(١) مسرحية «الناصر» لعزيز أباظة
كتب الأستاذ عزيز أباظة مسرحيته «الناصر» عام ١٩٤٩ في أربعة فصول، وتدور أحداث
الفصل الأول في قصر البديع بقرطبة عام ٣٣٨ﻫ؛ حيث يستقبل الخليفة عبد الرحمن الثالث
— الناصر — وفود دول أوروبا من الملوك والأمراء والسفراء، الذين يقدِّمون له
الهدايا، ويرفعون إليه مطالبهم. وبهذه البداية نتعرَّف — من خلال المسرحية — على
مظاهر التقدم والرقي العربي في عهد الناصر بالأندلس، فنجد رسول «القسطنطينية»
يقدِّم هدية ملكية عبارة عن كتاب نادر في علم النبات تحيَّر فهمه على علماء أمته.
أمَّا علماء العرب في الأندلس فَهُمْ على عكس ذلك، ثمَّ يأتي رسول «الصقالبة» فيطلب
جيشًا عربيًّا كي يُعلِّم جيش بلاده فنون الحرب، ويدفع عنهم طمع الطامعين من الدول
المجاورة، فيستجيب الناصر له ويرسل جيش «ابن جهور»، ويأتي رسول ملك ألمانيا فيدور
بينه وبين الناصر هذا الحوار:
الناصر
:
… … … تحدث
عن صديقي آتون ما أنباؤه؟
الرسول
:
هو في نعمةٍ؛ فقد خفض الرأ
س خضوعًا لسيفِه أعداؤه
الناصر
:
ليس أعداؤه أولئك فاعلم
إن أضرَى خصومه أصفياؤه
هم ولاة الثغور، هم وزراء الـ
ـملك، هم رهطه، وهم أمراؤه
قل لمولاك يجمع الأمر يسلَم
رُبَّ عرشٍ أوْدَتْ به وزراؤه
ذاك هَدْي التاريخ فاعلمْ … فما أفـ
ثمَّ يطلب هذا الرسول من الناصر طبيبًا عربيًّا كي يطبِّب أخت ملك الألمان من
مرضها المزمن، فيستجيب له الناصر. ويأتي رسول ملك «نافارة» ويطلب العفو والأمان
وإعفاء أمته من الجزية، فيستجيب له الناصر ويرفع عن قومه الجزية. وهذه الاستجابة من
قِبَل الناصر جعلت الرسول يطمع في المزيد، فطلب نقل بعض المعارف والعلوم العربية
إلى بلاده، فدار بينهما هذا الحوار:
الرسول
:
… … … رجوتُ أن
تروى بعلمك أمَّتي وبلادي
ووددت أن نرد الحياة على هُدًى
فاسكبْ علينا من سناك الهادي
لو ينقلون لنا بسائط علمهم
فُقنا الشعوب حِجًا وفضل سَدادِ
الرسول
:
… … … رضاك يا
مولاي عُدَّتنا لخوضِ عُبابِه
الناصر
:
العلم إن يُنقَل لكم لم يُجدِكم
ما لم تجيئوا الصرح من أبوابه
هبُّوا ادفعوا أمَّية عصَفتْ بكم
ثمَّ اطلبوه بعدُ حقَّ طِلابِه
هي من حجاب النور عن وعي الورى
بل إنها لا ريب شرُّ حِجابه
٢
ومما سبق نلاحظ أن عزيز أباظة أراد أن يظهر التفوق العربي في شتى المجالات في عهد
الناصر في الأندلس. ولعل هذا الحماس من قِبَل الكاتب لهذا التفوق العربي، جعل
الدكتور عبد المحسن عاطف سلام يقول عن هدية رسول القسطنطينية — وهي الكتاب النادر
في النبات: «ولا يساورنا الشك في أن عزيزًا قد فهم كلمة كتاب بمعنى خطاب، فليس من
شكٍّ في أنه يتقن العربية ويملك زمامها، ولكن هكذا أراد عزيز في قصته، فتحول الخطاب
إلى كتاب في النبات؛ ليُدلل بذلك على تقدم العرب في العلوم، وتأخر البلاد الأخرى
الأوروبية، واهتمام حكَّام العرب بالعلم وتقدمه.»
٣ والذي شجَّع الناقد على هذا خلو بعض المصادر التاريخية من وصف الكتاب —
صراحةً — بأنه كتاب في النبات، فما جاء فيه من وصف أنه:
في رقٍ مصبوغ لونًا سماويًّا، مكتوب بالذهب بالخط الإغريقي. وداخل الكتاب
مُدرَجة مطوية مصبوغة أيضًا، مكتوبة بفضة بخط إغريقي أيضًا، فيها وصف هديته
التي أرسل بها وعددها، وعلى الكتاب طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل، على الوجه
الواحد منه صورة المسيح، وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده. وكان
الكتاب بداخل درج فضة منقوش عليه غطاء ذهب فيه صورة قسطنطين الملك معمولة
من الزجاج الملون البديع، وكان الدرج داخل جعبة ملبسة بالديباج. وكان في
ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه قسطنطين ورومانين، المؤمنان بالمسيح،
الملكان العظيمان ملكا الروم، وفي سطر آخر: إلى العظيم الاستحقاق الفخر،
الشريف النسب عبد الرحمن، الحاكم على العرب بالأندلس، أطال الله بقاءه.
٤
وقد خفي على الناقد أن عزيز أباظة قد اعتمد في هذا الأمر على كتاب «دولة الإسلام
في الأندلس» للأستاذ محمد عبد الله عنان،
٥ والذي أثبت أن الهدية عبارة عن كتاب «ديسقوريدس» في الحشائش الطبية.
٦ وعزيز أباظة لا يحتاج — لا هو ولا غيره — لتحوير الكلمات كي يدلل على
تقدم العرب في العلوم في عهد الناصر، كما جاء في قول الناقد، فنظرة يسيرة على
المصادر والمراجع التاريخية — في تلك الفترة — تؤكِّد ذلك بدون شكٍّ.
