مسرحية «مأساة الحلاج» لصلاح عبد الصبور
كتب الأستاذ صلاح عبد الصبور مسرحية «مأساة الحلاج» عام ١٩٦٥، وقد قسمها إلى
قسمين: الأول بعنوان الكلمة، والثاني بعنوان الموت. وفي المنظر الأول من الكلمة نجد
تاجرًا وفلَّاحًا وواعظًا يسيرون في طرقات بغداد، فتقع أنظارهم على شيخ مصلوب، ومع
سؤال المارة عن هذا الشيخ، وما سبب قتله؟ نجد جماعة من الفقراء يقولون بأنهم
القتلة، وقد قتلوه بالكلمات، ويفسِّرون ذلك قائلين:
صفُّونا … صفًّا … صفًّا،
أعطوا كلًّا منَّا دينارًا من ذهب قان
برَّاقًا لم تلمسه كفٌّ من قبلُ.
قالوا: صيحوا … زنديق كافر.
صحنا زنديق
… كافر.
قالوا: صيحوا فليقتل إنَّا نحمل دمه في رقبتنا.
فليقتل إنَّا
نحمل دمه في رقبتنا.
وتأتي بعد جماعة الفقراء جماعة الصوفية قائلين — أيضًا — بأنهم القتلة، وقد قتلوه
بالكلمات — أيضًا — فيقول مقدم المجموعة:
كان يقول:
إذا غسلت بالدماء هامتي وأغصني،
فقد توضأت وضوء الأنبياء.
كان يريد أن يموت، كي يعود للسماء.
… … … …
كان يقول: كأن من يقتلني محقق
مشيئتي،
ومنفذ إرادة الرحمن؛
لأنه يصوغ من تراب رجل فانٍ
أسطورة وحكمة
وفكرة.
كان يقول: إن مَن يقتلني سيدخل الجنان؛
لأنه بسيفه أتم الدورة.
… … … …
هل نحرم العالم من شهيد؟
وأخيرًا يأتي الشِّبلي الصوفي صديق الحلاج ويقف أمام جثته قائلًا:
يا صاحبي وحبيبي،
أوَلمْ نَنْهك عن العالمين؟
… … … …
وهل يساوي
العالَم الذي وهبته دمك
هذا الذي وهبت؟
سرنا معًا على الطريق صاحبين،
أنت سبقت،
أحببت حتى جدت بالعطاء،
لكني ضننت
… … … …
لو كان لي بعض
يقينك،
لكنت منصوبًا إلى يمينك.
لكنني استبقيت حينما امتحنت عمري،
وقلت
لفظًا غامضًا معناه،
حين رموك في أيدي القضاة؛
أنا الذي قتلتك،
وأمام هذه الألغاز المبهمة ينتهي المنظر الأول ليأتي المنظر الثاني كي يزيل هذا
الإبهام، فالكاتب قد بدأ مسرحيته منذ نهايتها ليجذب انتباه القارئ وشغفه حتى يكون
مشدودًا إليها حتى النهاية. ومع بداية هذا المنظر يأتي حوار بين الحلاج والشِّبلي
يمثل قمة الصراع في المسرحية:
الشبلي
:
… يا حلاج، اسمع قولي،
لسنا من أهل الدنيا حتى تلهينا الدنيا.
… … … …
الحلاج
:
لكن يا أخلص أصحابي، نبئني …
كيف أميت النور بعيني؟
… … … …
قل لي يا شبلي
أأنا أرمد؟
الشبلي
:
لا، بل حدقت إلى الشمس،
وطريقتنا أن ننظر للنور الباطن؛
ولذا،
فأنا أرخي أجفاني في قلبي،
وأحدق فيه، فأسعد.
… … … …
الحلاج
:
لِمَ يختار الرحمن شخوصًا من خلقه
ليفرق فيهم أقباسًا من نوره؟
هذا ليكونوا ميزان الكون المعتل،
ويفيضوا نور الله على فقراء القلب.
… … … …
الشبلي
:
لا، يا حلاج
إني أخشى أن أهبط للناس.
… … … …
الحلاج
:
هبنا جانبنا الدنيا،
ما نصنع عندئذ بالشر؟
… … … …
فقر
الفقراء،
جوع الجوعى …
… … … …
والمسجونون المصفودون
يسوقهمو شرطي مذهوب اللب،
قد أشرع في يده سوطًا لا يعرف مَن
في
راحته قد وضعه،
من فوق ظهور المسجونين الصرعى قد رفعه،
ورجال
ونساء قد فقدوا الحرية
… … … …
يا شبلي،
الشر استولى في ملكوت
الله.
