في أوروبا
فرنسا
أدَّى بنا المطاف إلى باريس، سيدة العالم في التأنُّق والتبرُّج والزينة، فكُنَّا نرى النساء وقد خلَعن العِذارَ وأسرَفْن في المجون، وتغالَين في طلاء الوجوه بشكلٍ مُبتذَل، والفِتْيان ولا عمل لهم سِوى تعهُّدهم هِندامَهم بالمحسِّنات، ووجوهَهم وشعورَهم وأظافرَهم بمختلِف وسائل التجميل، وكأنما خُلقوا للمغازلة. والحق أن نظام الحياة في باريس أبعدُ ما يدل على الفرنسي الصميم؛ لأنها مزيجٌ من مُتْرَفي العالم أجمع، حتى قيل إن الأجانب هناك باريسيُّون أكثرَ من الفرِنسيِّين أنفسِهم، وتدهش إذ تعلم أن نسبة الجمال في باريس صغيرة جدًّا، فإذا ما جلست إلى أحد المقاهي ألفيتَ من جماهير النساء عددًا يفوق الرجال، ولو أنك أحصيتَ نسبة الجميلات منهن كما فعلتُ أنا مِرارًا، لما ألفَيتَها تَزيد على ٥٪، حتى إني أيقَنتُ أن سُمعة باريس في هذا المضمار جوفاءُ لا تقوم على الحقيقة. ولعلَّ الذي خدع العالم أجمع في هذه: ما نراه بينهنَّ من الإسراف في الأناقة، والتكلُّف في آيات التجميل، فنساء فرنسا بحقٍّ قادة العالم في فن الجمال، أما في جمال الوجوه فهُنَّ في مؤخرة نساء أوروبا، وإن طلاب الجمال ليَخيب رجاؤهم إذا ما قصدوا باريس، لكن الراغب في الأناقة ووسائل التجميل لا سبيل له إلا هناك، فقلَّما تجد الجمال طبيعيًّا، بل إنه مُصطنَع. والباريسيَّة تحرص على أن تكون وَجيهةً (شيك) عن أن تبدو جميلة، دَيدَنُها التمشِّي «مع الموضة» في كل حركاتها وسكناتها، وهي تُنفق ثلث إيراد عائلتها على الظهور بالمظهر اللائق بتلك الأناقة، ولا يعترض الزوجُ على ذلك، بل يُحبِّذه، ويَرغب الفردُ منهم في أن يتسابق الرجال جريًا وراء زوجته أو غادته عن أن تجريَ المرأةُ وراء كرة القدم أو التنس، كما تفعل الإنجليزية مثلًا. ولعلَّ أخص ما تمتاز به الباريسيَّة قدرتها على مُجاراة الوسط حولها، وجرأتها في ابتكار «الموضات»، والظهور بها فجأة أمام الملأ، غيرَ هيَّابة لنقدٍ أو تجريح.
ويَهُولك ما ترى إذا دخلتَ إحدى دور التجميل في باريس، حيث ينتظر الزوجُ زوجته العجوز التي دخلَت ليُعيد لها هذا المكانُ بعض علامات الشباب، فيتسلَّمها أخصائيُّون؛ هذا دهن ذقنها ودلكها، وأرخى عليها حجابًا تخرج من تحته مَلْساءَ جميلة، وذاك تولَّى تجاعيدها بحَقْن الجلد وكيِّه بالمساحيق المختلفة، وآخرُ تعهَّد عيونها وأهدابها بالكي والتلوين، ثم يعالج الشعر بالحرارة والزيت والحنَّاء والكهربا، فيخرج الرجل وقد أعاد لزوجته شبابها ونضارةَ وجهها. وأدهشُ من هذا تعهُّد الجسم كلِّه بالتدليك والفُرَش والوكز، ولفِّ الجسم بطبقة من الشمع ساعات. وبعض النساء يغتسلن في حوضٍ من اللبن أو النبيذ أو الطين الساخن؛ لأن ذلك يُعيد للجسم نضارته، هذا عدا ما يَستخدمن من أدهِنة ومساحيقَ تُظهر الوجوه على غير حقيقتها. فهلَّا أقلع أولئكنَّ عن ذاك العناء واستبدلن به العناية الحقَّة بالصحة وسلامة الأجسام ونضارة الوجوه؟!
ولكن نرجع فنقول: ألم يَفتح ذلك الميدان بابًا ترتزق منه فئةٌ كبيرة من الصُّناع والفنانين (الآرتيست)؟ وهلَّا ساعد ذلك على الرغبة في الزواج والإبقاء على الزوجات اللاتي أذْوى الزمنُ نضارتهن، ثم أرجعَتْها تلك الأفانين، فاستمرَّ الزوج على إخلاصه القديم لجمال زوجته؟
فباريس بلد المجون والاستهتار، فالمقاهي والمقاصف لا تغيب عن العين، وقد غصَّت بالكسالى يقتلون الوقت، مُسرفين في شرب الخمر، ويَرقبون الغانيات يتبخترن ذهابًا ورجعةً في مظهرٍ إباحيٍ غريب. والعجيب أن تلك المقاهيَ قد لا تُغلق أبوابها ليلًا ولا نهارًا، ولا تخلو من روَّادها أبدًا، وغالب القوم لا ينامون إلا بعد الفجر، ولا يستيقظون ليُزاولوا أعمالهم إلا في ساعةٍ متأخرة من النهار؛ ولهذا كُنَّا نراهم وقد علَتْ وجوهَهم كدرةٌ وهم عابسون، لا يَكادون يفتحون عيونهم، ولم نعجب للهزال الذي بدا على جسومهم والشحوب في ألوانهم؛ فالجيل الفرنسي الجديد فاسد الصحة ضئيل الجسم ضعيف الخِلال. وحتى الأطفال كنا نراهم في صحبة آبائهم وأمهاتهم إلى ساعاتٍ متأخرة من الليل، وهم يشاهدون بَني جلدتهم من نساء وفتيات وقد غالَين في السُّكْر والسهر والتدخين والخلاعة، فيألَفون ذلك المجون منذ نعومة أظفارهم. وهل ترى فتًى يسير في غير صحبةِ غانية؟ أو فتاة لا يُخاصرها شابٌّ على قارعة الطريق يتبادلان الاحتضان والقبلات أمام الملأ وعلى رءوس الأشهاد، وتحت إشراف رجال البوليس وحُرَّاس الأخلاق؟!
وأشنع من ذلك وأدهى تلك الدُّور التي تُعرَض فيها صنوف المجون وجماهير العاريات، يأتين أمام المتفرجين ما تستنكره الأخلاق، وتمجُّ منه النفوس الطاهرة، وذاك التبذُّل يُبيحه القانون، لا بل ويحرسه ويشجعه، فهل هناك أخطر على أخلاق أبنائنا من ذلك؟ وبخاصَّة الطلبة الناشئين الذين رأيتهم وقد انغمسوا في تلك المنكرات، ومنهم من كان يُباهي بالتبذُّل في القول والفعل، ويقول بأنه كلما عاد إلى بلاده في مصر ضاقت الدنيا في وجهه، وتحرَّق شوقًا للعودة إلى تلك الحياة الفرنسية الماجنة. ولعَمْري هل يعرف آباؤهم عنهم شيئًا من ذلك، أم يَخالونهم مُنكَبِّين على الدرس ويوافونهم بما يَطلبون من مالٍ ومتاع؟ وفي يقيني أن باريس لا تُلائم أبناءنا؛ فخطرها على أخلاقهم كبير، يجدر بنا تلافيه إمَّا بتشديد رقابة أولي الأمر، أو بمنع البعوث إليها بتاتًا.
وبقدر ما ترى التأنُّق والخلاعة في نساء الطبقة الراقية في باريس، تجد البساطة والحشمة بين الطبقات الفقيرة، وبخاصة في الريف، وحتى الألوان لا ترى منها غير الأسود والأبيض والأشهب، ولا تلبس المرأة الحرير إلا يوم الأحد. ويُعْزى هذا التبسُّط إلى أن الفرنسية لا تزال حريصة على تقاليد دينها، لا تَغفل مرة عن الكنيسة يوم الأحد، ولا ترى من الحلي عندها سوى صليب صغير من ذهب أو فضة، يتدلَّى من سلسلة حول جيدها، إلى جانب ذلك فإن الفرنسية مقتصِدة إلى حدٍّ كبير، ذاك الاقتصاد الذي دفعَتْها إليه الزراعة في قِطع الأرض الصغيرة التي تملكها كلُّ عائلة، والتي تتطلَّب القصد في النفقات إلى أقصى حدٍّ؛ كي تُدِرَّ عليهن ربحًا، حتى جرى المثلُ «بأن الفرنسية تستطيع أن تُعِدَّ طعامًا من العدم.» والمبدأ نفسه ينطبق على الملبس، خصوصًا وأن فرنسا عُرِفَت بالهبة الفنية والذَّوق الجميل الذي شُهِر به الرجال والنساء على السواء، وهذا هو الذي ساعدها على أن تُعِد ثوبًا جميلًا من قماش لا يَروقك منظره قبل أن تُعالِجَه يداها.
ولمَّا كان ثلاثة أرباع الشعب الفرنسي من طبقة المزارعين؛ لم يَؤمُّوا المدن بكثرة، ولقد كان لامتلاكهم للأراضي، وتوريثهم إيَّاها لِبَنيهم واعتمادهم عليها أثرٌ في توثيق عُرى الروابط العائلية واستقرارها في القُرى، وقلَّل من الفوارق الكبيرة في الثروة؛ لذلك يقل الفقراء المعْوِزون، كما يَندُر المموِّلون المفْرِطون في الغنى. ولقد أثَّرَت تلك الروابط العائلية في مشاعرهم، فكان الفرنسي معروفًا بشدة حنوِّه وعطفه ودقيق إحساسه، على أنه حطَّ من قيمة المرأة قليلًا، حتى إن الزواج في الريف كثيرًا ما يتم باتفاق الآباء أنفُسِهم، دون أخذ رأي الزوجين. والمرأة الفرنسية تَعتبر الزواج أمرًا مُكمِّلًا لها والغاية التي ترمي إليها كل فتاة، ومن ثَمَّ وجَّهت العناية إلى الرشاقة والتجميل أكثرَ منها إلى التبحُّر في التعلُّم والتهذيب.
ويُشيع الكثيرُ خطأً أن الشعب الفرنسي مطبوع على الفن، مع أن ذلك لا يتحقَّق إلا في أهل باريس فقط، كما أن الشعب الفرنسي دون الإنجليزي والألماني في الهبات العقلية التي تنمُّ عن نضوج في التفكير. حقًّا إن العقل الفرنسي سريع الإنتاج في الأمور البسيطة، أما فيما يتطلب حِدَّة في الذهن وعمقًا في التفكير فلا قِبَل له به؛ فإن وحدة الناظر وعدم تنوُّع الأعمال في الريف كِلاهما لا يوحي بنشاط فكري عظيم.
