(١) مسرحية «طارق الأندلس» لمحمود تيمور
يبدأ الفصل الأول بإقامة احتفالات النصر بفتح المغرب الذي لم يبق منه سوى مدينة
سبتة، التي يحكمها يوليان باسم لذريق، وذلك بفضل شجاعة وبسالة طارق بن زياد. ويحضر
الأمير موسى بن نصير إلى السرادق حيث يبدأ السمر، وهنا يحضر يوليان وابنته فلورندة،
ويطلب من موسى أن ينضم إلى صفوف المسلمين للانتقام من لذريق، وأن يساعدهم على غزو
الأندلس، بعد أن زيَّن لهم ما فيها من خيرات وكنوز، ويوافق موسى على هذا العرض،
ويظل يوليان وابنته في ضيافة طارق بن زياد، ثمَّ يأخذ يوليان في تجميل صورة طارق
عند ابنته لغرضٍ ما في نفسه، وعندما يأتي طارق ينسحب هو ليخلي المجال لابنته
للإيقاع بطارق، وبالفعل تأخذ فلورندة في مغازلة طارق الذي يزهو بذلك. وتتوالى
الأحداث، ويقوم طارق بإنقاذ فلورندة من محاولة اغتيال قام بها أحد القوط الذين
تتبعوا يوليان وابنته.
ويبدأ الفصل الثاني بجزءٍ من خطبة طارق بن زياد الشهيرة في فتح الأندلس، ثمَّ
نستمع لأصوات صليل السيوف، وصهيل الخيول، وقرع الطبول، وكلمات الحماسة والشجاعة،
دليلًا على فتح طُليطلة وغيرها من بلاد الأندلس، ثمَّ نرى الرسل تحمل إلى طارق — من
قِبَل الأمير موسى بن نصير — الأمر بالتوقف عن الزحف وعن فتح أي مدن أخرى، ولكن
طارق بن زياد لا يُبالي بالأمر، ثمَّ يدبِّر يوليان — بمساعدة الكونت بدرو — مؤامرة
لقتل طارق ليخلو له حكم الأندلس، ولكن المؤامرة تفشل بفضل ابنته فلورندة.
وفي الفصل الثالث نجد يوليان لا يزال يعمل على قتل طارق رغم زواج طارق من ابنته
فلورندة، فيأخذ في تزيين مطاردة فلول القوط لطارق عن طريق يسمى طريق الشعاب أو طريق
الصعاب، وهو طريق لا نجاةَ لمن يسلكه، ويأتي قاضي القضاة من قِبَل الأمير موسى
ليمنع طارق بن زياد من مواصلة الزحف، ولكن طارق بن زياد يعنِّفه ويثور عليه وعلى
جميع قوَّاده، ويتعالى عليهم؛ بسبب إصراره على سلوك طريق الشعاب الخطر. وبالفعل
يسلك الطريق، ويكاد أن يهلك فيه هو وجنوده؛ فيكتشف بذلك مؤامرة يوليان للتخلص منه،
ثمَّ يقوم بمواجهته فتنهار فلورندة وتكشف له عن مؤامرة أبيها، فيقوم الأب يوليان
بطعن ابنته ثمَّ ينتحر. ويتم إنقاذ فلورندة، ويعود طارق إلى طُليطلة ليستقبل الأمير
موسى بن نصير.
وفي الفصل الرابع تطلب فلورندة الطلاق من طارق، بعد إلحاحٍ شديدٍ؛ لأن شبح أبيها
يطاردها ويطارد حياتها الزوجية، ويقبل طارق الطلاق على مضضٍ، ويصل الأمير موسى
غاضبًا ثائرًا على طارق بسبب عصيان طارق لأوامره، ويحاول طارق تبرير هذا العصيان
دون جدوى. وفي هذا المشهد يحضر الكونت جوميز ويشهر إسلامه أمام الجميع، معلنًا أن
ذلك كان بفضل شجاعة ومروءة طارق بن زياد، فيعفو موسى عن طارق، وتنتهي المسرحية
بالاستعداد لمواصلة فتح بقية الأندلس.
وقارئ هذه المسرحية يدرك — وللوهلة الأولى — أن محمود تيمور أراد من كتابتها
الإشادة بشجاعة وبسالة طارق بن زياد في فتح الأندلس، وأن يُضيف إليه أو ينسِب إليه
ما أخذه وسلبه منه التاريخ، فالكاتب يعتقد أن التاريخ لم يعطِ طارق بن زياد حقه
الحقيقي في إبراز دوره التاريخي؛ لذلك خالف محمود تيمور الواقع التاريخي في أكثر من
موضع، بل وقام بعملية اختيار للأحداث التاريخية خدمةً لهذا الغرض.
فنجد الكاتب في الفصل الأول ينسب افتتاح أو إتمام فتح المغرب لطارق بن زياد، رغم
أن فتح المغرب تم على يد القائد «طريف بن مالك» في رمضان عام ٩١ﻫ،
١ أمَّا اسم طارق بن زياد فلم تذكره كتب التاريخ إلا مع بداية فتح
الأندلس، عندما عهد له الأمير موسى القيام بهذا الفتح.
٢
وعندما نأتي للتحالف الذي قام بين يوليان، حاكم سبتة، وبين الأمير موسى، نجد
الأستاذ عبد الله عنان يوجز لنا أسباب هذا التحالف قائلًا:
وكان على عرش القوط يومئذٍ ملك شديد البأس والعزم هو ردريك، أو لذريق
حسبما تسميه الرواية العربية، ولكنه كان يواجه خطر الانتقاض المستمر، ولم
يكن ملكًا شرعيًّا، ولكنه استطاع أن ينتزع العرش من صاحبه الشرعي الملك
«وتيزا» أو «غيطشة»، عقب ثورة دبَّرها بمؤازرة رجال الدين والأشراف
الناقمين، ومع أنه استطاع أن يوطِّد سلطانه مدى حين، فإن الخطر لبث مع ذلك
محدقًا بعرشه ومُلكه. وكان اقتراب العرب من شواطئ الجزيرة يحفِّز خصومه إلى
التماس الوسيلة لإسقاطه وسحقه. وكان الكونت يوليان من أنصار الحكم القديم،
ومن خصوم الحكم الجديد، يخشى عواقبه على مركزه وسلطانه، وكان غنيًّا شديد
البأس، وافر الأتباع والجند، بعيدًا عن سلطة العرش، يقبض على مفتاح إسبانيا
بحكمه لسبتة والمضيق، فتفاهم معه أبناء الملك السابق وتيزا وباقي الزعماء
الخوارج، واستقر الرأي على الاستنجاد بالعرب جيران الكونت. وهذا هو التعليل
التاريخي للتحالف الذي عُقِد بين الكونت يوليان وبين موسى بن نصير، وانتهى
بفتح العرب لإسبانيا، ولكن الرواية — والرواية الإسلامية بنوعٍ خاص —
تقدِّم إلينا تعليلًا آخر، فتقول إن يوليان كان يعمل بدفاع الانتقام الشخصي
أيضًا؛ فقد كانت له ابنة رائعة الحسن تدعى فلورندة، أرسلها إلى بلاط
طُليطلة جريًا على رسوم ذلك العصر لتتلقى ما يليق بها من التربية بين كرائم
العقائل والفرسان، فاستهوى جمالها الفتان قلب ردريك، فاغتصبها وانتهك
عفافها، وعلم الكونت بذلك، فاستقدم ابنته إليه وأقسم بالانتقام من ردريك
ونزْعه ذلك العرش الذي اغتصبه، فلما نشبت الحرب الأهلية بين ردريك وخصومه،
والتجأ هؤلاء الخصوم إليه؛ رأى الفرصة سانحة للعمل، ولم ير خيرًا من
الاستنصار بالعرب ومعاونتهم على فتح إسبانيا.
٣
وأمام هاتين الروايتين، انتقى محمود تيمور الرواية الثانية لما فيها من بوادر قصة
غرامية استطاع أن يقيمها بين فلورندة وطارق، وإقامة حبكة المسرحية عليها، فالتاريخ
لم يذكر لنا أن فلورندة كانت مع أبيها عند اللقاء مع الأمير موسى،
٤ بل ولم يذكر لنا أن اللقاء كان بوجود طارق بن زياد، ولكنه كان الوسيط.
٥ ولكن خيال المؤلف جعله يجمع بينهما في لقاءٍ واحدٍ؛ حتى يتم الإعجاب
بإيعازٍ من يوليان حتى يصل إلى غرضه الأساسي بانتزاع حكم إسبانيا من لذريق، حتى ولو
أدى الأمر إلى عرض ابنته على طارق. وبشيءٍ من الأخلاق الإسلامية، يجعل تيمور هذا
الإعجاب يصل إلى حدِّ الزواج،
٦ الذي لم يمنع يوليان من الاستمرار في تدبير المؤامرات للتخلص من طارق.
ولعلَّ الكاتب أراد من هذا الزواج الإشارة إلى شيوع زواج القادة المسلمين بالإسبانيات.
