في أمريكا الجنوبية
لقد ألفيتُ الطابَع العربي يَسود أهل أمريكا الجنوبية إلى أقاصي جبال الأنديز؛ فالملامح العربية واضحةٌ في تقاطيعهم، وخَمريةِ ألوانهم، وسُمرة عيونهم، وسواد شعورهم، وبخاصَّة النساء اللواتي يَلبسن أرْديةً هي أقربُ إلينا منها إلى أزياء أوروبا، فهي أرديةٌ قصيرة مهفهفة، أفاريزها هادِلة منتفخة بعضها فوق بعض، وغالِبُهن يُرخي على الرأس «الطرحة» السوداء فوق تاج من شباك العاج، وكأنها شبه حجاب. وهن في رقصتهن لا يُخاصِرن الرجال، بل يرقصن في حلقات والصنج (الصاجات) في أيديهن. أما الموسيقى فأحبها لديهم القيثار، شبيه المِزْهَر (العود) بضخامة رنينه، ويألفون منه نظام «التقاسيم»، ومن الغناء: التأوُّه والتوجُّع (كالغناء البلدي عندنا). والفتيات يقفن ويختلسن النظرات من وراء أبوابٍ نصف مغلقة، فإن نظرتَ إليهنَّ انزوَين وراءها أو عجَّلن بإغلاقها. ولا يجوز للغادة أن تحضر مجلس الرجال عاريةَ الصدر، ولا يُباح للصديق زيارةُ منزل ما إلا في حضرة صاحبه. والزواج يتم بدون تعارف سابق بين الزوجين، ويظل الشاب في كنف أبيه بعد الزواج، وقد تفعل الفتاة ذلك. وهم كرام مؤدبون، لا يمر أحدهم على الغير دون أن يُقرئهم السلام، سواءٌ أعَرَفهم أم لم يَعرِفهم، وعند الطعام أو العُطاس يُبدي الواحد تمنِّياته الطيبة لرفيقه كأن يقول: «بالهناء، أو بالصحة»، والسلام عندهم عناق متواصل. وكثير منهم يَعتقد في التشاؤم والتفاؤل، فتراهم يُعلقون جريد النخل على أبواب دُورهم مهما كانت فاخرة؛ لأن ذلك بَشير بالخير ودافعٌ للسوء، وهم يُقدِّرون الأدب والأدباء والشعر والشعراء التقديرَ كلَّه. وفي لغتهم بقيَّةٌ من العربية في كثيرٍ من الكلمات.
ونساء أمريكا الجنوبية خليط لا أول له ولا آخر، ولقد نشأ عن هذا الاختلاط (الأبيض والأسود والأصفر) مولَّدون قد تجد بينهم آياتٍ في الجمال. والمرأة هي معبود الرجل هناك، لا يَكاد يُفكِّر إلا فيها، فهو يعيش من أجلها، وميوله الجنسية أبدًا ناشطة، حتى قيل عنه بأن الشهوة عنده أضحَت فِناء الدعارة في نظره ضرورة مشروعة مباحة. وعند ميلاد الطفل لا يَسأل الأحباب والأقارب أذكَر هو أم أنثى، بل: أيميل إلى البياض أم السُّمرة؟ ولا عجب؛ فإن الدم السائد هناك إسباني وبرتغالي، وفي هؤلاء جمال دونه أي جمال، خصوصًا وأن الطابَع العربي يكاد يكون جليًّا فيهنَّ جميعًا. وقلَّما تجد الإسبانية هناك صافية؛ ذلك لأن الغزاة الأوائل لم يُحضِروا زوجاتهم معهم، فتزوجوا من الهنود الحمر وبخاصة شعوب الأنكا، هذا إلى الاختلاط بالبرتغاليِّين والطَّلْيان والألمان والزنوج الذين وفدوا على البلاد في فترةٍ تالية، وسواءٌ أسادَ هذا الجنس أم ذاك فإن موقف المرأة في أمريكا الجنوبية واحد متشابه؛ فهو وليد تقاليدِ الإسبان التي ورثوها عن العرب، وهي أن المرأة قَعيدة بيتها، تقوم بشئونه وتعمل على سعادة ساكنيه، وحتى في المطاعم والمقاهي كنتُ أرى جمهرة من النساء يجلسن إلى منضدة واحدة، وأخرى من الرجال في منأًى عنهن. ونساء أمريكا الجنوبية جميعًا متديِّنات، يَختلفن إلى الكنائس بكثرة، وأظهرُ ما يتزيَّنَّ به صليب من ذهب يتدلَّى من سلسلة دقيقة. وأكثرهنَّ وجاهة وأبَّهة نساء بونس إيرس بسبب ثروتهن، وهن محافظات على قواعد «الإتيكيت» إلى درجة كبيرة.
