مسرحية «لعبة السلطان» للدكتور فوزي فهمي أحمد
لقد كتب الدكتور فوزي فهمي أحمد مسرحية «لعبة السلطان» عام ١٩٨٣، وقد وظَّف فيها
نكبة البرامكة من خلال قصة المسعودي عن زواج العبَّاسة من جعفر البرمكي مثلما فعل
عزيز أباظة. ومن الواضح أن الذي أغرى د. فوزي لمعالجة نكبة البرامكة — رغم معالجة
عزيز أباظة لها من قبل — ما وجده في تاريخ البرامكة والتاريخ العباسي من أرض خصبة؛
كي يبذر فيها آراءه العصرية في مسألة الحُكْم وصلاح الحاكم من خلال آراء المعتزلة
وقت خلافة الرشيد. هذا بخلاف ما قدَّمه من تفسير نفسي لهارون الرشيد أمام إصراره أن
يكون الزواج بين العبَّاسة وجعفر زواجًا شكليًّا لا شرعيًّا.
وتبدأ المسرحية في إطار عصري في مدينة القاهرة، فنجد صاحب «صندوق الدنيا» وزوجته
«بائعة العطور» ومعهما البلياتشو يحكون لنا قصة هارون الشيد، ويقومون بتقمُّص
الشخصيات التاريخية العبَّاسية، ونعلم منهم أن الرشيد كان يحبُّ أمه الخيزران حبًّا
محرَّمًا (أوديبيًّا). وهذا التعلق المَرَضي من قِبَل الرشيد كان بسبب ما قامت به
الأم من أفعال شاذة؛ كقتلها لابنها الهادي كي يعتلي هارون الخلافة.
البلياتشو
:
أحب الرشيد الخيزران أمه وأحبَّته …
صاحب الصندوق
:
بعد موت المهدي أبيه، تولى أخوه الهادي، وسعى لعزل الرشيد أخاه من
الولاية. وآه كم يُمرغ السلطان في الوحل أرق المشاعر! اشتمت الخيزران نية
الهادي القاتل.
المرأة
:
الأخ يقتل أخاه؛ تلك ألف جريمة!
صاحب الصندوق
:
وأرسلت الخيزران للهادي — وكان مريضًا — بعض جواريها جلسن على وجهه فمات
… وتلك فعلة شنيعة.
المرأة
:
أم تقتل ابنها! تقتل حشاها! أسألك يا رب الهداية.
البلياتشو
:
آه، كم يمرغ السلطان في الوحل أقدس المشاعر!
صاحب الصندوق
:
تولى الرشيد الخلافة وماتت الخيزران بعد سنين ثلاث، يوم فراقها كان
اللحظة السوداء؛ بعدها ما كفت دموعه. بقائمة النعش ممسكًا يخوض حافيًا
الطين، وألف غصَّةٍ وألف آهةٍ تصرخ: محالٌ. ومن يومها سقط عن الصدر الرأس
منه في انكسار، عن الخيزران أمه … حضنه لا يجد عزاء، من يومها وتعلَّق
الرشيد في الحياة بمخاوف وبوهم. انفلت منه الزمان وانفلت منه الفعل. ماتت
الخيزران ولم يمت من قلب الرشيد هواها، فمستنقع الموت قد يشوِّه النفس
أحيانًا بالضياع بالضجر، والرشيد كان لا يستفيق بعد موتها من حلم قلق. يحلم
يطول العمر أو يقصر. إن حنان الخيزران الضائع سيرجع ليسكت آهات الصدر المتعب.١
ونلاحظ في هذا الحوار أن الكاتب فسَّر العلاقة بين الرشيد (الابن) وبين الخيزران
(الأم) تفسيرًا نفسيًّا من خلال عقدة أوديب؛ فقد أحبَّت الأم الرشيد أكثر من ابنها
الهادي. وهذا الحبُّ وصل بها إلى درجة القتل؛ ومن هنا أحبَّها الرشيد حبًّا
أوديبيًّا. والتاريخ يذكر لنا ذلك، ولكن بصورة موجزة جدًّا لا تتناسب مع قوة الحدث
التاريخي، فيقول: «إن سبب موت الهادي أنه لما أخذ في خلع هارون والبيعة لابنه جعفر،
خافت الخيزران على هارون منه ودسَّت من جواريها من غمه لما مرض، وجلسن على وجهه.»
٢ وقد اعتمد الكاتب في المسرحية على هذه القصة التاريخية من أجل تفسير
وتبرير تصرُّفات الرشيد نحو أخته العبَّاسة؛ فالرشيد في المسرحية يسعى إلى كل حُبٍّ
محرَّم، فهو في الماضي أحبَّ أمه، وفي الحاضر أحبَّ أخته العبَّاسة التي تمثِّل
المعادل الموضوعي لهذا الحب؛ لذلك أصرَّ الرشيد على أن يكون زواج العبَّاسة من جعفر
زواجًا شكليًّا. وهنا يقول «صاحب الصندوق»:
بعد موت الخيزران صارت العبَّاسة للرشيد صورة الخيزران المستعارة.