٧
يوليان
:
أكنت تظن يا «بدرو» أن «طارق» ينتصر إلى هذا المدى؟ … نحن كما ترى على
خليج «غسقونية» في أقصى شمال «الأندلس». نحن في مدينة «خيخون» يا صديقي …
أتدرك ذلك يا «بدرو»؟
بدرو
:
بسقوط هذه المدينة في قبضة «طارق» انتهى كل شيء …
يوليان
:
لم تبق إلا بقعة «جليقية» الصخرية بجبالها الوعرة …
بدرو
:
وإنه لبالغها …
يوليان
:
ربَّما … لقد اختلط الأمر عليَّ … وما أحسب أن تفكيري مستقيم … أحسُّ أن
عقلي يتخلَّى عني …
بدرو
:
لك عذرك يا «يوليان» … يكفي ما أصابك من إخفاق مؤامرتك على «طارق»
…
يوليان
:
وأدهى ما في الأمر أن إخفاقي كان بفضل ابنتي! … (يسمع تخبُّط النوافذ من عصف الرياح). الطبيعة يا «بدرو» سوف
تنجح اليوم فيما أخفقنا فيه بالأمس … لقد أوضحت «لطارق» أن أمامه طريق
«الشعاب» وزيَّنت له أن يسلكه … وهذا الطريق لمن يحاول عبوره مهلكة ومضيعة
… لا نجاةَ منه لمن يقتحمه …
بدرو
:
عجبي لك يا «يوليان» … ما زلت تصرُّ على الإيقاع «بطارق» حتى بعد أن غدا
صهرًا لك …
يوليان
:
وافرحتاه … بأني صهر القائد! … أهذا كل ما كنت أسعى إليه؟ … أن أكون
ذيلًا لذلك الطاووس المتبختر؟ … غفرانك ربي … لست ذيلًا، بل ريشة في هذا
الذيل المنتفش العظيم! … لا … لا … إن «يوليان» أعز على نفسه من أن يرضى
بهذا الوضع المهين!٨
ومن خلال هذا الحوار الذي يتكرر في معناه كثيرًا في المسرحية
٩ نجد الإعجاب بطارق وبشجاعته الفذَّة في فتح البلاد الأندلسية الواحدة
تلو الأخرى. وهذا الإعجاب جعل تيمور يغيِّر من شخصية الكونت يوليان التاريخية التي
تثبت أنه كان صديقًا للعرب ومتحالفًا معهم، لدرجة أن الروايات النصرانية تنكر هذه
الشخصية تمامًا؛ لأنها «تأبى الاعتراف بواقعة تسجيل خيانة الوطن على نفرٍ من زعماء
إسبانيا الأوائل، وهي خيانة أدَّت إلى أن افتتح العرب إسبانيا.»
١٠ فإذا كانت كتب التاريخ تؤكد على صداقة يوليان ومساعدته للعرب
١١ نجد تيمور يخالف ذلك من أجل غرضه، وهو إظهار طارق بصورة القائد الشجاع
العظيم الذي تحوطه المؤامرات والدسائس، فيقوم باكتشافها والسمو عليها دون الإحباط
لما عزم عليه من مواصلة الفتح الأندلسي. ولم يكتف تيمور بذلك، بل بالغ في عدد
المراسلات بين موسى وطارق لوقف الزحف، في مواضعَ كثيرةٍ من المسرحية، فنجد في الفصل
الثاني حوارًا بين ابن سيار، وهو من أتباع طارق، وبين المغيث الرومي، وهو من قوَّاد
موسى.
ابن سيار
:
أأبلغته رسالة الأمير «موسى» إليه أن يقف الزحف؟ …
مغيث
:
لم يُمكِّني من ذلك! … لقد اندفع يسألني في شغفٍ عن «قرطبة» التي بعث بي
إليها فاتحًا.١٢
وفي نهاية هذا الفصل نجد الحوار حول هذا الموضوع بين طارق ومغيث:
طارق
:
والآن … ما عندك يا «مغيث»؟ …
مغيث
:
ثمة رسالة طلب الأمير «موسى» مني أن أبلِّغك إيَّاها مشافهةً …
طارق
(في استعلاء)
:
ماذا يريد الأمير «موسى»؟ …
مغيث
:
يطلب منك وقف القتال …
طارق
:
لا يكفُّ الأمير «موسى» عن طلبه هذا! (يعلو بصدره ويسمو بهامته)، ولكن
صوتًا آخر يناديني أقوى من صوت الأمير؛ فإلى أي صوتٍ أستجيب؟
مغيث
:
صوت من؟ …
طارق
:
وهل أدري لمن الصوت؟ … إنه يأتيني من الأعماق البعيدة … وما إن يصُكَّ
سمعي حتى أحسَّ كأن حريقًا يشبُّ في صدري. لا الأمير «موسى» ولا غير الأمير
«موسى» بمستطيعٍ أن يطفئ هذا الحريق.١٣
وفي الفصل الثالث يحضر قاضي القضاة «الحسن بن يوسف» من أجل هذا الأمر، بعد أن فتح
طارق بلادًا أخرى دون اهتمام لأوامر الأمير،
١٤ ويحاول القاضي مرة ثانية مع طارق — في موضع آخر — دون جدوى أيضًا.
١٥ وهذه المحاولات العديدة من قبل الأمير موسى — كما جاءت في المسرحية —
لوقف زحف طارق نحو بلاد الأندلس بالَغ فيها تيمور — من حيث العدد — كي يضفي على
طارق الشجاعة والبسالة باسم الإسلام لا باسم الأمير موسى. ومن الجدير بالذكر أن كتب
التاريخ ساعدت الكاتب على هذا التصور، عندما أخبرتنا بأن أوامر موسى لطارق بوقف
الزحف كانت بسبب الحسد والغيرة؛ لِما بلغه طارق من شجاعة وإقدام في فتح بلاد
الأندلس.
فعلى سبيل المثال يقول المراكشي:
ثمَّ دخل طارق هذا الأندلس وأمعن فيها واستظهر على العدو بها، وكتب إلى
موسى بن نصير مولِّيه بخبر الفتح، وغلبته على ما غلب عليه من بلاد الأندلس،
وما حصل له من الغنائم، فحسده موسى على الانفراد بذلك، وكتب إلى الوليد بن
عبد الملك بن مروان يُعلمه بالفتح وينسبه إلى نفسه، وكتب إلى طارق
يتوعَّده؛ إذ دخلها بغير إذنه.
١٦
ولكن الأستاذ محمد عبد الله عنان يخالف ذلك الرأي قائلًا:
ولكن البعض يعلِّل غضب موسى على طارق ولحاقه به، بأن طارقًا خالف الأوامر
الصادرة إليه بألا يتجاوز قرطبة، أو حيث تقع هزيمة القوط. وهذا تعليل حسن
يتفق مع ما أُثر عن موسى من الحيطة والحذر؛ فقد ينكب المسلمون إذا توغلوا
في أراضٍ ومسالكَ مجهولة.
١٧
ويؤكد ذلك الدكتور إبراهيم أحمد العدوي قائلًا عن المصادر والمراجع التي قالت
بحسد وغيرة موسى من طارق:
وقد وقعت تلك المراجع في هذا الخطأ الفاحش؛ لأنها صوَّرت موسى وطارقًا
تصوير القائدين المختلفين، وأن كلًّا منهما كان يعمل دون علم الآخر،
والمعروف أن طارقًا لم يقم بما قام به من أعمال حربية إلا باسم موسى بن
نصير الذي تولَّى القيادة العليا، ورسم الخطط، وأمدَّ طارقًا بكل المساعدات
الحربية، ولا سيَّما في ساعة الخطر قبل معركة وادي بكة. هذا إلى أن طارق بن
زياد كان يرسل إلى موسى بن نصير عن طريق يوليان أنباء تقدم المسلمين خطوة
خطوة؛ مما جعل القيادة العليا في القيروان تتابع الأحداث عن كثب، ثمَّ إن
طارقًا دأب على الإعلان دائمًا أن له قيادات عليا لا بُدَّ من الرجوع إليها.
١٨
وهكذا أراد تيمور أن يُظهِر طارق بن زياد بمظهر فاتح الأندلس الذي لا يمنعه مانع
من الوصول إلى إعلاء كلمة الإسلام؛ لذلك نجد الكاتب يخالف التاريخ — أيضًا — عندما
قام بنسج قصة دخول طارق إلى الأندلس سرًّا، قبل الفتح، مع عدد قليل من الرجال دون
إذنٍ من الأمير موسى الذي يعنِّفه على هذه الحماقة. ويبرر طارق هذا التصرف بالفضول
لمعرفة ما وراء البحر. ويتخلل الحوار بعض الجمل التي تؤكد ثقة طارق بنفسه وطموحه الكبير.
١٩ ثمَّ نجد الكاتب يأتي بجزءٍ كبيرٍ من خطبة طارق المشهورة: «أيها الناس،
أين المفر؟ … البحر من ورائكم، والعدو أمامكم.»
٢٠ ويعرض لنا الكاتب أيضًا بعض خصال طارق الحربية والإسلامية، التي تتمثل
في العفو عن الكونت جوميز — مرتين — عندما يقع أسيرًا، بل ويعطيه الفرصة للاستعداد
لمحاربته؛ وذلك بسبب شجاعة هذا الكونت
٢١ الذي يشهر إسلامه في نهاية المسرحية قائلًا لطارق:
الكونت جوميز
:
نعم، أنت يا «طارق» … أعلنها جهرة على الملأ … أحببت الإسلام فيك … أحببت
ما تجلى فيك من شهامة ومروءة وعدالة وصدق جهاد … أحببت ما تحليت به من
سماحة وأريحية وعفو عند المقدرة … أحببت إيمانك الذي نبضت به كل جارحة فيك؛
فدفعك إلى خوض الغمار لا تبالي الأخطار.٢٢
وقول الكونت جوميز هذا إنما يعكس لنا مدى سماحة طارق في العفو عن الأعداء.
هذا بالإضافة إلى عفو طارق عن أسرى طُليطلة بعد فتحها.
٢٣
ومن الجدير بالذكر أن كتب التاريخ تروي لنا أن الأمير موسى بن نصير قابل طارق بن
زياد في طُليطلة، فأنَّبَه وبالغ في إهانته، وزجَّه مُصفَّدًا إلى السجن، وذلك
بتهمة الخروج والعصيان، بعد أن جلده بالسوط، وقيل: بل همَّ بقتله أيضًا، ولكنه ما
لبث أن صفح عنه وردَّه إلى منصبه،
٢٤ ويأخذ تيمور هذه الرواية التاريخية ويصورها في نهاية المسرحية من خلال
هذا الحوار:
طريف
:
أتزن نفسك بالأمير عقبة يا طارق؟ …
طارق
:
أتى عقبة بعظائم، وأتيت أنا بما هو أعظم …
الأمير موسى
:
تتطاول يا طارق! …
طارق
:
أهدى عقبة إلى الإسلام إفريقية، وأهديت أنا إلى الإسلام الأندلس بأسرها
…
الأمير موسى
:
ما لهذا ولما كنَّا نخوض فيه؟ … سألتك: فيم عصيت أمري؟ … وكيف جرؤت ألَّا
تطيعني؟
طارق
:
أجدر بك أيها الأمير أن تسألني: ماذا كسبت للخلافة من رقاع، وماذا دوَّخت
لها من أقيال! …
الأمير موسى
:
كان عليك أن تطيع ما أمرتك به …
طارق
:
وصالح المسلمين … أليس هو فوق كل أمر؟
الأمير موسى
(في غضب)
:
تصرُّ على العصيان … حقت عليك العقوبة …
طارق
(مندفعًا)
:
لا يضيرني عقابك … ما شئت فافعل …
الأمير موسى
:
أترفع صوتك في مخاطبتي؟ … أنسيت أنك مولًى لي …؟
طارق
:
لا أنكر أني من مواليك أيها الأمير السيد، ولكني أعجب لماذا تخشى أن تسمو
هامة مولًى لك، ولماذا تحرص على إظهار هذه التفرقة بيني وبينك، وكلنا في
كنف الإسلام لله عبيد؟!