٧
ومما سبق نستطيع أن نقول: إن عزيز أباظة استطاع أن يوظِّف بعض الحقائق التاريخية
في عهد الناصر — ولا سيَّما مشهد الوفود الأوروبية — كي يبدأ مسرحيته بمظاهر القوة
والتفوق العربي في ذلك العهد، بعكس ما ستنتهي إليه المسرحية من ضعف وفتور. وهذا
جانب من جوانب الصراع في المسرحية، والذي بدأ — قبيل انتهاء الفصل الأول —
بمؤامرتين: إحداهما من تدبير عبد الله بن الناصر بمعاونة «وصيف» و«وليد» و«منذر»،
والأخرى من تدبير «منى» و«تغريد» و«شفق»، وهنَّ من بنات نافارة. ومن المؤامرة
الأولى يأتي هذا الحوار بين عبد الله ومنذر:
عبد الله
(في تخاذل)
:
… … أمسِكْ
فما نردُّ المقادِر
منذر
(في خطورة)
:
بل المقادير تعنو
لكلِّ جلدٍ مخاطر
مولاي إن لم تنلها
فالدين لا شكَّ خاسِر
منذر
:
اذكر جهاد الأوالي
واذكر جهود الأواخر
بني أمية هبُّوا
أو فاخْدرُوا في المقاصر
رُدُّوا — وإلَّا فزولوا —
عنَّا إمامة فاجر
لن يحفظ الله مُلكًا
إذا تولاه داعِر
منذر
:
… … … فانهض
بالعِبْءِ واغشَ المَخاطر
وهكذا كانت المؤامرة الأولى. أمَّا المؤامرة الثانية فكانت بين منى وتغريد
الجاريتين؛ هدية رسول نافارة للناصر في الظاهر، والخديعة والتآمر في الباطن. وتتضح
هذه المؤامرة من خلال الحوار الآتي بين «منى» و«تغريد»:
منى
(في خطورة بالغة)
:
تغريدُ، خُطَّتنا اندلاع النار في
ملك الخليفة أرضه وسمائه
نمضي على شتَّى المناهج ما وفَتْ
بفَناء شامخِ مُلكه وفنائه
تغريد، ما من ثغرة تبدو لنا
إلا اقتحمناها لدَكِّ بنائه
في نفسه أو دينه أو تاجه
هدفٌ لنقمتنا وفي أبنائه
تغريد
:
أضفى عليك الله من تأييده
ما تظهرين به على أعدائه
منى
(في حقد)
:
أحكمت في خدع الخليفة حيلتي
فغدوت بعض هنائه ورجائه
وبَثثتُ للحَكَم الشِّباك وقلت: يا
حوَّاء، فانقضِّي على غلوائه
ورأيت عبد الله منطويًا على
حقد جَهِدتُ — العام — في إذكائه
هو مُزمعُ الحدَث الجسيم فمخفقٌ
فمكفِّرٌ عن طَيشِه بدمائه
منى
:
… … … اصبري هو بَعدُ في
صلب الزمان وفي مصون خفائه
تغريد
:
أهواه للزهراء ما تعنينه؟
فلقدْ تدلَّه في هوى زهرائه
منى
:
بعض الأناة اليوم وارتقبي غدًا
يفضح لك المطويَّ من أنبائه
إني جمعت الأمر من أقطاره
وحزمته … لم يبقَ غير مَضَائه
٩
ومن الملاحظ أن المؤامرتين متفقتان في الغاية مختلفتان في الوسيلة؛ إذ إن عبد
الله حاقد على أخيه «الحكم»؛ بسبب تفضيل الناصر له، وتخصيصه لولاية العهد دونه،
ومنذر حاقد أيضًا على الحكم؛ بسبب لم يبيِّنه لنا الكاتبُ، ووصيف حاقد على الناصر
بسبب ظلمه إياه بالرِّقِّ، و«الوليد» يعمل لحساب «المعز لدين الله الفاطمي»؛ لذلك
يحرض عبد الله على قتل أخيه الحكم، ويأتي له بتأييد من المعز لولاية العهد. هذا
بالنسبة للمؤامرة الأولى. أمَّا المؤامرة الثانية بالنسبة لتغريد ومنى، فالسبب ديني
وعنصري؛ حيث إنهما من بنات نافارة ومن الدين المسيحي. ومن الجدير بالذكر أن الصراع
في الدين والقوة كان جانبًا من جوانب الصراع في المسرحية، كما كان جانبًا من جوانب
الصراع في التاريخ الأندلسي في تلك الفترة.
وبالنسبة لحقد عبد الله على أخيه الحكم بسبب ولاية العهد، تُحدِّثنا كتب التاريخ
عنه وتؤكده، وذلك عندما عهد الناصر بولاية العهد للحكم وهو طفل صغير لم يتجاوز
الثمانية أعوام.
١٠ ولكي يمهد عزيز أباظة لهذه الشخصية ودورها الهام في المسرحية، جعل
الناصر يعرض عليه ولاية العهد، ولكنه يتنصل منها ويتهرب، لا لشيء سوى عدم إغضاب
أخيه عبد الله.
١١
أمَّا شخصية منذر، فقد خالف عزيز أباظة حقيقتها التاريخية، فهي للقاضي «منذر بن
سعيد البلوطي» أقرب الرجال إلى قلب الناصر،
١٢ ولم تخبرنا كتب التاريخ بأي ضغينة منه للناصر أو لأحدٍ من أبنائه،
فيقول عنه المقري:
ولي قضاء الجماعة بقرطبة أيام عبد الرحمن، وناهيك من عدل أظهر، ومن فضل
أشهر، ومن جور قبض، ومن حق رفع، ومن باطل خفض. وكان مهيبًا صليبًا صارمًا،
غيرَ جبان ولا عاجز ولا مراقبٍ لأحد من خلق الله في استخراج حق ورفع ظلم.
واستمر في القضاء إلى أن مات الناصر لدين الله، ثمَّ ولي ابنُه الحكم
فأقرَّه. وفي خلافته استعفى مرارًا فما أُعفي، وتوفي بعد ذلك. لم يحفظ عنه
مدة ولايته قضية جور، ولا عُدَّت عليه في حكومته زلة، وكان غزير العلم،
كثير الأدب، متكلِّمًا بالحق، متبيِّنًا بالصدق. له كتب مؤلفة في السنة
والقرآن والورع، والردِّ على أهل الأهواء والبدع. وكان خطيبًا بليغًا
وشاعرًا محسنًا.
١٣
أمَّا شخصية وصيف فهي شخصية مُختَلَقة من قِبَل الكاتب؛ حيث لا وجود لها في
التاريخ. أمَّا شخصية الوليد فقد أتى بها عزيز أباظة كي يؤكد على الخطر الداخلي
المتمثل في مقاومة الدعوة الفاطمية، التي انتشرت في الشمال الإفريقي، والهادفة إلى
غزو الأندلس؛ لجعل المغرب الإسلامي كله خاضعًا لها.
١٤
ومن الجدير بالذكر أن عزيز أباظة أقام الصراع على السلطة بين عبد الله وبين أخيه
الحكم حول تآمر عبد الله مع الوليد ضدَّ الحكم. وهذا التآمر لم يكن له أي أساس
تاريخي؛ حيث إن مؤامرة الفاطميين كانت تسعى لهدم مُلك الناصر دون اشتراك عبد الله
فيها، فقد كان لعبد الله أعوان من داخل قرطبة ومن داخل القصر الملكي يؤيدونه لولاية العهد،
١٥ ولكن عزيز أباظة أقام اتصالًا خفيًّا بين الوليد — من قِبل المُعزِّ
لدين الله الفاطمي — وبين عبد الله؛ كي يضع — وبصورة فنية — بذور الضعف للصرح
الأندلسي من داخل القصر، ومن أعمدة الأسرة الحاكمة نفسها.
١٦
وقبل انتهاء الفصل الثاني، يكتشف الناصر مؤامرة ابنه عبد الله مع الوليد، فيقتل
ابنه عبد الله، ويزجُّ بالوليد وشركائه في السجن. والتاريخ يؤكد هذه الواقعة من حيث
قتل الناصر لابنه عبد الله، وإن اختلف السبب الحقيقي المتمثل في تأييد بعض الأعوان
من قرطبة لعبد الله بولاية العهد دون أخيه الحكم.
١٧ ولكي يقنعنا عزيز أباظة بقتل الناصر «الأب» لعبد الله «الابن»، جعل
الابن عاشقًا طامعًا في زوجة أبيه الزهراء، فهو كثير التغزُّل بها دون حياء؛ لدرجة
أن هذا العشق وصل إلى تغريد ومنى،
١٨ وتحدث به الناصر للحكم.
١٩
عبد الله
:
زهراء هل رَحِمْتِني
فقد براني الوَلَه
الزهراء
:
أمَّا تزال سابحًا
في لُجج الضلال
هذا الذي تأمُلُه
ضَرْب من المُحال
عبد الله
:
الدين حُبٌّ هل يكو
نُ الدِّين إلَّا حبَّا
ولعل عزيز أباظة لم ينجح في إقناعنا بهذه المحاولة كي نتقبل قتل الأب لابنه.
وحقيقة الأمر أن الكاتب نفسه غير مقتنع بذلك؛ بدليل أنه لم يكشف لنا في المسرحية عن
مقتل عبد الله ونهايته، فجاء خبر موته على لسان الجاريتين شفق ومنى بصورة عابرة.
