الصين
وفي الصين يُعنى كل فرد بالزواج المبكِّر؛ كي يلد أكبر عدد ممكن من الأبناء الذين يُحْيون ذِكْراه ويوفرون لروحه السعادة بما يُقدِّمونه من قرابين، ومَن لم يستطِع القيام بذلك لفقره وجب على المحسنين أن يُعينوه بما لهم؛ حتى يستطيعَ أداء واجبه، ومن لم يعقب اضطُرَّ أن يتبنَّى من ذرية الغير؛ لذلك كثرت ذريتهم إلى درجةٍ جعلَت تَنازُعَ العيش بينهم مُمِضًّا، ذاك التنازُع الذي أدَّى إلى سياسة الابتزاز الممقوتة التي عُرف بها أهل الصين جميعًا.
ولقد أحدث انتشارُ الفقر والعَوَز في طول البلاد وعرضها أسوأَ الأثر في أخلاق الناس فأفسَدها، وأنت تلمس انحلالها في كل مقام، فلا أذكر أني ركبت «ركشا» مرة دون أن يُباغِتَني سائقها قائلًا: أتريد بعض الغانيات من فتيات المانشو ذائعاتِ الصيت جمالًا! إلى ذلك جماهير السيدات اللاتي كُنَّ يُمسِكْن بتلابيبنا طوال الطريق إلى درجة المضايقة الشديدة، ومنهن مَن لم يبلغن الحلم، وكأن الأجانب هناك بأخلاقهم الفاسدة قد جرَّأوهن على ذلك الابتذال. وطالما كنتُ أعجب للصغار من الفتيات يُسرِعن إليَّ طلبًا للمعونة المالية وهن في هندامٍ نظيف لا يُشعِر بالفقر.
ومن المناظر التي كنتُ أتألم لها طول الطريق السيدات اللواتي كُنَّ يَسِرن في تثاقُلٍ وئيد، والواحدة تكاد تترنَّح ولا يتزن جسمها فوق قدمَيها اللتَين لا تَزيدان على سبَّابة اليد طولًا، وقد انحبس نُموُّهما ونموُّ عظامهما، فكان يُخيَّل إليَّ أنهن يَسِرن فوق عصًا خشبية دقيقة جامدة، وكأن ذلك قد أثَّر على الساق نفسِها، فدُقَّت من أسفلها ونَحُفَت إلى حدٍّ مخيف، ويا ويلها إن حاولَت الجري! فإنها تتعثَّر بشكلٍ بشع والألم يبدو على وجهها. ويكاد يكون نصف نساء البلاد من هذا النوع. والأقدام الصغيرة كانت آيةَ الجمال لديهم، وكان يُحتِّم الزوج أن يرى قبل الزواج حِذاء خطيبته، فإن ظهر بعد الزواج أنَّ قدم العروس كانت أكبر من الحذاء الذي أخذه رهينةً جاز له الطلاق؛ لذلك كان الأمهات يُبالِغْن في تشويه أقدام بناتهن وهن صغار، فكانت تُغسَل الأقدام بالماء الساخن، ثم تُلَف حولها أشرِطة من الكتَّان لفائفَ معقَّدة مُحكَمة، وفي كل ليلة تُعيد الأم هذه العمليةَ لمدة ثمانيةَ عشر شهرًا، والبنت تتأوَّه في ألمٍ شديد والأم تَسترضيها بالهدايا وتُمنِّيها بزوج قريب. ولقد حرَّمَت الحكومة الجمهوريةُ ذلك اليوم وفرضَت عليه عقوبات قاسية، على أن ضعف سلطان الحكومة اليوم وعدم استقرارها شجَع كثيرًا من الأمهات أن يُثابرن على تلك العادة القبيحة، ولا يزال الشبان يؤْثِرون في السيدات الأقدامَ الصغيرة كما ثبَت لي من محادثة كثير منهم.