ولقد عجبتُ لمَّا علمت أن نسبة النساء تفوق الرجال في بارجواي بدرجة مُروِّعة؛ فهي هناك كنسبة ١١ : ١، أعني: لكل إحدى عشْرة امرأةً رجلٌ واحد؛ وذلك بسبب ما تعاقَب عليها من حروبٍ بينها وبين جاراتها البرازيل وأرجواي وأرجنتينا وبوليفيا؛ لذلك كاد زواج النساء يكاد يكون معدومًا في الريف إلا لمن كُنَّ جميلات أو ثريَّات، وقد دعا ذلك إلى تراخي الرجال وخمولهم في عملهم، ونشاط النساء ومهارتهن، فعليهن تقوم الزراعة والتصرف في المحصول بالبيع والشراء، وكذلك سائر المنتَجات، لكن السلطة أخيرًا للرجل رغم خموله وكسله.
ومن المدهش أن النساء في أمريكا الجنوبية رغم تديُّنهن، يتسامحن في العلاقات الجنسية لدرجة نَعُدها شائنة، فبونس إيرس وسنتياجو تُعدُّ أشنع بلاد العالم في تجارة الرقيق الأبيض.
ولعلَّ في كثرة الوافدين والنازحين من الغرباء الذكور، وبخاصة فيما له علاقةٌ بمراعي البامباس الشاسعة، مُبررًا لهذا الفساد، هذا إلى جوِّ البلاد الدافئ الذي يُثير الميول الجنسية، ولا يَجعل منها جريمة خُلقية لا تُغتفَر كما هي الحال في كثيرٍ من البلاد الأخرى. وفي أرجواي يشجعون النسل جدًّا، سواءٌ أكان ذلك عن طريقٍ مشروع أو غير مشروع؛ لذلك كثيرًا ما ترى الأسرة تَعول عددًا من أطفال السِّفاح إلى جانب الأطفال الشرعيين، وأرجواي أولُ دول أمريكا الجنوبية التي خوَّلَتْ للنساء حق الانتخاب، وحق الطلاق، والقيام بالوظائف والأعمال الحرة على قدم المساواة مع الرجل.