فالباريسية من سلالة هي خليط من جهات عدة، وهي ليست سيدةَ بيتها بالمعنى الصحيح؛ فهي تتناول أغلب وجبات الطعام في المطاعم مع زوجها، وتحرص على أن تكون قائمةُ الطعام هناك فاخرة، وبعد الفراغ من الطعام تقصد بعض الملاهي، لا لتتسلَّى، بقدر ما تعرض أزياءها وزينتها على المتفرجين، وعند الأصيل تسوق عرَبتها مُخترِقة غابة بولونيا تيهًا وتفاخُرًا. أما نساء الريف فبعيدات عن التكلُّف، يُرمَون مع أزواجهن بالشُّح والبخل إلى حد الإسفاف، ويبدو لك ذلك في مُساوَماتها التِّجارية وفي قبضة يدَيها الحديدية على الفرنك. لكن هذا البخل هو الذي جعل فرنسا من أغنى بلاد العالم. وتعجب إذ تعلم أن الفرنسية تصنع في بيتها ما تحتاج إليه من مربى وخبز وخل وعطر، وتحرص على أعشاب حديقتها لِتُعِد منها وقودًا يابسًا. كذلك النبيذ والخمور، وأحيانًا تنسج حاجتها من الكتَّان بيدها، حتى شُهِرَت بأنها أكثرُ ربَّات البيوت كدًّا ونصَبًا. وكثيرًا ما تقتصر في الأكل على منتَجات حديقتها من خُضر وفاكهة؛ فهي بُستانية ماهرة. أما اللحوم فلا تشتريها إلا نادرًا. ورغم الزواج المبكر فإنك لا تجد من العائلات مَن كدَّهم الجوع أو أضناهم الفقر بفضل ذاك الاقتصاد العجيب.
سِرنا إلى شواطئ الرفييرا، وأهلُها خليطٌ من الإيطاليين والفرنسيين، بدَت جنَّة حقَّة، يضمها خليج صغير غصَّت منحدراته بالأبنية الفخمة ومن خلفها جبلٌ شاهق، وأجمل بلادها مُنت كارلو التي يَلفِت النظر بها نظافتها التامة وسكونها الجميل، فهي مدينة تبدو عليها علائم الأرستقراطية في مبانيها وشعبها ونُزلائها، ويحق لها أن تُسمَّى عروس المتنزَّهات، وهي ضاحية لمناكو، تلك الإمارة المستقلة عن فرنسا، ولها حدودها وأنظمتها الخاصة، وبالمدينة عدد لا يُحصى من الفنادق الكبيرة يَؤمُّها سَراةُ العالم؛ طلبًا للنزهة والاستمتاع، ويغلب أن يصحب ذلك لعبُ الميسر واتخاذ الخليلات؛ فهي عاصمة الدنيا في هذا المضمار. وقد زرنا كازينو مونت كارلو ذائعَ الصيت الذي لا يَؤمُّه إلا غنيٌّ مفرِط أو ذو جاه كبير، يجلس على مناضد الميسر، ويُقامر بآلاف الجنيهات، وتلك مناضد عظيمة الامتداد، ترى القوم مُنكَبِّين عليها، تعلو وجوهَهم علاماتُ القلق في شبه ذهول، ومن ورائهم خزائن الصيارفة على أهبة تقديم النقود للمقامرين؛ تسهيلًا لهم وإغراءً. ولمديري الملعب نسبة كبيرة من المال المتداوَل، وتتقاضى الحكومة من هذه إتاوة تُعدُّ أكبرَ مواردها، وعجيبٌ ألَّا يُسمَح لأبناء البلاد باللعب؛ لذلك لم يُسمح لنا بالدخول إلا بعد الاطِّلاع على جوازات السفر؛ ليتأكدوا أننا من الأجانب. والمكان من الفخامة بحيث يعجز القلم عن وصفه، فمن رُدْهات وأبْهاء زُيِّنَت بالثريَّات والنقوش والفرش، إلى مدرَّجات وحدائقَ تتدلَّى إلى البحر، وتتوسَّطها جواسق الموسيقى، ويجوب ما بين أطرافها الحِسَان الغيد من جميلات فرنسا، يستهوين الناس من الوِلْدان المتأنقين، والكل يتَهادى في مِشيته في تكلُّفٍ شديد، ويَرفُل في مُترَف ملابسه، وقد أشجَتْ نفوسَهم أنغامُ الموسيقى، وهم مُنصِتون لها وكأنما على رءوسهم الطير.
فالحالة الاجتماعية في مونت كارلو تثير الدهشة من عدة وجوه؛ فالنساء أخَذْن من الحرية بنصيبٍ كبير يخرج عن حد اللياقة، ولطول سهر القوم؛ لا يبدأ العمل في الصباح إلا بين الساعة التاسعة والعاشرة، فلا تُفتَح المتاجر ولا يَسير الترام، ولا تكاد ترى مارَّة قط قبل هذه الساعة.
وسواءٌ أكانت السيدة الفرنسية باريسية أم ريفية، ماجنة أم فاضلة، فإن أحدًا لا يُنكر عليها أثرها الجليل في إذكاء نار الوطنية في قلوب بَنيها، حتى عُرِف الفرنسي بتفانيه في الإخلاص لوطنه، يشب على التضحية له بالنفس الغالية. وهل ينسى أحدنا موقفها من الغرامة التي فرضَتها ألمانيا عليها في حرب السبعين وكيف سدَّتها من حُليِّها في سُويعات رغم فداحتها؟
إيطاليا
لعلَّ أخص صفة تُوصَف بها السيدة الإيطالية في حبها لزوجها؛ فهي تفضله على أبنائها وبناتها، عكس جارتها الإسبانية التي تُعرَف أنها أمٌّ مخلصة لبنيها أولًا. هذا وتمتاز الإيطالية أيضًا بفرط صراحتها، والطليانية خمرية اللون، باسِمة الثغر، غير متكلَّفة، رشيقة، هادئة، رزينة، نظيفة، نشيطة، تقوم عند الفجر وتتعهَّد منزلها، وعند الظهيرة تنزع إلى السكون والراحة، على أن الهرم يُعاجلها قبل الأوان كسائر نظيراتها من نساء بلاد البحر الأبيض، ولعلَّ سبب ذلك تبكيرها بالزواج وباحتمال مهامِّ الأسرة وهي في سنٍّ صغيرة؛ لذلك سرعان ما يمتلئ جسمها وتميل إلى القعود وقلة الحركة. ومن المزايا الواضحة فيهن حبهن للفنون وبخاصة الموسيقى والغناء، فقلَّما ترى سيدة لا تجيدهما.
حللت بلاد إيطاليا، فبدا نساؤها نصف متحجبات، خصوصًا في الريف، ولا يُكثرن من الخروج بعيدًا عن دورهن؛ فهُنَّ أشبهُ بالشرقيَّات، وسلطة الأزواج عليهن ملموسة، ويشتغلن مع الرجال في الحقول، ويحملن على رءوسهن أثقالًا مُرهِقة ويَسِرن بها بعيدًا، ويزيد ذلك وضوحًا في جنوب إيطاليا؛ حيث أجسامهن أقرب إلى السِّمنة والامتلاء، واللون أسمر لا يكاد يفترق عن لون فتياتنا. أما نساء الشمال فأكثر جمالًا وتهذيبًا، وكأني بجمال مدينة البندقية وروعة مناظرها في قنواتها وقناطرها قد انعكس على نسائها، فأكسبَهنَّ جمالًا مقطوع النظير، وميَّزهن بالأبهة في المظهر، والصفاء في البشرة، والقوم الممشوق، والمشية الرشيقة.
فالبيئة المائية تضطرهن إلى المشي إذا ما نزلن عن تلك الزوارق النحيلة (الجوندولا)؛ إذ ليس ثَمة مِن مطية أخرى تركبها في الأزِقَّة الضيقة بين القنوات العدة. ويُقال بأن كثرة ركوبهن تلك الزوارق ونزولهن الدَّرَج الرخامي المتعدد طيلة اليوم هو الذي أكسبَهن تلك الخفة في حركة الأقدام، والرشاقة في الانتقال، تلك التي امتَزْنَ بها على سائر نساء العالم. وهن لا يعجلن بالامتلاء في أجسامهنَّ كسائر أهل إيطاليا بفضل تلك الرياضة التي جاءتها عن طريق المشي وركوب البحر. وكانت العادة إلى عهدٍ قريب في البندقية أن الخطيب يُباح له أن يخالط خطيبته ستة شهور كتجرِبة، فإن وافقَتْه تم الزواج، وإلَّا انصرف كلٌّ إلى سبيله. ويُعرف أهل الريف من الإيطاليِّين بحبهم الشديد للرقص بأنواعه، ومن أطرفه رقصة «التارانتيلا» في ريف نابُلي، وهي رقصة ثلاثية، أي من ثلاث بنات في دائرة مُشتبكة الأيدي، وتبدأ بطيئة، ثم تأخذ في سرعة الدوران تدريجيًّا، حتى تنتهيَ بحركة تكاد تكون جنونية، ويصحبها ضرب الدف أو الصنج.
وتقع تربية دود القز على المرأة وحدها مع أطفالها، ويستغرق ذاك العمل الشاقُّ شهرَين كامَلين قبل أن يغل الدود حريرًا. ورعاية الدود تتطلَّب متاعب كثيرة، منها التدفئة، وتغيير الهواء، وإطعام الدود عدة مرات يوميًّا، وكثيرًا ما تَبرح العائلة الدار وتسكن في الخيام؛ ليُترَك البيت مُتَّسعًا لتربية الدود. وفي دور الفراش يراقب الفتيات الدود ليلًا ونهارًا.
لندن
والنساء في لندن رشيقات، يمشين في وقارٍ ولا يتكلَّفن في أرْدِيَتهن، ولا يَطْلين وجوههن بشيءٍ إلا نادرًا، على عكس ما يفعل الباريسيَّات. والجمال فيهنَّ نادر، لكنه إن وُجد كان مُفرِطًا ساحرًا، على أن نسبة الجميلات أكبر منها في باريس، واختلاطهن بالشبَّان كثير جدًّا في المتنزهات، وبشكل يَهولنا نحن الشرقيِّين، وهل أنسى جولتي في مُتنزَّه هَيد بارك حين كنتُ أرى بِساط الخضرة هناك غاصًّا بالناس، كل عاشق إلى جوار حبيبته، يضمُّها إلى صدره في إباحة أدهشتني، فكنت أُحَدِّق وأُطيل النظر، وصديقي … يجذبني ويهزني في غير جدوى، وأخيرًا صاح قائلًا: «فضحتنا يا ثابت بتلك النظرات.» فقلتُ له: أتعيبُ عليَّ النظر، ولا تعيب على أولئك الأمر الفاضح؟! كل ذلك والبوليس يقف إلى جوار أولئك وكأنه يحميهم.
