في أمريكا الشمالية
والولايات المتحدة أكبرُ مصهر للأجناس، تندمج فيها خيرُ كفايات العالم، وقد كان ينزح إليها إلى طلائع الحرب الكبرى مليون وربع في كل عام، وإنك مُدرِكٌ هذا الاختلاطَ العجيب لمجرد قراءة الأسماء التي تُكتَب على رءوس الحوانيت في نيويورك، فأنت تكاد تمر على كل اسم من الأسماء المعروفة في كل بلاد العالم المتحضِّر، فمن اليهود مثلًا في مقاطعة نيويورك وحدها عدد يزيد على يهود فلسطين كلها خمسةَ عشر ضعفًا، ومن الطليان عدد يفوق سكان روما كلها، وفي كليفلند زُهاء ثمانين في المائة من السكان من عنصرٍ أجنبي، وتشتهر مدينة ملووكي بأنها ثالثة المدن الألمانية في الدنيا.
وكثيرًا ما نحكم على مركز المرأة الأمريكية مما نشاهده من السائحات الأمريكيَّات اللاتي لا يمثلن عامة النساء هناك، بل يُظهرن ثراءهن وفاخر ثيابهن في شكلٍ قد يُثير السخرية؛ ففي أمريكا يجب أن نعلم أن المرأة صديقة الرجل، وأن كلًّا من النساء والرجال يعتقدون أن المرأة أم على كل حال، فالرجل يحترم المرأة هناك أكثر مما تُحترَم زميلتها في أوروبا مثلًا، فهي تستطيع السفر والتنقُّل آمنة مُستريحة، وتلقى كل عطفٍ وإجلال أينما سارت. وقد اعترف الرجل في أمريكا بأن المرأة أرقى منه وأسمى مكانًا؛ لذلك بالغ في احترامها وعمل وُسعَه على تزويدها بوسائل الراحة والترف، ولقد كان لذلك أثر سيِّئ على كثيرٍ من النساء هناك؛ إذ أسأن فَهمه وبالَغْن في اللهو والمجون وفي تبديد ما وفَّره لهن أزواجُهن من مالٍ وفير، وكثير من الأزواج يُسايرون زوجاتهم في ذلك، ويتحدَّثون عن ثروتهم، ويُفاخرون بما يُقيمون من ولائمَ وحفلات تُكلِّفهم بين ثلاثين وخمسين ألف ريال. ويُنفِق نساء الولايات المتحدة على وسائل التجميل من أدهنة ومساحيقَ وما إليها زُهاء ٣٠٠ مليون جنيه سنويًّا، وقد سرَت تلك العادة حتى إلى الإنجليزيَّات، فبلغ ما يُنفَق في إنجلترا على هذا السبيل ٧٠ مليون جنيه سنويًّا، ولقد أغرى هذا مُروِّجي الترف من أهل باريس وفيينَّا أن يَجدوا لصناعتهم أحسن الأسواق في نيويورك، فسافروا إليها وأقاموا أفخمَ «الأُبرات»، زُوِّدَت بخير الموسيقيين والملحِّنين والمغنِّين، يستمع إليها جمهورُ الوُجهاء من الأمريكيين الذين قد يجهلون الموسيقى جهلًا تامًّا، وقد أخذ أولئك يُنفقون الملايين؛ فسبَّب ذلك ارتفاعًا في كُلَف الحياة بين سائر الطبقات، وسرعان ما زادت فوارقُ الطبقات وضوحًا، ممَّا أدَّى إلى زيادة التبرُّم بالحياة، والعمل على الإخلال بالأمن.