٢١ ومن الملاحظ أن هذه القسوة من قبل الناصر على ابنه زجَّ بها عزيز كي
يوضِّح لنا ظروف عصر الناصر، ونفسيته، وقدرته على الحزم في الأمور، والتي تصل به
إلى حدِّ قتل الابن. وهذا من الناحية التاريخية حقيقي؛ فالناصر عندما تولى الحكم
تولَّاه عن جده الأمير «عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن» أمير الأندلس، «وكانت
ولايته من الغريب؛ لأنه كان شابًّا وأعمامه وأعمام أبيه حاضرون، فتصدَّى إليها
واحتازها دونهم.»
٢٢ ويحدِّثنا التاريخ أيضًا عن قتل الناصر لأخيه «القاضي ابن محمد»، وعم
أبيه «عبد الجبار»، عندما أراد عبد الجبار أخذ البيعة لنفسه بمساعدة ابن محمد.
٢٣
ومع الفصل الثالث تبدأ المؤامرة الثانية في التنفيذ من قبل الجاريات مُنى وشفق
وتغريد، وقد وجدن ضالتهن في شخصية الحكم بن الناصر، الذي صوَّره عزيز بقلة الحنكة
والدراية العسكرية؛ حيث يبوح بأسرار الدولة الخاصة المتعلقة بأمور الحرب مقابل همسة
عشق أو لقاء غرام من الجارية شفق. وبالفعل يحدث ذلك، وتستطيع شفق أن تحصل منه على
كافة المعلومات المتعلقة بالاستعداد للقاء الفاطميين، المتمثلة في اسم القائد، وعدد
الجيش، ومكان ربوضه، وساعة تحركه، ومدى قوته. ويصل العشق بالحَكَم — في هذا المشهد
— أن يفاتح شفق في أمر زواجه منها، ولكن شفق تُسرع بهذه المعلومات إلى مُنى التي
تبلِّغها بدورها إلى أعداء الناصر.
٢٤
وفي الفصل الرابع والأخير، نجد الناصر يوصي ابنه الحكم بالثبات في المعركة، ويسدي
إليه العديد من النصائح التي من شأنها أن تضمن له النصر، وتدخل عليهما الزهراء
وتخبر الناصر بأن هناك مؤامرة تُدبَّر في القصر، فيظنُّ الناصر أن ابنه الحَكَم
مُدبِّرها — متأثِّرًا بموقف ابنه عبد الله السابق — فيحاول قتله، ولكن الجارية شفق
تدخل في الوقت المناسب لتكشف عن المؤامرة بالكامل، وتخبرهم بأن العدو قد علم بأدق
الأسرار العسكرية، كما تعترف بأنها السبب في نقل هذه المعلومات.
٢٥ ويخرج الجميع وسط ندم شفق، وتدخل عليها منى، ويشتد الحوار بينهما حول
فكرة الولاء لوطنهما الأصل «نافارة»؛ فمنى ترى أن شفق قد خانت الوطن، وشفق تلعن هذا
الوطن الذي جلب لها الذلَّ والعار، وينتهي المشهد بطعن منى لشفق بخنجر، ثمَّ تهرب
من الأندلس.
وفي آخر مشاهد المسرحية — وفي مشهد درامي — تُسلم شفق الروح بين يدي الحَكَم
وتطلب منه العفو، فيعفو عنها باسم الحب،
٢٦ ويدخل الناصر على الحَكَم وهو في حزن عميق بسبب فراق المحبوبة، فيوقظ
ضميره ورجولته، ويُذكِّره بالعدو الرابض عند الحدود، وينجح في ذلك. وتنتهي المسرحية
بقول الناصر له:
إلى ذروة المجد سِرْ بالجيوش
محوطًا بمأثور إيمانها
وجاهد بها في سبيل البلاد
توطِّد دعائم أركانها
ومما سبق نستطيع أن نبيِّن عن كيفية توظيف عزيز أباظة للتراث التاريخي في
المسرحية، سواء من حيث الأحداث أو الشخصيات، فنجده قد نقل إلينا نقلًا أمينًا مظاهر
التقدم العربي في شتى المجالات في عهد الناصر بالأندلس، فنجده ذكر هدية رسول
القسطنطينية — كتاب النبات — واهتمَّ بهذه الهدية على وجه الخصوص للاهتمام البالغ
بالكتب والمكتبات في عصر الناصر، وبالأخصِّ في قرطبة.
٢٨ ثمَّ جاء برسول الصقالبة كي يؤكِّد على حسن الجوار من قبل الناصر
للبلاد الأخرى، وذلك عندما أرسل جيش ابن جهور مع الرسول لحماية بلاده من طمع البلاد المجاورة.
٢٩ ثمَّ يأتي برسول ملك ألمانيا كي يبرهن على رجاحة عقل وفكر الناصر،
عندما تحدَّث عن عدو ألمانيا الحقيقي المتمثل في الوزراء وأولياء الثغور، وهذه
الحقيقة كانت غائبة عن ملك ألمانيا نفسه،
٣٠ ويستغل عزيز أباظة هذا الرسول أيضًا في إظهار التفوق العربي في مجال
الطب، عندما طلب الرسول طبيبًا عربيًّا كي يطبب أخت الملك.
٣١ وأخيرًا يأتي برسول نافارة كي يؤكِّد التفوق العربي — في عهد الناصر —
في مجال العلوم عمومًا.
٣٢ ولا ينسى عزيز أباظة التفوق العمراني
٣٣ متمثِّلًا في القصور الأندلسية، فيثبته في بداية الفصول الأربعة مع وصف
كامل لأبنيتها، وهي: قصر «البديع» و«الزهراء» و«الناصر» بغرناطة.
٣٤
وحقيقة الأمر أن اهتمام عزيز أباظة بهذا التفوق العربي ما هو إلا بكاءٌ على حضارة
العرب وتاريخهم في الأندلس،
٣٥ بعدما دبَّت في أرجائه بذور الضعف والانحلال. وهذا من حيث التوظيف
بالنسبة للأحداث.
أمَّا بالنسبة للتوظيف من خلال الشخصيات، فنجد شخصية عبد الله بن الناصر جاءت
مضطربة متناقضة؛ لأن عزيز أباظة أراد من ورائها توظيف التراث في أكثر من جهة،
فصوَّره في بداية المسرحية برجل الدين العفيف. وبرغم تديُّنه لم ينجح في الفوز برضى
الأب أو الفوز بولاية العهد، وكأن الكاتب يريد أن يقول: إن الحاكم الحق؛ أي عبد
الله المتديِّن، جاء في زمن ابتعد فيه الحكام عن الدين، فظهرت بذور الضعف في الصرح
الأندلسي إيذانًا بسقوطه فيما بعدُ. ثمَّ نجد الشخصية الدينية تتناقض بعد ذلك عندما
قامت بحب الزهراء زوجة أبيه — كما مرَّ بنا — ثمَّ يستغل الكاتب هذه الشخصية
بملامحها الدينية — مرة أخرى —
كي يرمز بها عن الحركات الدينية والفتن الطائفية في
عهد الناصر، والتي اتَّخذت من شعار الدين ستارًا يحمي أطماعها السياسية والشخصية؛
أمثال ابن حفصون الذي يقول عنه التاريخ إنه:
أخطر ثائر عرفته الأندلس منذ الفتح، وكانت ثورته تمثل أخطر العناصر التي
تدين بالولاء لحكومة قرطبة، وفي مقدمتها طائفة المولدين الذين ينتمي إليهم؛
وهم سلالة القوط والنصارى الإسبان الذين أسلموا منذ الفتح وغدوا جزءًا من
الأمة الأندلسية. وكان أولئك المولدون بالرغم مما تسبغه عليهم حكومة قرطبة
الإسلامية من الرعاية والتسامح يضمرون لها الخصومة والكيد، وينتهزون كل
فرصة للخروج عليها، وكانوا يلقون العون دائمًا من زملائهم النصارى
المعاهدين من رعايا الحكومة الإسلامية.
٣٦
وأخيرًا يستغل عزيز أباظة شخصية عبد الله ويجعله يتآمر مع الوليد رسول المعز؛ كي
يبيِّن عن الخطر الكبير الذي يهدد الأندلس وقتذاك، المتمثل في خطر الفاطميين.