الأمير موسى
:
يا لك من متوقِّح سليط اللسان! … والله لأمزِّقن جسدك بسوطي …٢٥
وبمقارنة ما جاء في كُتب التاريخ وما صوَّره تيمور في هذا الموقف من خلال الحوار
السابق، نجد محمود تيمور يدافع عن موقف طارق عندما عصى أوامر الأمير موسى بوقف
الزحف، من خلال الشجاعة واللباقة في الحديث، والثقة بالنفس. وهذا مخالف لكُتب
التاريخ التي لم تُصوِّر أي قول أو دفاع من قِبَل طارق أمام موسى، بل استسلم لمصيره.
٢٦ وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن الغرض الأساسي لكتابة هذه المسرحية يتمثَّل
في كشف الشخصية التاريخية لطارق بن زياد بأبعادها السياسية والاجتماعية والعاطفية؛
أي إضفاء ما أغفله التاريخ لشخصية طارق.
وإذا أردنا أن نتحدث عن توظيف الشخصيات التاريخية الأساسية في المسرحية، فسنجدها
متناقضة بعض الشيء؛ فمثلًا شخصية طارق بن زياد نجدها في غاية التسامح حتى مع
الأعداء، أمثال الكونت جوميز، وكذلك أسرى طُليطلة، ثمَّ تتناقض الشخصية بعد ذلك
لنجد طارق بن زياد قد أصبح فظًّا غليظَ القلب على أعوانه وقوَّاده،
٢٧ بعد ما كان مُعتزًّا بهم مُستمعًا لنصائحهم، كما نجده في بداية
المسرحية مُطيعًا لأوامر أميره موسى بن نصير، ثمَّ يعصاه مع نهاية المسرحية.
ويفسِّر تيمور هذا العصيان على أنه عامل شخصي يتمثَّل في شعور طارق بالاستعلاء على
أميره، ويتمنَّى أن تخضع له الأندلس.
٢٨
والتناقض أيضًا أصاب شخصية يوليان؛ فقد لجأ إلى الأمير موسى — في بداية المسرحية
— كي ينتقم لشرفه المسلوب من قبل لذريق الذي أهدر شرف ابنته فلورندة، وإذا به
يدفعها دفعًا إلى مغازلة طارق،
٢٩ وهو الذي أغرى الأمير موسى وطارق بن زياد لفتح الأندلس، بعد أن زيَّن
لهما كنوز الجزيرة الخضراء وسهولة فتحها، وذلك بمساعدته،
٣٠ ثمَّ نجده يقول بعد استيلاء العرب عليها: «كنت أحسبها غزوة عابرة يعود
على إثرها طارق وجيشه فرحين بالغنائم.»
٣١ ويقول أيضًا مُتعجِّبًا حاقدًا من فتوحات طارق — مع أنه تنبَّأ بها في
بداية المسرحية:
٣٢ «أكنت تظنُّ يا بدرو أن طارقًا ينتصر إلى هذا المدى؟»
٣٣ ويصوِّر لنا تيمور شخصية يوليان بأنها نفعية وصولية، تصنع أي شيء حتى
القتل، وتضحي بكل شيء حتى الشرف، في سبيل الوصول إلى هدفها. وهذا التصور مخالف
للتاريخ؛ فقد جعل تيمور يوليان يعمل للانفراد بحكم الأندلس من خلال قتل طارق، ولكن
هل قتل طارق سيتيح له حقًّا حكمها؟ وإذا قتل طارق بن زياد، فماذا يفعل يوليان أمام
الأمير موسى، وأمام الوليد بن عبد الملك، وأمام جيش المسلمين في الأندلس؟ والقارئ
يندهش أمام تفكير يوليان هذا غير المنطقي؛ لأن طارق بن زياد في هذا الوقت — وقت
التدبير لقتله — لم يكن قد أتمَّ فتح الأندلس. وكان الأجدر بيوليان أن ينتظر حتى
يستكمل طارق الفتح الأندلسي.
أمَّا شخصية فلورندة، فقد كانت من أروع الشخصيات في المسرحية من حيث الثراء
الفني؛ لأن الكاتب تفنن في رسم ملامحها وتصرفاتها كما يحلو له. والسبب في ذلك أن
كتب التاريخ لم تذكر لنا إلا اسمها فقط،
٣٤ من خلال قصة اغتصاب لذريق لها. ولعلَّ هذا هو السبب الأساسي لتحديد
ملامح شخصيتها في المسرحية، وكذلك دورها المحدد دون تناقض، الذي تمثَّل في حب طارق
والإخلاص له ثمَّ الزواج منه. وكان من الممكن لتيمور أن يجعل هذه الشخصية أكثر
ثراءً — من الناحية الفنية — في المسرحية، لو استغلَّ ذلك الصراع المرير الذي كان
يدور في نفسية فلورندة بين حبِّها لزوجها طارق، وبين إحساسها بأنها السبب في انتحار
أبيها، ولكن تيمور اكتفى بالإشارة العابرة عنه.
٣٥
ومما سبق يتضح لنا أن محمود تيمور اهتمَّ بشخصية طارق بن زياد اهتمامًا كبيرًا،
ولكن هذا الاهتمام قابله تناقض كبير أيضًا في الشخصية. وهذا التناقض قد أشار الكاتب
إلى أسبابه في المسرحية من خلال هذا الحوار الذي دار بين طارق وبعض الأسرى
القوط:
رجل من القوم
:
لك النصر يا سيد العرب … يا سيد الناس! …
طارق
:
لست سيد عرب ولا عجم … إنما أنا امرؤ يدين بقول الرسول عليه السلام:
«كلكم لآدم، وآدم من تراب …»
شيخ من القوم
:
قل ما شئت، ولكن فضلك لا يُنكر، وعظمتك لا تُجحد … فأنت عظيم على الرغم
منك! … وإنك لحميد الذكر في الحياة، وستكون حميد الذكر في التاريخ …
طارق
:
حسبك يا صاحبي؛ فما أخشى على نفسي شيئًا خشيتي من التاريخ … ماذا في
التاريخ من حقائق؟ …
الشيخ
:
التاريخ كله حقائق …
طارق
:
غلوت وايم الله … التاريخ أقاويل، يتناقلها جيل بعد جيل، نصفها كاذب
مختلق، ونصفها صادق صحيح، ويمرُّ الزمن وإذا النصف الصادق الصحيح يعتريه
التغيير والتبديل حتى يلحق بالنصف الكاذب المختلق …
ابن سيَّار
:
وهكذا يتبين لنا أن العلم عند الله … والله أعلم! …٣٦
ولعلَّ هذه الفكرة كانت بسبب ما قرأه محمود تيمور عن شخصيات المسرحية في كتب
التاريخ، وذلك قبل كتابة المسرحية، والتي جاءت فيها تناقضات كثيرة — كما أوضحنا —
سواء في الأحداث التاريخية أو الشخصيات، فلكل كاتب وجهة نظر خاصة به تتفق أو تختلف
مع غيره من الكُتَّاب؛ لذلك أراد محمود تيمور أن تكون له هو الآخر وجهة نظر في
شخصيات المسرحية وأحداثها. وقد حاول فيها تفسير تاريخ فتح الأندلس من الناحية
الفنية — لا من الناحية التاريخية — وقد أجاد في البعض وأخفق في البعض الآخر؛ فقد
أجاد في توظيف التراث عندما أبان لنا بعض الجوانب الشخصية والاجتماعية والعاطفية
والنفسية والسياسية لشخصية طارق بن زياد، وكذلك أجاد في تفسير التاريخ — تفسيرًا
فنيًّا — عندما أقنعنا بوجهة نظر طارق عندما خالف أوامر الأمير موسى.
أمَّا جوانب الإخفاق فتمثَّلت في تناقض شخصية طارق — كما أوضحنا — وكذلك في تصوير
شخصية يوليان، عندما عكس المؤلف دورها الحقيقي والإيجابي إلى دور سلبي، عندما خان
العهد وحاول قتل طارق، ومحاولته التضحية بشرف ابنته في سبيل الوصول إلى أغراضه.
وكان أولى بالكاتب أن يحافظ على هذه الشخصية كما جاءت في التاريخ؛ لأنها تؤكِّد على
قوة الإسلام، ومحبة الأديان الأخرى وحكَّامها للقادة المسلمين. والتبرير الوحيد
للكاتب — من وجهة نظرنا — في هذا الإخفاق هو استغلال شخصية يوليان وصورتها — كما
جاءت في المسرحية — لتعضيد صورة طارق وشخصيته كما أراد لها المؤلف أن تكون.
أمَّا صورة الأمير موسى بن نصير، فقد اعتمد المؤلف على إبرازها — كما جاءت في
المسرحية — على بعض روايات التاريخ التي تقول بالحسد والغيرة من قِبل موسى على
طارق؛ بسبب شهرته وشجاعته في فتح الأندلس. وعلى العموم، فلكل كاتب وجهة نظر فيما
يكتبه، ووجهة نظر محمود تيمور في مسرحياته التاريخية ذكرها عندما طرح عليه أحد
النقَّاد سؤالًا قال فيه: إلى أيِّ حدٍّ كان تأثُّرك بتاريخ العرب والإسلام في
أعمالك؟ وقد أجاب قائلًا: «إني أحاول في هذه المسرحيات [أي المسرحيات التاريخية] أن
أصوِّر الجانب الإنساني في هؤلاء الأبطال، وأمثِّل صراعهم النفسي والاجتماعي مع
ظروفهم وملابسات حياتهم، مع عدم الإخلال بحقائق التاريخ، بل مع اكتشاف سر التاريخ
في صور فنية أدبية.»
