الآخر … فهل الأقانيم المسيحية متساوية في الأزلية كذلك، لا تختلف في الزمن؟ ألم يأتِ المسيح لاحقًا في الزمن؟
– حاشا يا بني، الله بعقله وروحه موجود منذ الأزل، عقله فيه منذ الأزل وروحه فيه منذ الأزل، لم يمرَّ وقت كان فيه أحد هذه الأقانيم غير موجود.
– سؤالي إذن يا بونا هل أن التجسد يعني التحيز، يعني الوجود في حيزٍ محدود؟ يعني قصدي أن أسأل هل تجسُّد الرب يعني أن الرب صار يحدُّه حيِّز محدد، فيتحيز، لكننا نعرف ونقول دائمًا إن الله غير محدود؟
– يا أبادير يا بني أسئلتك كلها هامة ومحفزة، كلنا سألنا نفس الأسئلة، والجواب أن التجسد ليس معناه التحيز فالله لا يحدُّه حيز من المكان، وإنما عندما كان الجسد في مكان — مثل الناصرة أو أورشليم أو عندنا في مصر في رحلة العائلة المقدسة — فقد كان بلاهوته في كل مكان.» (ص٣٩٩)
وفي النهاية، تنهَّد الأب تاوفيليس، وخَفَتَ صوته فجأة، بعد هذه الاندفاعة في إيضاح رؤاه، وطلب بصوتٍ واهنٍ من أبادير أن ينصرف عنه، بعد أن تيقن أن أبادير، المتسائل الشكاك، لم يفهم ولم يؤمن إيمانًا كاملًا. ولذلك، اضطرَّت الكنيسة أن تعقد اجتماعًا طارئًا برئاسة أخ أبادير الأكبر الأنبا تاوضروس رئيس الدير، للرد على تساؤلات أبادير حول «قانون الإيمان المسيحي». وفي هذا الاجتماع، تولَّى الأنبا تاوضروس الإجابة عن شكوك أبادير؛ غير أن اللافت في طريقة الأنبا تاوضروس استناده في الرد، الذي يقدمه، إلى المعاني اللغوية والتحريفات الطارئة على قانون الإيمان المسيحي بسبب عدم دقة الترجمة من اليونانية إلى العربية.
«الخلاصة يا أبنائي وإخوتي أن مثل هذه التعبيرات على نظير قوله «أقامه الله» … «رفعه الله وأجلسه …» قيلت وتُقال عن المسيح له المجد من حيث هو إنسان اتخذ له جسدًا مطابقًا لجسدنا، وفيه قَبِلَ الصَّلْب والموت كإنسان، على أن الله الذي أقامه ليس له آخر وإنما هو بعينه اللاهوت المُتحد بإنسانيته، لأن عقيدتنا أنَّ لاهوتَه لم يفارق ناسُوتَه لحظة ولا طَرفة عين. لا فرق بين الله وبين يسوع المسيح إلا من حيث إن يسوع المسيح هو الله ظاهرًا في الجسد، فلا ننسى أن المسيح له المجد تجلَّى لبولس الرسول لابسًا الجسد الذي اتخذه بتجسده، وإنْ كان «في نورٍ أبهى من شعاع الشمس» لأن جسده بعد أن صعد به إلى السماء لم يَعد يحجب بهاء اللاهوت. غنيٌّ عن الكلام أن الله مخلصنا هو يسوع المسيح، ويسوع المسيح هو الله مخلصنا وربنا له المجد إلى أبد الدهور.» (ص٤٠٣)
«عقيدتنا الصحيحة أن اللاهوت لم يفترق عن الناسوت لحظة واحدة، وأنهما جوهر واحد وطبيعة واحدة بلا انفصال.» (ص٤٠٨)
«لكن فكرة موت الابن على الصليب تعذبني. كيف يموت بناسوته ونحن نقول إن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة؟ هل مات اللاهوت، أستغفر الرب، سامحني يا رب، لكن لا أستطيع أن أطرد الفكرة من رأسي.