٣
ومن هنا كان الرشيد يشبع رغبته المحرَّمة من خلال غزله لأخته العبَّاسة أثناء
تواجده معها في حالة اليقظة،
٤ وكان يشبع هذه الرغبة أيضًا في حالة عدم اليقظة «الحلم» مع أمه، عندما
كانت جارية لأبيه، فتقول له «في الحلم»:
مولاي لا تقربني … لا تلمسني … أنا حرام عليك … أنا حرام عليك، أبوك قد
طاف بي ثمَّ أبحر … أنا جارية أبيك، أنا جارية أبيك. أنا لك يا مولاي محال،
لا يمكن أن تزرع بأرضي علاماتك. أنا لست مما ملكت أيمانك. لا شيء يا مولاي
يجمع بيننا واسأل الفقهاء … ما هو الحلال وما هو الحرام؟ أنا يا مولاي لك
بحد الشرائع خيانة. أنا يا مولاي الرغبة الملعونة. أنا لك خسارة كل
الخسارة. أنا جارية أبيك لا تقربني لا تلمسني؛ فقد طاف بي أبوك … أنا حرام
عليك واسأل يا مولاي القضاة.
٥
وسعيًا وراء الحبِّ المحرَّم كان الرشيد يشبع رغبته في حالة عدم اليقظة أيضًا
«الحلم»، من خلال جارية أخيه «غادر» التي تقول له:
كلا يا مولاي، أنا لست لك … أنا جارية أخيك … أنا لست آخر نساء الكون …
لديك غيري يا مولاي ألفان … أنا آخر من أوصاك بها الهادي أخوك وهو على فراش
الموت، وكم ألحَّ عليك واستحلفك! هل نسيت يا مولاي القسم والوعد؟ دعني يا
مولاي، لا تقربني إيفاءً بالعهد؛ فأنا حرام عليك. دعني يا مولاي؛ فأنا حرام
عليك بالقسم بالوعد، حرام أنا عليك بالعهد.
٦
ولعل قصة الجارية غادر، أعطت للكاتب بعض السند التاريخي والتراثي لفكرة الحبِّ
المحرَّم عند الرشيد؛ لأن هذه القصة وردت في كتب التاريخ، ولكن بصورة مختلفة عمَّا
جاءت في المسرحية، فالتاريخ يقول: إن الهادي أحبَّ جاريته غادر، وخاف عليها من
تعلُّق الرشيد بها إذا تولَّى الخلافة من بعده؛ وذلك لشدة جمالها، فجعل أخاه الرشيد
يقسم على أنه لا يفعل ذلك في المستقبل، وكذلك جعل جاريته غادر تقسم على هذا. وبعد
موت الهادي تزوجها الرشيد، وكانت هي التي تحلم دائمًا بالهادي فيصيبها الرعب، وكان
الرشيد يحاول دائمًا أن يهدئ من روعها حتى ماتت من كثرة هذه الأحلام.
٧
ومما سبق نجد أن الكاتب أكَّد على عقدة أوديب عند الرشيد؛ ففي الماضي أحبَّ الأم
الخيزران، وفي الحاضر وجد معادلًا موضوعيًّا لهذا الحبِّ عند أخته العبَّاسة. إلى
هنا فالعقدة النفسية تسير بصورة مقنعة عند القارئ، ولكن لماذا ركَّز الكاتب على
إشباع رغبة الحب المحرَّم عند الرشيد في حالة عدم اليقظة «الحلم»، من خلال
الجاريتين «الخيزران وغادر»؟ وبعبارة أخرى: لماذا جعل الكاتب الرشيد يشبع رغبته
الأوديبية مع أمه، في الحلم، حينما كانت جارية؟ والإجابة عن هذا التساؤل تكمن في
الحوار التالي:
المرأة
:
ربَّاه، ما الذي كان يبحث الرشيد عنه؟
البلياتشو
:
قل ما الذي كان يؤرق منه الليل.
صاحب الصندوق
:
قد تكون وحشة لحضن الأم التي غادرت دنياه وأحبَّها وأحبَّته، وقد تكون
أطياف حبٍّ قديمٍ تهبُّ.
البلياتشو
:
فتجعله يهيم في زهد.