ويدَّعي الإنجليز أن تحرير المرأة بمعناه النبيل الفاضل لن يتمَّ إلا لنساء إنجلترا، ودليل ذلك أنك إذا وقفتَ عند منافذ مدينة لندن في عطلة آخر الأسبوع، ألفَيتَ جماهير الفتيات والسيدات يُسرِعن مشيًا أو على الدرَّاجات، وقد لبسن السراويل القصيرة والقمصان المشطورة، وحملن الجُعَب وراء ظهورهن، يُمضِين ليلة أو اثنتَين في الخلاء تحت الخيام، ويَقُمن هناك بمختلِف وسائل الرياضة تلك، التي نمَّتْ فيهنَّ خاصة وفي الإنجليز عامة المخاطرةَ ومحاولة الانتصار والتغلب على الصعوبات، فكوَّنت بذلك أخلاقهم وقوَّت أجسامهم، وصرَفَتهم عن كثير من المجون والفضول، وبفضلهن انتشرت الجمعيات الرياضية التي تعمل على تحسين الصحة وتشجيع الرحلات، فأنتجن نشئًا سليمًا هو خير عُدَّة للوطن وأهله.
ولا يُنكِر أحدنا فضل المرأة الإنجليزية في تربية أطفالها تربية استقلالية ميَّزَت الشعب الإنجليزي على سائر الشعوب، بالاعتداد بالنفس والاستقلال بالرأي والعزيمة الصادقة. وكم من مرة كنت أراهُنَّ في المتنزهات يتركن أطفالهن يلعبون كيف شاءوا، والأمهات أو المربِّيات جلوس يقرأن دون أن يتدخلن في شئونهم، وكلما جاء طفل يشاورهن في أمرٍ قالت الأم: «افعل ما بدا لك دون أن تُتلف شيئًا، واجرِ حيث تشاء بشرط أن تكون على مرأًى مني.» وهي ترمقهم على بُعد، دون أن تتدخل إلَّا عند كل أمر جلل. وكانت تُمضي الساعات ولا يَسألها الطفل أمرًا، بل يتصرف برأيه مستقلًّا وهي تُبدي لأطفالها ملاحظاتها في طريقها معهم إلى البيت في غير عُنف ولا مغالاة في الحنوِّ والتدليل، وهل ترى أمًّا تبكي أو تنتحب إذا ما دعا داعي الوطن، فسافر ابنها إلى ميدان القتال إلى غير رجعة؟! إنها هي التي تودعه في شجاعة، تعلو ثغرَها بسماتُ السرور والتشجيع.
رومانيا
دخَلْنا بوخارست عاصمة رومانيا، وتسمى باريسَ الصغيرة؛ لأن أحياءها الجديدة تشبه باريس، ولأن أهلها تَأسِرُهم الوجاهة وحبُّ الظهور، والنساء يطمَحْن إلى الأناقة الباريسية ويَقْفون أثرها في كل شيء، وحتى حديثهن تَغلِب عليه اللغة الفرنسية، رغم أن البلاد لها لغتها الخاصة، وجمال نسائها في ظني يفوق نساء فرنسا كثيرًا، وهن مسرِفات في الخلاعة والتبرُّج، حتى إن الطرق تغَصُّ بهن في جمالهن الفتان، وهن سهلٌ قِيادهن إلى حد الابتذال، فكثيرًا ما يُمسِكن بتلابيبك وأنت تسير في الطريق، ويستوقفنك ليُجاذِبْنك أطراف الحديث في غير حاجة، فلو دفعَك أدبُك أن تدعوَهن لأكلٍ أو شراب عجَّلن بالقبول، وهن لا يُكلفنك في سبيل ذلك كثيرًا؛ لأنهن غيرُ ماديات أولًا، ولأن سعر نقدهم — وهو «اللي» — زهيد جدًّا، وكُلَف الحياة هناك رخيصة إلى حدٍّ لا يصدقه العقل. على أن ذلك خلَّف فيهن انحلالًا خلقيًّا شائنًا، وكم من مرة يحذرك أحد أبناء البلاد من الأمراض السرية التي تكاد تَفتِك بهنَّ جميعًا.
والريفيَّات يعملن في الحقول مع الرجال، وملابسهن بسيطة في جمال وحُسنِ ذَوق، يبدو في كثرة التطريز وزَهاء الألوان، وكل نسائهم ماهرات في أشغال الإبرة التي تُعدُّ أحسَنَها في الدنيا، والغذاء القومي لديهن من الذرة، ويسمى «مامالجا»، وهو يَحكي «العصيدة» عندنا، وأحب الشرب الجِعَة التي تُستعمَل لدرجة الإدمان.
ومن عجبٍ ما علمتُه أن فتيات رومانيا يَخرجن في بعض الأعياد إلى جبلٍ مُعين، يعرضن فيه أنفُسَهن على الراغبين في الزواج، والأزواج يَفِدون مع آبائهم لاختيار زوجاتهم. وثم عادة أخرى غريبة، أن الزوج يركب حِصانًا وبيده علَم وحوله أصدقاؤه راكبين، وكلهم يتربَّصون للزوجة كي ينقَضُّوا عليها ويحملوها إلى بيتها الجديد، ولتلك العادة بقية في المجر، وحتى في ريف إنجلترا يحمل الزوجُ زوجته ويتخطَّى بها الباب.
البلقان
وشتَّان بين جمال الرومانيَّات ونظافتهن وبين نساء البلغار واليوغسلاف رغم تجاورهن، فهؤلاء أميَل إلى القذارة، وأمعن في الفقر والسذاجة، ولا تَزين وجوهَهن تلك النضارة ولا ذاك الابتسام الروماني.
ومن عادات السلاف الغريبة أن يُعلِّقوا دمية على النافذة من الداخل ليراها المارة، فتدلَّهم على وجود آنسة ترغب في الزواج، كذلك يعلق الجميع سنابل القمح على المنازل، فإن سُرقت عُدَّ ذلك فألًا بقرب زواجها.
وفي ألبانيا لا تُقام حفلة الزواج إلا بعد أن تَحمل الزوجة طفلًا، ويُعدُّ الألبانيُّون من أكثر الشعوب أخذًا بالثأر، والنساء هناك مُعفَوْن من ذلك. على أن أغرب تقاليدهم أن النساء لهن الحق في أن يُصبِحن رجالًا إن أقسمَت السيدة أن تظل أعزب، وعندئذٍ تلبس ملابس الرجال وتحلق رأسها وتحمل السلاح. وإذا عقب امرؤ بناتٍ ولم يُعقب ذكورًا صحَّ له أن يختار إحداهُنَّ لتكون رجلًا، وعند موت الأب تصبح رئيسةَ العائلة، ولا يُسمَح لأمثال هؤلاء أن يَعودوا إلى الأنوثة ثانيةً، وإن حدث وحملَت إحداهن سفاحًا قُتِلت هي وطفلها وأبو الطفل إن عُرِف، ومثل هذه العادة تأخذ بثأر العائلة، وكأنها أحد رجالها البواسل.
وفي مقدونيا تُقام سوق للزواج، حيث يقف الفتيات ويُقبِل الشبان لفحصهن، ويختار كلٌّ منهم الغادةَ التي تَروقه زوجةً له.
المجر
تلك هي بودابست التي قبل عنها: بأن كل بنجو (شلن) من نقودها يتردد في الليلة الواحدة بين اثنَي عشر جيبًا، وعلى الرغم من ذلك لا يُنفَق بنجو واحد من هاتيك إلا على النساء.
أذكر مرة وأنا أجلس مع زميلي … المدرس بكلية الهندسة في متنزه البرلمان في بودابست أن تقدمَتْ إلينا فتاة حسناء من آيات الجمال المجري، كانت مشغولة بغَزْل بعض شباك الدنتلَّا، وأخذَت تَعرض علينا عملها الفنيَّ وتسألنا في رِقة عن الساعة. وكانت هذه تَعِلَّة للاسترسال في الحديث بالألمانية — وهي اللغة التي تلي لغةَ البلاد أهمية، ويكاد يُجيدها الجميعُ هناك — ولم أكن أفهمها، فكان صديقي يتولَّى الرد والترجمة. وقد علمَتْ منزلنا من الفندق، وما كان أشدَّ دهشتنا حين ألفَيْناها تنزل غرفة مجاورة لنا في نفس المنزل، وقد تركَت منزلها على الجانب الآخر للدانوب لِتُمضي «وقتًا سعيدًا في جوارنا»، هنا أخذتُ أتهرَّب أنا من الحديث معها بحُجة جهلي بلغتها، على أنها كانت تعرف عشرين كلمة إنجليزية محرَّفة كانت تحاول التفاهُم بها معي، وكان زميلي يُكثر من المزاح والحديث بالألمانية معها وهي تنصرف عنه، فخشيتُ أن أكون أنا سببًا في التنغيص عليه، فآثرتُ أن أهرب إلى رحلة فردية استغرقت طيلةَ النهار بعيدًا عن البلدة، وما كِدتُ أصل غرفتي مساءً حتى ألفَيتُها في انتظاري وهي على أحرَّ مِن الجمر، وأخيرًا وبعد لأْيٍ غلبَتْها الصراحةُ فقالت لزميلي: أنا لا أستظرفك، فابتعد عنَّا ودَعْنا وحيدَين. فكاد يُصعَق صاحبي، أما أنا فقد خيَّبتُ رجاءها فيَّ بمحاولتي الانصراف عنها، ولمَّا لم يُجدِ ذلك اقترحتُ على صديقي أن نُعجِّل بالسفر خِلسة، وقد تمَّ ذلك. وهكذا حققَت هذه الآنسة ما نعرفه عن المجريَّات من فرط الرشاقة والجمال والصراحة، إلى السذاجة والميل مع الهوى.
النمسا
لا تزال تبدو فيِينَّا في روعة وجلال رغم ما تعاقَب عليها من حادثات؛ فأنت تلمس فيها أثر الماضي المجيد يومَ كانت منشَأ المدينة الجرمانية كلها ومقر الأباطرة العِظام، هذا إلى موقعها الجميل على الدانوب، وتمتُّعِها بالشمس والدفء والمناظر الجبلية الناضرة حولها، حتى إنها لتفوق في ذلك برلين نفسَها. فليس بعجيب إذًا أن بدا نساؤها في رشاقة وحلاوة تفوق الحدَّ وتَستهوي من العقول الهادئَ الرزين؛ فهنَّ خلاصةٌ من أجناس عدَّة تموج بهم البلدة منذ القِدَم؛ المجر، والتشك، والكروات، والبُسنيُّون، والبولنديُّون، والروثنيُّون، والصقالبة، والطَّلْيان، هذا إلى مختلِف المذاهب والأديان.
