اليابان
أقبلنا على كوبي أكبر ثغور اليابان التِّجارية، وهي تقوم في حجر جبل مشرف، تَكْسوه الغابات، وتزين منحدَراته مباني المدينة في رونقٍ جذَّاب، وما كِدتُ أطَأ أرضها حتى بدَت الحياة اليابانية في مظهرها العجيب الجميل؛ الناس يسيرون في سيلٍ دافق كلٌّ إلى عمله بنشاطه المشهور، وأنت لن تَرى منهم عاطلًا أو خاملًا، ولا تسمع لكثرتهم جَلبةً ولا ضوضاء، اللهم إلا قعقعة أحذيتهم الخشبية (قباقيبهم) نساءً ورجالًا، تلك التي تَسترعي الأنظار وقد تثير السخريةَ بادئ الأمر، على أنها خيرُ دافع عنهم أثَرَ رطوبة جوِّهم، إلى الاقتصاد في أكلافها، والعجيب أنك تراهم يَسيرون بها في سرعةٍ عجيبة، وإن اعوجَّتْ مِشيتهم، حتى ليُخيَّل إليك أن في أرجلهم غمزًا. والجميع يَلبَسون الأردية الفضفاضة التي يسمونها «كيمونو»، وكأنها «القفطان» بأكمامه الهادلة المتَّسِعة وحزامه العريض، والرداء يَكاد يلمس القدمَين لطوله، ويغلب أن يكون من قماشٍ خشن بسيط اللون للرجال؛ لأنهم يمتدحون الخشونة والتقشُّف، أما النساء ففي حرائر مهفهفة وألوانٍ فنية ساحرة، وتحاول كلُّ سيدة ألا تَلبس من لونٍ سبقَتْها إليه غيرُها؛ لذلك اضطُرَّ النسَّاجون أن يَحيكوا هذه الأقمشةَ قِطعًا مختلِفة تَكفي كلٌّ لرداء واحد. ولعلَّ أعجب ما في السيدة حزامها وشعرها، أما الحزام (أوبي) فبالغُ الطول والعرض، عرضه فوق ثلث المتر، وطوله أربعة أمتار إلا قليلًا، يُلَفُّ حول الجسم مرتَين، ثم يُربَط فوق الظهر في شكلٍ منتفخ كأنه الفراش بديع اللون، خِلتُه بادئَ الأمر وِسادة تَحملها السيدة كي تتَّكِئ عليها إذا ما جلَسَت، وما كان أشدَّ خجَلي عندما سألتُ أحدهم: لماذا تَحمل السيداتُ تلك الوسائد الثقيلة؟ فخبرني وهو يضحك أنه رِباط الزينة والتجمُّل (فيونكا)، وقد علمتُ أن متوسط ثمنه لا يَقِل عن عشَرة جنيهات.
والنساء سافرات ورءوسهنَّ عارية، يكسوها تاج طبيعي من شعرٍ أسود برَّاق ثقيل، يُعنَوْن بتنسيقه العناية كلها، وهو الذي يُعَدُّ مقياسَ الجاه والجمال، وتَراه يُكوَّر ويُطوى فوق شباك من السلك في أشكالٍ هندسية عجيبة جذَّابة، تَختلف باختلاف الطبقات والأعمال، والأغنياء يَستقدِمن الماشطات في كل أسبوع لِتُعدُّه، ولا يقلُّ أجرهنَّ عن جنيه، وتظل شباكه الأسبوعَ كلَّه أو يَزيد.
أما الوجوه فمُصفرَّة اللون مُنحرفة العيون، ويَغلب أن يَستخدِمن الأدهنة البيضاء لا الحمراء. وجمالُ الوجوه نادر، وإن كانت الرشاقة والجاذبية بالغةً حدًّا كبيرًا، يَزيدها حُسنًا ذاك الهندام العجيب في ألوانه الرَّقطاء الزاهية وتلك المِشْية التي تَخبُّ بها السيدة وكأنها البجع الساحر. آوَيْنا إلى نزُل ياباني وما كادت تقف بنا السيارةُ أمامه حتى أسرع أصحابُه رجالًا ونساءً مُلَّاكًا وأتباعًا، يتقدَّمُهم رئيسهم لاستقبالنا، شأنَهم مع كل ضيف، وصاحوا جميعًا صيحةَ ترحيب أعقبَتْها سلسلةُ انحناءات عاجلة متكررة، تكاد تلمس فيها جباهُهم الأرض احترامًا وتأدُّبًا، والعادة أن يرد الضيف التحية بأحسنَ منها وإلا عُدَّ ذلك من سوء الأدب، فأخذنا ننحني مراتٍ كنتُ خلالها موضعَ سخرية أمام نفسي؛ لأني لم أكن أعرف كيف تكون وما حدودها!