صاحب الصندوق
:
أجل، تلك المعشوقة التي أحرقوا من دنياها الحبُّ حبُّه. الأول … أواه
شدَّ ما كان إياها يحب، لكن داستها سنابك خيول الأب فرحلت من فجر حياته
لبحار لا تُحدُّ … كان الرشيد يتشبه بأبيه المهدي في أول العمر، فأحبَّ
جارية مثل الخيزران أمه، التي أحبَّها أبوه المهدي وأعتقها وصارت زوجة في
ليل المتاهات للخليفة قنديل صبح.
البلياتشو
:
أحبَّ الرشيد الخيزران أمَّه وأحبَّته. وكان الرشيد يتشبَّه بأبيه
المهدي.
المرأة
:
فأحبَّ جارية مثل الخيزران أمه، لكن داستها سنابك خيول الأب.٨
ثمَّ نعلم بعد ذلك — من المسرحية — أن هذه الجارية هربت من بطش المهدي والد
الرشيد، وكانت تحمل في أحشائها طفلًا من الرشيد، الذي أصبح بعد ذلك «بهلول
المجذوب»، واعظ الرشيد، دون أن يعلم الرشيد أنه والد هذا المجذوب من حبِّه الأول.
٩ ولهذه القصة أصل في التاريخ، وابنه من هذه الجارية هو أحمد بن هارون
الرشيد المسمى بالسبتي، والرشيد لم يكتشف هذه الحقيقة — في التاريخ — إلا بعد موت
الابن عندما أوصى السبتي (الابن) أحد الأشخاص، بعد أن أعطاه خاتمًا كدليل على أنه
ابن الرشيد، بأن يخبر الرشيد بمكان قبره بعد موته، وبالفعل يحدث هذا، ويقف الرشيد
على قبر ابنه فيقول: «هذا أول مولود لي، وإن أبي المهدي ذكر لي زبيدة ابنة جعفر أن
يزوِّجني بها، فبصرت بامرأة فوقعت في قلبي فتزوَّجتها سرًّا من أبي، وأولدتها هذا
المولود، وأخذتها إلى البصرة وأعطيتها هذا الخاتم وأشياء، وقلت: اكتمي نفسك، وإذا
بلغك أني قد قعدت في الخلافة فأتني، فلما قعدت في الخلافة سألت عنهما فقيل لي إنهما ماتا.»
١٠
ومن الملاحظ أن الكاتب أراد من توظيف هذه القصة التاريخية التراثية أن يبرِّر
عقدة أوديب عند الرشيد، أو يجعل لها سببًا آخر غير حبِّ الخيزران للرشيد أكثر من
حبها للهادي، أي إن الرشيد وجد في أمه المعادل الموضوعي لحبه الأول عندما كانت
جارية لأبيه، وذلك في حالة عدم اليقظة (الحلم)، ثمَّ أصبحت العبَّاسة صورة مستعارة
لهذا المعادل الموضوعي في حالة اليقظة في الحاضر. ومن هنا نلاحظ أن حبَّ الرشيد
لزوجته الأولى أم أحمد السبتي كان الحب الوحيد والنقي في حياته، أمَّا تعويضات (أو
معادلات) هذا الحب فكلُّها محرَّمة، سواء حبه لأمه (الجارية) أو حبه لغادر «جارية
الهادي»، أو حبه لأخته العبَّاسة. ولعل هذا التحريم في الحبِّ أراد منه الكاتب أن
يبرهن على تحريم تصرفات الرشيد في الرعية كحاكم، وكذلك تحريم أحكامه وتصرفاته؛ ومن
هنا يستطيع الكاتب أن يقحم آراءه وأهدافه في المسرحية، بدليل توظيفه لشخصية ثمامة
بن الأشرس المعتزلي بما له من آراء وأفكار اعتزالية، فنجده في المسرحية يتحدث عن
الإمامة وشروطها، وحرية الاختيار والتنفيذ والإرادة، والقدرة، وحصانة العقل،
ومسئولية الحاكم في ظلم الرعية، وحرية عقل الإنسان وفكره، ووجوب العدل.
١١ ومن الملاحظ أن هذه الأفكار هي الأفكار السياسية عند المعتزلة
١٢ عمومًا، وعند ثمامة بن الأشرس
١٣ خصوصًا. ولعل الكاتب أراد ببث هذه الأفكار السياسية أن يرمز بها إلى
أفكاره هو شخصيًّا تجاه ما يدور داخل المجتمع العربي عمومًا، والمجتمع المصري
خصوصًا.
ومن نجاح الكاتب في توظيفه لتراث المعتزلة السياسي متمثِّلًا في شخصية ثمامة، أن
بعض الشخصيات تبنَّت هذه الأفكار التي أصبحت لها نبراسًا في تحرير عقلها البشري؛
لذلك تبدَّلت هذه الشخصيات من السلبية المطلقة في التفكير إلى الإيجابية المطلقة
فيه. ومن هذه الشخصيات شخصية جعفر في حواره الآتي مع الرشيد:
الرشيد
:
كنت تُزيِّف عليَّ الحب حتى غدرت.