قُم بجولة حول الرنج أجمل شوارع أوروبا، أو البراتر في غاباته المقفلة، وأنت لن تزهد المقام هناك أبدًا، والعجيب أن فتَياتها قد تحمَّلن صدمة الحرب وما عقَّبَت من بؤسٍ وشقاء بقلوب مَرِحة، فبدل أن يبتئسن ويحزَنَّ كما فعل غيرهن من البلدان الأخرى، طرَحن التكلُّف ووجاهة الهندام، فظهَرن في بساطة مظهرهن الجديد أكثر جمالًا، ولم تفارقهنَّ تلك البسمات الساحرة ولا تلك النكات وذاك المرح النبيل، فهنَّ أقدر نساء العالم على تناسي الهم وتقبُّل صروف الدهر بثغورٍ باسمة ونفوسٍ مرحة، حتى صَعُبَ على الزائر أن يُميز بين فتاة في سن السابعةَ عشرة وبين زوجة متقدمة في السن؛ ذلك لأنهن يُحافِظن على نضارتهن، فتراهنَّ دائمًا في ميعة الشباب وفرط الجمال، سواءٌ في ذلك العاملاتُ والأميرات.
ويَدهشني من أولئك القوم عِنايتهن بأماكن النزهة لهم ولأبنائهم من إقامة الفنادق وتعبيد الطرق وتيسير سبل الاتصال وتوفير أسباب الراحة حتى فوق تلك الجبال النائية، وقد بلغ بهم غرامهم بالطبيعة أنهم لا ينفكُّون يرتحلون كلما أتاح لهم وقتُهم ذلك، والكل يرتدون ملابسَ الرحلات في شيء كبير من التقشُّف، ويحملون وراء ظهورهم جُعَبًا كبيرة وفي أيديهم العِصيَّ، وهم يتسابقون في الصعود والركض رجالًا ونساءً وأطفالًا، شيوخًا وشُبانًا، والإقبال عليه شائع بين الجميع. هذا والاختلاف إلى المتنزهات التي تملأ الميادين كلها مقدَّس لديهم حتى وقت الظهيرة، حين ترى الأطفال مع مربِّياتهم وأمهاتهم يمرحون في تلك الحدائق، وقد زُوِّد بعضها بالحمامات أُعدت للصغار، ويغلب أن توجد مقصورةٌ في الحديقة لأجهزة الاختبارات الجوية، وترى الكل حتى الصِّبْية والفتيات من الرَّعاع يترقَّبونها ويتفهَّمون منها حالة الجو المنتظرة. وتعجب إذ تعلم أن الإنجليز، وهم خير سكان الأرض استعمارًا منذ عهد الرومان، لا يَزال يَرمقهم الناس بشيءٍ من الجفاء، كذلك أهل بروسيا الذين سادوا جِهات ألمانيا الأخرى جميعًا؛ بفضل إرادتهم الحديدية، وحدَّة ذهنهم ونشاطهم، ومع ذلك فهم مَكْروهون من الدنيا بأكملها، ولكن النمساويِّين يُحبهم كلُّ مَن يحل أرضَهم برغم تراخيهم وفساد إدارتهم.
وأنت إذا انتقلتَ من برلين إلى فيِنَّا تركتَ النظام الآلي الدقيق إلى مكان ظريف جذاب، مَبدأ ساكِنيه: «افعل ما بدا لك.» فكأنك انتقلتَ من وجهٍ جاد مُقطَّب إلى وجه باسمٍ جذاب، فملابس السيدات تَخطف بصرك برُوائها، تزينها وجوهٌ مستبشِرة فاتنة، لا تحمل همًّا، ولا تأخذ أمرًا باهتمام، وعلاج ما يقع منهن من هفوات هز الأكتاف أو إلقاء النِّكات المرحة، وكلما هدَّدَهم أمرٌ جلَل قالوا: «ليكن ما يكون»؛ فإن ذلك أدعى لزيادة المرح والضحك، وقد كان لهذا أثره السيئ في فساد حُكامهم رغم المستوى الثقافي الممتاز في تلك البلاد. وهم غيرُ آبِهين للبؤس والشقاء الذي خلَّفَته الحربُ عندهم، فلم يَنقص مَيلهم للمرح، خصوصًا النساء، وكفى أن تُحصي فوق سَبعِمائة مقهًى كبير في فيِينَّا وحدها، هذا خلاف المقاهي الصغيرة لطبقة الفقراء، ويؤمها النساء أكثر من الرجال. وتَعْجب إذا علمتَ أنْ ليس في فيينَّا أزِقَّة قذرة أو أحياء فقيرة كالتي تراها حتى في لندن نفسها، والفضل في ذلك يرجع إلى النساء.
ألمانيا
لا تُعدُّ المرأة الألمانية من الجميلات على وجه العموم، فهي أقلُّ رشاقة من الباريسية، وخفَّة من النمساوية، ودلالًا من الأمريكية، لكنها لا شك تُفاخِر بطلاوتها ومَضائها وحُسن ثقتها في نفسها. حقًّا لقد قاسَت من مَساوئ مُعقِّبات الحرب طويلًا، ومرَّ عليها وقتٌ كان جُلُّ رجائها في الحياة قروشًا معدودة في اليوم تُقيم بها أوْدَها فحَسب، ولم تكن تحلم بزوج إلى آخر أيامها؛ لذلك كثرت العلاقات غيرُ المشروعة بين سائر طبقات الناس، ولم يستطع الشابُّ أن يفكر في احتمال مسئولية القيام بشئون عائلته مهما صغرت، لكن العهد النازي اليوم قد قضى على كل أولئك، وشجَّع الزواج المشروع بالمِنَح المالية، وكلما طُرِدَت طائفة من الفتيات المشتغِلات في المصانع، قُدِّم لهن أزواج عوضًا لذلك.
ويَرمي الباريسيَّاتُ الألمانيَّاتِ بأنهن خادماتُ بيوت فحسب، يُعوِزُهن حُسنُ الذوق في الهندام وخفة الروح، ويَسودهن عدمُ انسجام في السيقان، وثِقلٌ في الأرداف، واضطراب في تصفيف الشعر.
والألمانية شديدة الاقتصاد والتقتير، نظيفةٌ إلى حدٍّ كبير، تشتغل في الحقول من الصباح الباكر إلى المساء بدون انقطاع، إلى ذلك عملها المستمر المضني في المنزل؛ لذلك أضنى الشغل صحتها، فأسرعَت إلى الهرم، حتى قيل بأن مقتبَل العمر في ألمانيا ليس له وجود؛ فالمرأة هناك إمَا آنسة، أو امرأة عجوز، ويساعد على ذلك كثرةُ الذرية، فهي امرأة نتاج، لا تَكاد تُربِّي هذا الطفلَ حتى يَظهر حملٌ جديد.
وعند الزواج تُرسَل بطاقات الدعوة من ورق مُفضَّض، ويكثر الأحباب من دعوة العروسَين إلى حفلاتٍ عدة، يقوم فيها الخُطَباء مشيرين إلى ذِكْريات العروسَين، وتُقدَّم أكاليل الغار. وتُعِدُّ العروسُ ليلة الزفاف كعكةً كبيرة تُخبِّئ في داخلها حبة من فول أو بن، ومن عثرت عليها من الآنسات المدعوَّات بشَّرها ذلك بزواجها قُبيل انقضاء العام. وتُقام حفلة رقص كبيرة تصحبها الموسيقى والغناء، ويَخرج الفتياتُ حلقاتٍ إلى سطوح الجبال المجاورة في رقصٍ ومرح.
ولا يزال يَستنكر الرجال توظيفَ النساء خارج المنازل؛ فالسيدة عندهم ربة دارها فحَسْب، وفي الريف خادمةُ الحقل أيضًا، تحمل على ظهرها أثقالًا يَنوء بها غيرُها. ولا يختار الزوج زوجتَه لجمالها أو أخلاقها، بل لمقدار حبِّها المضني للعمل، واجتهادها داخلَ المنزل وخارجه؛ لذلك شُهِرَت الألمانية بالجِد واحتمال المشقَّات، والصبر والأمانة والادِّخار.
هذا، وإن انحلال الأخلاق الذي أعقب الحرب الكبرى ولم تَنجُ منه دولة أوروبية ليَبدو جليًّا في ألمانيا، وبخاصة في كولوني، ويَظهر أن الحالة زادت سوءًا بسبب الاحتلال الأجنبي زمنًا طويلًا، فالنساء هناك مُتبذِّلات إلى حدٍّ مُخجِل، لا يتورَّعْن عن أن يُمسِكْن بتلابيب المارَّة في غير حياء، وعجيبٌ أن تَجمع ألمانيا بين النقيضَين: عظَمة العمل، وتدهور الخلق هكذا؛ ولذلك ليس بعجيب أن نرى عُقلاء القوم ناقِمين على الحالة السياسية الحاضرة، ويرَون أن عصر الجمهورية أسوأ حالًا من سالِفِه؛ إذ سهَّل للناس سُبلَ الفساد، ومهَّد السبيل لتلك الإباحة الممقوتة، فكان الانحلالُ الخلقي. على أن تشديد النظم الحالية قد محَت من هذا شيئًا كثيرًا.
وممَّا تجب زيارته في ألمانيا: دار الجِعَة في ميونخ، أكبر مواطن البيرة وأقدمها في العالم، والجِعة من أكبر صادِرات بافاريا؛ فبناؤها القديم يتألف من أربعة طوابق في أبْهاء منسَّقة، وأقْبِية سُقُفها مزركَشة، وتُقام على عُمُد ضخمة. دخلتُ المكان فذُهلت لما رأيت من الجماهير الغفيرة من أبناء الشعب البافاري، كل فرد بيده جَرَّة من الصلصال تسَعُ نحو لِترَين، يتناولها من دولاب، ثم يقدمها لحارس الجِعَة يملؤها له فيحتسيها، ويُعيد الكَرَّة مثنى وثلاث ورباع، وترى البعض يَحتسيها واقفًا بجانب برميل كبير من الجِعة يضع كأسه عليه، ويغلب أن نرى ذلك في الدور الأسفل، وغالب مَن به مِن العامة، أما الأدوار العُليا فللطبقة الممتازة، وفيها تجد المقاعد والمناضد من خشبٍ ضخم منقوش، والمصابيح تتدلَّى في شكل دوائرَ مُتَّسعة ومزدوَجة الثريَّات، وضوضاءُ المكان لا تَخبو لحظةً واحدة، هنا حقًّا يأخذ المرء فكرةً صادقة عن الشعب البافاري، ومَبلغ غرامِه بالجعة وميله للمرح، وكم كنتُ مُغتبطًا وأنا جالس وسطَ القوم نساءً ورجالًا وأطفالًا، وأمامي الجرَّة التي لم أستطِع أن آتيَ على ثلثها، بينا كان بعض النساء وحتى الأطفال يتناولها في لمح البصر!