ولقد مُنح النساءُ حقَّ المساواة العامة مع الرجال في الأعمال والوظائف والتعليم (وإن تأخر حقُّها في الانتخاب بسبب كثرة الدخيل من النساء الأجنبيَّات بين الزوجات في أمريكا). وفي الجامعات يُنفق الرجل على أولاده وبناته جميعًا، فإن لم يَستطِع فضَّل أن تَبقى البنت في دُور التعليم، وعجَّل بإلحاق الولد مصنعًا أو محلًّا للكسب؛ لذلك أصبح المستوى الثقافي عند النساء أرقى منه عند الرجال هناك، ونَلحظ ذلك في سَعة الاطلاع؛ فبلاد أمريكا من أوفر البلاد عناية بطبع الكتب والمؤلَّفات في كثرةٍ لا تُبارى، وتَعجب لو عَلمتَ أن أكثر قرائها من النساء؛ لذلك خَشي البعضُ سوء العاقبة وزوال السعادة الزوجية في القريب، بسبب الفرق الشاسع بين عقليَّات الأزواج والزوجات.
ولقد أحدث النساءُ أثرًا اجتماعيًّا عظيمًا بفضل الأندية والجمعيَّات التي شكَّلنها لتحسين الأحوال العائلية والصحية لسائر الناس، وقد جعَلن قيمة الاشتراكات زهيدة، لدرجة أن أفقر النساء يَستطِعن المساهمة فيها، ومما تقوم به تلك الجمعيات: تعليم الجاهلات، وتنظيف الأسواق وأمكنة الاجتماع العامة والشوارع، وإلزام البائعين أن يلفُّوا المبيعات في ورق نظيف، وهُنَّ يدخلن البيوت ويتعهَّدنها بالنظافة، وبتعليم الأمهات أصلح الوسائل لرعاية الطفل وتلقِّي المحاضرات في دور التعليم ليلًا، ويعمل الأعضاء على تيسير أبواب الرزق للخريجين الحديثين من الشبان والفتيات، ومَبدؤهم أن المدينة أو القرية كالبيت، فما دام الواجب يُحتِّم على الأم المحافظةَ على نظافة مسكنها، كذلك وجبَت المحافظة على البيت الكبير، ألا وهو القرية. ولقد زاد عددُ تلك الجمعيَّات على مليونَين، ولا ننسى أثر هذه الهيئات — وكلُّ أعضائها من النساء — في إنقاذ أوروبا من المجاعة في سنة ١٩١٨ حين استنجدَت بأمريكا، فقررَت تلك الجمعياتُ أن يُوقَف عمل الخبز من القمح إلى موسم الحصاد المقبل؛ وذلك لكي يُرسَل الفائض إلى أوروبا وينقذها، وهكذا سجَّل نساء أمريكا لهنَّ يدًا بارَّة بأوروبا وأهلها. ولا شك أن الصداقة والولاء المتبادل بين المرأة والرجل هناك هو سبب هناء العائلة، فالأولاد والبنات يتَربَّون في مدارسَ واحدة إلى آخر مراحل التعليم، وتنشأ بينهم علاقاتٌ ودية كثيرة لا يقف الآباء في سبيلها، وحتى حق الطلاق تتساوى فيه المرأة مع الرجل تمامًا.
فتحرير المرأة هناك قارب نهايته وفاق سائر البلاد الأخرى، ويكفي أن تمر داخل حدائق إحدى الجامعات لترى كيف بلغَت الإباحة هناك حدها المرذول.
لذلك يصف غالب الناس الأمريكية بأنها «خليعة»، وهي حقًّا ساحرة في عِشرتها، لكن يقول الكثير بأنه جدير بنا أن نُدافع عن خلاعتها هذه؛ فهي لم تتلقَّ في تعاليمها قط بأن الرجل ممتاز عليها كما هي الحال مع فتيات العالم أجمع، فلقد شبَّتْ مُختلطة معه في جميع أطوار حياتها، وساوَتْه في كل شيء، فلم ترَ له تلك الميزة، ولم تُطبَع فيها منذ الصغرِ تلك العقيدةُ التي تجعلها تظن أن الزواج المبكر أمر لازم لها، وبذلك تُضطَرُّ أن تُرحِّب بأي شخص يَخطب يدها، بل هي تتريَّث في أمر اختيار الزوج طويلًا.