…
قال أبادير وهو يكابد عناءً مُمِضًّا: هو الله، كيف يكون جسده من لحم ودم، هذا ظهور، لا يمكن أن يكون قد تألم، لم يصلب، لم يقم من الأموات، هو فوق ذلك كله، ما معنى أنه قام من بين الأموات بجسد مُمَجَّد، هل هذا الجسد الممجد يختلف عن جسده الذي قَبِلَ آلام الصليب؟ أنقذوني يا آبائي من عذاب السؤال.» (ص٤١٠)
«… الجسد الذي قام به هو ذات الجسد المصلوب، جسد المَجْدِ في صورة البهاء التي ظهر بها للتلاميذ، لكن قدرة لاهوته هي التي بها دخل من الأبواب المغلقة كما كان قد خرج من القبر، بل كما خرج من بطن العذراء بينما ختوم البكارة غير مفضوضة، فالجسد لا يتعارض مع قداسة الله كما يتصور البعض، فالله يمكن أن يسكن جسدًا كما يسكن في كل مكان وفي كل شيء مهما كان بسيطًا أو حتى ملوثًا، إنه كالشمس المطهَّرة التي تتسلل إلى أكوام النفايات فتطهِّرها دون أن تتدنس هي.» (ص٤١١)
«قال أغابيوس، كأنه ما زال يهمس إلى نفسه: ما دام قد سكن في أحشاء مريم العذراء — وهي حواء الجديدة — فقد ارتضى بذلك أن يسكن في داخل كل منا.
قال تاوفيليس: وليس في توحد الإلهي بالإنساني أدنى مدعاة للصلف أو الاستعلاء من جانبنا نحن البشر الفانين، بل فيه ما يدعو إلى حسٍّ بالمسئولية لا يكاد يُحتمل، وليس فيه أن العالم مِلْكنا ولا أنه من صنعتنا بقدر ما أن العالم فينا كما أننا في العالم.
الفرق الوحيد بين إنسانيتنا وناسوته المتحد بلاهوته، أننا في الإثم ولدنا وبالخطيئة حبلت بنا أمهاتنا، أما هو فبلا إثم ولا خطيئة.
همس أغابيوس لنفسه: هل الخطيئة هي نفسها معنى الحياة على هذه الأرض؟» (ص٤١٢)
ويمثِّل تعليقُ أغابيوس، الذي همس به لنفسه، أساسَ الإحساس بأن الحياة خاطئة، وهو الإحساس الذي يَترتب جوهريًّا على قانون الإيمان المسيحي الأرثوذكسي، كما عرضه الأنبا تاوفيليس والأنبا سيداروس والأنبا تاوضروس رئيس الدير، في مناقشاتهم وردودهم على أبادير المتسائل الشكاك.
ويرجع الإحساس بأن الحياة خاطئة إلى الطبيعة الجسدية البشرية، المحكوم عليها منذ البدء بأنها وُلدت في الإثم، وجاءت من الخطأ، كما يقول صراحةً الأنبا تاوفيليس.
ويَترتب على هذا الاعتقاد انفصال أساسي بين الطبيعة الإنسانية الجسدية، المحكوم عليها بالخطأ منذ مولدها، والطبيعة الناسوتية التي تَجَسَّد فيها المسيح بلا إثمٍ أو خطأ، وهي طبيعة روحانية خالصة، حتى وإنْ كانت ناسوتية؛ لأن ناسوتها بعيد عن الإثم والخطأ، ولا يجوز عليها الإثم أو الخطأ؛ فهي منزَّهةٌ عنهما بحكم ناسوتها الروحاني. إنها روحانيةٌ لجأت إلى التجسد من أجل إنقاذ العالم وتحمُّل الخطيئة عن البشر حتى يتطهروا، ويتمكنوا من العودة إلى الطريق الحقيقي الذي هو طريق الروح.
(٣) لعنة التحول: لعازر/أغابيوس/لعازر (وجه البنية النصية المزدوج)
مَرَّت شخصية لعازر/أغابيوس بتحول فاجع يكشف — بشكلٍ صريح — عن طبيعة البنية النصية المزدوجة وما تُعانيه من انقسامٍ حادٍّ بين مركزين فيها هما: الروح والجسد. كما يمكن القول إنه يمثِّل — من ناحية أخرى — صورة تفصيلية لتحول آخر — فاجع أيضًا — مَرَّت به شخصية الراوي ميخائيل قلدس الذي نشأ، في طفولته، نشأةً دينية قاسية، ثم تحوَّل عنها مع مطالع الشباب. ومن هنا، تأتي أهمية تحليل هذه الشخصية في سياق الفصل الحالي.