ويَنتشر مذهبُ العري انتشارًا كبيرًا في ألمانيا، حيث يَرمي مُعتنِقوه إلى الجمال وتحسين الأجسام، وتقويمِ الصحة بالمتاع الكامل بالشمس والهواء، وينقد الكثير هذا؛ لأنه مُنشِّط للميول الجنسية، باعثٌ على الفساد الخلقي، لكن أصحاب المذهب يَردون ذلك بالرجوع إلى أصل الإنسان يوم خُلِق، وبالكثير من الأمم الفطرية التي يَسير أهلها عرايا، ولا يَنجم عن ذلك فسادٌ ما، ويَعيبون على النساء سَيْرهن على البلاج نصفَ عاريات؛ إذ إن ذلك الغطاء الخفيف هو الذي يُثير الميول الجنسية حول ذاك الجزء المختبئ من الجسم، ولو تُرك عاريًا لما استرعى مِن الرجال شيئًا من هذا الاهتمام، هذا إلى أن الباعث الذي يَدفع الناسَ إلى الملابس هو حبُّ الظهور ليس غير؛ فالمرأة تَتيه بدَلالها في ملابسها الفاخرة، فتُغْري الرجال، أما جمال الأجسام العادية فغير فاتن ولا جذاب، فالملابس هي التي تَخدع الناس وتستهويهم، كذلك فإنَّ تعوُّد رؤية الأجساد عاريةً يُضعِف نزعة الشر والفساد، فضلًا عن أن ذلك يساعد الناس على العناية بتحسين أجسادهم؛ لأنها أصبحَت مكشوفة، وكما أن المرأة تحب ألَّا تَظهر إلا في أجمل هندامٍ لها، كذلك فهي لا ترغب إلا في الظهور بجسم معتدل جميل. وهل يُنكر أحدنا ما للعري من فضلٍ في نشر المساواة بين الناس؛ لأن الكل يظهر عاريًا، لا يحتمي في وجاهة من الهندام ترفعه فوق غيره درجات؟!
وفي كارلسباد كم يَروقك منظر القوم وهم يتزاحمون، كلٌّ يمسك بكوبه ويملؤه من الينبوع الذي وصفه له الطبيب! وهم يتناولون الماء جَرعةً جَرعة، ويمشون ذَهابًا وجَيئةً على اختلاف أجناسهم وأعمارهم. ويبلغ عددُ من يُمضي زمن الاستشفاء بها سبعين ألفًا، ومَن يزورها مِرارًا مائتي ألف، غالبهن من النساء؛ ولذلك ليس بعجيب أن ترى المتنزَّهات ودور الملاهي والأنزال ووسائل النعيم منتشرة، وقد عبَّد القومُ طرقًا متلوية خلال الرُّبى، طولها نحو ١٢٠ كيلومترًا، فالمناظر من حولها شِعرية ساحرة، تُغري الزائر بطول المقام ولو لم تكن به حاجةٌ للاستشفاء.
وفي بعضِ جهاتٍ من شيكوسلفاكيا تُعلِّق الفتاة عددًا من الأشرطة بقدر عددِ مَن خطَبوها ورفضَت يدهم، وكلما حملَت عددًا أكبر من تلك الأشرطة دلَّ على جمالها وكثرة الرغبة فيها.
وإني أذكر مرةً وأنا في أحد فنادق براهة عاصمة شيكوسلوفاكيا أن كنتُ أصعد السلم لأقصد غرفتي حوالي العاشرة مساءً، فألفَتَ نظري جسم لسيدة جميلة وقفَت تبتسم لي من وراء زجاج غرفتها الملاصقة لغرفتي والمُطِل على السلم، وكانت عارية تمامًا حتى عن ستار العورة، فغضَضتُ الطرْف وأسرعتُ إلى غرفتي، فعَجِلَت هي تستقبلني على الباب، فانصرفتُ إلى مكاني، وما كان أشدَّ دهشتي حين وفِدَتْ بشكلها هذا، وفتحَت باب غرفتي ودخلت تُحيِّيني، وكنتُ قد خلعتُ ملابسي الخارجية كلها، فوقفتُ حائرًا، وأخذَت هي تُجاذبني الحديث في غير كُلفة وقد أرخَتْ على جسدها العاري شالًا خفيفًا، وقالت بأنها ريفية وفدت لتتمتَّع هنا أيامًا، ولا مانع عندها أن أُرافقها مدةَ إقامتها، فأجبتُها إلى طلبها واعتذرتُ هذه الليلة بتعبي، على أن يكون ذلك في ضُحى الغد، وكان ذلك سببًا في أن أعتزم السفر هروبًا منها في باكورة الصباح، وما وافت السادسة صباحًا والناس نيام حتى كان القطار ينهب الأرض بي إلى بلدٍ آخر!!
هولندة
حقًّا، لقد وجد الجنس اللطيف في هولندة جنة الله في الأرض؛ فنفوذ المرأة مُطلَق في دائرة اختصاصها وأعمالها التي تتعدَّد مَناحيها، «فبِنت البحر» — وهو اللقَب الذي تُوسَم به تلك البلاد — فخورةٌ ببناتها، فالهولندية لم تُفسِدها الأنانية ولا الدلال كما فُعل ذلك بالأمريكية، ولم تُصبِح أسيرةَ رشاقتها كالإسبانية والإيطالية، ولم يُكدَّها العمل مع الرجال في الحقول كالفرنسية، ولم تَقتصر على أن تكون أنيسةَ الرجل كالروسية، فالهولندية مُواطِنة عاملة على رفع شأن بلادها، وهي وفيَّة لزوجها وصديقةٌ لأبنائها. وهل نَنسى ما فعلَتْه «كيناوهاسيلاير» حين وقفَت على رأس ثلاثمائة هولندية في وجوه المغيرين من الإسبان في إحدى المواقع الحاسمة؟! وبذلك أنقذَت البلاد وأكسبَت النساء هناك فخرَ البسالة والوطنية، فهي لا تزال عاشقة للحرية. ولا شك أنَّ لِعُدوان البحر على بلادهم أكبرَ الأثر في تلك الصفات، فنظرةٌ واحدة إلى السدود التي أقاموها في وجه المحيط تؤيد تلك البسالة النادرة، وهنَّ في كل لحظة مُتأهِّبات لإجابة النداء إذا ما سَمِعن الصيحة «هلمُّوا هلمُّوا» تتجاوب بسبب إغارة البحر على جزءٍ من تلك السدود. وتَعْجب لتعدُّد السِّحَن في تلك البلاد، خصوصًا بين أهل الشمال والجنوب، فبين هؤلاء كَثر اختلاطُ النزلاء بهم؛ لقربهم من مصبِّ نهر الرين، أهم طريق طبيعي إلى وسط أوروبا وشرقِها. أما أهل الشمال — وجلُّهم من السمَّاكين — فقد نجَوْا من هذا الاختلاط، لكن ذلك قد أنقص من جمال وجوههن وتناسُب أجسادهن. ومن أجل هؤلاء وصَف السائحون أهلَ هولندة بأن الرجال منهم تَنقُصهم السِّيقان الممشوقة، والنساء يُعْوِزهن الخَصْر الأهيَف، والفتيات يَفتقِرن إلى جمال العرقوبَيْن والقدَمَين.
والهولندي سيِّئ الظن بالغير، شحيحٌ في معاملاته المالية ومُساوماته؛ ولذلك كان أبطأَ مِن غيره في المغامرة في المشروعات الاقتصادية، ويُؤخَذ عليه شيءٌ من قلة الذَّوق في الحديث؛ فهو صادق صريح، لكن لحدِّ الإيلام، رذيلتُه الواضحة إدمانه المسْكِرات، أما نظافةُ مسكنه فخياليَّة، رغم إهماله في نظافة هِنْدامه، حتى إنك لتَعافُ النظر لبعض المارَّة، فإذا ما دخَلتَ منزل أحدهم هالَكَ بريقُ جوانبه ولمعانُ أثاثه وشدَّةُ التأنُّق في تنسيقه إلى حد المضايقة. ويَروقك هِندامُ القوم العجيب؛ فالرجال يَلبسون شِبْه «سروال» فضفاض يَنتهي عند العرقوبَين، «وجاكتَّة» محبوكة على الجسم، ومِنديلًا معقودًا حول الرقبة، وتتدلَّى منه ذُؤابة على الصدر كمِنديل «الكشافة»، أما النساء فيَرتدين على الرأس قَلَنْسُوةً بيضاء ذات جناحَين جانبيَّين مُشرِفَين، وجلابيب محبوكة طويلة تنفتح من أسفلها، وتلبس عليها «فوط» ألوانها زاهية. وأحذية الجميع من خشب، تَحكي «مركوب فلاحي مصر»، طرَفها مُقوَّس إلى أعلى، ويُقال إنها أطولُ أحذيةٍ في العالم. وأحب وسائل الرياضة لديهم: السباحة، وقيادة الزَّوارق، وكذلك ركوب الدراجات التي أضحَت مَطيَّتَهم المحبوبة في انتقالاتهم حتى بين القُرى، ولقد بلغ عدد الدرَّاجات في أمستردام نصف المليون، مع أن مجموع سكانها سَبعُمائة ألف.
وكان يَجتذب أنظارَنا في بعض الحقول العنايةُ بفِلاحة البساتين، وتربية الزهور التي كانت تَبْدو أمامنا وهي تَكسو الأراضيَ في صفوفٍ متوازية إلى مدِّ البصر، وفي ألوان جذابة كأنها الطَّنافس الزاهية، وذلك يدل على مبلغ غَرامهم باقتناء الزهور.