ثم كانت جولتي الليليَّة في أحياء «باريس أمريكا»، كما يُسمُّون عاصمة أرجنتينا، وما كاد الليل يَنتصِف حتى أيقنتُ أنه جديرٌ بالفرنسيِّين أن يُسمُّوا عاصمتهم «بونس إيرس» أوروبا؛ لأنها تفوق باريس في مجونها وخلاعتها وملاهيها ووجاهتها؛ فدور السينما والتياترات لا تدخل تحت حصر، ففي بعض الشوارع نراها مُتراصَّة بالعشرات إلى جوار بعضها، في أبْنية تَروع المرء بجمالها وثرائها وحُسن تنسيقها، وهم يُبالِغون في وجاهتها إلى أقصى حد، فترى الجدران تُكْسى بالمرمر الملوَّن في نقشٍ بديع، وتُفرَش مَداخلها ببُسُط وثيرة، لا يَكاد يُسيغ المرء لنفسه أن يطأها بحذائه. أما أضواؤها مختلفةُ الألوان فتَخطف الأبصار، حتى ليُخيَّل إليك أن الشارع كله شعلة من نيران تتغيَّر ألوانها بين لحظة وأخرى، أما المراقص والمقاهي الفاخرة فحدِّث عن كثرتها وجمالها! وفي كثيرٍ من المقاهي تُعزَف جوقة موسيقية في شُرفة عالية من دونها مناضد الجالسين، وأما جمهور القوم في تلك المحالِّ والذين نراهم يَجوبون الطرق، فيَبْدون في هِندامٍ أنيق نساءً ورجالًا، وهم يُبالِغون في الوجاهة ويحبون الزهو والفخفخة، ويَطربون لاستحسان الناس لأزيائهم وهم غادون أو رائحون، وتلك النزعة يُعرَف بها أهل أرجنتينا كلهم، وقد علمتُ أن جُلهم يُنفِق ما يَزيد على دخله؛ مخافة ألَّا يبدوَ وجيهًا بين بني قومه؛ لذلك كان ادِّخارهم قليلًا.
أمَّا سِحَن الناس في سنتياجو عاصمة جمهورية شيلي فتَسترعي النظر بكثرة تنوُّعها واختلاف تقاطيعها؛ فبينهم الجمال الفاتن، والسِّحَن المنفِّرة؛ وذلك لكثرة اختلاط أنسابهم مع الغير من الأجانب ومع الهنود الحُمر، وذلك واضح جدًّا في الطبقات الوسطى والدنيا، وأجلى ما يُرى ذلك في سُمرة الوجوه والشعر المغولي الأسود المرسل، الذي كان يُذكِّرني في بعض السيدات بشعور بنات اليابان. وقد تَصاهر الإسبان الأوائل عندما حلُّوا البلاد بالهنود؛ لأنهم لم يُحضِروا نساءهم معهم، أما الإسبان الأصفياء من أبناء البلاد فيُمثِّلون الطبقات الأرستقراطية، وكنتُ أعجب لوقوف الرجال على جانِبَي الطرق ساعاتٍ طويلة في أحسنِ هندامهم، ولا عمل لهم إلا استعراض المارة من السيدات وإبداء الملاحظات والمغازلات، وقد هالني أمرُ رجل خلع قُبَّعته وانحنى، وصاح في وجه سيدة جميلة، ثم تَبِعه صحبُه ضاحِكين، والسيدة لم تُبدِ أيَّ امتعاض، ولم يَستنكِر أحد الناس هذا العمل. وحرية النساء هناك بالِغةُ الحد، فالسيدة تُصادِق مَن تشاء على علمٍ مِن زوجها، ويُخيَّل إليَّ أنهن لا يقَرْن في بيوتهن قط؛ لكثرة مَن ترى منهن في الطرقات في كل آن، وقد أذكرني ذلك بإحدى الشهادات التي طلبَتْها مني مفوضيَّتهم في مصر لتثبت لهم رسميًّا بأنه لم يَسبِق لي الاشتغالُ بتجارة الرقيق الأبيض، وذلك كثير الانتشار عندهم.
وفي فلبريزو كم كنتُ أتألم لمظهر البؤس الذي كان يتجلَّى على وجوه الكثير وأزيائهم، وغالب القوم هناك مُنكبُّون على إدمان الخمر وعلى الإسراف في اللهو والمجون ليلًا، ويَكادون يظلون كذلك حتى الصباح، على أن وسائل اللهو هناك ليست بالكثرة والفخامة التي رأيتُها في بونس إيرس؛ لذلك كنت أُسائل نفسي: ماذا عسى أن يَفعل هؤلاء لو أوتوا من الغنى ووسائل اللهو ما أُوتِيَه أهل بونس إيرس؟
وصادف يومنا يوم الأحد، فكانت جميع المتاجر مغلقة وحركة البلد نادرة، إلا النساء اللواتي كُنَّ يُشرفن من نوافذ بيوتهن ويحاولن اجتذابنا بالإشارات والنداء والابتسام.