يذكر الفصل العاشر، وعنوانه «الدير الكبير»، أنه على أيام الأنبا باخوميوس كبير القلب — منذ سبع سنين أو أكثر — ترهبن باسم أغابيوس الفتى لعازر الذي أنجبه سلوانس قلادة من أدرناه بنت عبد الملاك. وكان الأب متياس كاهن كنيسة أبي سيفين أول مَن اتجه إليه الفتى لعازر يسأله الهداية والمعونة، فهو أب اعترافه وابن عمِّه في الوقت نفسه، غير أنه كان — على عكس الفتى لعازر — رجلًا عاقلًا متزنًا ضابطًا أهواءه.
ومن الواضح أن الفتى لعازر كان من نوع الفتيان الذين تتلاعب بهم الأهواء، ويسكن في قلوبهم حب الدنيا بمباهجها المختلفة. وكان الأب متياس يعرف ذلك عنه، فثبَّطه، وحاول أن يُثنيه عن تحقيق رغبته في أن يصبح راهبًا. لكن لعازر لم يتراجع عن رغبته؛ فبكى بالدموع الحارة، وهو واقفٌ خاشع في طقس الاعتراف، ولثم يد ابن عمه الأب متياس، وأغرقها بالدموع كي يساعده في تحقيق رغبت، فلجأ الأب متياس إلى الأنبا باخوميوس حتى يحقق رغبة لعازر، ووافق الأنبا باخوميوس (انظر: ص٢٤٦-٢٤٧).
وما إن وافق الأنبا باخوميوس حتى بدأ التحول الأول، الفاجع، في حياة لعازر. إذ كان عليه — منذ هذه اللحظة — أن يندرج في «نظام الاختبار القاسي» ومدته ثلاث سنوات؛ تمهيدًا لقبوله في سلك الرهبنة، بشروطها الأساسية الثلاثة: الطاعة والفقر والبتولية.
«عندما طُلب إليه بصرامة فخلع جلابيته الحرير الأخميمي وفكَّ حزامه الرفيع القصب، وأسقط عنه الشال والعمامة الأنيقة، أحسَّ أنه يخلع عنه زينة الحياة الدنيا، وأعطاه أبونا طانيوس مسوح الاختبار: جلابية زرقاء من الصوف الخشن على لباس طويل من العَبك، في عزِّ الحرِّ.» (ص٢٥٣)
«ها أنا ذا آتي إلى الدير، أدخل اختبار الرهبنة، وأنا في خوفٍ عظيمٍ، كيف أخْلِص نفسى لمحبة الله وحده، وأنا أحب الناس؟ وأحب بنت عمي منَّة وأموت فيها عشقًا؟ وأحب سماع الموسيقى، المزمار والناي، والتحطيب وصخب الموالد وفرح الأعراس ورقص الغوازي؟ كيف أنقطع إلى الله وحده وأعزل نفسي عن العالم وأنا أستمتع بحكايات الأصحاب وأستمتع أيضًا بصحبة النساء من قريباتي وجيراني ومعارفي؟ كيف سأحتمل قسوة العزلة عن مباهج العالم؟ هل سيملأ الله قلبي، وبهجة محبته تعوضني؟» (ص٢٥٣)
وفي حقيقة الأمر، يلخص هذا السؤال مشكلة لعازر/أغابيوس من ناحية، ومشكلة الراوي ميخائيل قلدس من ناحية ثانية، كما يلخص من ناحية ثالثة — وهذا هو الأهم حاليًّا — مشكلة البنية النصية المزدوجة المتوترة باستمرارٍ بين الروح والجسد.
وأثناء الاختبار القاسي، الذي مَرَّ به لعازر، كان عليه أن يتعلم درس القديس باسيليوس الكبير، ويمكن تلخيص هذا الدرس في مجموعة من المبادئ الدالة والكاشفة هي: احرص على علاقة الأخوة بين الرهبان في الدير «كنفسٍ واحدة، أجسادهم وإنْ كانت كثيرة فقد صارت جُملتها آلة واحدة مجتمعة لتلك النفس الواحدة المجتمعة برباط المحبة، عليهم أن يتحلَّوا بزينة الرب وحدها، ألا يجاوروا ولا يفكروا في النساء، ألا يأكلوا اللحم، أن يشدوا أوساطهم بمناطق من جلدٍ غليظٍ، أن تكون كسوتهم من الصوف الخشن، أن يقرُّوا في أنفسهم أنهم أموات» (ص٢٦٢).