٣٧ ومن الملاحظ أن الكاتب وُفِّق في تطبيق هذا القول في مسرحية «طارق
الأندلس» كما أوضحنا، ولكن تاريخ كتابة المسرحية، وهو عام ١٩٦٦، وتاريخ نشرها عام
١٩٧٣ يُثير تساؤلًا هامًّا: لماذا لم تُنشر المسرحية فور كتابتها؛ أي عام ١٩٦٦؟
وهذا التساؤل يُثير تساؤلًا آخر: لماذا كتب محمود تيمور هذه المسرحية وهي من
التاريخ الأندلسي منذ الفتح؛ أي منذ عام ٩٢ﻫ، بعد كتابته لمسرحية من التاريخ
الأندلسي الوسيط، والذي يقع في الفترة ما بين (١١٣ﻫ–١٧٢ﻫ/٧٣١م–٧٨٨م)، وهي مسرحية
«صقر قريش» عام ١٩٥٥؟ وكان من الطبيعي طالما أراد المؤلف الكتابة عن التاريخ
الأندلسي أن يكتب مسرحية «طارق الأندلس» أوَّلًا، ثمَّ «صقر قريش» ثانيًا. وهذا ما
فعله عزيز أباظة عندما كتب عن التاريخ الأندلسي أيضًا؛ فقد كتب مسرحيته «الناصر»
أوَّلًا عام ١٩٤٩، وهي تمثِّل التاريخ الأندلسي في الفترة ما بين
(٢٧٧ﻫ–٣٥٠ﻫ/٨٩٠م–٩٦١م)، ثمَّ كتب «غروب الأندلس» عام ١٩٥٢، وهي تمثل التاريخ
الأندلسي في الفترة ما بين (٨٦٨–٨٩٧ﻫ/١٤٦٣م–١٤٩٢م)؛ أي إنه التزم بالتسلسل التاريخي
في كتابته لأعماله المسرحية، ومن الإجحاف أن نطالب محمود تيمور أو غيره بما قام به
عزيز أباظة؛ فلكل كاتب ظروفه وحياته وإلهامه ومؤثِّراته وتأثيراته، ولكن السرَّ
وراء إثارتنا لهذه النقطة بالذات هو أن نبيِّن أن محمود تيمور كانت في نفسه فكرة
خفية عند كتابته لكلتا المسرحيتين.
فالفكرة في مسرحية «صقر قريش» تتمثل في استجابته «لما كان يدور في مصر في أوائل
الخمسينيات من جدلٍ سياسيٍّ حول الإقطاع والأحزاب، ودواعي الفرقة، والحاجة إلى أن
يقوم في البلاد مستبد عادل يوحِّد أمورها، ويرفع الشقاق عن بَنِيها، ويكسب لها
دواعي القوة، وينشر في ربوعها ألوية العدل، فأخذ يبحث في كتب التاريخ الإسلامي عن
بطل يجسِّد في سيرته وأعماله هذا الذي كان يدور في مصر من جدل. وقد وجد محمود تيمور
طلبه في شخصية عبد الرحمن الداخل.»
٣٨ والقارئ لهذه المسرحية يدرك أن عبد الرحمن الداخل أو صقر قريش ما هو
إلا الرئيس جمال عبد الناصر. وكأن الكاتب أراد أن يمجِّد الثورة ورئيسها في هذه
المسرحية بالتزامه بقضايا عصره.
وكان محمود تيمور من دعاة الالتزام
٣٩ والأدب الملتزم،
٤٠ ومن دعاة ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، والمتغنِّي في أعماله بما قامت به من
متغيرات؛ لذلك يقول عن بعض أعماله في هذه الفترة: «وهناك بعض القصص الهادفة مثل
مسرحية «المزيَّفون»، التي تتناول الأحزاب السياسية في الماضي … وقد أعددتها قبل
الثورة … ولم ترَ النور إلا بعد الثورة، وفيها فصول كثيرة هادفة، وفي قصة أخرى من
الأدب الملتزم تكلَّمت عن الفلاحين في العهد الحاضر بالقياس إلى قرنائهم في الماضي،
وفيها ما يؤكد أن العهد الجديد بلا شكٍّ أحسن من العهد القديم.»
٤١ ويؤكد على ذلك أستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الرحمن عندما قام بتحليل
مراحل حياة محمود تيمور الفنية والأدبية قائلًا عن الفترة الأخيرة منها:
ونمضي سريعًا مع نتاج المؤلف لنصل إلى المرحلة الأخيرة من حياته الفنية،
«وهي الفترة الواقعة بين سنة ١٩٥٢ وسنة ١٩٧٣»؛ لنرى
تطوُّرًا ضخمًا قد أخذ
يحدث في آرائه وأحداث قصصه وشخصياتها ومغزاها تحت تأثير عاملين: سفره إلى
أوروبا واطِّلاعه على التطورات التي أخذت تجدُّ على الآداب الأوروبية منذ
انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقيام الثورة المصرية؛ ثورة ٢٣ يوليو سنة
١٩٥٢، وما أخذت تُحدثه من متغيرات في الحياة السياسية والاجتماعية بما
أصدرته من قوانين الإصلاح الزراعي والسياسي التي صاغت بها الحياة المصرية
صياغة جديدة. وقد اتَّخذ هذا التطور — أو قُل هذا التحول — مظهرين؛ أحدهما:
نظري يتمثل في تحلله من هذه المعتقدات التي كان يأخذ بها فنُّه في الفترة
الماضية، وثانيهما: عملي يتمثل في هذه القصص التي أخذ ينشرها منذ سنة ١٩٥٢،
ويناقش فيها القضايا السياسية والاجتماعية من وجهة نظر ثورية.
٤٢
ومما سبق نستطيع أن نقول: إن محمود تيمور قد أخلص للثورة ورجال الثورة في معظم
أعماله، والتي كتبها مع بداية الثورة؛ أي منذ عام ١٩٥٢، كما كان من دعاة الالتزام
في الأدب كما أوضحنا، وكان من الطبيعي أن يشعر بالراحة والطمأنينة والشكر على هذا
الموقف الملتزم، ولكن حدث العكس؛ فقد كان يحسُّ ويشعر دائمًا بأنه ضحية الغبن
والنكران، وأن السنين كانت تمرُّ عليه ببطءٍ شديدٍ؛ فانقطع عن الناس واختار العزلة
لنفسه، وكان يخشى الاندماج في الحياة.
٤٣ ولعل في ذلك يكمن السرُّ في كتابته لمسرحية «طارق الأندلس»، وكذلك تكمن
الإجابة على نشر المسرحية قبيل وفاته، وأيضًا كتابتها بعد «صقر قريش» مخالفًا
للتسلسل التاريخي؛ فقد وجد محمود تيمور أن التاريخ لم ينصف طارق بن زياد ولم يعطِه
حق قدره، فوجد في هذا المعادل الموضوعي لما يمرُّ به هو شخصيًّا؛ لأن المجتمع
المصري أو مجتمع الثورة لم يعطِ تيمورًا حق قدره أيضًا، رغم موقفه من الثورة،
والتزامه في أعماله بمبادئ الثورة؛ لذلك نجد تيمورًا ينشر مسرحية «طارق الأندلس»
بعد انتهاء عهد الثورة، وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. وكان من غير المعقول أن
ينشرها وقت كتابتها عام ١٩٦٦. والدليل على ذلك رأيُ محمود تيمور نفسه في الثورة،
والذي ذكره في مقالٍ له — قبيل وفاته — بعنوان «صورة وصفية للرئيس أنور السادات»
جاء فيه: «كان من الطبيعي لبلدٍ عاش حقبة من حياته في صراعٍ مع تجاربَ ثورية طارئة
يرتفع بها وينخفض، أن يتقدَّم لها بعد لأيٍ زعيمٌ مشرب بروح الوفاق، فيمسك بالدفة
إمساك ربَّان ماهرٍ، متجنِّبًا هوج الرياح، متخيِّرًا أسلم الدروب التي تبلغ الهدف
المنشود؛ هدف الاستقرار …»
٤٤ ولعلَّ موقف مجتمع الثورة من تيمور راجع — من وجهة نظرنا — إلى
أرستقراطية محمود تيمور وعائلته،
٤٥ بالرغم من بساطته وشعبيته المتمثلة في أبطال قصصه الشعبية، أمثال
«الشيخ جمعة»، و«عم متولي»، و«رجب أفندي»، و«الحاج شلبي»، و«الشيخ عفا
الله».
ومما سبق نجد أن محمود تيمور قد نجح في توظيف التاريخ الأندلسي توظيفًا فنيًّا
مقبولًا؛ فقد اقتطع من شخصيات التاريخ الأندلسي شخصية طارق بن زياد التي لا تمثِّل
في التاريخ سوى قيادة جيوش الفتح الإسلامي للأندلس باسم الأمير موسى بن نصير،
وشخصية طارق بن زياد لا تمثِّل أي قيمة في التاريخ إلا داخل تركيب التاريخ الأندلسي
نفسه ممتزجة بشخصية موسى بن نصير، ولكن محمود تيمور استطاع أن يوظِّف هذه الشخصية
داخل الإطار الفني وحدها، وبعيدة عن شخصية موسى بن نصير؛ كي يعبِّر من خلالها عن
همومه الشخصية، وعن موقفه من الثورة وموقف الثورة منه، كما كان موقف طارق بن زياد
من التاريخ وموقف التاريخ منه. وبذلك وظَّف محمود تيمور التاريخ كي يعبِّر عن ذاته
من خلال شخصية طارق بن زياد.