بعد ذلك تقدَّمْنا نحو المدخل، فراعَنا صفيفُ «القباقيب» والأحذية على جانبَيه، وكلها لنُزلاء الدار؛ إذ يجب خلعُ الأحذية جميعًا أمام البيوت والفنادق، فخلَعْنا عنَّا أحذيَتَنا، وناولَتْنا الفتاة «خُفًّا» من الخوص، وهو صغير الحجم لأن أقدامهم أصغرُ بكثير من أقدامنا، أخذنا نسير به في دهاليز الدار، وكلها تُقام من خشبٍ يُطلى بأدهنة برَّاقة، غاية في النظافة، ويهتزُّ تحتَ أقدامنا، وكان النُّزل من طبقتَين، ولَمَّا أن وصَلنا غرفتَنا خلَعنا الخف أمامها، ودخَلنا غرفة صغيرة تُفرَش أرضُها بقطعٍ من الحصير السميك الطري، يَحوط كلَّ واحدة أفريز أسود، ولا تَكاد ترى داخلها من الأثاث إلا مِنضدة واطئة في الخرط الياباني، حولها الحشيات «الشلت» الوثيرة يَجلس القوم عليها رُكَّعًا طوال الوقت، وخلف الضيف مقصورة هي لدَيهن موضعُ التجِلَّة والتقديس «توكونوما»، بها «فاز» ثمين يُملَأ بالزهور المناسِبة للمقام، ويغلب أن تُطِل الباقة نحو الضيف علامة الترحيب به، وهم يَقرءون في كل باقة معنًى جديدًا لمجرد النظر. وعند المدخل حاجز «بارافان» قصير أنيق، وتتدلَّى من الجدران ألواحٌ مصوَّرة «كاكيمونو» برسوم يابانية ثمينة، أما النوافذ فمعدومة؛ لأن جانب الحائط ينفتح كله بالانزلاق وراء الذي يَليه، بحيث يمكن أن تصبح الحجرة شُرفة (بلكونة)، أو تُزال فواصل الحجرات كلها، فتظهر اللوكاندة كلها بَهْوًا واحدًا، كذلك الحال في مساكنهم جميعًا في الريف والحضر.
أخذنا مجلسنا «القُرْفُصاء» من المائدة، فتقدمَت منَّا فتاة بكوبَين صغيرَين من شرابٍ أخضر يعتقدون أنه قاتلٌ للعطش لم يَرُقني طعمه، وعلمتُ أنه مسحوق الشاي يُغلى في الماء، ثم دنَت منا فتاة ثانية وبيَدِها سلة صغيرة من خيزران «بامبو» وبها «فوطة» مبلَّلة بماءٍ مغلي يتصاعد منها البخار، فتناولناها ومسحنا بها وجوهنا وأيديَنا، فشعرنا بانتعاشٍ كبير في ذلك الجو الحار، وتلك تُقدَّم في كل مكان حتى في المحالِّ التِّجارية. وبعد هُنَيهة أقبلَت فتاة أخرى تحمل الشاي الياباني المخفَّف الذي لم يكَد يصفَرُّ ماؤه، والذي يتناوله الجميع بدون سكر، في قِعابٍ صغيرة مكوَّرة من الخشب الياباني الثمين (اللاكيه). وما كاد يَستوي بنا المجلس حتى أقبلَت الفتاة تهمس في أذني، فلم أفهَم اليابانية، فخبَّرني صاحبي أنها تريدني أن أخلع حُلَّتي لأرتديَ «الكيمونو»، فقمتُ وهي تُلازمني وتتقدَّم بنفسها لتخلع عني ملابسي وتُرخيَ الكيمونو على جسدي، وكان يملكني الحياء لولا ما رأيتُه من جُرأة صديقي الذي علمتُ منه ألَّا حرجَ في ذلك؛ فتلك عادة القوم هناك. ولمَّا أن عُدتُ إلى المائدة أقبلَت فتاة الحمام تقول إنها أعدَّته لي، فقلتُ لصاحبي: لا حاجة لي به، لكن علمتُ أن ذلك ينافي طِباعهم، إذ هم يَرونه فرضًا على الجميع أن يستحمُّوا مرة أو اثنتَين في اليوم، قادتني هي وجمعٌ من صويحباتها إلى الحمام، وهنالك دخلتُ غرفة صغيرة صُفَّت بها الحشَيات والتَّكِئات للاستراحة قليلًا بعد الحمام، ومِن داخلها حوض الحمام من خشبٍ نظيف يملؤه ماء ساخن جدًّا في درجة حرارة تتراوح بين ٤٠ و٥٠م، وإلى جانبه مقاعدُ صغيرة من خشب، وأكوازٌ ومناطيلُ خشبية. وقفَت الفتاة وانتظرتُ أنا في حيرةٍ حتى تَخرج لأغلق الباب، فما كادت تجتاز الباب إلى الخارج حتى أسرعتُ بقفله، لكني لم أجد به ما يَحبسه عن الفتح، فخلعتُ ثيابي وإذا بالفتاة تدخل وتنظر إليَّ كأنها تُريد أن تخدمني في شيء، فجلستُ خجِلًا إلى جوار الحوض، ولمَّا أن أدركَتْ ما كنتُ فيه من ربكة خرجَتْ، فأسرعتُ بدعك جسمي بالصابون، وما كان أشدَّ دهشتي حين دخلَتْ مع زميلات لها وكأنها شكَتْني إليهن، فما كان مني إلا أن رميتُ بنفسي في الحوض رغم مائه المُحرق، هنا عَلَتْ ضجة الضجر منهن وأسرَعْن إلى الخارج، ولم أدرِ ما الخبر، فعَجلتُ بالخروج، وإذا بالهَرْج قد زاد وعلا، وعلمتُ بعدُ أنني ارتكبتُ خطأً فاحشًا؛ لأنه لا يجوز النزول في الحوض مخافةَ تدنيسه، فكانت مني اعتذاراتٌ لا أظن أنها كفَّرَت لديهم عن سيئتي هذه؛ لأني حَرَمتُ الاستحمامَ كلَّ نزلاء اللوكاندة سحابة اليوم حتى يُطهَّر ويُجدَّد ماؤه. وعجبتُ لمَّا علمتُ بعدُ أن رؤية الأجساد عاريةً من الجنسَين أمر طبيعي لا غبار عليه عندهم، فالفتيات يُناوِلْن الرجال ما يطلبون، ويغسلن لهم ظهورهم وهم عرايا. وكثيرًا ما يغتسل اليابانيُّون نساءً ورجالًا أمام بيوتهم في جانبٍ من الطريق، لا ينظر إليهم أحد، خصوصًا بين الطبقات الفقيرة، وقد كانت الحمامات العمومية خليطًا من الجنسَين معًا، ولمَّا أن كثر نقد الأجانب لهم أُمِروا بوضع حبل يَفصِل بين ناحية النساء والرجال! أمر نراه نحن شائنًا وهم يرونه عاديًّا لا يقع بسببه فسادٌ قط! ولا يأمن الغريب وهو في الحمام أن يُطِل عليه الجميع من شقوق الدار الخشبية، خصوصًا وأنهم يعجبون لأجسادنا الطويلة وسحنتنا الغريبة عنهم.