والأمريكية تمتاز بحضور بديهتها وسرعة فَهمها، وليس ذلك بمستغرَب؛ فقد حلَّت البلادَ مع زوجها مهاجرة إليها، بل ومجاهدة، حتى وصلَت جبهة الباسفيك، كذلك فهي خلاصةٌ لخيرِ ما أنتجته البشرية من أجناسٍ لا يخبو نشاطها ولا يركد ذهنها أبدًا. والأمريكية أم بكل معنى الكلمة؛ فهي التي تَرعى الأطفال وتُعلِّمهم وتثقفهم، أما الرجل فمُنهمِك وراء الحصول على ذاك «الريال السحري»، وقلَّما تُسلِّم أطفالها للمربِّيات؛ لذلك فإنها تَفهم نفسيَّاتهم في دقائقها، وإذا ما بدأ الأنجالُ سنَّ اختيار الجامعة الملائمة كانت هي خيرَ مُرشد لهم في ذلك؛ لأنها عليمة كالأب بمستوى التعليم، وهي تفوقه في أنها درَسَت أولادها دراسة سيكولوجية عملية، وهم إن ابتعَدوا عنها في جامعاتهم يُثابرون على الكتابة إليها، فلا يُحرَمون تثقيفها إياهم حتى في آخر مرحلة من مراحل تعليمهم.
وفي المدارس يشبُّ الطالب على ضرورة العمل للكسب مهما بلغ جاهُ أبيه، ولقد كان لاختلاط الجنسَين في التعليم فضلٌ في منع التكلُّف والتمويهِ من أخلاق النساء؛ لأن ذلك علَّمَهن الصراحةَ في القول والعمل، هذا إلى أن ذلك أكسَبها خبرة بنفسية الرجال، فوقَفْن على عيوبهم وفضائلهم واقتبَسْن منها الكثير.
وصلنا لوزنجليز، فكانت حياة الليل فيها وخصوصًا في شارع الملاهي برودواي يُبهر النظر ويَستهوي الحكيم، فالمقاصف والمقاهي تعددَت أشكالها وبُولِغ في تنسيقها، ودور الملاهي وبخاصة السينما فاقَت كل وصف جمالًا، وحركة المرور في الشوارع تَسُد الآفاق سدًّا.
وعدتُ في اليوم التالي أزور هوليوود لأني لم أَشْف من جمالها غلَّة، وتزوَّدت منه طوال اليوم. وقد لاحظتُ أن الحياة أغلى منها في سائر البلاد؛ فلا أكاد أُخرج الريال حتى لا أرى له بقية، وأنت لا تزال تُنفق الريال تِلْو أخيه حتى يُصبح وِفاضُك خِلْوًا من المال، وعندئذٍ تُفيق لنفسك، ولا تندم على ما أنفقتَ في سبيل الوقوف على حال هوليوود وأهلها. ولقد جنَت هوليوود في ظني على الجمال الطبيعي فأفسدَته وجعلَته جامدًا موحدًا؛ إذ ترى نجوم السينما ومن يلف لفَّهم يَسِرن على نمطٍ واحد في تجميل وجوههن من أسنانٍ ورموش وشِفاه وأظافر، وما إلى ذلك، حتى كان وجه الآنسة وكأنه «كليشيه» واحد طُبِع على ورق مختلف، فلم يترك لكل ضرب من ضروب الجمال شخصيته الممتازة الساحرة. ولكن برغم هذا التكلُّف فإن الجمال في هوليوود ليأسر الزائرَ ويَستهويه.