٣٧ وبذلك استطاع الكاتب أن يوضِّح لنا وبجلاء — من خلال شخصية عبد الله —
بعض الأخطار الداخلية والخارجية على الأندلس أثناء خلافة الناصر.
أمَّا من حيث شخصيات الجواري، المتمثلة في منى وتغريد وشفق، فنجد عزيز أباظة قد
زجَّ بهن — رغم خلو التاريخ من أسمائهن — كي يضع بذرة جديدة من بذور التفكك والضعف
الأندلسي في عهد الناصر، المتمثلة في إقحام الجواري في شئون الدولة والأسرة
الحاكمة، وصلت إلى حدِّ تدبير المؤامرات لدكِّ حصون الدولة. هذا فضلًا عن تبنِّي
الناصر لشفق وحبِّه لمُنى، ثمَّ حب الحَكَم لشفق وطلبه الزواج منها، والذي خلق منه
عزيز أباظة صراعًا جديدًا في نهاية المسرحية بين الحب والواجب عند الحَكَم. وفي ذلك
يقول ابن خلدون: «عهِد الناصر بالمناصب الكبيرة إلى رجال وضيعي المنبت من الصقالبة
٣٨ والموالي المعتقين أو الأرقاء، وهم رجال لا إرادة لهم يُوجِّههم كيفما
شاء، وكان يثق بالصقالبة بنوع خاص ويُولِّيهم من السلطان والنفوذ ما لا يوليه سواهم.»
٣٩
ومن الجدير بالذكر أن المسرحية تنتهي ببعض الأمل متمثِّلًا في نصيحة الناصر لابنه
الحَكَم على مواصلة الكفاح وصدِّ العدوان عن البلاد. وينجح في ذلك بعد أن يفيق
الحَكَم من صدمته العاطفية بسبب موت شفق. ولكن عزيز أباظة — ببراعة فنية — يترك منى
تهرب من الأندلس كي يقول للقارئ إن هذا الأمل في النهوض بالأندلس يقابله استمرار في
المؤامرات لدكِّ حصون الأندلس، متمثِّل في هروب رأس الأفعى منى، ولكي تكون رمزًا
على استمرار بقاء الصراع العنصري في الأندلس إيذانًا بسقوطه. ولعلَّ في ذلك بعض
الرد على هجوم الدكتور محمد مندور للمسرحية، عندما قال عنها:
ومسرحية الناصر بعد ذلك تصوِّر حياة ملوك المسلمين حتى كبارهم؛ كالناصر
والحكم، في أقبح صورة، فهُمْ قوم شهوانيون أقرب إلى الحيوانات منهم إلى
البشر المهذَّبين، صغار العقول، طاغية شهواتهم، عبيد الملذات. وفي أخطر
المواقف، نرى أمراءهم لا يحسُّون بهذه الخطورة التي لا تصرفهم عن العبث
ومغازلة الجواري، بل ومحاولة إغراء جاريات أبيهم وانتزاعهن من بين أحضانه،
حتى لكأن قصورهم قد استحالت إلى مواخير. وعلى العكس من ذلك، نرى أعداءهم
الموتورين، حتى الجواري منهم، شخصيات إيجابية فعَّالة مسيطرة على نفسها،
قوية الإرادة، واسعة الحيلة، عميقة الدهاء، على نحو ما نشاهد في شخصية
«منى» بنوع خاص؛
تلك الشخصية التي صوَّرها المؤلف جبَّارة وفيَّة لوطنها
ولذويها، مسيطرة على الأحداث ومُسيِّرة لها؛ حتى لنُحِس بأن شخصيتها أقوى
من شخصية الأمراء، بل ومن شخصية الخليفة نفسه.
٤٠
ولعل زمن كتابة المسرحية، وهو عام ١٩٤٩؛ أي بعد عام واحد من مأساة فسلطين، أغرى
الأستاذ أحمد حسن الزيات لعقد الصلة بين تاريخ كتابة المسرحية وبين مأساة فلسطين،
فقال: «[إن عزيز أباظة رأى] أن العرب ما زالوا يمضغون الفخر بالمجد الذاهب والسلطان
المضاع، حتى عاد الفخر تمطُّقًا من غير مذاق، وتجشُّؤًا من غير شبع، ولم يحاولوا
الانتفاع بالحوادث والاتِّعاظ بالعبر حتى تجددت مأساة الأندلس في فلسطين، وأُخرِج
العرب من ديارهم هذه اليوم كما أُخرِجوا من ديارهم تلك بالأمس. والأسباب في
المأساتين متحدة، والنتائج في الجلاءين متفقة.»
٤١
وحقيقة الأمر أن هذا القول — من وجهة نظرنا — يُعدُّ إجحافًا لرموز المسرحية
المتعددة؛ فمأساة فلسطين من الممكن أن يُرمز لها في المسرحية بشخصية عبد الله
بن الناصر، الذي اقتُطِع من جسد الأسرة الحاكمة كما اقتُطِعت فلسطين من الأسرة
العربية، ومن الممكن أن يُرمز لها أيضًا بشخصية الجارية منى؛ فهروبها في المسرحية
كان للدلالة على استمرار وجود الخطر الخارجي على الأندلس. فشخصية منى بذلك تُعدُّ
رمزًا على اليهود وسياستهم الاستعمارية لأجزاء أخرى من الوطن العربي في المستقبل
بعد احتلالهم لفلسطين. ومن الممكن أيضًا أن يُرمز للمأساة بالعدو الرابض على حدود
الأندلس — في نهاية المسرحية — وهو رمزٌ على استمرار الخطر الخارجي، والرابض على
حدود الوطن العربي، المتمثِّل في اليهود. ومعنى هذا أن مأساة فلسطين في المسرحية
تُعدُّ رمزًا من رموزها الكثيرة، ولا تُعدُّ معادلًا موضوعيًّا للمسرحية بأكملها،
كما قال الأستاذ أحمد حسن الزيَّات.
وبذلك استطاع عزيز أباظة أن يوضِّح بجلاء بداية النهاية للحُكْم العربي في
الأندلس من خلال هذه المسرحية؛ فقد بدأها بإظهار التفوق العربي في شتى المجالات،
ثمَّ أنهاها ببداية زوال هذا التقدم. ولقد نجح في توظيف الأحداث التاريخية، كما نجح
أيضًا في توظيف شخصياتها للدلالة على نهاية شروق الأندلس، والإيذان بغروبها؛ كي
تكون درسًا تعليميًّا للأمة العربية ولباقي الأمم.
(٢) مسرحية «غروب الأندلس» لعزيز أباظة
يعود عزيز أباظة لإتمام مسرحيته السابقة «الناصر» بمسرحية أخرى هي «غروب
الأندلس»، التي كتبها عام ١٩٥٢، فبعد أن وضع بذور التفكك والضعف والانحلال العربي
في مسرحية «الناصر»، جاء إلى «غروب الأندلس» كي يجني ثمارها المتمثلة في نهاية دولة
الإسلام في الأندلس بتاريخها العريق، الذي امتدَّ بنحو ثمانية قرون. ومن الملاحظ أن
المسرحيتين متكاملتان تاريخيًّا؛ حيث تمثِّل الأولى «الناصر» أمراض الحكم والدولة،
والثانية «غروب الأندلس» تمثِّل نهاية الحكم وموت الدولة.
وتتكون المسرحية من خمسة فصول؛ ففي الفصل الأول تدور الأحداث في قصر الحمراء
بغرناطة، ومن البداية يطالعنا الكاتب إلى ما آلتْ إليه الأندلس من تفرُّق وتفكك
وتمزُّق شمل جميع أرجائها. وفي ذلك تقول بثينة؛ وهي متبنَّاة عائشة زوجة
السلطان:
أرى الأرزاء مُسرعَة خُطاها
ونحن إزاءَها نمشي الهُويْنا
إذا لم نُسبِق الأحداث وثبًا
تصلِّينا لظاها فاكتوينا
ثمَّ نعلم من بثينة أيضًا أن زوجة السلطان «الثريا» — وهي الزوجة الثانية بعد
عائشة، ومن أصل إسباني — تدبِّر المؤامرات ضدَّ عائشة وولدها «عبد الله».