ويَستنكر الأجانبُ رؤية أجساد اليابانيِّين عارية، على أن اليابانيين يرَون ذلك أمرًا طبيعيًّا، فهو مُهدِّئ للميول الجنسية التي تبدو واضحة في غالب الأوروبيِّين. حدث مرةً أن نادى أحدُ القناصل خادمَه الياباني، فجاءه يرتدي قميصًا ونصفُ جسمه الأسفل عارٍ، وكان في مجلس القنصل بعضُ السيدات فنَفرْن من هذا، وطُرِد الخادم لوقته.
عدتُ إلى المائدة فأحاطَت بنا الفتيات يُحاولن مُسامرتَنا، وتلك عادتهم في كل مكان حتى في البيوت، إذ يجلس حول الضيف فتياتُ الدار يُسامِرْنه؛ إمعانًا في التأدُّب والتظرُّف، وفي عُرفهنَّ لا يجوز أن يُترَك الضيف وحده لحظةً واحدة حتى يَحين وقت النوم. ولمَّا كانت ساعة الطعام أقبل الفتيات يحملن «الصواني» الصغيرةَ من الخشب اللامع، عليها الأواني المكوَّرة الصغيرة من خشبٍ برَّاق، وفي مقدمة الجميع «برميل» نظيف من خشب يملؤه الأرز المسلوق.
ملأَت الفتاةُ لي آنية الأرز وسلَّمَتْنيها وفيها عَصَوَان دقيقتان أتناول بهما الطعام، وكان أول صنوف اللحم قطعًا من سمك نِيء عليه قِطَع ثلج، لك أن تغمس القطعة قبل تناولها في سائلٍ أحمر قانٍ حِرِّيف كالخل، وما كنتُ أخاله نِيئًا، فما كدتُ أعَضُّ على قطعة السمك حتى عافَتْها النفس وجزعتُ جزعًا شديدًا، وآثرتُ أن أزدَرِدَها صحيحة لأنجوَ من رائحتها وفساد طعمها، ثم تَبِعها صِنفٌ من حِساء السمك البارد، ثم الساخن، ثم شواؤه؛ فنوع يَحكي «الجنبري» إلى جانب شيء كالبطاطا الحلوة وبعض الأعشاب، أخَصُّها أعشاب البحر التي يُحبُّون رائحتها المنتِنة، والخُضَر «المخللة» كل هذا نتناوله في مُجاورة الأرز الذي كلَّما فرَغ إناؤه عجَّلَتِ الفتاةُ بملئه من جديد. ولمَّا انتهى الطعام قُدِّم صِنف من الفالوذَج «مادته من الأرز» لا تَكاد تُحِس حلاوته، ثم أعقب ذلك بعضُ الفاكهة، وكانت من خوخ ونوع آخر لم أرَه من قبل، وكأنه قرون البازِلَّاء البالغة، وخلال كلِّ ذلك كانت الفتاة تملأ لنا كأس النبيذ الياباني «الساكي»، الذي يَتخذه القوم من الأرز في طعمه المنفِّر، وتُعيد الكَرَّة مَثْنى وثُلاث ورُباع، وبين آوِنةٍ وأخرى يجب علينا بعد احتسائه أن نَغسله بالماء ونملأه، ثم نقدمه للفتاة فتشربه، ثم تعود فتغسله هي وتُقدِّمه لنا ثانيةً، وتلك من آداب المائدة لدَيهن، لا يصح إغفالها. وفي نهاية الطعام نُبقي في آنية الأرز قليلًا ونَصبُّ عليه الشاي، ونرتشفه بصوتٍ مرتفع مُنفِّر؛ علامةً على انتهاء الطعام، فتُرفع «الصواني» ويُقدَّم الشاي المر نشرب منه ما نشاء! موقف ساحر حقًّا، لولا ما كان يَحوطني من ارتباكٍ شديد في أداء التحيَّات المتكرِّرة على الوجه الأكمل، وفي استخدام العِصيِّ بدل الملاعق والشوك، فهي تتطلَّب مِرانًا طويلًا.
وكان في الغرفة المجانبة لنا قوم لعب «الساكي» بعقولهم، والياباني سريع التأثُّر بالخمر على خفَّته، كانوا يَصيحون ويُغنُّون وهم جلوس، وأمامهم «الصواني» الصغيرة والفتيات يَعزفن على الآلات الموسيقية اليابانية: «الشامسين» شبيه «الطنبور» الكبير برقبته الطويلة و«قصعتِه» المربعة، وله ثلاثة أوتار منفردة، رنينها يَحكي رنين المِزْهَر (العود) القوي، والعزف يكون بقطعة من خشب كالمِرْوحة الصغيرة، وهذه لا يكاد يخلو منها بيت أو منزل، والقطعة الثانية تَحكي «القانون» من ثلاثةَ عشَر وترًا منفردًا، وتُسمَّى «كوتو»، والأنغام مُتشابهة بسيطة في غير تعقيد، على أنها تُعوِزها الجاذبية. أما أغانيهم فمنفِّرة للغاية، حتى الفتيات اللاتي يَهززن في أصواتهن بتقطيعٍ مُنكَر، وكأنها أصوات «الماعز»، وكنتُ أرى السيدات يَحمِلن أطفالهن وقد رُبِطوا إلى ظهورهن، فلا يَكاد يُرى منهم سوى رأسٍ ناتِئ، وتلك عاداتهم في حمل الأطفال. ولم أكد أسمع همسًا طوال الوقت، والمعروف عن الياباني أنه هادئ الأعصاب بارد الطبع، ويَظهر أن تلك فِطرتُه منذ طفولته؛ لذلك لا تكاد تسمع لسيل الناس الدافق في الطرق من جلَبة، اللهم إلا قَعقعة «القباقيب».