«دارت عجلة الحياة بلعازر — أغابيوس في الدير الكبير، بلا هوادة، وعرف عناء الاختبار والإنهاك الروحي والجسدي بأن يكون تحت أنظار الآباء ليل نهار ترصد حركاته وسكناته ولا تغفل شيئًا، مهما هان أمره، من سلوك هذا المتقدم لنَوَال نعمة الرهبانية، بل توشك أن تنفذ إلى دخيلة فكره وهواجسه وصميم وجدانه ونزعات نفسه. وكان يخفف من هذا العناء — للغرابة — أن ثمَّ حيوانًا شاردًا عجيبًا كان يأتيه، كلما جاءت لحظات وحدة نادرة، هل هو كلبة سوداء وديعة العينين تذكِّره — وقلبه يتوجَّع بالذكرى والندم والحرقة معًا — بعينين نجلاوين تحدقان إليه بسؤال لا إجابة عنه، ولكن بحنان لا مبرر له أيضًا؟ أم لعلها ذئبة صغيرة يراها أحيانًا عفراء رمداء اللون وأحيانًا حالكة السواد، مشتعلة العينين بنار شهويِّة سيالة؟ تقرقر بأسنانها الدقيقة الحادة توشك أن تغرسها في جسمه، يحس أنفاسها الساخنة على ساقيه ثم ترجع برأسها وتزوم بأنين كأنه أنين ألم المتعة أو ألم الحرمان، تتمسَّح برجليه، وتترك الرهبان الآخرين لابسي الإسكيم الأسود، لتجيئه هو بجلابيته الزرقاء، وتركع تحته، تمدُّ ساقيها الأماميتين قدامه، وتموء بصوتٍ متضرعٍ خفيضٍ.
كلبة أو ذئبة أو مزيج منهما أو لعلها شيطان صغير يقوده إلى الهلاك، أنثوية مغوية، لا يجد حرجًا أو إثمًا في أن يداعبها ويتحسس شعرها الناعم وجسدها اللدن المتلوي تحت يديه.» (ص٢٦١-٢٦٢)
يمكن القول إن الكلبة أو الذئبة ترمز — في هذا السياق — إلى شهوات الجسد التي كان يحاول لعازر مقاومتها في فترة الاختبار؛ وذلك تمهيدًا لأن تنقاد نفس لعازر «دون حوْد لسلطة الدير وسلطة النص معًا» (ص٢٦٣).
«أتعهد أمام الله في هذا المكان المقدس وتشهد عليَّ الكلمات التي تخرج من فمي، لن أُدنس جسدي بأي وسيلة، لن أسرق، لن أشهد زورًا، لن أكذب، لن ألوِّث ماء، لن أكون سببًا في حرمان رضيع من لبن أمه، لن أطفئ نارًا موقدة في الخير، لن أعمل بأي طريقة، أعمال الغش في العلن أو في الخفاء، فإذا نقضت هذا العهد فلا أشاهد ملكوت السموات ولن أدخلها.» (ص٢٧٠)
ومن الممكن صياغة هذه العبارة «مات لعازر قام أغابيوس» على النحو الآتي: مات الجسد في لعازر قامت الروح في أغابيوس. غير أن الحاصل على أرض الواقع العملي أن شهوانية الجسد لم تمت، وظلَّت تطارد أغابيوس حتى وقع في الحب الجسدي الخاطئ. ويُعد ذلك تمردًا عمليًّا صريحًا من الراهب أغابيوس على سلطة الدير من ناحية، وسلطة النص الديني من ناحية أخرى، وهي السلطة المتمثِّلة في قانون الإيمان كما تمارسه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
وتزداد فداحة هذه الخطيئة وهذا التمرد؛ لأنه أحبَّ، وعشق، امرأةً متزوجة هي بنت عمِّه منَّة. ويحكي الفصل السادس، وعنوانه «المجدلية»، قصة هذه الخطيئة المميتة التي ارتكبها أغابيوس، واستحق بسببها محاكمة كنسية قضت عليه بالطرد واللعنة والحرمان الروحي.