٤٣ وتستمر الأحداث فتكشف لنا عن العداء القديم والمستحكم بين السلطان علي
أبو الحسن «الغالب بالله»، وأخيه محمد بن سعد المعروف ﺑ «الزغل» حول الحكم وولاية العهد،
٤٤ ثمَّ نجد «موسى بن أبي الغسان» — وهو من أبطال الأندلس الثائرين — يخبر
الزغل بفساد أخيه السلطان وبطانته، وعدم سماعه لصوت الحق:
موسى
:
أدركْ أخاكَ الملك واشحذْ عزمه
واردُد لهمَّته المضاء العازبا؟
أحكِمْ بطانته الغواة فإنَّهم
مدُّوا عليه من الضلال غياهبا
ساموه أن يرد الهوان مواردًا
فانساق والبَغْي الوَبِيء مَسَاربا
الزغل
:
هذي البطانة كنت قيِّمها …
موسى
:
… … … … … لقد
سدَّدته فازورَّ عني جانبًا
إن أنت صاحبتَ الملوك فلا تكن
للحقِّ والمُثُلِ الرفيعة صاحبًا
فإذا نصحت بغير ما احتشدوا له
نسخوا مناقبك الوضاء مثالبا
٤٥
ثمَّ يخبره أيضًا بالخطر الخارجي المتمثل في «فرديناند»؛ ملك قشتالة وأراجون،
وزوجته إيزابيلا،
٤٦ وتصل الأحداث إلى صراع الزوجات؛ فعائشة تسعى لولاية العهد لابنها،
وكذلك تسعى الثريا التي تفوز به. ويعلن السلطان ذلك العهد لابن الثريا «يحيى»،
٤٧ فتقوم لذلك ثورة في البلاد يتزعَّمها موسى بن أبي الغسَّان وآل سراج،
وذلك لعدم موافقة الشعب على يحيى. ويظنُّ السلطان أن هذه الثورة بإيعازٍ من عائشة
زوجته والزغل أخيه؛ فعائشة حاقدة عليه بسبب توليته العهد ليحيى، والزغل طامع في
الحكم؛ لذلك يأمر بسجنهما.
٤٨
ومع القسم الثاني للفصل الأول، نجد بعض المحاولات للعفو عن عائشة والزغل، فمثلًا
نجد بثينة تمثل الحب والغرام على يحيي بعد أن كانت تتمنع عنه باستمرار، شريطة أن
يساعد عائشة والزغل في الخروج من سجنهما،
٤٩ ويقوم «علي العطار» — قائد الجيوش — بمحاولة أخرى مع السلطان الذي
يوافق على العفو عنهم، شريطة أن يعترفا بولاية العهد ليحيي، ومن ثمَّ يأمر الوزيرَ
«أبا القاسم» بإطلاق سراحهما، ولكن الوزير يخبره بأنه أطلق سراحهما بالفعل بأمرٍ من
وليِّ العهد يحيى، ثمَّ يدخل أمين القصر ليعلن أن عائشة والزغل قد انضمَّا إلى
«حامد بن سراج» — والي آش — لتجميع الثوَّار حولهم؛ للوقوف أمام السلطان وولي عهده يحيى.
٥٠
ويأتي الفصل الثاني، فيبدأ الثوَّار في آش في تدبير خطتهم لخلع السلطان. وهنا
يأتي علي العطار كي يعلن أن السلطان اعتزل الحكم في غرناطة وغادرها إلى «مالقة»،
كما قام بعزل ابنه يحيى من ولاية العهد أيضًا، وقد ترك الأمر للشعب كي يقرِّر
مصيره. وهنا يختار الشعب عبد الله بن عائشة حاكمًا عليه؛ فيثور الزغل لهذا الاختيار
مهدِّدًا بالانضمام إلى أخيه المعزول.
الزغل
(في تحدٍّ)
:
… … … … …
… سيرقى منبري وسريري
إن خالبوه فأخرجوه فإنه
ضيفي هناك وسيدي وأميري
إني لسابقه لها فمعدُّها
للقائه كالفاتح المنصور
(في نبرة تهديد):
لا تأمنوا الأيَّام إن هي أقبلت
فصدورها موصولة بظهور
(يخرج الزغل غير مسلم فتستوقفه عائشة.)
عائشة
:
ماذا عناك أخي؟ أتغضب أن وقى
الله البلاد الفتنة الشعواء
هل كنت تبغي أن تؤجَّ عداوة
مشبوبة أو أن تموج دِماء
الله كرَّمها فوجَّه جيشها
والثائرين الوجهة الغرَّاء
قل للأمير أخيك لا يجنح إلى
كيدٍ ولا يتعجَّل الأرزاء
وليرضَ حُكم الشعب فهو مشيئةٌ
لله شعشعها سنًا وسناء
الله إن أخذ القرى بفُسُوقها
عصَف الخلافُ بها فكان قضاء
٥١
ويأتي الفصل الثالث، ويتحدث فيه فرديناند وزوجته إيزابيلا وبعض أعوانهما عن مجد
العرب وما آل إليه من ضعفٍ وانحلال، ونجدهم يفتخرون بنصرهم الجديد على غرناطة،
وأسْرهم لعبد الله بن عائشة سلطانِها، ويقوم بالحكم بدلًا منه عمُّه الزغل بتكليف
من رجال غرناطة، الذين يوفدون وفدًا منهم إلى فرديناند وإيزابيلا كي يفتدي السلطان
الأسير، ولكن السلطان الأسير ينقم على الوفد؛ لأنهم ولُّوا عمَّه الحكم، كذلك يرفض
محاولتهم لافتدائه، ثمَّ يتوعَّدهم بجيش ضخم من قِبَل أعوانه قائلًا لهم:
سطوتم بمُلكي ثمَّ جئتم بغاصبٍ
فولَّيتموه فهو فيكم مؤمَّرُ
خلعتم ولائي بعد عهدٍ وبيعةٍ
وقد كان حوبًا أن تخونوا وتغدروا
فلا تجمعوا الشرَّين ختلًا وحيلةً
عليَّ، وعودوا فاتَّقوا الله واحذروا
وربَّ غدٍ تنهلُّ في صُبحه المنى
يواكبها الفتح الأغرُّ المؤزَّر
٥٢
وفي الفصل الرابع تنتقل المسرحية بأحداثها وشخوصها إلى مصر؛ حيث نرى قنصوه الغوري
وأزبك يتحدَّثان عن سوء الأحوال في البلاد العربية بصفة عامة، وفي مصر بصفة خاصة،
فيأتي هذا الحوار بينهما:
أزبك
:
… … … … …
أخي كم أنبتتْ مصر الفحولا
ولكنَّا تواكلنا فهُنَّا
كما ركب الصَّدا السيفَ الصَّقِيلا
(ثمَّ يقول مفاخرًا):
إذا أهل السياسة ضلَّلوها
فوعيُ الشعبِ يهديها السبيلا
الغوري
:
أجل سقمت سياستنا، فبتْنَا
نخاصم دولة ونهيج أخرى
وتسأل فيم هذا الجهل منَّا
فلا تُلفي له سندًا وعُذرًا
فأصبحنا وقد حُشِدت علينا
عداواتٌ تلجُّ بنا وتَشْرَى
وليس بآمنٍ من بات تطوي
له جيرانه غِلًّا وشرًّا
الغوري
:
… … ألست أمير جيش الـ
ـبلاد؟ … … …
أزبك
(في مثل نغمته)
:
وهل مولاي قايتباي يُصغي
إليَّ وإن ظللت أقول شهرا؟
أزبك
:
… … فالسياسة شأن غيري
فأنت بنُصحه أولى وأحرَى
الغوري
:
لقد ناصحتُ حتى بُحَّ صوتي
وحتى ضاق بي عطنًا وصدرًا
ولا يرضي الملوك النصح إلا
من الأذناب طُغيانًا وكِبرًا
٥٣
ووسط هذه النفسية المحطَّمة لرجال الحكم في مصر، تأتي عائشة إلى سلطانها الأشرف
قايتباي تطلب منه المساعدة في فكِّ أسْر ابنها، وإبعاد خطر فرديناند وإيزابيلا عن
غرناطة. وبعد جدلٍ عقيمٍ، يوافق قايتباي على المساعدة، فيتدخل الغوري في الحديث
مقدِّمًا حلًّا دبلوماسيًّا بعيدًا عن الحرب وويلاتها، يتمثل في إرسال بعض القساوسة
إلى البابا كي يتدخل بدوره الديني؛ كي يقنع فرديناند وإيزابيلا بالرحيل عن غرناطة،
والكفِّ عن اضطهاد المسلمين بها، وإلا ستُعامل مصر المسيحيين بها بنفس المعاملة،
فيوافق قايتباي على ذلك، ولكن تحدث مفاجأة في نفس المشهد؛ حيث يحضر محمد بن سراج من
غرناطة كي يخبر عائشة بما كان من ابنها معهم حين ذهبوا لافتدائه، وأنه عاد إلى ملكه
بعد أن انحاز إلى عدوِّ الإسلام فرديناند، فغزا معه غرناطة بعد أن تحالف معه وأقر
بالطاعة والجزية له.