هداني تَجْوالي في المساء إلى شارع «جنزا» بأضوائه الخاطفة وتنسيقه الياباني الخلَّاب، وهو مُتنزَّه الشباب ومحَطُّ سروره، حوى ٣٤٨ من الأنزال والملاهي ومَشارب الشاي وما إليها، إلى ذلك بعض المحالِّ التِّجارية تُعرَض بها المستحدَثات التي تَروق الشباب. ولن أنسى قعقعة «القباقيب» ولا سحابات الفراش الآدمي في ألوانه الجميلة. ومن المقاهي ما هو ياباني، ترى الأحذية والقباقيب وقد صُفَّت أمام الباب؛ إذ يجب خلعُها قبل الدخول.
ومن أجمل حفلاتهم: حفلات الأطفال، فحفلة الفتيات «هنيا ماتسوري» تُقيِّمها كل عائلة لفتياتها، ويكون ذلك يوم ٣ مارس، وهو موسمُ أزهار شجر الخوخ، ويشترك فيها جميع أوانس الأسرة، ولا يَشترك فيها الذكور قط، فتقوم دُمْيَتان كبيرتان تُمثِّلان نبيلًا وزوجته ومن حولهما دُمًى كثيرة تمثل الخدم والأتباع، ويَلبس الجميع ثيابًا فاخرة، وتُعرَض بجانب الدمى سائر أدوات المنزل في حجمٍ صغير دقيق، وبعض تلك يتطلب نفقاتٍ باهظة؛ لذلك قامت مصانعُ لإعداده، وفتيات الجيران يُدعَوْن لتناول الطعام في تلك الآنية الصغيرة وإلى جانبه شراب مخفَّف من «الساكي»، وبعد ذلك يَلعبن ويُغنِّين، وقبل بزوغ الفجر تُلَفُّ كل المعروضات لكي يُعَدُّ ذلك فألًا بزواج الفتاة المبكِّر، ويقولون إن تلك العادة خرافية قديمة نُقِلَت عن تفاؤلهم بالبنات؛ لأنهن بشيرُ إنتاج الأرض الوفير؛ لذلك كانوا يُكلِّفون البنات بعمل الدُّمَى لتُدفَن في الحقول، ثم تطورت إلى الاعتقاد بأن الدمى تمائمُ تَقي الفتيات الشر. وكان من عاداتهم القديمة أن تَحلق الفتاة يوم الزفاف حاجِبَيها وتخضب أسنانها باللون الأسود علامة الوفاء؛ لذلك تراهم يُمثِّلون ذلك في الدمى المعروضة في هذا العيد، وفي المعابد طالما كنتُ أرى دمية من قشٍّ دقَّتها إلى شجرة المعبد زوجةٌ هجَرها زوجها، وهي تعتقد أنها كلما أكثرَت من دق المسامير فيها أنقصَت الآلهة من عمر زوجها الخائن، وهي تَعِدُ المعبد أن تَقتلع كلَّ ذلك بعد موت زوجها؛ لأنَّ في بقائها جرحًا للشجرة المقدَّسة ومُضايَقةً للآلهة. وأمثال تلك الخرافات تُعزى إلى قسوة عوامل الطبيعة، تلك التي توحي بالأوهام، وخشية القُوى الخفية والجن؛ ولذلك كثر السحرة والعرَّافون بينهم. وفي مدينة أوزاكا آويتُ إلى نزُل ياباني صميم، وما إن حلَلتُ بَهْو الفندق حتى رأيتُ حواجز الخشب والورق تَزلَّق من حولي، وفي لحظة حُصِرتُ في غرفةٍ ضيقة، وأحاطني القوم بأدبهم الجم وكرمهم المعروف، وبعد أن قدَموا إليَّ شاي الاستقبال والفوطة المعقَّمة عرَضوا عليَّ الحمام فرفَضتُه، ولا يُلدَغ المؤمن من جُحرٍ مرتَين. ثم أقبل رب النزل يسألني: أتريد جيشات؟ وتلك طبقة من السَّميرات المحترِفات، لها مدارسُ خاصة في سائر بلاد اليابان، فيها يتعلم الفتياتُ وسائل السمر وإيناس الأضياف، بما في ذلك الغناء والعزف على الشامسين والكوتو، ولا يَخلو منهن مجلس قط. ويَحتقر اليابانيُّون جميعَ الأوروبيِّين الذين يُصادِقون الفتيات ويُغازِلونهن على قارعة الطريق، وحقًّا لم ألحَظْ شيئًا من هذا في الطريق قط رغم اختلاط الجنسين، عكسَ ما كنتُ ألاحظه في جميع بلاد أوروبا؛ إذ ليس للشُّبان هناك من عملٍ يَقتُلون به فراغهم سوى المغازلة للفتيات على قارعة الطريق. أما اليابانيُّون ففي ظنهم أن الرجال أكبرُ مقامًا من النساء؛ لذلك لا يصح التريُّض معهن على قدَم المساواة، وهم لا يرَون رأي الأوروبيِّين في أن الجنس اللطيف حياة المجالس