وتَعُدُّ الهولنديةُ النحافةَ — التي يَعتبرها نساءُ باريس ولندن ونيويورك رشاقةً — عارًا ودليلًا على العوز وسوء التغذية؛ لذلك تَبدو بَضَّة منتفِخةَ الوجه ومُنبعِجة الجسم، وكيف لا تكون كذلك وهي تتناول خمسَ أكلات من طعامٍ شهي دَسِم لذيذ، كثير البهار والأفاويه، ومهما كانت مرتبة الفتاة الاجتماعيةُ وجب أن تتعلَّم على يد أمها فنونَ الطبخ وتدبير المنزل والعناية بالأطفال فيه؛ لأنها سرعان ما تُصبح ربَّة دارها، وبفضل عنايتها هذه زاد النسل وقلَّتْ نسبة الوفَيَات من الأطفال هناك، هذا فضلًا عن إلمامهنَّ الشديد بأمور العالم أجمع؛ بسبب ما أكسبَهنَّ السفرُ الطويل إلى ممتلكاتهم النائية في جزائر الهند الشرقية، ولا تزال المرأةُ هناك تقوم بقسط عظيم من العمل في الصيد والزراعة وفِلاحة البساتين وتربية الزهور وإعداد الألبان، وبفضل رجعيَّتِهم حافَظوا على كثيرٍ من عاداتهم القديمة، أذكر مِن بينها: خروج الفتيات اللائي في سن الزواج لِيُحاربن الشُّبان بالوسائد في مَواسمَ معيَّنة، وخلال الطعن بتلك الوسائد تتوثَّق العلاقات وتتم صفقات الزواج.
دنمركة
قمتُ من برلين إلى كوبنهاجن حاضرة دنمركة، التي تغصُّ بما لا يقل عن ثلاثة أرباع المليون من أهل دنمركة البالغ عديدهم ثلاثة ملايين؛ ولذلك فإنها جمعت كلَّ مظاهر العظمة في البلاد، وما عداها مِن المدن قُرًى لا تُذكَر إلى جانبها، والبحر يُطوِّق المدينة بألسُن لا حصر لها، فأينما سِرت في استقامة لاقيتَ شُعبة من البحر بها البواخر والزوارق والمراسي، وصائدات السمك يُنظِّفنه ويُلقين بأحشائه في اليَمِّ، ويَعرِضنه في زوارقهنَّ للبيع.
والنساء هناك يُلاحَظ في وجوههن بعضُ الاختلاف عن الألمان والنمساويِّين، خصوصًا في شدة حُمرتهن وصفاء زُرقة عيونهنَّ، وعَرض أنوفهنَّ قليلًا، وهُن دون سابِقيهنَّ جمالًا وجاذبيَّة، على أنهن مَرِحات نشيطاتٌ نظيفات، وتَراهن يستخدمن الدراجات مَطيَّة لهن. وكذلك الصِّبية والشُّبان والشيوخ، وخير ما تتجلَّى نظافتهن في هِنْدامهنَّ الأنيق ومأكلهن، ولقد عُدَّ طُهاتهنَّ أنظفَ طُهاة أوروبا وأمهرهنَّ، وإن لم يَرُقني الغذاء هناك كثيرًا؛ فكله مسلوق، ويكثر لحم الخنزير فيه. والدنمركيُّون كثيرو الأكل، فهم يَفوقون في ذلك حتى أهل إسكَنْدِناوَة؛ إذ يتناولون بين أربع أكلات ثقيلة وستٍّ في اليوم، ولا تَخْلو أكلة من طعامهم المغذِّي المحبوب الذي يُسمونه «سمور برود»، ومعناه الخبز الملطَّخ، وهو مَزيج من الخبز والزُّبد والبيض، وقطع الدجاج والسمك ولحم الضَّأن، وبعض الخُضَر، كل ذلك يقدم إليك مختلطًا «كالساندوتش»، وفي المطاعم يُصدَّر به الأكل، فيَشعر المرء بامتلاءٍ عند تناوله قبل أن تُقدَّم له الأطعمة الرئيسية، وترى البائعاتِ يتجوَّلن في الطرق بعربات يدوية صغيرة يُجهِّزنه لك على الفور.
وكم كان يَدهَشني وأنا أجلس إلى مائدة الطعام في النزل منظرُ القوم يلتهمون الطعام الْتِهامًا وبسرعة عجيبة، رغم كثرة الكمِّية التي تُقدَّم إليهم من البطاطس المسلوق واللحوم والطعام القومي السالف، وأنواع من الحلوى تَحكي العجين يُمزَج باللبن والعسل تَعافها النفوس.
وقد بلغ من ديموقراطية الناس هناك أن الملك أو الملكة، يَخرج الواحدُ منهما ويمشي على رِجلَيه أو يَمتطي جوادَه كل يوم، وهو يَجوب أطراف المدينة في غير حُراس، يُحيِّي الناس وهم يُحيُّونه وكأنه واحدٌ منهم، ولقد رأيتُه مِرارًا وهو يَرفع قُبَّعته تحية لأقلِّ الناس مقامًا. هذا ولقد أبطلَت دنمركة عادةَ تتويج الملوك منذ عهد الملك الحالي؛ لأن الناس رأَوا أن حفلات التتويج متكلَّفة، فضلًا عن نفَقاتها الباهظة، وللناس كاملُ الحرية أن يتَريَّضوا في حدائق القصر على مَسمعٍ من الملك، والقصور كلُّها يَزورها الجميع في مواقيتَ معيَّنة، كل ذلك يؤيد ما هو معروف من أن أهل دنمركة هم المثل الأعلى للديموقراطية، فالرجل منهم يَرفع قبعته احترامًا لأحقر الناس، حتى للخادم، وقيمة المرء عندهم بعمَلِه فقط، وفوارقُ الطبقات معدومة، والميزات والحقوق الموروثة لا أثر لها عندهم. وقد خلَّف ذلك أثرَه في التسامُح الديني عندهم وفي إباحة الطلاق للجميع، على أن يكون ذلك في السرِّ لا في العلن؛ ولذلك كَثُر الأبناء غير الشرعيِّين بينهم، والقوم لا يَعُدُّون ذلك عيبًا، بل أمرًا طبيعيًّا لا عقاب عليه، وفي خُلُقهم التسامُح العام والمساواة المطلَقة، لا يقع بينهم شِجار قط، ولا يتعرض أحدُهم بالإهانة للغير، إن حدث ذلك كان عقابُ القانون قاسيًا.
ولقد خلَّفَ الغذاء النقيُّ الصحي خيرَ أثر في أجسام النساء هناك. ودنمركة أحسنُ دول العالم طعامًا وعناية برقابته، والزوجان هناك مِن أسعد الناس؛ ذلك لأن الدنمركي معروف بروح المرح والفكاهة، يَبْسم لكل شيء، وتُعْنى الزوجة بجمال وجهِها وقوة جسمها. والدنمركية كالعربية كريمةٌ جدًّا — وإن خالفَتْها في أنها غيرُ متديِّنة — يتجلَّى هذا الكرم في فتح أبوابها للأضياف مهما كثُر عددهم، فمثلًا ترى البيتَ عند الإنجليزي بمثابة حِصن له دون غيره، أما البيت عند الدنمركي فمضْيَفة تُرحِّب بكل طارق. والدنمركي من أرقى شعوب العالم ثقافة، وقلَّما تجد سيدةً لا تُجيد لُغتَين أجنبيَّتَين، وهم أشد أهل الأرض تقديسًا للمساواة والديموقراطية، حتى إن الخدم بالمعنى المعروف عندنا ليس لهم وجودٌ هناك؛ فالسيدة والخادمات يَجلسن إلى مائدة واحدة، والقانون يُبيح الطلاق هناك بأوسعِ مَعانيه، ولا يضَع في طريقه موانعَ قط، على أن الطلاق يتمُّ سرًّا، فلا يَكشف أحد الزوجَين عن مَساوئ الآخر، بل ينفصل الاثنان دون أن تَعرف مَن المتسبب في ذلك. ونسبة المواليد غيرِ الشرعيِّين هناك كبيرة، ومع ذلك فإن الدعارة هناك نادرة، فهم في المسائل الجنسية يُفاخِرون بأنهم لا يتكلَّفون شيئًا، بل يأتون الأمر الطبيعيَّ في غير خَفاءٍ ولا مُوارَبة.
ولعلَّ دنمركة من الدول النادرة التي تتَساوى فيها المرأة في المستوى الثقافي مع الرجل تمامًا في الناحيَتَين العِلمية والعمَلية على حدٍّ سواء، وحتى الأثرياء منهنَّ لا يجدن عارًا في العمل للكسب مع الرجال، ولهؤلاء العاملات أنديةٌ ونقابات عِدَّة قرَّبَت بين نساء الطبقتَين الراقية والفقيرة، فتحسَّن بفضل ذلك مركزُ المرأة على وجه العموم. أذكر على سبيل المثال: «نادي المطالعة للنساء» في كوبنهاجن، وقد رأيتُه يحتوي على نحوِ أربعين ألف مجلَّد، وتُنظَّم به المحاضرات وتُقام الحفلات، وقيمة الاشتراك لا تَزيد على ستين قرشًا في العام، وفي بعض الأندية يُقدَّم الطعام نظيرَ قِرشَين ونصفٍ للأَكْلة. «وهناك النادي التِّجاري للنساء» للاجتماع والادِّخار، ويَعمل على مساعدة النساء ماليًّا إذا ما كَبِرن أو أصابَهن المرض.
ويُتَّهَم النساء في دنمركة بالإباحة والمخالطة، والانهماك في الخمر والميسر، على أن ذلك آخِذٌ في النقصان اليوم، وأظهَرُ ما تبدو إباحتُهن في إسرافهن في التدخين جميعًا. كذلك فهُنَّ مَرِحات لا يعبَأْن بالحياة الجدِّية، بل يأخذن كلَّ شيء في سهولة وعدم اكتراث. ولقد خفَّفَت الآلات الحديثةُ في صناعة استخراج الألبان مِن أعبائهن، فتفرَّغْن بعضَ الشيء للعمل في المنازل وخدمتها، وهُنَّ كِرام جدًّا، فإذا ما حلَّ الضيف مُدَّ السِّماط بصنوفٍ عدَّةٍ من الطعام. وتقديم القهوة مع الكعك أمرٌ لازم كلما حلَّ طارق، وقد يُقدَّم اﻟ«سمر برود»، ويُكرَّر ذلك عند الانصراف حين تتمسَّك ربة البيت أن يتَناول الضيوف وجبة خفيفة، ولا بد من ختام الطعام بالقهوة التي يظَلُّ قِدرها على النار دائمًا.
وحفلات الزواج تدوم يومَين كامِلَين، أما الجنائز فيوم واحد يَكثر الأكل فيه، ويَبقى النعش وسطَ البيت ومِن حوله نساءُ الأقارب في ملابسَ سوداء، ويُمسِكْن بمناديلهنَّ وأناجيلهنَّ، وكلما دخل ضيفٌ رُفع له القناع من على وجه الميت ليراه. وعند ميلاد طفل يتقدم نساء الجيران مُهنِّئين، ويُقدِّمن الحلوى تُعجَن بالقهوة، ثم تُنقل الأم إلى الكنيسة وتَدخل الهيكل لِيُبارِكَها القسيس هي وطفلها.