٥٤
وفي الفصل الخامس تنتقل الأحداث إلى غرناطة مرة أخرى، ونجد الصراع يتصاعد ويشتد
بين الخيانة والوفاء، بين المتحمسين لوطنهم ودينهم أمثال: محمد بن سراج والزغل وعلي
العطَّار وموسى بن أبي الغسَّان، وبين المتخاذلين الذين يفضِّلون الخيانة من أجل
السلامة أمثال: السلطان عبد الله والوزير أبو القاسم وشيخ القضاة.
وتبدأ أحداث هذا الفصل الأخير بمشهد يجمع بين بثينة ومحمد بن سراج، وتخبره بثينة
بأنها لا تصلح للحب أو الزواج منه؛ فقد ضحَّت بأغلى ما تملك للأمير يحيى كي يخرجه
هو وعائشة والزغل من السجن، لأنهما أمل الأندلس. وبعد حوار طويل تمثَّل فيه الصراع
بين الحب والواجب، توافق بثينة على الزواج منه شريطة خلاص الأندلس من أعدائها.
وتتوالى الأحداث، ويعرض السلطان والوزير وشيخ القضاة على عائشة التحالف والخضوع
لفرديناند. وفي هذا المشهد يأتي الحبر كارلو — وزير فرديناند — ويخبر السلطان
بانتصار فرديناند على مالقة؛ آخر معاقل عمه الزغل، ثمَّ يعطيه رسالة فرديناند، الذي
يطلب فيها الخضوع وتسليم غرناطة قبل الغروب. وبعد حوار عقيم بين السلطان وعائشة
والوزير وعلي العطار حول الجهاد أو التسليم، يأمر السلطان بتسليم غرناطة في الوقت
المحدد. وهنا يخرج الثائر علي العطَّار في محاولة غير مجدية للوقوف أمام العدو،
وتنتهي المسرحية بقول عائشة — في صرخة وألم — لابنها الباكي:
تذكرُ الله باكيًا؟ هل يردُّ الدَّ
مْعُ مجدًا ثَوَى وعارًا أقاما
هدَّني فوق خَطْبِنا أنَّك ابني
يا لأمٍّ تُسقى العذاب تُؤَاما
لم تَصُن كالرجال مُلكًا فأمسَى
رُكنُه اندكَّ فابْكِه كالأيَامَى
٥٥
ومما سبق آن لنا أن نبيِّن عن كيفية توظيف عزيز أباظة لشخصيات وأحداث المسرحيات
التاريخية والتراثية:
- أولًا: بالنسبة لشخصية «الثريا» — الزوجة الثانية للسلطان — ومحاولتها
الناجحة لأخذ ولاية العهد لابنها يحيى، وما ترتب على ذلك من قيام
ثورة في البلاد، والتي ظنَّها السلطان من تدبير زوجته عائشة وأخيه
الزغل؛ لذلك قام بسجنهما، ثمَّ فرارهما من السجن بمساعدة الأمير
يحيى الذي قبض الثمن من عفَّة وكرامة بثينة. سنجد أن التاريخ
يؤكِّد معظم هذه الأحداث — مع بعض مخالفات قام بها الكاتب —
متمثِّلة في أن سجن عائشة والزغل كان بإيعازٍ من الثريا، وأن
فرارهما كان بمساعدة آل سراج،٥٦ لا بمساعدة يحيى كما جاء في المسرحية. ومن الملاحظ أن
عزيز أباظة نجح في استغلال هذا الجزء التاريخي؛ كي يبرهن على فساد
رأي الحاكم، وإظهار روح التنافس بين الزوجات على تأمين مستقبل
أولادهن. ولعل الكاتب أراد أن يشير إلى أن فساد الحكَّام في
الأندلس كان من أسبابه زواجهم بالإسبانيات.٥٧ وهذا ما حدث للسلطان بعد زواجه من الثريا. وكان النجاح
في التوظيف — في هذا الجزء — إقحام شخصية بثينة كي تقوم بدورها
البطولي في إنقاذ أمل الأندلس من السجن، وكذلك إظهار يحيى — ولي
العهد — بالشهواني، والمُضحِّي بمركزه ومكانته؛ للدلالة على فساد
الحكَّام.
ومن الملاحظ أن الكاتب لم يستغل التاريخ في واقعة هروب عائشة
وأتباعها من السجن. ولو كان فعل لأعطى فرصة عظيمة لإظهار الشعب
الأندلسي بصورة أفضل في المسرحية؛ فالتاريخ يقول: إن الشعب ثار على
السلطان بعد أن أعطى ولاية العهد ليحيى، وقيامه بسجن عائشة
وأتباعها من أجل التعصب القبلي والتفرقة العنصرية، لا من أجل
الكفاءة بين ابن عائشة وابن الثريا — كما جاء في المسرحية — لأن
الشعب كان يفضِّل ترشيح سليل بيت الملك على ابن الجارية النصرانية.
٥٨
- ثانيًا: بالنسبة للعداء المستحكم بين السلطان علي أبي الحسن «الغالب
بالله» وأخيه محمد بن سعد «الزغل»، نجد الكاتب لم يوفَّق في توظيف
هذا العداء. ولعل هناك سببًا في ذلك — سنحاول أن نبيِّنه — فعزيز
أباظة لم يكشف لنا عن هذا العداء صراحةً منذ بداية المسرحية، بل
جعل القارئ يستشفه من الأحداث والأقوال والميول الشخصية، فالتاريخ
يخبرنا بهذا العداء منذ تولِّي الغالب بالله الحكم وخروج الزغل
عليه ومحاربته، بمساعدة ملك قشتالة «هنري الرابع»، ودارت بين
الأخوين معارك كثيرة، ولم يحسم بينهما السيف، فجنحا إلى الروية
وآثرا الصلح والتهادن.٥٩ ورغم هذا العداء، نجد عزيز أباظة يأتي بعائشة في بداية
المسرحية كي تخبر الزغل بفساد أخيه وحاشيته؛ حتى تُثير غضبه على
السلطان رغم علمها مسبقًا بما بينهما من عداء. وإذا اعتبرنا هذا
تدبيرًا من قِبَل الكاتب — عزيز أباظة — كي تُقصي عائشة السلطان من
على العرش؛ لتفسح المجال لابنها، سنجد في هذا تخبُّطًا واضحًا؛ لأن
الزغل إذا أقصى أخاه من على العرش سيفوز هو بالعرش لا ابن عائشة.