(٢) مسرحية «أميرة الأندلس» لأحمد شوقي
تعالج هذه المسرحية فترة سقوط طُليطلة في أيدي الفرنجة، والصراع بين الحكَّام
العرب على الإمارات، واستيلاء الأمير «حريز» الملقَّب ببطل الأندلس على قُرطبة من
أيدي «الظافر بن المعتمد بن عباد»، وأخيرًا استيلاء «يوسف بن تاشفين» سلطان المغرب
على إشبيلية وأسْر ملكها «المعتمد بن عباد» في مدينة «أغمات».
ولكي يعرض «أحمد شوقي» هذه الأحداث، استعان بقصة حبٍّ بين الأميرة بثينة ابنة
المعتمد وبين شابٍّ من أبناء البلدة يُدعى حسُّون، وذلك عندما تقابلت معه في سوق
الكتب بقرطبة وهي مرتدية ثياب الفرسان مُلَثَّمة لا يعرف أحد هُويَّتها، ثمَّ تدخل
مع حسُّون في مزايدة لشراء مخطوطة نادرة في علم الفلك، وهي رسالة «المُنجِّم
الضبِّي» «هل القمر مسكون؟» إلا أنه قد كسب منها المزايدة، ومع ذلك تشعر بثينة أن
هذا الفتى هو فارس أحلامها. ويتصادف في هذا الوقت أن يرسل رئيس وزراء دولة الموحدين
للملك المعتمد يخطب ابنته بثينة، إلا أن الملك لم يوافق، وكذلك ابنته التي تتحايل
للوصول إلى قلبِ الفتى الأندلسي، فتصطحب بعض الخدم وتذهب إلى بيته وتقابله — في
ثياب الفرسان أيضًا — مُدَّعيةً أن اسمها «غصين». ومن خلال الحديث مع الفتى تلمح في
ذراعه جرحًا، فتسأله عن سبب هذا الجرح، فيخبرها إنه نتيجة اشتراكه في معركة بين جيش
الظافر وبين الأمير حريز، انتهت بقتل الظافر واستيلاء حريز على الحكم، وعلى الفور
تسقط بثينة مغشية عليها، فيسقط الغطاء عن رأسها وتظهر ضفائرها وينكشف أمرها. وتتطور
الأحداث فنرى المعتمد يستعين بيوسف بن تاشفين للوقوف في وجه ملك الفرنجة. وبالفعل
ينصره يوسف ثمَّ ينقلب عليه ويستولي على مُلْكه ويأسره في مدينة أغمات. وبعد الأسر
نعلم أن حسُّونًا كان يقف إلى جوار المعتمد وقت الدفاع عن المدينة ضدَّ جنود يوسف،
وأنه قدَّم له فرسًا بعد أن فقد فرسه، وأن بثينة — هي الأخرى — خاضت الحرب كالرجال،
ثمَّ يرقد حسُّون — بعد المعركة — في دار أبيه مصابًا. أمَّا بثينة فتختفي ويدور
البحث عنها حتى يعثر عليها أبو الحسن — والد حسُّون — بالصدفة سَبِيَّةً عند أحد
جنود المغرب، فيفتديها ليزوِّجها من حسُّون، إلا أن الفتاة الحزينة لما آل إليه أمر
والدها وأسرتها ترفض الزواج في هذه الظروف؛ ومن ثمَّ يتم الاهتداء إلى حلٍّ آخر،
وهو ذهاب الجميع إلى مدينة أغمات حيث يقبع الملك أسيرًا؛ لطلب الإذن منه بالزواج.
وبالفعل يصلون إلى السجن، ويأذن الملك للحبيبين، وتنتهي المسرحية بالزواج وخروج
الملك من سجنه إلى أحد قصور المغرب بأمرٍ من يوسف بن تاشفين.
وقد كتب أحمد شوقي هذه المسرحية ما بين عام ١٩١٥ وعام ١٩١٩، وهي الفترة التي نُفي
فيها إلى إسبانيا من قبل الإنجليز بعد عزل الخديوي «عباس»؛ بسبب انضمامه إلى تركيا
في الحرب العالمية الأولى. وكان نفي أحمد شوقي بسبب أبيات شعرية قالها، وكانت تحمل
العداء للإنجليز.
٤٦
وتبدأ المسرحية بوصول الأميرة بثينة إلى إشبيلية قادمة من قرطبة، ويدور بينها
وبين «جوهر» — صاحب الملك المعتمد — حوارًا نعلم منه أن قرطبة أصبحت وكرًا للعواصف
والفتن والانقلاب على حكَّامها؛ لذلك تخشى الأميرة على أخيها الظافر حاكم قرطبة الحالي.
٤٧ وبعد صفحات قليلة يعود الحديث عن قرطبة مرة أخرى بين الأميرة ووالدها
المعتمد والقاضي ابن أدهم من خلال الحوار الآتي:
الملك
:
وكيف وجدت قرطبة؟
الأميرة
:
وجدت طرقاتها تموج بالفقهاء يعرفهم الناظر بزيِّهم، فذكرت عندئذٍ شهرة
هذا البلد بالفتنة والتشغيب، وجرأة أهله على أمرائهم وحكَّامهم، وأشفقت منه
على أخي الظافر، وإن كنت واثقةً بحزمِه وعزمِه.
القاضي
:
ومن أنباك أيتها الأميرة أن الفتنة والتشغيب يجيئان من ناحية
الفقهاء؟
الأميرة
:
لم يبق سرًّا، يا سيدي القاضي، أن الفقهاء يُعلِّقون سعادة الأندلس
وخلاصه بإلقائه في أحضان جيرانه سلاطين المغرب.
القاضي
:
وأنت يا بنت ملوك المسلمين، أما تجدين ما يطلبه الفقهاء في قرطبة أجدى
على الأندلس من بقائه، على الحال التي هو فيها، مُشرفًا على التلف
والضياع؟
الأميرة
:
لا يا سيدي القاضي، ليس في الحق أن يغتصب جماعة من المسلمين أوطان جماعةٍ
غيرهم من المسلمين؛ فإن الوطن هو كالبيت في قداسته، وكالضيعة في حرمتها.٤٨
وهذا الحوار يعد إرهاصًا لما سيقوم به يوسف بن تاشفين من الاستيلاء على الأندلس.
ومن الواضح أن هذا الإرهاص أراد شوقي أن يخدم به شخصية بثينة، من إضفاء الحكمة
والشجاعة وإبداء الرأي الناصح عليها.
وفي المنظر الثاني من الفصل الأول، نرى المعتمد وقد اجتمع مع بعض نبلاء الإسبان،
ثمَّ يستشير كبيرهم في أمر رسول أوفده إليه أحد الملوك في مهمة معلومة، فنسي الرسول
مكانة المعتمد حتى سبَّه بمسمعٍ من رجاله، بل وتوعده وتهدده، فينصحه كبير الإسبان
بأن مثل هذا جزاؤه القتل. وهنا يعرض المعتمد عليهم جثة ابن شاليب صديقهم معلَّقة
على عودٍ قائلًا:
الملك
:
هذا صاحبكم ابن شاليب قد رماني أنا ووزيري هذا «ابن وهب» بتزوير العيار
والغش في الميزان، وقال لرجالي وأعواني: بلغوا سيِّدكم أنني آتٍ في العام
القابل فآخذ عينيه من رأسه … انقلوا أيها النبلاء إلى الملك ألفونس ما
سمعتم، وصِفُوا له ما رأيتم، وتحدثوا به في طول بلادكم وعرضها؛ ليعلم الناس
هناك أن الأسد العربي لا يُشتمُ في عرينه، وأنه لو غُلِب على غابته حتى لم
يبقَ له منها إلا قاب شبرٍ من الأرض لما استطاعت قوى الإنس والجن أن تنفذ
إلى كرامته من قاب هذا الشبر.٤٩
وهذا القول إنما يعكس لنا مدى تعاطف أحمد شوقي مع شخصية المعتمد، الذي أراد أن
يُظهره بمظهر الشجاعة والقوة والعدل رغم مخالفة التاريخ لهذا الموقف؛ فالقصة
التاريخية تقول لنا:
وكان المعتمد بن عباد أعظم ملوك الأندلس، ومتملك أكثر بلادها مثل قرطبة
وإشبيلية، وكان — مع ذلك — يؤدي الضريبة إلى الأذفونس كل سنة. فلما تملك
الأذفونس طليطلة، أرسل إليه المعتمدُ الضريبةَ المعتادة، فلم يقبلها منه،
وأرسل إليه يهدده ويتوعده بالمسير إلى قرطبة ليفتحها إلا أن يُسلِّم إليه
جميع الحصون المنيعة، ويبقي السهل للمسلمين. وكان الرسول في جمعٍ كثير نحو
خمسمائة فارس، فأنزله المعتمد وفرَّق أصحابه على قوَّاد عسكره، ثمَّ أمر
قوَّاده أن يقتل كلٌّ منهم مَن عنده من الكفرة، وأحضر الرسول وصفعه حتى
خرجت عيناه، وسَلِم من الجماعة ثلاثة نفر، فعادوا إلى الأذفونس وأخبروه الخبر.
٥٠
ومن خلال هذا القول، وبمقارنته بالمسرحية، نجد ابن شاليب — في المسرحية — جاء كي
يأخذ المال بنفسه.
٥١ أمَّا التاريخ فيقول: إن المعتمد هو الذي أرسل المال، وإن ألفونسو هو
الذي توعَّد وهدَّد لا الرسول، وما دور الرسول في التاريخ إلا أنه عاد بالمال
للمعتمد مرة أخرى، وعاد بالتهديد والوعيد على لسان ألفونسو. وفي المسرحية، جعل شوقي
ابن شاليب يقوم بدور ألفونسو في التاريخ حتى يقنعنا بقتله من قبل المعتمد. هذا
بخلاف أن المسرحية تقول بأن نبلاء الأندلس — وهم أصحاب ابن شاليب — لاقوا الترحيب
وواجبات الضيافة على أكمل صورة عربية عند حاشية الملك،
٥٢ أمَّا التاريخ فيقول إنهم لاقوا الموت على أيدي الحاشية. ومن هذه
المقارنة، نجد أن أحمد شوقي قد خالف التاريخ — بصورة واضحة — كي يُظهِر صورة
المعتمد في المسرحية بأفضل مما جاءت في التاريخ.