إسكندناوة
موطن «الفيكنج» الذين غالَبوا البحار وطوَّفوا بأمريكا قبل أن يَعرف العالم عن كشفها بمئات السنين، ومرُّوا بشواطئ أفريقيا والأراضي المقدَّسة، ومِن سَلائلهم «النورمان» الذين غزَوْا إنجلترا. فهل تعجب للنساء اللاتي أنجَبْن هؤلاء، واللاتي يُقِمن في بلاد السويد والنرويج ودنمركة اليوم؟ ولعلَّ النرويج أقرَبُها إلى هذا الجنس؛ لأنها لم تكَدْ تتأثر بالمدنيَّة الحديثة، تلك البلاد التي تُرى فيها شمسٌ منتصفَ الليل التي لا تَغرب تحت الأفق أبدًا في الصيف، أما في الشتاء فيُضيء ثلوجَها الوضَّاءة ضوءُ القمر الشاحب ليس غير. وأخصُّ عمل لهم صيد السمك، والنسوة هُنَّ اللاتي يَقُمن بالقسط الأكبر من رعايته وإعداده، فيُقِمن شهورًا على الشاطئ يَعملن بجِد، وكم يَروقُك مظهر النساء تَحمِلهن الزَّوارِق من الفيوردات يومَ الأحد لِيَقصدوا الكنائسَ بأزيائهنَّ الجميلة العجيبة! وما أبدعَ رِداء العروس يوم الزفاف يُثقِله الودَعُ والفِضة، يُوشِّيه الحريرُ الثقيل، ويغطي الرأسَ تاجٌ غني بالجواهر! وفي الصيف يَختص النساء برعاية السائمة من خيلٍ وغنم، ويقوم الرجال بحَصْد الغِلال من الحقول. وبلاد إسكندناوة لا شك بلادُ الأجسام القوية السليمة؛ لأنهم لا يَثْنون عن تَعهُّدها بالألعاب الرياضية داخلَ المنازل وخارِجَها، هذا فضلًا عن أنهم جميعًا يُجيدون السباحة، وكثيرًا ما كنتُ أرى النساء والرجال على شواطئ الفيوردات عَرايا تمامًا يَلْهون ويمرحون، ولا عيب عندهم في ذلك، ويجوز للشابِّ أن يستحم مع الفتاة وهما عاريان تمامًا، وتلك مقدِّمة الخِطْبة بينهما، هذا ويكاد يملك كلُّ واحد منهم زَورقه، خصوصًا أهل السويد؛ لأنهم أوفرُ ثراءً وأقربُ إلى إسراف الأمريكان منهم إلى اقتصاد الفرَنسيِّين.
ولعلَّ أصفى ما يكون الجنس النوردي في تلك البلاد، وهم شُعبة من القُوط اتخَذوا القرصنة عملًا لهم، ورَكِبوا البحر ونزَلوا جزائره وأجوانه، ثم استوطَنوا بلاد إسكندناوة النائية، فلم يَمتزجوا بغيرهم مثل أقربائهم من الإنجليز والألمان والهولنديِّين والدنمركيِّين، وهم لا يَزالون يمتازون بالشَّعر الأصفر والعيون الزُّرق والقَوام الشامخ. وأهل السويد أغنى من جيرانهم سكَّان النرويج؛ ولذلك كانوا أميَلَ إلى الأرستقراطية، وبدَتْ فوارقُ الطبقات بينهم واضحة، على عكس النرويجيين المعروفين بحبهم للديمقراطية واحترام النفس، حتى إن الخادم والحُوذيَّ لَيُخاطبك وكأنه مِن أندادك. ومن أهمِّ ما يَسترعي نظر السائح في برجن سوق السمك الذي يُعقَد يوميًّا في الصباح في ميدان فسيح على الميناء، يُعرَض به مُختلِف السمك على ألواح في منظر قذر منفِّر، والروائح الكريهة تتصاعد، وتسيل الدماء والأوساخ على الأرض بشكلٍ تَعافُه الأعيُن. والقومُ — وبخاصة السيدات من حوله — يتَزاحمون ولا تَخْبو ضَوضاؤهن، وغالبهن في ثياب خَلِقة رثَّة، أما أهل المدينة فمَقْشورو الوجوه، زُرق العيون، ضِخام الأجسام يكثر العمالقة بينهم، وتلك المميزات فيهم أظهَرُ منها في زملائهم من أهل السويد، وهم ميَّالون للمُسْكِرات، يؤيد ذلك كثرةُ السكارى الذين يَجوبون الطرق ليلًا نساءً ورجالًا.
أيسلندة
أدَّى بي السير في الأطراف القاصية من المدينة إلى الفوَّارت التي يَستخدم القومُ ماءها الحارَّ في غَسل ملابسهم، وقد أُقيمت حولَ العيون التي لا تُحصى شباكُ الحديد كي تَقيَ الغاسلات أن يَهْوينَ إليها، والبخار يتصاعد من جميع جوانبها إلى عَنان السماء، وتُسمَّى تلك الجهة في عُرفهم: «لوجارنار»، ولكثرة ما يَصعد من بخارها بدأ القوم يُعِدون الأنابيب الضخمة لنقل البخار إلى المدينة، واستخدامه في تدفئة المساكن، وقد بلَغ من استفادة بعض السكان من تلك الحرارة أنهم يَطْهون لحمهم، ويُنضجون خبزهم بواسطتها، فتأتي ربَّة الدار وتضع اللحم أو العجين في إناءٍ، ثم يُدفَن أسفله في الأرض، فلا تلبث الحرارةُ أن تؤتيَ أثرَها فيه وتنال منه كثيرًا، فينضج ويُعدُّ للأكل. ويغلب أن تكون الزوجة في أيسلندة، وكذلك في النرويج أكبرَ سنًّا من الزوج، وبيوت الريف تُبنى من الطين والحشائش والخشب، ويُقام البيت في حجرات منفصلة تصل ما بينها ممرَّات ضيقة، وتُصَفُّ الفرش قرب الجدران لتُستخدم للجلوس نهارًا وللنوم ليلًا، فينام اثنان على كل جانب؛ الرجال هنا والنساء هناك، ولِرَب البيت وزوجته ركنٌ يفصله ستار عن باقي حجرة النوم. ونسبة التعليم بين نساء الريف قليلة، خصوصًا وأن التعليم هناك لا يكون في مدارسَ مُقامة بقدرِ ما يعتمد على المدرِّسين المتجولين.
إسبانيا
لعلَّ أخص ما يميز الإسبانيةَ على سائر نساء العالم أنوثتُها المطلقة الكاملة؛ فهي أنثى ليس غير، وإن عَدَّ ذلك نساءُ البلاد الأخرى نقصًا وعيبًا، فالإسبانية تُعرَف بطَراوة تقاطيعها، وسحر عيونها الدُّعْج، وانسجام قَوامها، ورقَّة دلالها، وجمال بساطتها، فهي أبدًا في صحة جيدة؛ بفضل جوِّ بلادها، وعدم احتمالها لمسئوليَّات جسيمة. وهي أمٌّ مرحة، تأخذك برشاقة مِشيتها وبديع قدَمَيها وشفيف بشرتها الخمرية، التي تنمُّ عن حُمرة الدم الجذاب. ويدَّعي البعض بأن شطرًا كبيرًا من جمال الإسبانيَّات يَرجع إلى الأزياء القومية البديعة؛ فكِلا «الباسكينيا والمانتيا» تُظهِر السيدة العادية جميلة، والجميلةَ ساحرة؛ لذلك تَزيد نسبة الجمال في الريف اليومَ عنها في المدن؛ لأن الأزياء الباريسية أخذَت في الانتشار في المدن. وأجمل ما يُرى النساء هناك في حفلات صراع الثيران، حين تَبدو أجملُ الأزياء. وترى المانتيا من الدنتلَّا البيضاء تَعلو مُشرِفةً على أمشاطٍ عالية، تزينها زهرة جميلة، وترى الأيديَ وهي تحمل المراوح التي لا تَفتأ تنتشر وتنقبض، وكأنها الفَراش المتنقِّل.
وأول ما حللتُ من أرض إسبانيا ميناء ملجا، وفي طرقها الرئيسية ذات الحركة الصاخبة والمتاجر والمقاهي العدة، لا تكاد تشقُّ طريقَك وسط الجماهير التي تتبختَر ذَهابًا ورَجْعة، وتظل كذلك إلى ساعةٍ متأخرة من الليل. على أن البلدة لا تَروق السائحَ كثيرًا، وخير ما يُعطي الزائرَ فكرة عن أهلها أن يَرْكن إلى مقهًى في الشارع الرئيسي ليُشاهد المارَّة ومُداعباتهم بعضِهم لبعض عند الأصيل.
وصلتُ غَرْناطة، وقمت مبكرًا قصد زيارة «قصر الحمراء»، فلم أكَد أرى حانوتًا قد فُتح، فخِلتُ أنه يوم الأحد، على أني عَلمتُ أن القوم لا يبدَءون عملهم إلا بعد التاسعة صباحًا، وذلك من أثر إسرافهم في السهر، فهم يَلبثون في الطرقات نساءً ورجالًا إلى ساعةٍ متأخرة من الليل كل يوم، أخذت الأتوبيس إلى «الهمبرا»، وسُمِّي كذلك نسبةً إلى بني الأحمر، وهناك قضيت يومًا كاملًا بين آياته الفنِّية وذكرياته الخالدة، وقد استرحتُ طويلًا في مقصورة «الحريم» وقاعة بني سراج، وكانوا مِن نُبلاء غرناطة منهم القضاة والوزراء، ويقولون إن بنت أحدِ ملوك بني الأحمر أحبَّتْ أحد بَني سراج، وكانا يتَبادلان لوعة الحب في جوانب قصر الصيف تحت شجرة صَنَوْبر رأيتُها قائمة إلى اليوم، وتُسمَّى شجرة الملكة من أجلها، ولَمَّا علم السلطان بذلك غضب على بني سراج، واستقدمَهم وضرب أعناقهم في تلك القاعة، ويقول الإسبان إن أرواحهم ما زالت تُرفرف وتصرخ في وحشة الليل لِما أصابهم من ظلم. وقيل إن مصرعهم كان على يد أبي عبد الله، آخر ملوك بني الأحمر؛ لأنهم مالَئوا الفرنجة سرًّا. وبتلك القاعة خبايا وتَقوُّسات عليها خمسةُ آلاف شكل، كل واحد يُغاير الآخر. والحمَّام الرائع يتقدمه فِناء الراحة، كان يجلس الخليفة فيه، وفي شُرفاته المطلَّة كان الغواني يَعزفن الموسيقى قبل الاستحمام وبعده، ثم يتبعه من داخله مكان التزيُّن (التواليت). ثم داخل كل أولئك: الحمام بأحواضه الثلاثة من الرخام، حوض الرجال، وحوض السيدات، وحوض الأطفال، وسُقوفها أقْبِية تتخلَّلها كُوًى من زجاج.