وروحها؛ لذلك كثيرًا ما كنتُ أرى جماعات النساء يَقصِدن إلى الرياضة في غير صُحبة الرجال، أما الرجال فيغلب في رحلاتهم أن يَستحضروا الجيشات السميرات، وكثيرًا ما تَرى حلقة من الرجال يَجلسون القُرفصاء إلى جانب غَديرٍ أو شجرة مُزهِرة يشربون الساكي، وفي وسطهم السميرة تَرقص لهم وتُغنِّي، وترى بعض المارة ينضمُّ إليهم، ويَندر أن يُخاصِرها في الرقص رجل؛ لأنهم يَستنكرون رقص النساء مع الرجال على النظام الأوروبي. وفي الحفلات والولائم لا بد من وجود الجيشات، وأجورهن غالية بين جنيه وثلاث جنيهات في اليوم، وكلما أُقيمَ مَعرِض أو انعقد مجلس في إحدى المدن الكبرى كثر الطلب عليهن جدًّا، ومن بينهن الممتازات بأسمائهن، مثل: «كوهاروسان ورين جوسان»، وكلما علا صِيتُهن دلَّ ذلك على زيادةٍ في إكرام الضيف. ويُقدِّم الأشراف لأمثال هؤلاء هدايا قيمة، من ذلك ماسة قيمتها ٨٥٠ جنيهًا قدمَها نبيل للجيشا «سا كا كوسان»، فامتدحَت الجرائدُ كلها تلك السميرة، وأطْرَت المدرسةَ التي أنجبَت مثلَ هذه الجيشة التي أصبحَت من الشخصيات الممتازة في طوكيو. وفي الولائم الرسمية يَجلس الجيشات أمام الجمع رُكَّعًا، ويملأن أكواب الساكي كلما فرَغَت، وبين آونة وأخرى يلعَبْن دورًا موسيقيًّا، وبعد نهاية الطعام يَقُمن بألعابٍ بسيطة مع الرجال. أما في الحفلات الخاصة العائلية فيُرفَع التكليف، ويمتزج الجميع امتزاجًا تامًّا. ويجب على الضيف أن يملأ كأسه بين حينٍ وآخر ويُقدِّمها للجيشا، وتظل شاخصةً أمامه حتى يَفعل ذلك، وكثيرًا ما يَغفل الضِّيفانُ عن ذلك، فيظل الفتياتُ مكانهنَّ في مُضايَقةٍ شديدة، ويُرمى الضيف عندئذٍ بقلة الذوق. وعلى الضيف أن يأتي على زجاجة الساكي بأكملها كي تُملَأ ثانيةً، وإلا عُدَّ ذلك شؤمًا على المكان. وليس لأحدٍ أن يُطيل النظر للسميرة التي بجانب زملائه، إذ يجب أن يُلاطِف السميرة الخاصة به، ويغلب أن تكون أشهرَ الجميع؛ لأن أدبهم يَقضي بأن يُخَصُّ الضيفُ بأكبر المزايا، على أنه لا يُشترَط أن تكون أشهرُ السميرات أجملَهنَّ وجهًا، بل أذكاهن وأقدرَهن على التسلية. ولا يكاد يخلو مطعم أو مَقهًى من الجيشات، وأكثر ما يُعنَون به من التزيُّن: الملابس «الكيمونو»، وتنظيم الشعر، وطِلاء الوجه بالمحسِّنات البيضاء، أما الحُلي من أقراطٍ وعقود وسِوار وخواتيمَ فلا تجد مِن ذَوقهن قَبولًا. ورشاقة الفتيات بالِغة رغم ما يُعوِزهن من جمال، إذ لا تَزيد نسبة الجميلات على خُمس فتيات اليابان جميعًا في سنِّ النضارة، وهي ما بين الثالثةَ عشْرة والتاسعة عشرة، وبعدها يبدو الهرم عليهن عاجلًا كالمِصريَّات والإيطاليَّات، وسائر فتيات البلاد التي يَقصُر فيها أمَد الشفق؛ إذ لُوحِظ أن جمال السيدات يظل طويلًا كلما طال زمن الشفق.
وأمر النساء في اليابان يُثير الدهشة والنقد من عدة وجوه؛ فإنهم يُبيحون للفتيات — ما دُمْن غيرَ متزوجات — كاملَ الحرية في التريُّض والمصادقة، وقد ناقشتُ بعضَهم فكان منطقه أن العزوبة أمرٌ غير طبيعي، فإن لم يكن للفتاة زوجٌ فخليل. وهم لا يَعتدُّون بالبكارة والعِرْض اعتدادَنا به في الفتيات، على أنها إذا تزوجَت أصبحَت مثال الوفاء لزوجها، والعجيب أنها لا يصح لها أن تُظهِر الغيرة على زوجها من غيرها، وكثيرًا ما تُخاطب زوجها عند أوبته من رحلته قائلة: أرجو أن تَكون قد استمتعتَ ليلتك الفائتة، فيَقصُّ عليها نبأ ما كان يَحوطه من فتياتٍ وجيشات وصُويحبات سرَّيْن عنه كثيرًا.