أمَّا مشهد استشارة المعتمد لكبير نبلاء الإسبان كي يأخذ منه الفتوى بقتل صاحبه
فله أصل في التاريخ أيضًا، فبعد أن قتل المعتمد الرسول اليهودي «استفتى لما سكن
غضبه الفقهاء عن حكم ما فعله باليهودي، فبادره الفقيه محمد بن الطلاع بالرخصة في
ذلك؛ لتعدِّي الرسول حدود الرسالة إلى ما استوجب به القتل.»
٥٣ وفي هذا تأكيد على غرض شوقي من إظهار المعتمد بأفضل صورة؛ لأن المعتمد
في المسرحية استفتى كبير النبلاء، وهو من أصحاب ابن شاليب. أمَّا في التاريخ فقد
استفتى فقيهًا عربيًّا كي يبرر له القتل؛ لأن الفقيه محمد بن الطلاع أراد أن يبرر —
هو الآخر — لبعض الفقهاء لماذا أعطى الرخصة للمعتمد قائلًا: «إنما بادرت بالفتوى
خوفًا أن يكسل الرجل عما عزم عليه من منابذة العدو.»
٥٤
ومن الملاحظ أن المسرحية لم توضِّح لنا على أيِّ أساسٍ كان يدفع المعتمد المال
لألفونسو، بل إن القارئ يستشعر بأن المال المدفوع عبارة عن صدقة أو منحة أو مساعدة،
أو على أكثر الأحيان ضريبة يدفعها المعتمد مضطرًّا لألفونسو؛ لذلك سنجد شجاعة
المعتمد في موضعها عندما سبَّه ابن شاليب فقام بقتله، ولكن التاريخ يهدم هذه
الشجاعة ويحوِّلها إلى خيانة؛ فقد سعى المعتمد إلى التفاهم مع ملك قشتالة، وأوفد
إليه وزيره الشهير الشاعر أبا بكر بن عمار — وقد كان يومئذٍ أبرع ساسة الأندلس —
لمفاوضته، وعقدت بين الملكين محالفة سرية تعهَّد فيها ألفونسو بمعاونة المعتمد على
محاربة خصومه من الأمراء المسلمين أو النصارى، وتعهَّد المعتمد من جانبه بأن يترك
ألفونسو حرًّا في محاربة طُليطلة والاستيلاء عليها، وأن يؤدي له جزية الخضوع.»
٥٥
ويعتبر الفصل الرابع من أخصب فصول المسرحية من حيث الأحداث التاريخية، ففيه يقول
المعتمد لوالدته «العبادية» ولابنته بثينة في تأثُّرٍ وحُزنٍ:
الملك ألفونس منذ سقطت طُليطلة وقضاها الله له أصبح لا يعرف لي منزلة ولا
يألوني تحقيرًا وإهانةً، ويطلب المال باستكلاب وشَرَهٍ، والبلاد باستطالة
ولؤم، ومن عجيب أمره أنه يغضب من جهة فيصخب ويتهدد، ويلين أخرى فيلومني على
الاستغاثة بيوسف بن تاشفين واستنجاد جنوده، ويدعي الطاغية أنه أوفى لي منه
عهدًا وذمةً، وأصفى صداقةً ومودةً، وأنني إن حالفت سلطان المغرب كانت
محالفة الذئب للحمل، وأن بربر المغرب إذا دخلوا الأندلس طغوا في البلاد،
وهدموا بنيان الحضارة فيها. ومن نكد الدنيا أن تصدق فينا نبوءة هذا الناصح
الغاش؛ فقد طمع ضيفنا ابن تاشفين في ملكنا وسلطاننا، وتطلعت نفسه إلى
خيراتنا وأرزاقنا، واستنصرناه على ألفونس فإذا نحن الآن نخشى منه بطش
النصير، وإذا إشبيلية قد تضمنت مني ومنه العجب، النمر في قصر هناك وراء
الضفة يجتمع به أعدائي وأعداء الأندلس من أبنائه الأندلسيين، وصغار العقول
من الفقهاء ومن يلتف عليهم. وهؤلاء يُحسِّنون له البقاء في الأندلس،
واغتنام الفرصة لضمِّه إلى سلطنته، ويقيمون عنده الحجج على فساد ملوك
الطوائف، ويجعلونني الهدف الأول. وهنا في هذا القصر أسد مقلَّم الأظفار،
مغلوب على العرين، وحيد من الأنصار والأعوان.
٥٦
وبمقارنة هذا القول بالتاريخ، نجد أن ما فعله ألفونسو بالمعتمد فعله أيضًا بباقي
ملوك الطوائف، فكانت خطته في إضعافهم تقوم على استصفاء الأموال عن طريق الجزية،
ثمَّ تخريب أراضيهم والاستيلاء عليها؛
٥٧ لذلك استعان المعتمد بيوسف بن تاشفين لمحاربة ألفونسو، وكان النصر لهما
عليه في موقعة الزلاقة.
ومن الغريب أن أحمد شوقي لم يُضمِّن مسرحيته أحداث موقعة الزلاقة إلا في إشارات عابرة،
٥٨ تلك الموقعة التي أبلى فيها المعتمد بلاءً حسنًا،
٥٩ فإذا كان شوقي أراد من هذه المسرحية أن يصوِّر المعتمد بأفضل مما هو
عليه في التاريخ؛ فما السبب في تجاهله لدور المعتمد البطولي في هذه الموقعة؟ والرأي
— عندنا — أن أحمد شوقي لو فعل ذلك لوقع في مزلقٍ فنِّي، وهو الإشادة بيوسف بن
تاشفين. وهذا لا يريده شوقي؛ لأنه أراد أن يرفع المعتمد إلى مصافِّ الأبطال، وأن
يحطَّ ويقلِّلَ من شأن ابن تاشفين، فكتبُ التاريخ تُجمع على شجاعة وبطولة ابن
تاشفين في هذه الموقعة التي وصلت إلى حد التيمُّن والتبرُّك به، وكثرة الدعاء له في
المساجد وعلى المنابر.
٦٠ ويتأكد غرض أحمد شوقي أيضًا عندما نصح ابن حيون المعتمد — في المسرحية
— من غدر يوسف بن تاشفين،
٦١ وتتدخل العبادية — والدة المعتمد — في الحوار هي وبثينة، فنجد العبادية
تخالف ابن حيون الرأي، على عكس بثينة التي توافقه الرأي، ثمَّ يأتي رأي المعتمد
أخيرًا قائلًا لابن حيون: «لو تيقَّنت يا ابن حيون أن جمهور شبَّان الأندلس
يشاطرونك أنت وبثينة الرأي لما تأخرت ساعةً عن العمل بما تشيران به عليَّ.»
٦٢ وبمقارنة هذا القول بما جاء في كتب التاريخ، سنجد أن أحمد شوقي اعتمد
اعتمادًا حرفيًّا ونصيًّا على ما جاء في كتاب نفح الطيب،
٦٣ إلا من رأي المعتمد؛ ففي «نفح الطيب» نجد المعتمد مستمعًا دون إبداء
الرأي. أمَّا في المسرحية فنجده يبدي الرأي في شجاعة تجعل القارئ يتعاطف معه ومع ما
آل إليه مصيره في الأسر. وهذا يتفق مع صورة المعتمد السابقة، كما أرادها
شوقي.
ومن الملاحظ أن أحمد شوقي لم يوضِّح لنا الأسباب الحقيقية وراء انقلاب ابن تاشفين
على المعتمد، ولكنه اكتفى بتصوير ابن تاشفين بالمغتصب والظالم واللص، كما صور
المعتمد بالشجاعة والنبل. وتطالعنا كتب التاريخ بهذه البواعث التي تتمثل في شعور
ابن تاشفين بالاستياء البالغ لما شهده من أحوال أمراء الأندلس، المتمثلة في الخلاف
والوقيعة، وضعف عقيدتهم الدينية، وانهماكهم في الترف والعيش الناعم، وتفتت رجولتهم
وعزائمهم عن متابعة الجهاد ودفع العدو المتربِّص بهم،
٦٤ وأن هذا الشقاق بينهم سوف يمهِّد لاستيلاء النصارى على الأندلس. هذا
بخلاف قطع ملوك الطوائف المدد والمؤن عن جنود ابن تاشفين التي تركها بالأندلس،
٦٥ وكذلك رجوع بعض ملوك الطوائف، وبالأخص المعتمد، إلى مصادقة ألفونسو
واستعدائه على محاربة ابن تاشفين نفسه.
٦٦
ومن الثابت تاريخيًّا أن ابن تاشفين لم يتخذ قراره بفتح الأندلس فجأة، بل أخذ
الفتوى والمشورة من الفقهاء، وقد تلقى في ذلك فتاوى الفقهاء من المغرب والأندلس
بوجوب خلع ملوك الطوائف من الإمام الغزالي وأبي بكر الطرطوشي.
٦٧ هذا بخلاف الأستاذ محمد عبد الله عنان، الذي ذكر لنا باعثًا جديدًا
وهامًّا لم تفطن إليه كتب التاريخ، وهو العامل الدفاعي والاستراتيجي بين المغرب
والأندلس؛ فإن سقوط الأندلس في يد النصارى معناه سقوط جناح المغرب الدفاعي من
الشمال، وتهديد إسبانيا النصرانية لسلامة المغرب.
٦٨ ومن أجل ذلك قام يوسف بن تاشفين بفتح الأندلس وأسْر المعتمد بن
عباد.
ومع نهاية المسرحية، نجد أحمد شوقي ينجح — بعض الشيء — في وصف محنة المعتمد في
أسْره بأغمات، ونقول بعض الشيء لأنه نفى عنه مظاهر التنكيل والذل والمهانة، واكتفى
بإظهار العامل النفسي له ولأسرته في الأسْر، كما أراد أن ينهي المسرحية بالنسبة
لمصير المعتمد بعكس مصيره التاريخي المتمثل في الموت أسيرًا؛ ففي نهاية المسرحية
يذهب ابن حيون وأبو الحسن وحسون وبثينة إلى سجن أغمات حتى يوافق المعتمد على زواج
حسُّون من بثينة، فيأتي هذا الحوار بين المعتمد وابن حيون:
ابن حيون
:
أمَّا يسرك يا مولاي أن تنتقل من هذه القلعة المظلمة الرطبة إلى منزلٍ
بظاهرِ المدينة جديد البناء، حسن الأثاث، تحيط به الأشجار من كل جانب،
فتنزله وقد طُرِحت هذه القيود، فتستقبل الراحة والحرية، وتتمتع بالعزلة
التي هام بها العقلاء في كل زمان.