ولعل في ذلك يكمن السبب — كما ذكرنا — أو الغرض من وراء هذا
التخبُّط المتمثل في إظهار رجال الدولة في المسرحية بالطمع والحقد
والتخبط في الآراء والتفكير. وقد استغلَّ الكاتب هذا الفساد وأظهره
في شخصية السلطان الغالب بالله منذ بداية المسرحية؛ فقد جاء عنه في
التاريخ أنه «ركن إلى الدعة، وأطلق العنان لأهوائه وملاذِّه، وبذر
حوله بذور السخط والغضب بما ارتكبه في حق الأكابر والقادة من صنوف
العسف والشدة، وما أساء به إلى شئون الدولة والرعية، وما أثقل به
كاهلهم من صنوف المغارم، ما أغرق فيه من ضروب اللهو والعبث.»٦٠
- ثالثًا: أمَّا بالنسبة لحادثة قيام الثورة في غرناطة واعتزال الغالب
بالله الحُكْم هو وابنه يحيى — في الفصل الثاني — واختيار الشعب
لابن عائشة حاكمًا عليهم، وثورة الزغل على هذا الاختيار، فسنجد
الكاتب قد استخدم هذا الجزء التاريخي كما جاء تراثيًّا، ولكن
بتغيير طفيف يتمثل في غضب الزغل؛ حيث يقول لنا التاريخ: إن الزغل
في هذا الوقت كان حاكمًا على مالقة، وكان يدافع عنها ضدَّ جيش ملك
قشتالة. وبعد اعتزال الغالب بالله الحُكْم، ذهب إلى أخيه الزغل في مالقة.٦١ ومن المرجَّح أن هذا التغيير قام به عزيز أباظة كي
يبرز نواحي التفكك والأطماع في الأندلس متمثلةً في عنصر الأُخوَّة
بين الزغل والغالب بالله. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كي يسدل
الستار على شخصيتين؛ هما: الغالب بالله وابنه يحيي؛ ليُفسح المجال
لسقوط الأندلس على يد ابنه الثاني عبد الله.
- رابعًا: أمَّا بالنسبة لطلب عائشة المساعدة من مصر لفكِّ أسر ابنها،
وإبعاد خطر وتهديد فرديناند وإيزابيلا للأندلس، وكذلك محاولة
المساعدة من قبل قايتباي عسكريًّا ثمَّ دبلوماسيًّا، نجد عزيز
أباظة قد خالف التاريخ في أكثر من موضع. فمثلًا جعل عائشة تذهب إلى
مصر لطلب المساعدة، وطلب المساعدة كان محددًا بفكِّ أسر ابنها،
ثمَّ إبعاد الخطر الخارجي عن الأندلس، المتمثل في فرديناند وزوجته،
والتاريخ يقول لنا: إن هذا الزيارة قام بها وفدٌ من قبل الزغل لا
إلى مصر وحدها، بل إلى القسطنطينية وملوك أفريقيا أيضًا؛ للاستعانة
بهم لصدِّ العدوان الخارجي فقط عام ٨٩٢ﻫ. وكان إطلاق سراح السلطان
الأسير — ابن عائشة — من قبل فرديناند وزوجته عام ٨٩٠ﻫ.٦٢
ومن الملاحظ أن إقحام مصر في المسرحية — في الفصل الرابع — كان
بغرض عرض صورتها الضعيفة هي وباقي البلاد العربية في ذلك الوقت؛
لتكون رمزًا على بداية سقوط الأندلس، على اعتبار أن مصر هي الأب
الروحي والقوة الضاربة لصدِّ أي عدوان على البلاد العربية. ولقد
نجح الكاتب في إظهار ذلك؛ لأن التاريخ يقول لنا: على الرغم من
العداء المستحكم بين قايتباي وبايزيد — سلطان الترك — في ذلك
الوقت، إلا أنه وضع خطة دبلوماسية لإنقاذ الأندلس، وذلك بتوجيه
سفارة إلى البابا وملوك النصرانية يعاتبهم فيها على ما ينزل
بالمسلمين في غرناطة من اعتداءات، في الوقت الذي يتمتع فيه النصارى
بكل الحريات في مصر وبيت المقدس، ويهدد بسياسة التنكيل والقصاص لهم
إذا ما توقف الاعتداء على المسلمين في الأندلس.
٦٣
- خامسًا: أمَّا بالنسبة للفترة الأخيرة من احتضار غرناطة وسقوط الأندلس؛
فنجد الكاتب قد عمد إلى إنهائها بصورة سريعة دون أن يجعل للقارئ أي
فرصة للتأمل والتدبُّر، والغرض من ذلك — من وجهة نظرنا — راجع إلى
إنهاء المسرحية بإلقاء التبعية على كاهل السلطان عبد الله وحده؛
فقد صوَّر الكاتب مظاهر التسليم وما قبلها من جدلٍ عقيمٍ بصورة لا
تليق أبدًا بسقوط آخر معقل من معاقل الأندلس، فقد جاء في التاريخ
أن غرناطة أبت أن تستسلم إلا على أشلاء أبنائها. وبالفعل حدثت
بطولات ومظاهر فداء عظيمة طوال فترة حصارها التي استمرَّت سبعة
أشهر، وكان السلطان يقود الحرس الملكي في قتال مرير. وبسبب الحصار
وقلة الرجال وروح اليأس التي تفشَّت في المحاصرين، دعا السلطان
كبار الجند والفقهاء والأعيان ليشرح لهم الموقف، فأجمعوا على الاستسلام.٦٤ ولكن عزيز أباظة أراد أن يُصوِّر قرار التسليم — في
المسرحية — بأنه قرارٌ فرديٌّ من قبل السلطان؛ كي يجعله صورة
نهائية للحكام العرب في الأندلس من جهة، ومن جهة أخرى نتيجة حتمية
لبذور التفكك والانحلال لرجال الحُكْم، كما وضعها في مسرحيته
السابقة «الناصر».
- سادسًا: أمَّا من حيث التوظيف لبعض الشخصيات التاريخية، فنجد الكاتب يبقي
على شخصية الزغل حتى نهاية المسرحية، مصوِّرًا إيَّاه بالقوة في
نهايتها، على عكس صورته في بدايتها ومنتصفها، المتمثِّلة في الخداع
والمَكْر من أجل الحُصُول على الحُكْم. وهذا التناقض في شخصية
الزغل، وبالأخصِّ صورته في نهاية المسرحية، راجع — كما ذكرنا — إلى
إلقاء التبعية على كاهل السلطان عبد الله وحده، رغم أن في التاريخ
واقعة هامة — تخصُّ شخصية الزغل — كانت تخدم غرض الكاتب دون الوقوع
في هذا التناقض، وهي نهاية الزغل عندما رأى قواعد الأندلس تتساقط
الواحدة بعد الأخرى، فاتجه إلى فرديناند يعرض عليه الطاعة والولاء،
فيوافق فرديناند ويعقد معه معاهدة سرية؛ تلك المعاهدة التي تعود
على الزغل بالمنح والامتيازات الخاصة له ولأبنائه، بشرط تسليم ما
تحت يده من معاقل الأندلس. وبالفعل يتم ذلك، ويذهب الزغل بأسرته
إلى المغرب ليقضي فيها بقية حياته. وفي تفسير هذه الخيانة تقول بعض
الروايات إنها خيانة مقصودة؛ كي ينتقم الزغل من ابن أخيه سلطان
غرناطة، والتي ستصبح — بعد تنازل الزغل عمَّا تحت يده — وحيدة تحت
رحمة النصارى.٦٥ ومن الملاحظ أنَّ في قصة الخيانة وتفسيرها ما يخدم غرض
الكاتب — كما بيَّنَّا — لأنه اعتمد في المسرحية على مصادر ومراجع
بها هذه القصة.٦٦
أمَّا شخصية «موسى بن أبي الغسَّان»، فقد وظَّفها عزيز أباظة بصورة فنية مقبولة؛
حيث كانت لها مواقف عديدة مُشرقة في المسرحية، فموسى هو الذي أخبر الزغل بفساد أخيه
السلطان وحاشيته، ثمَّ يطلب منه إسداء النُّصح للسلطان، وهو الذي يقود ثورة البلاد
ضدَّ السلطان عندما عهد بالولاية ليحيى، وهو كان ضمن الوفد الغرناطي الذي ذهب
لفرديناند لافتداء السلطان الأسير، وهو الذي يدافع مع الزغل عن مالقة قبل سقوطها،
وهو الذي ينصح السلطان في نهاية المسرحية بعدم التسليم.