وهل أنسى مرة بعد زيارتي لمعبد ميجي العظيم أنا وزميلي المصري، حين عَدَتْ وراءنا آنستا والْتقيَتا بنا، واحدة من يميني والأخرى عن يسار صاحبي، وأخَذن يُلْحِفن ويتمسَّكن بالتريُّض معنا هذَين اليومَين، وقالا: «جئنا لنحج إلى هذا المعبد المقدس من بلدتنا البعيدة، وقد فرَغْنا الآن من الواجب الديني، فلننصرف إلى متاع الدنيا، وها أنتما شابان مهذَّبان، وها نحن غادتان جميلتان، أليس كذلك؟» وكان صديقي يَعرف اللغة اليابانية فتفاهم معهما، وبعد رياضةٍ قصيرة ودَّعْناهما ولم تُفارِق البسماتُ وجهَيْهما!
وأعجب من ذلك وأنْكى أنهم يَحترمون العاهرة احترامَهم للزوجة؛ فالأب هو الذي يتخيَّر لابنته الزوج، كما أنه هو الذي يدفع بنته إلى الدَّعارة إن أعْوَزه المال؛ لأن في عَوزِه هذا هدمًا للعائلة ويجب تَلافيه، وإلا انْهار ركنٌ قومي يؤثِّر على كِيان الدولة والوطن. وهم يُطلِقون على العاهرة اسم «أوجوروسان»، أي: العاهرة العظيمة! حدَث مرةً أن اقترض نجار خمسين جنيهًا من دار جيشات مقابل ارْتِهان بنته الجميلة في سن الحادية عشرة لمدة خمس سنين، بعدها يدفع الدَّين ويتَسلَّم الفتاة، فأصبحت تلك الفتاةُ من كُبْرَيات الجيشات، فأكبرَها الجميع. وإذا احتاج الرجل المال وكانت بنتُه كبيرة فوق السابعةَ عشرة دفَع بها إلى بيت الدَّعارة، فإذا هرَبَت ساعده البوليس على إرجاعها إلى بيت الدعارة حتى يَتم سداد دينه؛ لأنها مُلزَمة بذلك قانونًا إذ قَبِلَت الدَّين عن والدها! تصرُّف نراه همجيًّا وحشيًّا، لكنهم يُبرِّرونه بأن واجب الأبناء طاعة الآباء، والعمل على إنقاذهم من الشدائد؛ لأن في ذلك معنى الإخلاص للأسرة وللدولة التي يُضحَّى في سبيلها بكل شيء. ويتَهافت الشُّبان على الزواج من أمثال أولئك إكبارًا لهن وتفاخُرًا بهن! منطق لا تُسيغه عقولنا البتَّة.
أضف إلى ذلك أن مِن أخص وسائل إكرام الضيف أن يُقدِّم المضيفُ السميرات لضيفه، وهل هذا في زعمهم إلا واجب طبيعي! وقد كانت العادةُ فيما مضى أن يُبالِغ المضيفُ في إكرام ضيفه، فيُقدِّم له زوجته، ولا خطر هناك من اختلاط النسل؛ فكلُّهم أبناء الإمبراطور ابن السماء، ولم يُقلِعوا عن تلك العادة القبيحة إلا تفاديًا لمرارة النقد الأجنبي، وأنهم لا يُطيقون أن يَنقُد بلادَهم أحدٌ قط.
تناولتُ العَشاء ورغبتُ في النوم، وسرعان ما تقدَّم الفتيات إلى وسط الغرفة يَفرشن لي حشية (مرتبة) صغيرة تتناسب مع قاماتهم القصيرة، وإلى ناحية الرأس وسادة من خشب، عليها غشاء رقيق من قماش يَحشوه القطن، وشُدَّتْ «نموسيَّة» خضراء في حجم الغرفة كلها إلى الأركان، ووُضِع إلى جانب الفراش الشاي الذي يَحسُن شرابه قبل النوم، لِيُطهر الفم ويُساعد الهضم، ثم قُدِّمت المبخرة وأُشعِلَت بها فتائلُ خضراء حلزونية تظل مُتَّقِدة طوال الليل طردًا للبعوض، على أني لم أُطِق رائحتها المنفرة، فمدَدتُ جسمي، وكانت قدَماي تتدلَّيان خلف الفراش إلى نصف الساقين، ورأسي لا تكاد تستقرُّ على وسادة الخشب القاسية التي لا يلَذُّ لهم النوم إلا عليها، فترى الرقبة مَشحوذة عليها والرأس تتدلَّى من طرَفِها الخارجي غالبًا، ويظهر أن الباعث عليها شِدة محافظة السيدات على تنسيق شعر الرأس؛ مخافة أن تَعبث به الوسائد الأخرى. ويقولون إن نساء اليابان امتَزْن بجمال الرِّقاب الممشوقة غير المجعَّدة، وتلك نتيجة النوم على هذه الوسائد.
واليابانيُّون نساءً ورجالًا يعشقون حياة الخلاء، ولو أن حقولهم وحدائقهم تُنسَّق على نمطٍ واحد؛ فهم لا يُحبُّون الطبيعة الفطرية غير المنسقة؛ لذلك تجدهم يُعنَون بتنسيقها إلى حدٍّ كبير؛ ولهذا كنتُ أرى الآنسة إذا خرَجَت للنزهة بدَت في كامل ثيابها وبديع زينتها، أما البساطة والخروج بالزيِّ الكشَّافي الساذَج فمنفِّر لديها، فهي تُعنى بالأناقة أكثرَ من عنايتها بالرياضة. وفتيات اليابان من طبقة الفقراء يَسلكن في مستقبلهن أحد سُبل ثلاثة؛ سبيل الجيشات، أو العمل في المصالح، أو البِغاء، ولا عار في ذلك مُطلقًا، وليست الجيشا بَغِيًّا بل سَميرة فقط؛ ذلك لأن تقاليد اليابان تُحتِّم على الزوجة أن تقَرَّ في بيتها وتخدم ذَويها، فإن حنَّ الرجل إلى مجلس النساء استأجر إحدى الجيشات فترة معينة وجالسَها في فنادق الشاي المشهورة هناك، حيث تقوم على خدمة الرجال وتَسْليتهم بالغناء والرقص، وقد يَستأجر بعضُ الدور الجيشا لمدة خمس سنوات أو أكثر، وذلك لا يَمنع أن تَتخِذ لها خليلًا أو خطيبًا. وفي طوكيو بناءٌ خاص لتأجير أولئكن السميرات في أيَّة ساعة من الليل أو النهار.