«عيناه ما زالتا مبهورتين من عشوة شمس الخارج، بينما تُحيط بهما عتمة رطبة منعشة بعد هجير الحارة الضيقة، وَاجَهَتْه في وسط صحن الدار شجرة النبق الوارفة منتشرة الأغصان، هي التي تعطي الحوش هذا الضوء الغريب المخايل، جذعها الخشبي مفتول العضل متلوِّي التراكيب، وورقها مترب ولكنه مليء بالغضارة وقد تناثرت عليها ثمار النبق الناضجة حمراء صفراء مدوَّرة ومليئة بجسدانية محبوسة وموزعة وكأن الشجرة كلها جسد غضٌّ متفتق بالشهوانية.» (ص١٣٩)
غير أن هذه اللحظة الخاطفة كانت حاسمة بالنسبة إلى الراهب أغابيوس؛ فقد جعلته عاريًا أمام نفسه، إذ أثارت في نفسه شعورًا بالانكسار.
«وحتى في هذه اللمحة التي أثارت نفسه من الداخل، كبرقٍ شرسٍ متوعِّد، أحس مع نشوة اقتحام ولو بالعينين فقط، كأنه ينتهك حَرَمًا، ويُدنِّسه، يقترف إثمًا محظورًا لا يجرؤ حتى أن يعرف ما هو.
كان في دخيلته انكسار، كأنما يريد، دون أن يعي ذلك تمامًا، أن ينتقم لنفسه، وأن يلمَّ الصدْع بين جانبين منه، وفي الوقت نفسه يريد أن يبقي عليهما غير ملمومين، غير ملتحمين.
ومع افتتانه وامتثاله تدفَّق في قلبه دم المقت، ورفْض هذه الغواية الساخرة، بل أوشك أن يقول في نفسه، دون اقتناع نهائي: الفاجرة.» (ص١٤٢)
«قال: هل كان عندي اثنتا عشرة سنة؟ يمكن، بالكاد عادْ … كنت أذهب إلى الزريبة، أقوم من عزِّ نومتي بالليل، لأذهب أطمئن عليها، وأملِّس على جلدها البنِّي الغامق الناعم. وكانت تنفث في يدي المداعِبة نفثات صغيرة حارَّة. كان الهواء قارس البرد في كيهك يصفِّر خارج بوابة الزريبة، كأنه يدق عليها بأيدٍ غير منظورة، ولكن قوية، أقوى بكثيرٍ مما يظن أحد.
عندما تنظر إليَّ بعينيها الواسعتين الخاويتين من أي معنى كنت أعرف مع ذلك أنها تحبني، وتحب أن أملِّس على جلدها.» (ص١٤٢-١٤٣)
«انقلبت على ظهرها، كان تراب الحوش الرطب قد طبع جنبها اليمين بما يشبه نقوشًا مشعَّثة غير واضحة، أعواد الذرة القديمة الهشَّة المتناثرة على الأرض تركت على جسمها علامات خفيفة ولكن محددة، عيناها الواسعتان تنطقان بتساؤل غير محددٍ، بينما أنين اللذة مكتوم، وخشن. كان التساؤل وحده هو ما بيننا، أما لذتها ومتعة اقتحامي فهي أشياء خاصة بنا، وحدنا، لا علاقة بينها. هل أنسى طول حياتي على هذه الأرض — وما بعدها أيضًا، وليسامحني الرب — كيف انحنت عليَّ، سكبت عليَّ من زجاجة «مية القسيس» المدورة عطرها النفاذ، ومسحته بشعرها القويِّ وقد انفكت ضفيرتاها: من أين أتى الدم على فخذيها الممتلئتين؟ هل هذه علامات أصابع خمسة؟ بقايا التراب الرطب من أرض الحوش؟ في العتمة وضعت فمي على البشرة الداكنة الملساء، وأحسست يدها على رأسي تمسُّه برفقٍ، دون ضغط، وهي صامتة.» (ص١٤٣-١٤٤)
«حتحور التي لا تموت مهما ذُبحت مرةً بعد مرةٍ بلا انتهاء ترتطم عظامها بعضها ببعض في حلمي ويندُّ عنها من الفجوة السفلية في بيت المجدلية أنين اللذة والاحتضار معًا تقوم من قبرها وتقيمني من بين الأموات.» (ص٢٤٠)
وإذن، حتحِيرْت إلهة تجمع بين نقيضين: المرح والسرور والسعادة، أيْ مباهج الحياة الدنيا من ناحية، والموت من ناحية أخرى.