قُمت بجولة في قرطبة ليلًا، فهالَني تهافُت القوم على دُور السينما والمقاهي، وعلى الإسراف في الشرب والتدخين، حتى الفتيات الصغار، لا بل والأطفال. أما المغازلة فذاك أمر طبيعي شائع بين الجميع، فكأنهم فَهِموا في الحياة معنًى غيرَ الذي نفهمه؛ هي أن يقضي المرءُ ساعات عمله، وبعدها يكون المجون ومُخاصرة الغانيات واللهو والسهر، فما الحياة لدَيهم إلا متاع، وعلى الإنسان أن يأخذ بنصيبٍ كبيرٍ منها ما استطاع. وحبهم للمقاهي فائق الحد، فبَعد كل وجبةٍ للطعام يذهبون نساءً ورجالًا، ويجلسون لشرب القهوة، وفي المساء يطول بهم الجلوس على موائد السُّكْر إلى ساعاتٍ متأخرة من الليل؛ لذلك لا تبدأ أعمالهم نهارًا إلا بعد التاسعة أو العاشرة، حتى في مصالح الدولة. وهم يؤخِّرون وجبات الطعام، فالغَداء لا يكون قبل الثانية، والعَشاء بعد التاسعة، وجلُّهم يشرب الدخان، وهو ليس «مفرومًا» كما نراه عندنا، بل مُهشَّمًا، ويلفُّونه بأيديهم جميعًا.
ويكرر الإسبان عن حكومتهم القصة الآتية: طلب أحدُ ملوك الإسبان إلى آلهة السماء أن تمنح بلاده ضوء الشمس، فأُجيب سؤله، ثم طلب للنساء الإفراط في الجمال، وللرجال حُسن الأدب، فمُنح ذلك أيضًا، فعاد وطلب أن تُوهَب البلاد حكومةً رشيدة وإدارة حازمة، فصاحت الآلهة قائلة: كلَّا، كلَّا، لا يكون ذلك، فلو مُنِحتم هذا لهجر جميعُ الملائكة السماء وآثَروا عليها أرض إسبانيا! ومعنى ذلك أنهم يعترفون بفسادِ حكومتهم. ويدهش الناس لتدهور نظام الحكم الإسباني رغم سيادة إسبانيا للعالم كله زمانًا؛ وتعليل ذلك أنهم مَدينون للعرب بالكثير من دمائهم وحضارتهم وشجاعتهم وخصب بلادهم، بل وسعادتهم جميعًا، فالعصبيَّة التي أعقبَت طرد العرب «بين ١٦٠٠ و١٧٠٠» خلَقَت نقصًا فادحًا في الكفايات؛ لأن سيادة العرب وإشرافَهم الأبوي كان كبيرًا ومتغلغلًا في الناس وفي الأرض، لدرجة أنَّ محو تلك الآثار ومحاولة تحويلها إلى حضارة أوروبية كان أمرًا متعذِّرًا، لا يتم إلا في قرونٍ عِدَّة، ولقد اختلطَت اليومَ حضارة العرب الممتازة بحضارة المسيحيين التي هي دونها رقيًّا، والتي شابَها كثيرٌ من حضارة الصليبيِّين التي كان أساسها العنف والعصبية الدينية العمياء، وأنت اليوم ترى وقار العرب وأدبهم سائدًا بين جميع الإسبان، إذ تلمس أثر الأرستقراطية في الغني والفقير، وكذلك أثر الديمقراطية فيهما على حدٍّ سواء، إلى ذلك حبهم لأطفالهم وتقديرهم للزهور؛ فالأطفال يُمنَحون نصيبًا كبيرًا من الحرية، والزهور تُزيِّن نوافذهم وشُرفاتِهم وأبْهاءَ دورهم، بل وصدورهم وآذانهم، كذلك شبه الحجاب الذي نراه بين السيدات، فالفتاة لا تُبيح لنفسها أن تكلم رجلًا إلا وهي تلبس المعطف، كذلك ميلهم للمغازلة واختلاس النظرات، تلك التي تُغضب أهل الشمال في أوروبا مثلًا.
ومن المناظر المألوفة في كل بلاد إسبانيا وقوف الرجال على نواصي الطرق، يغازلون السيدات ويُلقون عليهم عبارات المديح جِهارًا، وكثيرًا ما ترى العشاق يقفون إلى جوانب الجدران تحت النوافذ يُعبِّرون عن آيات حبهم وغرامهم بأنغام القيثارة، ومن العجب أن هذا المنظر لا يَسترعي اهتمام المارَّة؛ فهو لديهم أمر عادي، ولا يُغضِب ذلك أبا الفتاة وأهلها؛ لأنهم يعتبرون ذلك نوعًا من الإطراء لفتياتهم. وغالب عقود الزواج تتم دون أن يَسبق ذلك تعارُفٌ وثيق بين الزوج وزوجته. على أن الحياة الزوجية هناك رغم ذلك هانئةٌ سعيدة، ولا يُحب الإسباني أن يُكثر صاحِبُه من زيارته في داره، ولا يُباح للزوجة أن تَستقبل ضيفًا إن كان زوجُها خارجَ المنزل، ولا يَزال النسوة يَلبسن في الحفلات وعند الرقص «طُرَح» الدنتلَّا فوق تاج من شباك «الباغة»، والطرح من قماش أبيض، وفي المواقف الدينية يلبَسْنها من لونٍ أسود، ويسمونها «مانتييا»، وكذلك يطرحن على ظهورهن الشيلان الحريرية المهفهفة. وهنَّ أكثرُ حشمة من غيرهن من نساء أوروبا، وأجسامهنَّ أقربُ إلى الامتلاء لقلة الحركة من أثر لُزومهن الدارَ طويلًا، وذلك لا شك من أثر الحجاب العربي. وهن أقلُّ استخدامًا لأدهنة الوجه، وبهذا يُفسَّر بطءُ شيخوختهن عن غيرهن ممَّن يُسمِّم الطِّلاءُ بشَرتَهن. وخير ما يُجَمِّل الطرقَ مشهدُ السيدات في ملابسهن الأندلسيَّة البديعة، وكثيرًا ما تمر بهن في حلقاتٍ يَرقصن على أنغام القيثارة على قارعة الطريق، ولا يشاطرهن الرجالُ المخاصَرة، بل يقفون متفرجين.
على أن المرأة في إسبانيا سيدة بيتها، وصاحبة الأمر والنهي فيه، وليس الرجل، وتلك بقيةٌ لعهد الأمومة أو حكم الأم الذي ساد إسبانيا قديمًا؛ فقد حدَّثنا التاريخُ أن المرأة الإسبانية كانت في القرون الوسطى أكثرَ نساء العالم حرية؛ إذ كانت على قدَم المساواة مع الرجل، وكثيرًا ما كان يحمل الولدُ اسمَ أمه بدل أبيه. ورغم أثر الحجاب الذي خلَفه العرب فإنها سيدة العائلة؛ فالأولاد يَلبثون تحت إمرتها حتى بعد الزواج، مما أعفاهم من احتمال المسئوليَّات التي تَخلق في الإنسان الرجولة، وتُربي فيه الجُرْأة والاعتماد على النفس.
ويُوصَف أهل الأندلس بخفة الروح والإهمال، والقناعة والتسويف، فأنت لا تَفتأ تسمع كلمة «مانيانا»، أعني: غدًا، وإذا انتقَدتَهم في ذلك قالوا: ولكنْ ألَسْنا مع كل ذلك سعداء! ولا يَزال يَعُد الناسُ بلاد الأندلس من البلاد الشِّعرية، ويرمون أخلاق أهلها بالانحلال، وحتى سكان شمال إسبانيا يعتقدون في أهل الجنوب ذلك، فهم وادِعون مُسالمون، يَميلون إلى رغد العيش، ولا يهمهم أمر الغير ما دام في جيب الواحد منهم «أونابسيتا»، أي قرش واحد.
ويُتَّهم الإسبان بأنهم قُساة، وهم حقًّا مَعروفون باحتمال الآلام، لكنك تلاحظ إلى جانب ذلك كثيرًا من العطف على الغير، مما يبدو متناقِضًا. هذا إلى الكرم العربي، وإنْ أفسدَ مِن هذا تدهورُ أداة الحكم، وتفكيرُ الحكام في إثراء أنفسهم على حساب الصالح العام، وكذلك كانت سيطرةُ الكنيسة هناك عنصرًا من عناصر الفساد والتدهوُر، والعصبيةُ الدينية هناك بالغةٌ أشُدَّها، ولا تكاد تُحصي الحفلات والمراسيم الدينية التي تُضيِّع كثيرًا من الوقت والمال. ومن عاداتهم التي جاءتهم عن أثر الكنيسة: أن الأمهات يُحرِّمن على الأطفال الغُسل والاستحمام؛ مخافةَ أن يتشبَّهوا بالمسلمين، وذلك ما ساعد على زيادة الوفَيَات من الأطفال هناك. ومِن أثر عصبيتهم الدينية التي شجَّعَها القسُس بعد طرد المسلمين: ما يُعرف عنهم من تعصبهم لرأيهم، وذلك خلَّفَ فيهم تلك النزعة الثورية التي تُصيب البلادَ دائمًا بالفوضى والاضطراب، ولقد أضعفَ ذلك فيهم عصبيتَهم القومية إلى حدٍّ كبير. ولا تزال الكنيسة تنشر في الناس كثيرًا من خُرافاتها، وهم يحاربون تعليم البنت إلى اليوم؛ لاعتقادهم أن ذلك يُساعد على الزندقة والإلحاد.
ونساء إسبانيا يُصيبهن السِّمَن مبكرًا، لكن أخص ما يمتَزْن به على سائر نساء العالم: وجوههن الجميلة المشرِقة التي تظل رغم وهج الشمس ناعمةَ البشرة وضَّاءة الجبين، كذلك رشاقتها وقدرتها على الإطراق في تفكيرٍ عميق، ومِشْيتها في جلالٍ ودلال، وكم يَروقك منظر أغْطِية رءوسهن المشرِفة، والشِّيلان التي يَلفُفْنها على أكتافهن في ألوانٍ جذابة. على أن اللون السائد في ملابسهن الأخرى: الأسود، وهل أجدرُ منه في الكشف عن فَرْط جمالهن؟ وخيرُ ما ترى تلك أيامَ الأعياد والمواسم والآحاد، وعند مُشاهدتهن صراعَ الثيران، أحَبَّ أنواعِ الرياضة عند الإسبان، ولا تكاد تخلو منه بلدة من بلدانهم.