أما شغل العاملات في المصانع: فنوع من الرِّق تخضع له الفتاة من سن الثالثةَ عشرة إلى الثانية والعشرين، ويطوف بعاملات الريف مُتعهِّدون يتعاقدون مع الآباء على توظيف بناتهم، ويتعهَّدون بالعمل على إعدادهن للزواج في سن الحادية والعشرين، ويتراوح العمل اليومي لهن بين تسع ساعات وعشر، والأجر رخيص لا يعدو ثلاثة قروش، وكثير منهن يشتغلن في الزراعة وصيد الأسماك واللآلئ. وقد لاحظتُ أن زُهاء ستين في المائة من عمال المصانع الكبيرة من السيدات، وهذا يُفسِّر رِخَص المنتجات اليابانية من جهة، وعدم نجاح الصناعات التي تتطلب مهارة الرجال كصناعة الآلات، أما النسيج الذي لا يحتاج إلى مهارة العامل بقدر احتياجه إلى حُسن الإدارة وإلى جودة الآلات فقد نجَح تمامًا. ويُعزى افتقار اليابان في مهرة العمال إلى حداثة عهدها في الصناعة وقلةِ خبرتها بها.
ولقد دعا إلى استخدام النساء: أن المصانع منذ البداءة أُقيمَت في القرى لرخص أثمان الأراضي بها، فلم تجد من العمال كفايتها، وتلك صعوبة تَعترض الصناعة حتى في مدنها الكبيرة؛ لذلك لجأ أصحابها إلى العائلات الريفيَّة يُغْرونها على إرسال فتياتها يتعلَّمن في المصانع ويشتغلن، مقابل أجرٍ معيَّن يُستقطَع منه جانب، نظيرَ المسكن والغذاء الذي يقدمه لهن صاحبُ المصنع.
ولقد أضحَت زيادة السكان في اليابان خطيرة، يَزيدها خطرًا أن نظامهم الاجتماعي يُحرِّم تحديد النسل؛ فهو يساعد الزواج المبكر، كما أن الأبوين لا يَشعُران بمسئولية الأولاد؛ لأن رعايتهم فرض على الأسرة بأكملها، إلى ذلك أن الدين الشنتوي يحض على النسل ويُنفِّر من الزواج العقيم، كذلك المرأة اليابانية تَعُدُّ نفسها خادمةَ أولادها، ولم ترْقَ إلى مستوى المرأة الغربية التي قلَّ نسلها بسبب ثقافتها وشعورها بمسئولية تربية الأولاد، واشتغالها مع الرجل جنبًا لجنب.
والنساء هناك لا يَعرِفن الطرق الحديثة التي يتبعها الغربيَّات في منع النسل، ذاك الذي أضحَتْ قلته خطرًا في إنجلترا وأمريكا، وفوق الجميع فإن الحكومة اليابانية لا تسمح بنشر أيَّة دعاية تحضُّ على تعطيل النسل، وذلك دفاعًا عن الناحية العسكرية، فكأن كثرة النسل في اليابان يَكفُلها الدين والعادة والحكومة والنظام الاجتماعي.
وكم سمعت الأجانب يَعيبون على الياباني أن يرتشف الشراب من الكأس بصوتٍ يَنفِر الغربي من سماعه، أو أنه لا يقف للسيدة، بل للطفل والرجل المسن، وهو أقرب إلى المعقول. وكم كنتُ ألاحظ في الترام أن غالب الواقفين من النساء، ولا يصح أن يقف الرجل للمرأة، بل بالعكس رأيتُ رجلًا دخل العربة فسلَّم على صاحبٍ له كان يجلس بجواري وإلى يَساره سيدة يغلب على ظني أنها زوجته، فوقفَت هي وتنحَّتْ له عن مكانها، فجلس بعد أن شكرها، وظلَّت هي واقفة.
ولعلَّ أظهر ما يبدو الفرق بين العائلة اليابانية والغربية في الزوجية وميول الإنسان الجنسية، فالغربي يرى أن الحب أساس الرابطة الزوجية، وعليه يتوقف صالح المجتمع كله، لكن الياباني يرى أن هذا الحب لا ينطبق على المثل الأعلى، فله خطره وأثره المتلِف المدمِّر.
وقد يُخيَّل للغريب أن المرأة مُحتقَرة هناك، والحقيقة أنها في دائرة اختصاصها — وهي تدبير المنزل وتربية النشء — ذات سلطة مطلَقة واحترام كبير، أما فيما يختص بالمعاونة العلمية والفِكرية فليس لها نصيب؛ لأن وظيفتها زوجةٌ فحَسْب، عليها أن تُطيع زوجها وتحترمه، فإذا سار في طريقٍ لا يصح لها أن تتقدمه، وليس لها أن تُشاطِرَه وإخوانه مجلسه، بل تُقدِّم إليهم ما يَطلبون ثم تنسحب.