جعفر
:
أنا حقًّا أحببتك، وغيَّب عني حبي لك كل أماني العمر، ولم أكن أستطيع أن
أرتدَّ عنك.
الرشيد
:
أنت تشتهي … تحب من تغدر. تخون من أحببت.
جعفر
:
بل أنا مللت وسئمت.
الرشيد
:
سئمت الحب … أم سئمت أن تجلس معي في محفَّة الحكم؟
جعفر
:
لقد غُصت في عالمك حتى الأذنين؛ صرتُ أتبعك ولحقت بك، وحمَّلتني ما لا
أطيق حتى كاد يضيع مني العمر، وصار كله محض فعل واحد؛ هو أني دائمًا ألتفت
إليك، بلغتك ولحقت بك، ولم ألحق بشيء … ولم أستطع أن أتخطَّى … أن أنفذ إلى
ما هو آخر … إلى ما هو أكبر من علاقتي بك … إلى العدل وشريعة الله في هذا
الكون.
الرشيد
:
أي عدل؟ … أن تملك أكوام المال وبقاع الأرض؟
جعفر
:
بل ألا تسجن في زنزانة العقل.
الرشيد
:
وها أنت قد أطلقت سراح العقل.
جعفر
:
ودون إذن منك.
الرشيد
:
وهل تُفلتُ؟ … هذا هو الأمر.
جعفر
:
وراء كل حدٍّ ما هو أبعد منه.
الرشيد
:
ضعفي يا جعفر هو أنت، فالأشرس انتصر عليَّ بك، وسوف أعرف كيف أنتصر عليه وعليك.١٤
وكما كانت إيجابية جعفر عندما حرَّر عقله كانت إيجابية العبَّاسة أيضًا في تحرير
عقلها. ويتحقق ذلك من خلال حوارها التالي مع الرشيد:
العباسة
:
التفت إليَّ واسمع، فأنا قد عاشرت جعفرًا زوجي ونُطْفَتُه بأحشائي، هل
تفهم؟
الرشيد
:
آه يا وغدة! عصيتني وكفرت بالعهد.
العباسة
:
وأطعت الله والعقل.
الرشيد
:
أي وَحلٍ دست فيه قراري ليقع المحظور.
العباسة
:
وعرفت معنى أن أكون.
الرشيد
:
أطفأت ثأرك مني.
العباسة
:
بل حررت أيها الرشيد نفسي.١٥
ومن الملاحظ أن إيجابية جعفر والعباسة في هذه المسرحية هي إحدى طرفي الصراع في
المسرحية، والطرف الآخر يتمثل في الرشيد كحاكم؛ لأن الصراع في المسرحية كان يدور
حول ظلم الرشيد الحاكم؛ لذلك رمز الكاتب لعامة الشعب بجعفر والعباسة، وإيجابيتهما
ما هي إلا إيجابية الشعب، أي شعب طالما حرر عقله. ولكي تتوازن كِفَّتي الصراع كان
لزامًا على الكاتب أمام إيجابية جعفر والعباسة — أو الشعب — أن يحطَّ من قدر
الحاكم، أو يهدم صورته أمام شعبه؛ لذلك جعله يسعى لكل حبٍّ محرَّم، بل وجعله يخالف
شرع الله عندما زوج العباسية من جعفر ذلك الزواج الشكلي. وهذا التصور يختلف كل
الاختلاف عمَّا قام به عزيز أباظة في مسرحيته «العبَّاسة»، فعزيز أراد أن يظهر
التعصب العربي أمام العنصر الأجنبي «التفرقة العنصرية»؛ لذلك أشاد بالرشيد وأظهره
بمظهر القوة والإيجابية في سبيل الحفاظ على العنصر والدم العربي، وأمام ذلك أظهر
جعفرًا البرمكي والعبَّاسة بمظهر الرضوخ والسلبية أمام صلابة الرشيد. ورغم أن الحدث
التاريخي والتراثي واحد في المسرحيتين، إلا أن كلًّا من الكاتبين استطاع أن يوظِّفه
من خلال وجهة نظره، وتبعًا للفترة الزمنية المعاصرة لكتابة المسرحية؛ فعزيز أباظة
وظَّف التاريخ في مسرحيته بصورة اجتماعية ليبين عن التفرقة العنصرية. أمَّا د. فوزي
فهمي أحمد فقد وظَّف نفس الحدث التاريخي، ولكن بصورة نفسية، رغم وجود ملامح سياسية
في التوظيف. وهذا ما عبَّر عنه البحث بأن عوامل التوظيف متداخلة ويصعب الفصل
بينها.