الملك
:
ومن لي بهذا الذي تصف يا ابن حيون؟
ابن حيون
:
بل هو أمرٌ قد تمَّ يا مولاي؛ فقد فُرِغ من شرائه وتأثيثه وتهيئته لنزولك
به في أهلك وعيالك، وأمَّا النقلة فغدًا أو بعده، إن شاء الله.
الملك
:
وابن تاشفين …؟
ابن حيون
:
هو الذي أمر أن يكون كل ذلك، وقد تذكَّر كلمتك المشهورة التي سارت مثلًا
في فم الأندلس: إذا سُئلت أي المفزعين أحب إليك: ملك الإسبان أم سلطان
المغرب؟ فأجبتَ: «رعي الجمال ولا رعي الخنازير.» فأمر أن يُحمل إليك في
المنزل الجديد بعيران من نجائب إبله لترعاهما له في خميلة الدار الجديدة.
الملك
(في إطراق)
:
الآن تذكرت. لقد سُئلت مرة في مجلس الحكم إن كان لا بُدَّ لي أن أخضع
لسلطان، أو أَدينَ لملكٍ بالطاعة؛ فأي الملكين أفضل، وأي السلطانين أختار:
سلطان المغرب أم ملك الإسبان؟ فأجبت: «أرعى الجمال عند أمير المسلمين ولا
أرعى الخنازير لملك الإسبان.» وأظنُّ أن عبارتي هذه نُقِلت يومذاك إلى ابن
تاشفين فأعجبته ووجدها شريفة.٦٩
ومن الجدير بالذكر أن نقل المعتمد وأسرته من سجن أغمات إلى أي مكان آخر ليس له أي
أساس تاريخي؛ فالمصادر التاريخية تُجمِع على موت المعتمد في الأسْر بمدينة أغمات
عام ٤٨٨ﻫ،
٧٠ كما لم تذكر لنا أن قول المعتمد الشهير: «رعي الجمال ولا رعي
الخنازير.» كان له أي تعليق من قبل ابن تاشفين، ولم تُذكر أصلًا هل علم يوسف بن
تاشفين بهذا القول أم لم يعلم؟
٧١
ومن خلال ما سبق، نجد أن أحمد شوقي قد نجح في استدرار عطف وشفقة القارئ على شخصية
المعتمد، والتي من أجلها خالف التاريخ في مواضع عديدة. وهنا نتساءل: لماذا أطلق
الكاتب على مسرحيته اسم «أميرة الأندلس»، ولم يُطلق عليها — مثلًا — «مأساة
المعتمد» أو «محنة ملك» … إلخ؟ وبمعنى آخر: ما هي العلاقة بين بثينة أو أميرة
الأندلس وبين غرض الكاتب في إظهار صورة المعتمد السابقة؟ وللوصول إلى هذه العلاقة،
يجب علينا أولًا الكشف عن صورة هذه الأميرة كما جاءت في المسرحية.
نجد هذه الشخصية في بداية المسرحية تتحدث عن قرطبة حديث المجرب المقيم بها الحكيم
الخبير بأحوالها — رغم أنها مكثت بها ثلاثة أيام فقط — فتصف ما فيها من الفتن
والقلاقل، وعرشها المضطرب، وكثرة الاغتيالات فيها.
٧٢ وبعد ذلك نجدها تُبدي الرأي في مسألة استدعاء ملوك الطوائف ليوسف بن
تاشفين قائلة: «ليس في الحق أن يغتصب جماعة من المسلمين أوطان جماعة غيرهم من
المسلمين، فإن الوطن هو كالبيت في قداسته، وكالضيعة في حرمتها.»
٧٣ وتصف يد المساعدة الممدودة من يوسف ﺑ «يد الذئب يمدُّها إلى الحمل.»
٧٤
وعندما يخبرها القاضي ابن أدهم برغبة قائد الجيوش المغربية الأمير
«سيري بن أبي بكر» في الزواج منها، وتعلم أن الأمير له من الأزواج ثلاث تقول له:
«إنك يا سيدي القاضي تدعوني إلى خُطةٍ لا أنا مضطرة فأحمل النفس الكارهة على
قبولها، ولا الأمير ابن أبي بكر معطل البيت من الربة الصالحة فيتشبث بها ويُصرُّ
عليها، بل تلك خطة لم أجد أبويَّ عليها، ولم آلف رؤية مثلها في حياة أسرتي، فهذا
أبي — جعلني الله فداءه — لم يتخذ على أمي ضرَّة، ولم يكسر قلبها بالشريكة في قلبه،
فجاءت بنا أولاد أعيان نجتمع في جناح الأبوة، ولا نفترق في عاطفة الأمومة. ولو شاء
أبي لكان له كنظرائه الملوك والأمراء نساءٌ كثيرٌ، ولكان له منهن بنو العلات تحسبهم
إخوة وهم أنصاف إخوةٍ؛ مِن كل دجاجة بيضة، ومن كل شاة حمل.»
٧٥ ثمَّ نجدها شغوفة بالعلم وباقتناء النادر من الكتب، وهي كثيرة التردد
على أسواق الكتب،
٧٦ كما أنها فارس شجاع، وملَّاح ماهر، كما أنها تقوم بمحاولة ناجحة لتقريب
الوالدين عندما شعرت بفتور العلاقة بينهما.
٧٧ هذا بخلاف كرهها الشديد لعادة التجسُّس في بلاط الملوك،
٧٨ ورأيها السديد في أحوال التجارة عندما قالت: «التجارة جذر ومد، وحرمان
وجد، ونحس وسعد.»
٧٩ كما أنها عفيفة شريفة، تغضب من حسُّون عندما حاول أن يمد يدَه إلى
ذقنها بعد أن عرض عليها الزواج،
٨٠ فنجدها ترفض هذا الزواج إلا بعد موافقة والدها حتى ولو كان أسيرًا في
أغمات.
هذا هو دور بثينة أميرة الأندلس، كما جاء في المسرحية، فهل صورتها هذه تتوافق مع
صورتها في التاريخ؟ فالتاريخ يقول عنها:
بثينة بنت المعتمد بن عباد، وأمها «الرميكية» السابقة الذكر. وكانت بثينة
هذه نحوًا من أمِّها في الجمال والنادرة ونظم الشعر، ولما أحيط بأبيها ووقع
النهب في قصره، كانت في جملة من سُبي، ولم يزل المعتمد والرميكية عليها في
ولَهٍ دائمٍ لا يعلمان ما آل إليه أمرها إلى أن كتبت إليهما بالشعر المشهور
المتداول بين الناس بالمغرب. وكان أحد تجار إشبيلية اشتراها على أنها جارية
سُرِّية ووهَبَها لابنه، فنظر من شأنها وهيئت له، فلما أراد الدخول عليها
امتنعت وأظهرت نسبها وقالت: لا أحلُّ لك إلا بعقد النكاح، إن رضي أبي بذلك.
وأشارت عليهم بتوجيه كتاب من قِبَلها لأبيها وانتظار جوابه.
٨١
وبالمقارنة بين ما جاء في المسرحية عن شخصية بثينة وقصتها، وبين ما جاء في كتب
التاريخ، نجد المشابهة التامة في الأحداث والأقوال، ولكن أحمد شوقي أضاف عليها
الكثير من الصفات، كما أوضحنا سابقًا.
٨٢ ولعل هذه الإضافة أراد منها الكاتب تعضيد صورة المعتمد السابقة. وهذا
الاحتمال مقبول في الظاهر. أمَّا الحقيقة وراء اهتمام الكاتب بهذه الشخصية، فراجع
إلى نفي وصمة عارٍ قد أُلصِقت بالمعتمد في حياته، وكانت تمسُّ ابنته الشهيرة باسم
«زائدة الأندلسية»، والتي يرجع الفضل في الكشف عنها للأستاذ محمد عبد الله عنان،
الذي يخبرنا بقصتها قائلًا:
لقد ذكرت الروايات الإسبانية النصرانية … أن ألفونسو السادس قد تزوج من
ابنة للمعتمد بن عباد تسمى «زائدة»، أو أنه قد اتَّخذها خليلة وأنجب منها
ولده الوحيد سانشو … [و] أن المعتمد نفسه حينما شعر بخطر المرابطين الداهم
… استغاث بألفونسو … [و] قدَّم ابنته المذكورة [له] … وأخيرًا أن هذا
التصرف قد أثار فضيحة كبيرة في الأندلس، واتُّهم ابن عباد بالتفريط في عرضه ودينه.
٨٣ وقد استمرَّت التواريخ النصرانية تتناقل هذه الأسطورة عصورًا
كأنها حقيقة لا ريب فيها … ونقول نحن: إنه لا توجد بين هذه التفاصيل
المغرقة سوى حقيقة واحدة هي شخصية زائدة المذكورة … ولكنها لم تكن ابنة
للمعتمد بن عباد … [و] التفسير الحقيقي لهذه القصة، وهو ما كشفت عنه البحوث
والنصوص الوثيقة، أن زائدة … كانت … زوجة للفتح بن المعتمد الملقَّب
بالمأمون، حاكم قرطبة، وأن المأمون حينما هاجم المرابطون المدينةَ أرسل
زوجته وولده وأمواله إلى حصن المدور … ثمَّ التجأت إلى حماية ملك قشتالة …
ولما كانت زائدة على جانبٍ كبيرٍ من الجمال، وكان الملك النصراني من جهة
أخرى مِزواجًا … فقد انتهز فرصة التجائها إليه واتَّخذها خليلة، ثمَّ
تزوجها … [بعد أن] اعتنقت النصرانية وتسمَّت باسم إيسابيل … [وهذه
الأسطورة] لبثت عصورًا تمثَّل في الروايات الإسبانية … كأنها حقيقة لا ريب
فيها. وقد زاد من غموضها صمت الرواية الإسلامية المعاصرة واللاحقة. والظاهر
أن المؤرِّخين المسلمين قد شعروا بما يكتنف هذه القصة من دقة وإيلام للنفوس
الكريمة، فآثروا الإغضاء عنها.