وفي شوارع شنغهاي كنتُ أرى الجماهير الدافقة متلاصِقة متلكِّئة في مظهرهم الصيني البحت؛ عيون منتفخة، وخدود ناتئة، وأنوف نصف فَطْساء، وأفْكاك بارزة، وقامات قصيرة، وشعر أسود حالك هادل. أما الهندام فللأغنياء والمتوسطين مُتشابِه، وكذلك للرجال والنساء، وإن كان هندامُ الرجال أكثرَ جاذبية، والرداء قطعتان؛ سروال يُربَط فوق العرقوبَين، وهو للنساء أقصر قليلًا لكي يُظهِر جمال الأقدام الصغيرة المشوَّهة! وتعلوه شبه «جاكتة» قصيرة، وفوق هذَين جلباب فضفاض طويل الأكمام مفتوحٌ من جانبَيه إلى ما تحت الساعد، ويشتبك طرَفاه بالأزرار، وله ياقة عالية تأخذ بمَخْنَقهم رجالًا ونساءً، ويغلب أن يكون من حرير ثمين للأغنياء، وتُطوى أطراف الأكمام لتقوم مقام الجيوب، وإلا حمَل الواحد أشياءه في منديلٍ قد يتبعه به خادمُه. أما الأحذية فمن قماش لا يَقِي القدَمَين شرَّ الرطوبة، ولعلها اختِيرت كذلك لكيلا تشجع على المشي، ذاك الذي يَعُدُّونه عيبًا يُلجِئهم إليه العوَزُ، وغطاء الرأس قَلَنسوة من حرير. أما الفقراء فرِداؤهم كأنه البيجاما الفضفاضة من قماشٍ أسود لامع كالجلد، وقُبَّعاتهم كأنها أطباق الخوص المخروطية المسنَّنة. أما ابتذال النساء فحدِّث عنه؛ فهو يبدو في شكلٍ مروِّع بين أجنبيَّات — وبخاصة الروسيَّات — ووطنيات، كل تلك المظاهر جعلَتْني أفهم أن للقوم الحق أن يُطلِقوا على شنغهاي اسم «باريس الشرق»، فهي تفوق في ذلك «باريس الغرب». ويَلفِت النظرَ بوجهٍ خاص ميلُهم جميعًا للاختلاف إلى المراقص التي لا تُحصى بين أجنبي وصيني، وقد دخلتُ مرقصًا صينيًّا، وهنا تجلَّى التناقُض التام والتصادم بين القديم والحديث، فالموسيقى تدقُّ أنغامًا أوروبية. والصينيُّون يُخاصِرون الصينيَّات ويُعاقروهن الخمر وهم يَلبسون جلابيبهم الفضفاضة التي تَحكي «القفطان»، فصوِّر لنفسك منظر شيخ معمَّم يُخاصر غادة ويُراقصها، وهؤلاء هم بالطبع النشء الثائر على الرجعية القديمة، ولو أني أرى في ذلك كثيرًا من التطرف الممقوت، ويظهر أن عَدْوى الأجانب وبخاصة إباحيِّي روسيا من جهة، والحروب الأهلية التي بدأت منذ زمان بعيد من جهة أخرى، هذا إلى تذوُّق شعب رجعي عتيق لحرية العصر الجمهوري، كل ذلك كان سببَ ذاك الاندفاع الشائن في تيَّار المُجون. ونظام العائلة في الصين يُبنى على الرهبة، فالرِّباط العائلي تُوثِّقه التقاليد والدين والقانون لحدِّ جعل الإخلاص للعائلة دون غيرها واجبًا، وقد قضى هذا على التعاون بين العائلات، فلم يَحدث في تاريخ الصين أن أبناءها تعاوَنوا مرة على إصلاح بلادهم في أية ناحية؛ ولذلك ثبَتوا عند تأخرهم القديم، ولعلَّ أسوأ أثرٍ لتلك العُزلة وذاك النفور بين العائلات قتل الشعور الوطني، إذ لا يُضحِّي الصيني بصوالح عائلته الخاصة في سبيل الصالح القومي العام؛ ولهذا لا تَعطِف مقاطعةٌ على غيرها من جاراتها قط مهما أصابها من نكبات، ولم يؤلِّفوا جبهة متضامنة ضد المغيرين والمعتدين سواء من الداخل أو من الخارج، (وهنا الفرق الرئيسي بينهم وبين اليابانيين)، فالعائلة أساسها الأب — وهو شبيه بالإله — سُلطته لا تُعارَض، حتى لقد كان من حقه بيعُ أولاده وقتلهم. أما الأم فكمية مهملة ليس لها على أولادها سلطان، وبخاصة الذكور، حتى إذا شبَّ الولد لا يستمع إلا لأوامر أبيه. أما البنت فمُضطهَدة بائسة؛ لذلك لا يسأل الوالد أذكرًا رُزقت أم أُنثى؟ بل: أدُرة أم طينة؟ والزواج هناك مبكر جدًّا، والعزوبة تكاد تكون معدومة؛ لأن البقاء هكذا جريمة اجتماعية في ظنهم. والقاعدة الزواج من واحدة، لكن للزوج الحق في اتخاذ ما شاء من الخليلات على قدر ثروته، فكلما كان غنيًّا فاخَرَ بكثرة مَحْظيَّاته وبيوته التي يُنفِق عليها، وكثيرًا ما نرى من السَّراة من يَحوز عشر نسوة، وكان من بينهم رئيس الجمهورية نفسُه. والزوجة الرسمية يدفع لها مهر بنسبة ثروتها، ومتوسط المهر مائتان من الجنيهات، وإذا ما دخلَت بيت زوجها دفعَت مبلغًا مساويًا له، ويتسلَّم الزوج المبلغَين لاستثمارهما، والعادة أن العائلات الكبيرة ترفض أن تُعطيَ فتياتها كخليلات مهما كان مركز الزواج.