وأهل ليماوبيرو: يسودهم الاختلاط، وفي غالب السحن تتجلَّى التقاطيع الهندية الأمريكية، وفي كثير من الظروف كنتُ أحسبهم صينيِّين، لكنهم سكان البلاد الأصليُّون اختلطوا بالجنس الأبيض. وقد استرعى نظري ورقٌ أخضر يمضَغونه جميعًا وبخاصة الرجال، وهو ورق شجرة الكوكا التي يُؤخَذ منها الكوكايين، ويقولون عنه بأنه عظيم الأثر في إمداد الناس بالقدرة على العمل واحتمال المتاعب؛ إذ بمضغه يستطيع الرجل أن يَسير في الجبال أيامًا متتالية دون شعور بتعب، وفي غالبِ دول غرب أمريكا يشربون منقوعه بالماء الساخن ليُسكِّن أوجاع المعدة.
وكلما أوغلنا في الداخل لاقَينا شعوبًا أكثر سذاجة وأبعد عن المدَنية من أهل الساحل، سلائل الإسبان الذين لم يختَلِطوا بالهنود، وهم على جانبٍ كبير من الثقافة والتحضُّر، ونساؤهم أجمل نساء أمريكا الجنوبية، خصوصًا في ليما، اجسامهم في ميلٍ إلى السمنة لكثرة استقرارهم في البيوت ولقلة اشتغالهم بالرياضة، ويُكثِرن من التزيُّن ولبس الحلي، ويلي الإسبان في بلاد الوسط هنود كوتشوا النشيطون، ولغتهم هي السائدة.
ولكثرة مضغهم لورق الكوكا قلَّ ذكاؤهم؛ ولذلك ترى النساء أذكى من الرجال؛ لأنهن لا يمضغنه إلا نادرًا. وتعدد الزوجات شائع بينهم خصوصًا حيث يَكثُر النساء عن الرجال. وبين بعض قبائلهم مَن يعتقدون أنهم إذا قَتلوا عدوهم وأكلوا لحمه انتقلَت إليهم قوته، وهذا ما حدا بهم إلى أكل لحوم البشر أحيانًا.
قُمنا نخترق قناة بنَما: أما عن الحياة ليلًا في بلادها فحدِّث في دهشة، ليس لها حد، وإسراف في المجون لا يُوصَف، حتى خُيِّلَ إليَّ أن جميع نساء البلدة داعرات يقفن في الطرقات وأمام بيوتهن في كل مكان، ومَقاصِف الخمر والمراقص تعم البلدة، ولا عمل للناس فيها إلا السكر والنساء، وحتى نساء الزنوج تراهنَّ قد غالَين في التبختُر في المشية، والتأنُّق في الملبس، والتبرُّج في زينة الوجه وطلائه بألوان تؤثر في اللون الأسود وتُحيله قَرَنفُليًّا، وهنا تجلَّت الإباحة الأمريكية التي كنتُ أسمع عنها من قبل، فهُم من الشعوب الذين يستبيحون أن يأتوا في سُوَيعات الفراغ ما يَروقهم، ويُعطون النساء من الحرية حدًّا نراه نحن مَعيبًا. وسكان الإقليم خليط من شعوبٍ عدَّة، جلُّهم من السود، ثم الإسبانِ والهنودِ والصينيِّين والأمريكيين، وأخلاطٍ من كل أولئك، فأنت تدهش لاختلاط الألوان وتغيُّر السِّحَن أينما سِرْت. وقسم من البلاد تحت إشراف الولايات المتحدة؛ لأن قناة بنما مِلك لها؛ لذلك كان الأثر الأمريكي الاجتماعي سائدًا بين أفراد شعب من الزنوج، يُسيء فَهْم الحرية ولا يدري ما حدودها، والمستعمر يَتركه في غيِّه؛ لأن في ذلك غضًّا عن المقاومة، وحطًّا من العصبية القومية.