«الآباء المتوحدون القلائل في هذه القلايات الصغيرة لا تنقطع صلواتهم وترانيمهم بكلمات الله وتسابيحهم للآباء والقديسين … يعيشون هذه الأيام في عزلة النُّساك الأقدمين …
… هؤلاء يقضون أيامهم ولياليهم — بعد أن يفرغوا من قراءة الكتاب وأداء الصلوات والترانيم بالمزامير والتسابيح — في نسخ الكتب المقدسة والمزامير في سير الشهداء والأشعار التي قيلت في تمجيد الحَمَل الوديع وتقديس أمِّ النور …
على هذا النحو كان الرهبان المتوحدون القلائل يتأسون — بقدر ما يستطيع الخُطاة الفانون — سيرة الأنبا أنطونيوس القديس كوكب البرية أب جميع الرهبان الذي لم يكن ينطق إلا باللغة المصرية القُحِّ … كما يتأسون سيرة سائر الآباء الذين كانوا وما زالوا هم رسالة المسيح الحيَّة المتجسدة ورائحته الزكية المتضوِّعة أبدًا، يعبرون أيامهم ولياليهم حالمين في غيبوبة من الكلمات المقدسة يرددونها بصوتٍ خفيضٍ، أو عالٍ وهم ينسخون في غيامة من جمال يسوع وطهر العذراء ونعيم الملكوت في أورشليم السماوية الآتية.» (ص٢٤٤-٢٤٥)
ومِن ثَمَّ، يمكن القول إن لعازر/أغابيوس يمثِّل الخروج على تعاليم «سلطة الدير والنص معًا»، وعلى الأعراف، التي يجب على الرهبان في الدير الكبير أن يتبعوها ويلتزموا بها التزامًا صارمًا.
«لعازر الذي قام من بين الموتى في عالم الشهوات والاضطراب يعود بعد تسع سنوات إلى الأرض المحرمة، وينسلخ عن القطيع الذي يرعاه الأنبا تاوضروس في الدير، قد ارتفع الآن في أذنيه صوت الموت بعد أن ضاع منه جسد المحبة، لم يُقَدَّرْ له قط أن يتبع مسيرة سميِّه وسلفه العظيم لعازر الذي أقامه حبيبه من بين الأموات لكي ينتهي أسقفًا على قبرص يرعى المؤمنين الأوائل في فجر المسيحية.
قيل إنه هرطق بكلام عن المحبة والعدالة والحرية في أحاديثه مع الرعية وفي العظة التي ألقاها يوم الأحد التالي في كنيسة أباهور.
وقيل إن الإشاعات والروايات ذاعت بأن التنين الذي كان يصعد من القبور يحول دون نزول منَّة بسلامٍ إلى راحتها الأخيرة كانت فيه ملامح من وجه أغابيوس.» (ص٤٣٦)
(٤) الصراع الدائم بين الجسد والروح: وجه البنية النصية المزدوج (ميخائيل قلدس)
«فأنا كما لعلك تعرف أميلُ — كما قلت أكثر من مرة — إلى أن أكون علمانيًّا وأغنوصيًّا حتى النخاع، لست ديِّنًا بالمعنى المألوف على الأقل، لكني مفتون بالمسيح، بأسطوريته الفائقة، برمزيته العميقة، بسرِّ الألوهية في جسدانيته، لكن حسًّا دينيًّا — بمعنى واسع وشامل — يظل محرقًا ومؤرقًا يُعنِّيني ويُضنيني دون هوادة، هو همٌّ مخامر لا يريم بمسألة الكينونة والوجود والمصير، مسائل الحق والعدالة والحرية — أي الخير والشر — هذا الحس الذي لعل مِسْ كاترين، مدرِّستي ومحبوبتي الأولى، قد غرسته فيَّ، بوداعتها وجمالها الهادئ المنير، ببطاقات مدارس الأحد الملونة وفيها كلمات بالقبطية والعربية ولوحات متقنة ودقيقة وبارعة عن أحداث العهد القديم والجديد، سقوط آدم وذبيحة قابيل، سلَّم يعقوب، وتيه بني إسرائيل، والعليقة المشتعلة، معجزات المسيح من تحويل الماء إلى خمر في قانا الجليل إلى إقامة لعازر من الأموات، وحديث السامرية عند البئر، وكل دراما دخول يسوع إلى أورشليم وصلبه وقيامته.
عشت صباي الباكر آلام المسيح وعذابه وقدرته اللانهائية على الفداء، لم أكن في سنتي العاشرة «أقرأ» الإنجيل، بل كنت «أحيا الإنجيل». وكم غمرني حضور المسيح في طوايا النفس العميقة، ولعله ما زال يغمرني — على نحو ما، غير طقوسي وغير عقيدي — بهذا النور الذي ليس من العالم.