قامت بنا الباخرة تبرح لوزانجليز وضواحيَها بعد أن أقَمْنا فيها يومَين كاملَين، ولم يبقَ في السفينة من الستِّمائة مسافر الذين وفدوا من زيلندة وهنولولو سوى مائة، والباقون أسرعوا إلى المقام في هوليوود، وقد أقفرَت الباخرة من أنسهم وخفةِ روحهم، فجلهم ممن ألفوا حياة المجون واللهو في غير قَيْد لدرجةٍ كانت تَهولني، فالآنسات يَختلفن إلى الفِتيان، ويغازلون بعضهم البعض جهارًا، ثم يكون التقبيل «والزغزغة» والاحتضان، وما فوق ذلك مما كنتُ أستنكره كثيرًا، والعجب أن ذلك لم يكن يَسترعي من أنظار الآخرين أو يُثير سخطهم، بل على النقيض من ذلك، كانوا يساهمون فيه. وحتى الأمهات أو الآباء كانوا يُساعدون بناتهم على ذاك اللهو، وكثير من الفتيات كُنَّ يَسِرن عرايا في غير حياء، وكانوا يسخرون مني إذا ما غضضتُ الطرْف عنهنَّ وعمَّا يأتين. ولم أشهد من الإباحة في أسفاري السالفة ما شهدتُه هذه المرة! ولا عجب؛ فجل القوم من الأمريكيين «الهوليووديِّين» والنيوزيلنديِّين والأستراليِّين، وكلهم سواسية في الأخذ بأكبر نصيب من الإباحة في كل شيء.
وفي سان فرنسسكو كانت حياة الليل صاخبةً مائجة، تزينها الأضواء الملونة التي ألفناها في هوليوود ولوزانجليز في إسرافٍ كبير، ودُور الملاهي لا تُحصى، والمطاعم والفنادق تُعدُّ بالمئات؛ ففي سان فرنسسكو ١٥٠٠ فندق، وفوق ٣٠٠ مطعم، مع أن سكانها لا يَزيدون على سبعمائة ألف، وقد عجبت كيف تجد تلك الفنادقُ والمطاعم من الزائرين ما يكفيها، لكني علمتُ أن نحو ٥٥٪ من سكان المدينة من رواد تلك النزل والمطاعم، مما أفقد البيوتَ رونقها وكاد يَقضى على نظام العائلة البديع، فلا يكاد أحدهم يأكل في بيته قط، وكثير منهم ينام في الفنادق — نساءً كانوا أو رجالًا — وإذا أضافك أحدُهم على طعامٍ أو شراب دعاك إلى أحد تلك المطاعم، أما البيت وما له من حُرمة مقدسة وجميل أثر في تربية النشء فذاك ما لا تراه هناك قط. وكثير من تلك الأماكن باهظة التكاليف؛ إذ أجر البيت فيها يفوق ستة ريالات في الليلة الواحدة، على أنك تجد الكثير بين نصف الريال والريال. وجل المطاعم على النظام «الوقافي»، تخدم نفسك وتدفع ما بين خمسة قروش وعشَرةٍ في العادة.
اخترَقتُ أمريكا من الغرب إلى الشرق، ووصلتُ منطقة شلال نياجرا، وتقع عليه بلدة «نياجرا فولز» الصغيرة التي قامت على شئون السائحين، فأسرفَت في الفنادق الفاخرة والمطاعم الكبيرة، ونسقَت من المتنزَّهات في كل ناحية، ولا يكاد ينقطع عنها سيل السائحين ليلًا ولا نهارًا، وهي لا شك خيرُ مُستراضٍ للنفس التي أرهَقها كدُّ العمل أو أضناها مضَضُ الوَجد والهوى، فهي أكبر عون للنفس أن تستعيد نشاطها الكامل في أيامٍ قليلة. إلى ذلك فهي ملتقى المحبين، حتى آثرَها كلُّ حديثَيْ عهد بالزواج، أو كلُّ أليفَين على أُهْبة الاقتران؛ لذلك أطلَقوا عليها: «أرض شهر العسل».