ويُحِب الياباني من الجمال في النساء هناك: الوجه الممطوط، والجبهة المنتفخة، والشعر الذي يخلو من التجاعيد، والعيون الطويلة الضيقة وجوانبها الخارجية مائلة إلى أعلى، والحواجب الرقيقة العالية عن العيون، ويميل إلى الفم الصغير والشِّفاه الغليظة والرقبة الممشوقة العالية، واللون الأبيض الخالي من الحُمرة، والقوام النحيف والأرداف الصغيرة؛ حتى يتناسب الجسمُ مع الرداء القومي. وهو يحب أن يرى السيدة تمشي وهي تميل بأعلى جسدها إلى الأمام قليلًا، ويحب فيها المِشْية السريعة قَصيرة الخُطى دون أن يُرفَع القدم عن الأرض بعيدًا.
وأغلى قطعة في ملابس السيدات: الحزام (الأوبي) من الحرير الموشي، وكثيرًا ما يبلغ ثمن الواحد خمسين جنيهًا.
والطفل هناك معبود أبَوَيه، ويتلقَّى من العناية ووسائل الاستمتاع ما لا يتلقَّاه زميله في البلاد الأخرى، ولا تُحتقَر البنت أو تُهمَل كما يَفعل الكثير بها في البلاد الأخرى، فعند ولادتها يُسارع أهلها إلى الإعلان عنها للأقارب والأصحاب؛ ليُسارعوا بتقديم الهدايا، كالمأكولات واللعب وقطع الحرير وما يَلزم لملابس الأطفال، وتُلَفُّ الهدايا في ورقٍ أبيض. والعجيب أنهم يَعُدُّون عمر الطفل سنة في أول يوم وُلد، وإذا جاء عيد ميلاده الثاني كان له سنَتان في عُرفهم، وإذا وُلد طفل آخر في ديسمبر مثلًا وجئتَ في أول يناير وسألت عن عمره قيل لك: سنتان! والعادة أن يوم ٥ مايو هو يوم عيد ميلاد الذكور، و٣ مارس عيد ميلاد الإناث في كل عام. وفي اليوم السابع من الميلاد يُقيَّد ويُعطى اسمًا، ويكون في الغالب اسم زهرة أو شجرة أو شيء طبيعي جميل، ولا يصح أن يحمل الطفل اسم أحد أقاربه من الأحياء؛ لأن في ذلك إهانة. وبعد الأسبوع الثالث يُحمل الطفل إلى المعبد وهو في أحسن ملابسه، وتُقدَّم القرابين للآلهة والقسيس، وعندما يباركه يُحمَل إلى المنزل حيث تُقام حفلة سرور كبيرة. وقلَّما يبكي الأطفال هناك، وسرعان ما تترك الأم طفلها لإخوته الكبار يربطونه وراء ظهورهن طيلة اليوم ويجوبون الطرقات؛ ولذلك فضلٌ صحيٌّ عليه؛ لأنه يبقى في الهواء الطلق أغلب حياته.
وأطفال الطبقة الراقية يُركِبونه عربة «الركشا» المصغَّرة يجرُّها الخدم. والأطفال يتدرَّبون منذ الصغر على الجلوس وهُم رُكَّع، وقد عزا البعضُ قِصَر القامات اليابانية إلى تلك العادة التي تُعيق نمو الساق الطبيعي؛ لذلك كانت سيقانهم قصيرة عن نُظرائهم في الخارج. كذلك يُدرَّب الأطفال على لبس الصنادل من القش الخفيف في الجو الصافي، وقباقيب خشبية مرتفعة في الجو الممطر، ولا يمكن تمييز البِنت من الولد في الطفولة إلا بلون الملابس الزاهية، فهي زاهيةٌ للبنات، قاتمة للأولاد. وأعيادهم كثيرة ويُعنَون بالاحتفال بها، أذكر مِن بينها عيدَ رأس السنة حين يُرفَع التكليف ويَلعب الآباء مع الأبناء. ولعلَّ أحب الأعياد: عيد العرايس الذي يبدأ في اليوم الثالث من الشهر الثالث (٣ مارس)، وفيه تُشتَرى العرائس التي تمثِّل مُختلِف طبقات الشعب وتُعرَض مع عرائس العائلة المخزونة، ويظل هذا العرض مصحوبًا بالفرح والسرور ثلاثة أيام.
وعند وصول الموكب الدار تُرفع الأيدي بالمشاعل على جانِبَي العتبة، وفي كل جانب رجل يسحق الأرز، وبمجرد وصول الزفة يُخلَط مسحوق الأرز الأيسر على الأيمن، ويتقدم أحد أقارب العروس ويربط طرَفَي شمعتَين ببعضَيهما ليمثل ارتباط الزوجَين الروحي والجسمي، ثم يُشعِل ذاك الطرَفَ المربوط، ويتقدم رجل ويُطفئ اللهب ليدل على أنهما سيموتان سويًّا، ثم تعقُب ذلك الوليمةُ التي تُقدَّم بها صنوف الطعام، والساكي يُقدَّم في جِرار (براريد) عُلِّقَت عليها فراشات من ورق؛ لتكون بشير الذُّرية، والزوجان يَشربان معًا إناء له أنبوبتان علامة على التضامن في السراء والضراء، ثم تَذهب الزوجة إلى والِدَي زوجها لتُقدِّم الولاء، والذي يقوم بفرش بيت العروس صديقات الزوج من الفتيات. والطلاق هناك سهل جدًّا.
وأظرف ما يَسترعي نظرَ السائح في كوريا أرديةُ الرجال والنساء، والأحذية من قماش أبيض يتلوَّى طرَفُها المدبَّب إلى السماء، وجواربهم بِيض يعلوها «بنطلون» وصِدارٌ للرجال والنساء على السواء، وقد يَرتدون فوق ذلك كلِّه عباءةً من قماشٍ جامد، منتفخ بما أُشبِع من «النشا»، ويَزيد حزام ضيق في وسط الجسم عند النساء.