ثم جاءت صبغتي بالمعمودية في دير الملاك ميخائيل بختمٍ لا يُمحى ثم اعتناقي، عقيدةً وممارسةً، العمل الثوري من أجل حرية الوطن والعدالة بين الناس، واستعداد كامن للاستشهاد.
ها أنا ذا لا أبرأ من صبغتي القبطية ولا من صبغة أشواقٍ للعدالة والحب، صبغة لا تهدأ ولا تستكين.
أسائلهما — مع ذلك — باستمرارٍ ودون سلامٍ.» (ص٤١٥-٤١٦)
وينبع هذا التوتر من المساءلة المستمرة المتواصلة التي لا يتنازل عنها النص متأرجحًا، باستمرارٍ، بين الغنوصية التي تعني الإيمان العرفاني القلبي والتسليم المطلق بقانون الإيمان المسيحي كما تلقَّاه الراوي ميخائيل قلدس منذ طفولته الباكرة وعاش معه بين جوانحه من ناحية، وبين الأغنوصية التي تعني مساءلة هذا الإيمان المطلق ووضعه موضع الفحص والتمحيص، كما فعل أبادير المتسائل الشكَّاك، الذي هو وجه من وجوه الراوي ميخائيل قلدس نفسه، من ناحية أخرى.
إنه توتر نابع من الازدواج بين نقيضين: الإيمان العلماني، الأغنوصي، المتسائل الشكَّاك من ناحية، والحس الديني العميق الشامل الذي يسيطر على الراوي والنص من ناحية أخرى.
وإذا كان أغابيوس قد استشعر داخل نفسه — أثناء المناقشة اللاهوتية حول قانون الإيمان في فصل «التجسد» — أن الخطيئة هي معنى الحياة، فإن الراوي ميخائيل قلدس يستشعر ظلمًا كونيًّا وعَتْهُ نفسُه، يتمثَّل في الموت الذي عايش أحداثه في سنٍّ مبكرة، حين حكت له أمه أن أخاه منير مات بعد مولده هو — ميخائيل — بأربعة عشر يومًا (انظر: ص١٨٩)، ثم مات أيضًا أبانوب ابن منَّة، ثم أخته عايدة، وبعدها بعام أخوه غنن الصغير، وإيفون الصغيرة التي كانت تبتسم له وهي تموت، وأمين أخوه الأكبر غير الشقيق، وألبير، إلخ. (انظر: ص٣٧٣–٣٧٦).
يمثِّل هذا المونولوج إحساسًا عارمًا بالشعور بالخطيئة، بل يُشير — في الوقت نفسه — إشارة قوية إلى أن الراوي يحمل على كتفيه خطيئة أصلية تحتاج إلى تطهير وفداء، لكن أمام الموت مَن يستطيع تقديم تطهير أو فداء؟
ولا يمكن القول إن هذا الشعور بالخطيئة الأصلية، أو الإحساس بالذنب، نابع من أن الراوي ميخائيل عاش على حين مات هؤلاء الآخرون، أو أن هذا الإحساس متولد عن حسٍّ مرهف يعاني منه الراوي؛ بل الأحرى القول إن هذا الشعور، أو الإحساس، له أصول عقيدية يمثِّلها اللاهوت المسيحي وقانون الإيمان كما ناقشنا معالمه في فقرة سابقة، تلك الأصول التي عاشها الراوي في طفولته بكل إخلاصٍ، ولم يستطع أن يتخلص من آثارها طوال عمره، حتى بعد أن تحول إلى نوعٍ آخر من الإيمان المادي العقلاني، المتمثِّل في الماركسية التروتسكية.
إن الموت يلحق الجسد الفاني، الجسد الخاطئ، أما الروح فلا يلحقها نقص أو موت أو فساد. لكن الراوي — ومِن ثَمَّ النص — لم يلتزما طريق الروح، واشتقَّا طريقًا آخر يستند — بشكلٍ صريحٍ — إلى الجسد. ومن هنا، يأتي هذا الحسُّ العميق الشامل بالظلم الكوني؛ ذلك أن أشواق الجسد لا يمكن إشباعها حتى النهاية، فالموت يقف — هناك — عند آخر الطريق، في انتظار فريسته القادمة إليه، دون أن تدري.