٨٤
ومن المتوقع أن يكون أحمد شوقي قد رأى أو سمع أو قرأ هذه القصة وهو في المنفى
بإسبانيا؛ لذلك كان اهتمامه البالغ بشخصية بثينة حتى يُطهِّر شخصية المعتمد من كل
دنسٍ. ولعل مما سبق تتضح العلاقة بين شخصية بثينة وغرض الكاتب.
ولقد حاولنا في الصفحات السابقة — قدر الإمكان — أن نثبت أن غرض أحمد شوقي
الحقيقي من كتابته لهذه المسرحية هو الإشادة بشخصية المعتمد بن عبَّاد، وإضفاء أفضل
الخصال والصفات عليه، وإزالة أي سيئة أو عار قد لحق به؛ أي إنه حاول تفسير التاريخ
من وجهة نظره، ولكن هل هذا دور الأديب أو المبدع؟ بالطبع لا؛ لأن هذا دور المؤرخ.
إذن لماذا اختار أحمد شوقي شخصية المعتمد بن عباد دون غيرها من شخصيات التاريخ؟
نقول: إن شخصية المعتمد ما هي — في حقيقة الأمر — إلا شخصية الكاتب أحمد شوقي.
وبعبارة أخرى: إن واقع أحمد شوقي قبل النفي وبعده هو المعادل الموضوعي لواقع
المعتمد بن عباد قبل الأسْر وبعده؛ لذلك وجدنا الكاتب ينفي عن المعتمد أي تهمة
تتعلق بعروبته ودينه؛ لأنه في واقع الأمر ينفي عن نفسه أي تهمة تتعلق بمصريته
وعروبته، والتي كانت السبب المباشر لنفيه من مصر، ووجدناه يلصق صفات الغدر والظلم
والخيانة ليوسف بن تاشفين، وهو — عند الكاتب — رمز للإنجليز؛ فمظاهر الظلم والأسر
للمعتمد من قبل ابن تاشفين هي المعادل الموضوعي لمظاهر الفراق والنفي لأحمد شوقي من
قِبَل الإنجليز. وكما أن ابن تاشفين ليس من أصل عربي — فهو من قبيلة لمتونة التي
لها الرياسة بين قبائل صنهاجة البربرية —
٨٥ وكان لا يتحدث العربية
٨٦ كان الإنجليز في مصر؛ لذلك نجد بثينة — في المسرحية — تثور على قضاة
الأندلس الذين يعلقون خلاصها وسعادتها بإلقائها في أحضان يوسف بن تاشفين،
٨٧ الذي يلقى دفاعًا مستميتًا من قِبَل المعتمد وبعض شباب الأندلس، رغم
أنه مسلم، ولكنه ليس عربيًّا؛ لأن «ليس في الحق أن يغتصب جماعة من المسلمين أوطان
جماعة غيرهم من المسلمين.»
٨٨
ومن الواضح أن اهتمام شوقي بشخصيتي المعتمد وبثينة كان أكبر بكثير من اهتمامه
بباقي الشخصيات — والتي تستحق الاهتمام — مثل شخصية «الرميكية» زوجة المعتمد، فهذه
الشخصية لم نتعرف عليها طوال المسرحية إلا من خلال ذكر اسمها على لسان بعض
الشخصيات، ولم تظهر الظهور الفعلي إلا في المنظر الأخير من الفصل الأخير، وهذه
الشخصية — تاريخيًّا — كانت تحتلُّ مكانة بارزة في البلاط الملكي، ولسمو مكانتها
أُطلِق عليها لقب «السيدة الكبرى»، وكانت تشاطر زوجها هوى الشعر ونظمه، وكانت تشترك
في مجالس الشعر والأدب، وكانت تشترك مع زوجها المعتمد في توجيه شئون الدولة، بل
وكانت السبب المباشر والرئيسي في قتل المعتمد لوزيره ابن عمَّار؛ رفيق صباه ويده اليمنى.
٨٩
وعلى الرغم من عدم اهتمام أحمد شوقي بشخصية الرميكية نجده يهتم بشخصية والدة
المعتمد العبَّاديَّة، فيعطيها الدور الأكبر
٩٠ والأهم من شخصية الرميكية. ولعلَّ الاهتمام بشخصية الأم وعدم الاهتمام
بشخصية الزوجة يؤكد ما ذكرته من قبلُ من أن أحمد شوقي كان يتحدث عن واقعه هو من
خلال واقع المعتمد. وبعبارة أخرى: لقد حاول أحمد شوقي أن يرثي أمَّه، وأن يتمثَّلها
أمامه في شخصية العبادية أم المعتمد؛ لأن والدة أحمد شوقي قد تُوفِّيَت وهو في
المنفى وأثناء كتابته لهذه المسرحية، ويقول شوقي عن ذلك:
إني شعرت بصدمة عنيفة أثَّرت في أعصابي للآن عند مفارقتي الوطن سنة ١٩١٥
وبُعدي عن والدتي، ولقد قضيت في إسبانيا سِنِي الحرب وجلَّ همِّي والدتي؛
فقد تركتها هنا في مصر كرغبتها، ولكني لم أنسها يومًا واحدًا، بل لم أنسها
في كل مناسبة، وما كان أكثر المناسبات التي تذكُّرني بها كل يوم عدة مرات!
ففي المائدة، وفي العافية وفي المرض، وفي دخولي المنزل وخروجي منه كنت
أذكرها في كل هذه المناسبات، وكنت دائمًا أترقَّب أخبار الحرب وما عساها
تنتهي به ككل إنسان في هذا الوقت، ولكن كان من أكبر الدوافع لي هو شوقي إلى
والدتي. وفي ذات يوم، أخذت الجرائد كعادتي، وما كاد نظري يقع على أخبار
الهدنة حتى ذكرتها فرحًا بقرب لقائها، ولكن لسوء حظِّي لم تمضِ أيام حتى
نعيت لي بالبرق، فاصطدم جسمي الضعيف هذا بالفرح والحزن وهما أكبر ضدين في
الحياة، فوقعت على المقعد هامدًا محبوس الريق، ممسوك الدمع، ولم أبك إلا
بعد ساعات؛ أخذ لساني يتحرك بالرثاء،
٩١ وعيناي تتدفق دمعًا، ويدي تسطر أنات قلبي.
٩٢
وتعتبر مسرحية «أميرة الأندلس»، والتي كتبها أحمد شوقي في المنفى، بداية الخلاص
له من قيود القصر الملكي والأسرة الحاكمة في مصر، بل وتعتبر بداية الطريق إلى وطنية
أحمد شوقي الحقيقية في أدبه المسرحي؛ فقد كتب أول مسرحياته للدفاع عن الخديوي؛ وهي
«علي بك الكبير» عام ١٨٩٣، ثمَّ أعاد كتابتها عام ١٩٣٢؛ فشوقي قبل النفي كان أسيرًا
للقصر الملكي، وقد اعترف بذلك في مقدمة شوقياته الأولى عندما قال: «والقوم في مصر
لا يعرفون من الشعر إلا ما كان مدحًا في مقام عالٍ، ولا يرون غير شاعر الخديوي؛
صاحب المقام الأسمى في البلاد، فما زلت أتمنى هذه المنزلة وأسمو إليها على درج
الإخلاص في حب صناعتي وإتقانها، بقدر الإمكان، وصونها عن الابتذال، حتى وُفِّقت
بفضل الله إليها.»
٩٣ ولعل بسبب هذا الاعتراف، لاقى شوقي الطعن في وطنيته قبل النفي،
٩٤ بل واستمر هذا الطعن إلى وقتنا هذا من قبل بعض الدارسين،
٩٥ أمَّا وطنيته بعد النفي فقد ظهرت آثارها في أدبه بصورة أشمل وأعمق، وفي
ذلك يقول الدكتور أحمد الحوفي:
لكن من الإنصاف للحقيقة أن شوقي كان قبل نفيه مقيَّدًا بالقصر، وبسياسته
المرسومة، فكان يُحلِّق بجناح غير طليق؛ لأن للقصر قيوده الملزمة وأحكامه
المُطاعة؛ ومن هنا كان شعره الوطني قبل النفي أقل من شعره بعد النفي وأضعف،
فلما نُفيَ أرَّث النفْيُ وطنيته؛ لأنه انطلق من إسار القصر ورسومه، ولأنه
ذاق مرارة العدوان البريطاني على حريته وحرية قومه؛ لهذا نجد شعره بعد
النفي يلتهب وطنية، ويمتد فيشمل مصر والعرب والإسلام على نطاق أوسع مما كان
قبل أن يُنفى. كان نفيُه إذن نعمةً على مصر، ونعمةً على الأدب، وكان اتصاله
بالقصر نقمة على مصر، ونقمة على الأدب.
٩٦
وأخيرًا نستطيع أن نقول: إن أحمد شوقي قد قام بتوظيف التراث التاريخي، ولا سيَّما
الأندلسي منه، في هذه المسرحية، بصورة مقبولة؛ فقد خالف التاريخ في مواضع وأحداث
وشخصيات عديدة، وبصورة فنية؛ من أجل خلق شخصية تاريخية أدبية تُمثِّل شخصية المعتمد
بن عباد، وبصورة فنية مسرحية؛ كي يعبِّر من خلالها عن ذاته، أو كي يسقط عليها همومه
وواقعه الأليم. ولعل في هذا التوظيف وما ترتَّب عليه من مخالفات تاريخية ردًّا
عمليًّا من أحمد شوقي لبعض الدارسين، الذين قالوا بأن أحمد شوقي في مسرحياته كان
أسيرًا لأحداث التاريخ، وأن التراث التاريخي قيدٌ على فنِّه، وأن مسرحياته
التاريخية تتفق اتِّفاقًا تامًّا مع أحداث التاريخ.
٩٧