وإذا مات الرجل لا تتزوج أرملتُه، بل تظل هكذا طول حياتها، أما الزوجة فإن ماتت فللزوج أن يتزوج من غيرها. والميراث يُقسَم بالتساوي بين الذكور من الأبناء، سواءٌ في ذلك أبناء الزوجة الشرعية والخليلات، أما النساء فلا يرثن إلا إذا أوصى الأب بغير ذلك. والزوجة خادمة لزوجها ولأمه، ولا يتحسن مركزها إلا إذا وضَعَت ذكَرًا، فإن خلفَت أنثى فيا ويلها، والمرأة العقيم يجوز طلاقها وإلا تبنى الرجل أحد أقربائه. ولا يتَنزَّل الزوج فيجلس مع زوجته وأولاده إلى مائدة الطعام رغم ما لهذا من الأثر في تربية النشء، كذلك لا يجوز أن يأكل الإخوة مع الأخوات إذا بلغوا السابعة، وإذا أحصى رب العائلة أفراد أسرته أهمل عدد الإناث. ونساء الطبقة الراقية مُحجَّبات لا يَخرجن إلا محمولاتٍ على (الكراسي المعلقة)، ويَخال البعض أن ذلك راجع إلى عادة تصغير الأقدام التي تعيقهم عن السير. وعندما يُرزَق أحدهم بمولودٍ يُطلَق البَخور أمام الدار، وتُعلَّق علامة خاصة، ثم يُدثَّر الطفل بثياب آبائه لمدة شهر لكي تتسرب إليه فضائلهم، وبعد الشهر يُحلَق شعره ويلبس ملابسه الحمراء، ويُؤخَذ رأي المشعوذين في اختيار طالع سعيد، وعندئذٍ تُقام وليمة يُقدَّم فيها النبيذ والبيض المخضَّب باللون الأحمر، وتُرسَل لكل مدعوٍّ بيضة حمراء، وعلى المدعوين تقديم الهدايا والنقود. والعجب أن الطبقات الفقيرة التي لا تَكفيهم مواردهم أن تَمون عائلة كبيرة، يتخلصون من بناتهم، وهناك خارج القرية يقوم شبه بُرج على رَبْوة، يضع الرجل فوقه طفلته ويتركها، فيجيء الآخر ويُلقي بها إلى داخل البرج لتموت ويضَع هو طفلته مكانها، وبذلك لا يَقتل الرجل ابنته، بل طفلةَ غيره. هذا وقد اعتاد الخيِّرون من أصحاب الملاجئ أن يمروا بتلك الأبراج ويَنقُلوا ما يجدون من الأطفال إلى الأديِرة لتربيتهن. وكان ميلاد الأنثى يُعَدُّ عارًا كبيرًا ورُزْءًا يجب دفعُه؛ ولذلك فكثيرًا ما كان الأمهات يُلقين بمواليدهن من البنات في النهر أو في الطرقات، وحتى إذا صادف أن أبقى عليها أحدُ الخيِّرين من أبوَيها وكانا فقيرَين، باعاها إذا كبرت لنوع من الرق والعبودية لا يُطاق. وبنات الأغنياء يَخضعن لضغط الأقدام ولفِّها، كي تَصغر وتُكسِباها مِشية ذاتَ غمزٍ محبَّبٍ لدى الأزواج، كذلك ترك أحد أظافر اليد يطول إلى مدًى بعيد؛ ليكون دليلًا على ترفُّع الغادة عن كل عمل يدوي، ذاك الذي يُحتقَر منهن جميعًا ويدل على ضَعة الأصل. ولم يكن يُباح للبنات دخول المدارس قبل سنة ١٩٢٤، وقد أُبيحَ ذلك بعد استقرار النظام الجمهوري قليلًا، ومما يُؤسَف له أن الأغنياء اليوم إذا أرادوا تعليم بناتهم أرسلوهنَّ إلى الخارج، وبذلك يفقدن قوميَّتهن وآدابهن. ولا يزال لبيع البنات في أسواق شانتنغ وسشوان بقيةٌ إلى اليوم.
وعند الزواج يَستعينون بالخاطبات، وقد تُخطَب الفتاة في سن الطفولة، ولا يمكن فسخُ الخِطبة أبدًا مهما طرأ من عقبات، ولا يُباح للبنت الخروجُ أو الاتصال بالغير ما دامت مخطوبة، ولا يَصح أن يرى الخطيبُ عَروسه عند الزواج، ولا بد أن يُجهِّزها أبَواها بالمتاع والأثاث الفاخر، وتُقام الحفلات في إسرافٍ شديد تفاخُرًا، هذا خلاف المهر الذي يَدفعه الأب لابنته. وفي وليمة الزواج يُقدِّم الضيوفُ الطعام والهدايا بكثرة، وتُحمَل العروس على الكرسي المعلَّق، وتلبس أفخر الملابس، وتَرمي على جسمها قناعًا أحمر من حرير، وسرعان ما ترغب في الحمل، وبذلك لا تكاد تَهنأ بشبابها قط. ولعلَّ أسوأ عادات النساء الانتحار، فالآنسات يأتين ذلك إذا ما تأخر عنهن الزواج، وذاك يُعَدُّ عارًا كبيرًا والموت لهن خير وأبقى. وكثير من الزوجات الحديثات يُقدِمن على الانتحار؛ تخلُّصًا من سوء معاملة حمَوَيها، وتعدد الزوجات هناك شائع.