(٥) بنية المكان/الزمان في النص
سبقت الإشارة إلى أن البنية النصية تُعاني من ازدواجٍ تكويني بسبب انقسام المحكي وتوزُّعه بين نمطين من الحكي: الأول هو المحكي الذي يرويه الأب قلدس، والد ميخائيل، وهو محكي — وإنْ كان يجري من منظور الراوي ميخائيل الابن — يؤكد الجانب الروحي الأسطوري المتمثِّل في عودة المسيح الدائمة، أما الثاني فهو المحكي من وجهة نظر ميخائيل، وهو المحكي الذي يتوتر بين جانبين هما الروح والجسد، حيث تعطي وجهة نظر ميخائيل أهمية كبرى للجسد لكونه مشتملًا في داخله على الروحي الإلهي غير منفصلٍ عنه، الأمر الذي يجعل البنية النصية تعاني توترًا قويًّا يصل بها إلى حدِّ الازدواج. ويتجلَّى هذا التوتر، أو الازدواج التكويني، في بنية الزمان والمكان أيضًا.
تتراوح الأحداث في النص، بشكلٍ أساسي، بين مكانين هما بلدتا أخميم وأباهور. ويعيش ميخائيل قلدس في أخميم، غير أنه — من وقتٍ لآخر — ينتقل إلى أباهور حيث تسكن حبيبته مارينا، وحيث تعيش سالومة زوجة الدكتور ميساك، ومنَّة زوجة صموئيل أفندي.
وتكمن المفاجأة — كما سبقت الإشارة — في أن بلدة أباهور ليست بلدة واقعية مثل أخميم؛ أي لا وجود لمكان اسمه أباهور في صعيد مصر. ومِن ثَمَّ، يمكن القول إن المكان يتأرجح ويتوتر بين المكان الواقعي أخميم، والمكان الخيالي أباهور. ويمثِّل انتقال الراوي ميخائيل من أخميم إلى أباهور تأرجحًا بين الواقعي والخيالي، بين الجسدي والروحي، بين الكائن والاحتمالي. ويتجاوب هذا التأرجح بين المكانين مع التأرجح والتوتر في بنية النص بشكلٍ عام.
ومن الممكن رؤية أن هذه الأماكن، سواء الرئيسية في النص مثل أخميم الواقعية وأباهور الخيالية، أو الأماكن الفرعية مثل الإسكندرية أو القاهرة، تتجمع معًا، وتشتد العلاقةُ بينها بفضل تقنية التذكُّر التي تمثل التقنية الأساسية في النص؛ فالرابط بين الأماكن والأحداث في النص هو سيل الذاكرة المتدفق لدى الراوي ميخائيل قلدس. ولعل هذا الرابط كفيل أن يدفع التحليل إلى تناول مسألة الزمن.
يمثِّل الزمن، في النص، عنصرًا من العناصر الأساسية المكونة له؛ إذ ليس من الممكن تخيُّل الأحداث والمكان والشخصيات دون زمن، كما لا بد من الإشارة إلى أنه لا يمكن تخيُّل وجود مكان دون زمن، أو العكس؛ فالعلاقة بينهما علاقة تكوينية أساسية.
غير أن جبل أخميم يمثل حالة زمكانية مهمة شديدة التأثير في الراوي وفي النص؛ ففيه دير الملاك ميخائيل الذي شهد معمودية الراوي في الطفولة، وما كان لها من أثرٍ عميقٍ في نفسه، لازَمَه طوال حياته. وفي جبل أخميم يقع الدير الكبير الذي يُمثل العين الحارسة التي صانت العقيدة المسيحية، وقانون الإيمان المسيحي، على مَرِّ العصور، سواء كانت عصور سلام أم عصور اضطهاد. ويبدو أن جبل أخميم هو الجبل الذي انتقل على يد سمعان الخرَّاز، وتبركًا به كان اسم عائلة ميخائيل قلدس الخرَّاز (انظر: ص٤٥).
«أبي
وتضفي محاولة التوحيد بين الأب والجبل، على المكان قداسة الجذور والعودة إليها، وهي العودة التي تتم من خلال الزمن وعبره، بواسطة التذكُّر.
ولا يكتفي الراوي ميخائيل قلدس باستدعاء المكان أخميم فقط، وإنما يستدعيه محمَّلًا بكل تاريخه البعيد، منذ المصريين القدماء حتى لحظته الراهنة، وفي حقيقة الأمر، تنشر زمكانيةُ أخميم نفسَها على النص من أوله إلى آخره.