٦٧ وتوظيف هذه الشخصية كان مقبولًا؛ لأن الكاتب أراد أن يرمز بها للشعب
الغرناطي؛ آخر معاقل الأندلس. وإذا نظرنا لأعمال هذه الشخصية وجدناها أعمالًا
عظيمة، ولكنها في نفس الوقت عقيمة لا فائدة منها، فنصيحة موسى للزغل لم تأتِ بأي
نتيجة، واستمر السلطان في لَهْوه، واستمرَّت حاشيته في مجاراته لما يفعل. وقيادة
موسى للثورة على ولاية العهد ليحيي لم تثمر عن شيء، واعتلى يحيي العرش. وعندما ذهب
موسى مع الوفد الغرناطي لافتداء السلطان الأسير، قابلهم السلطان بالتهديد والوعيد،
وعندما دافع موسى مع الزغل عن مالقة، سقطت مالقة في أيدي الأعداء، وعندما نصح
السلطان — في آخر المسرحية — بعدم تسليم غرناطة، نجد التسليم يتم في الموعد المحدد.
معنى ذلك أن الكاتب أراد أن يقول لنا — من خلال شخصية موسى
٦٨ الرامزة للشعب الغرناطي — إن القضاء على الأندلس أمر حتمي لا مناص منه
مهما فعل الشعب؛ فالانحلال والتفكك والصراع على السلطة هي أمراض الحكم الذي يجعل من
موت دولة الأندلس ونهايتها أمرًا حتميًّا.
أمَّا شخصية الوزير «أبي القاسم»، فلم يُجرِ عليها الكاتب أي تغيير في ملامحها
التاريخية؛ لأن صفاتها التاريخية فيها كل ما كان يريده الكاتب، فالتاريخ يخبرنا أن
الوزير أبا القاسم كان من أسرة نصرانية — في الأصل — وقد أسلمت، ثمَّ عاد بعض
أفرادها إلى النصرانية مرة أخرى بعد سقوط غرناطة. وكان سياسيًّا عمليًّا يؤمن
إيمانًا قويًّا بسياسة التسليم والخضوع للنصارى، وكان انتهازيًّا للفرص بأي ثمن.
٦٩ ومن الملاحظ أن هذه الصفات تتجلى بوضوح في المسرحية،
٧٠ فهي تخدم غرض الكاتب في إبراز نواحي الضعف لرجال الدولة أمثال هذا
الوزير.
أمَّا شخصية بثينة فقد خلقها الكاتب — دون وجود تاريخي لها — كي يدخل ذلك الجو
العاطفي بينها وبين محمد بن سراج، والذي يؤدي به إلى الصراع بين الحب والواجب.
٧١ هذا فضلًا عن تضحيتها الكبرى في سبيل الإفراج عن عائشة
وأتباعها.
وأخيرًا نأتي إلى مقدمة الدكتور طه حسين للمسرحية، الذي قال عنها:
ولكن الأحداث والوقائع نفسها ليست مقصورة على أهل غرناطة، وعسى أن تكون
أشبه بالأحداث والوقائع التي شهدها المصريون في هذه الأيام القريبة لولا
الخاتمة، فإنها تردنا إلى غرناطة ردًّا عنيفًا صريحًا لا لبس فيه. وأكاد
أعتقد — وما أظنُّ الشاعر يُخطِّئني فيما أعتقد — أنه لم ينسَ نفسه ولا
مواطنيه أثناء إنشائه لهذه القصة. ولعله ذكر مصر والمصريين وما وقع لهم في
هذه الأعوام الأخيرة أكثر مما ذكر غرناطة وأهلها وما جرى عليهم من الأحداث.
ولو مضى الشاعر في نسيان غرناطة وأهلها أكثر قليلًا مما مضى؛ لسمَّى
أشخاصًا مصريين، ولصرَّح عن أحداث مصرية وخطوب عربية معاصرة، وعدَّد مكايد
من الإنجليز وبني إسرائيل، ثمَّ لم يجد بعد ذلك مشقَّة أي مشقَّة في أن
يُمضي القصة كما أراد ضميره أن تمضي، ولكنه شقَّ على نفسه، وعنف بخياله
وخواطره، وردَّ قلمه إلى غرناطة بين حين وحين ردًّا فيه شيء من قسوة؛ لأنه
كان يأبى أن يكتب إلا في مصر والمصريين.
٧٢
ومن الملاحظ أن ما شجع د. طه حسين على هذا القول هو زمن كتابة المسرحية عام ١٩٥٢،
وكذلك إهداء عزيز أباظة المسرحية للأمة المصرية.
٧٣ وبنظرة سطحية عابرة، على قول د. طه حسين، سنجده مدحًا في المسرحية،
ولكن بنظرة نقدية متعمقة، سنجد نقدًا لاذعًا للمسرحية. وحقيقة الأمر أن قول د. طه
حسين يجب أن تُبدَّل فيه كلمة «مصر» بكلمة «غرناطة»، والعكس صحيح. وبمعنى آخر، إن
كل ما ذُكِر عن مصر والمصريين هو في حقيقة الأمر ذكر عن غرناطة وأهلها، وكل ما ذكر
عن غرناطة وأهلها هو ذكر عن مصر والمصريين، وكأن د. طه حسين أراد أن يقول لعزيز
أباظة: كان من الواجب عدم إقحام مصر ومشهدها في المسرحية كي تُرضي الثورة
ورجالها.
وإذا عُدنا إلى إهداء عزيز أباظة وقوله إن كتابة المسرحية تمت على فترتين، قبل
وبعد الثورة، فسنلاحظ أن مشهد مصر جاء في الفصل الرابع، وهو من أقل الفصول مساحة؛
أي في نهاية المسرحية؛ أي في الفترة التي تلت الثورة لا قبلها. والدليل على تهكُّم
د. طه حسين بالكاتب قوله — فيما سبق: «ولعله [أي عزيز] ذكر مصر والمصريين وما وقع
لهم في هذه الأعوام الأخيرة أكثر مما ذكر غرناطة وأهلها وما جرى عليهم من الأحداث.»
وهذا عكس ما جاء في المسرحية وأحداثها.
وأخيرًا نجد عزيز أباظة قد نجح في توظيف التراث التاريخي، ولا سيَّما الأندلسي
منه؛ كي يبرز أمراض وعيوب الحكَّام العرب في الأندلس، وذلك في مسرحيته الأولى
«الناصر»، ثمَّ جني ثمار هذه الأمراض والعيوب في مسرحيته الثانية «غروب الأندلس»،
المتمثلة في موت الدولة على أيدي هؤلاء الحكَّام.
ومن هنا استطاع الكاتب عزيز أباظة أن يوظِّف التاريخ؛ كي يكون التوظيف توظيفًا
تعليميًّا تتعلم منه الأمم العربية؛ كي تتجنب أمراض وعيوب الحكم التي تؤدي إلى سقوط
الدول.