حدِّثني … كيف أغض العين عن الدنيا،
إلا أن يظلم قلبي؟
… … … …
الشبلي
:
هل تسألني مَن ذا صنع الفقر؟
… … … …
الظلم …
هل تسألني مَن
ذا صنع القيد الملعون
وأنبت سوطًا في كف الشرطي؟
… … … …
الظلم …
هل تسألني مَن ذا صنع الاستعباد؟
الظلم …
لكني ألقي في
وجهك
بسؤال مثل سؤالك؛
قل: مَن صنع الموت؟
قل: مَن صنع العلة
والداء؟
قل: مَن وسم المجذومين
والمصروعين؟
قل: مَن سمل
العميان؟
… … … …
مَن ألقانا بعد الصفو النوراني
في هذا الماخور
الطافح؟
مَن … مَن …؟
الحلاج
:
لا … لا … لا أجرؤ.
أتريد تقول …
لا … لا …
لا تملأ نفسي
شكًّا يا شبلي.
الشبلي
:
بل إني أمْلَؤُها علمًا ويقينًا.
يا حلاج،
الشر قديم في الكون،
الشر أُرِيدَ بمَن في الكون؛
كي يعرف ربي مَن ينجو ممَّن يتردَّى،
وعلينا أن يتدبر كل منَّا درب خلاصه؛
فإذا صادفتَ الدرب فسِرْ فيه،
واجعله سرًّا. لا تفضح سرَّك.
الحلاج
:
يا شبلي،
دَعْني أتأمل فيما قد قلت الآن.
ها أنت تزلزلني في داري،
والسوق يزلزلني أن أترك داري،
كلماتك تجذبني يَمْنَة …
ومن خلال هذا الحوار نجد الحلاج يريد أن يعلن للناس عن النور الإلهي ويطلعهم
عليه. هذا هو اختيار الحلاج، وهذه هي الصوفية الإيجابية، بعكس الشبلي الذي يخشى
النزول إلى العامة؛ لأنه يرى أن الصوفية قاصرة على الصوفي فقط لأنها اتصال بينه
وبين ربه. أمَّا الحلاج فيرى عكس ذلك؛ فالصوفي — عنده — يجب عليه ألا يتجنب الدنيا،
بل ويقف للشر بالمرصاد؛ لذلك نجد الحلاج مترددًا بين الإيجابية والسلبية في التصوف،
فهل يسير في الصوفية السلبية كالشبلي وينغمس في النور الإلهي، ولا ينظر إلى مَن
حوله وما يشيع في مجتمعه من ظلم وفقر، أم يسير في الصوفية الإيجابية — كما يعتقد —
بنزوله إلى عامة الناس وإطلاعهم على مفاسد المجتمع مِن حولهم؟ وقد عبَّر الحلاج عن
هذا التردد في قوله السابق للشبلي: «ها أنت تزلزلني في داري.» والمقصود بالدار هنا
الاعتقاد الديني والمنهج الصوفي عند الحلاج، وكذلك قوله: «والسوق يزلزلني أن أترك
داري.» والمقصود بالسوق هنا المجتمع بما فيه من ظلم وشر.
وبعد الحوار السابق يدخل على الحلاج والشبلي «إبراهيمُ بن فاتك»، ويحذِّر الحلاج
من ولاة الأمر في بغداد؛ لأنهم يضمرون له الشر، لأنه يلغو في أمورهم، ويُؤلب عليهم
أحقاد العامة، ويرسل الرسائل السرية ﻟ «أبي بكر الماذراني» و«الطولوني» و«حمد
القناني» وغيرهم ممن يطمعون في السلطة،
٥ فيقول عنهم الحلاج:
هم بعض وجوه الأمة،
وهمو أيضًا خلصائي أحبابي،
وعدوني إن ملكوا الأمر
أن تحلو سيرتهم ويعفوا عن سقط الفعل،
أن يعطوا الناس حقوق الناس على
الحكَّام،
فنجاوبهم بحقوق الحكام على الناس.
هم زهرة أمالي في هذا العالم
يا إبراهيم.
٦
وهنا يتدخل الشبلي محاولًا إرجاع الحلاج إلى الصوفية بأن يترك الدنيا وهمومها
لأصحابها، وينعزل هو للعبادة، ويلتزم بتعاليم الخرقة الصوفية من اقتناع باليأس عن
الأمل، وحجب ما تراه أعينهم، ورؤية ما لم تره العين، فيقول الحلاج:
… لكن كلماتي ما خابت؛
فستأتي آذان تتأمل؛ إذ تسمع،
تنحدر منها كلماتي
في القلب،
وقلوب تصنع من ألفاظي قدرة،
وتشد بها عصب الأذرع،
ومواكب تمشي
نحو النور، ولا ترجع،
إلا أن تسقي بلعاب الشمس
روح الإنسان المقهور الموجع.
٧
ثمَّ يتصاعد الموقف حدة بين الحلاج والشبلي — بعد انصراف إبراهيم — إلى أن يضع
الحلاج حدًّا لهذا الموقف، وكذلك لتردده بين موقفه وموقف الشبلي من نزول الصوفي إلى
العامة، فيأتي هذا الحوار:
الحلاج
:
… هل تسألني ماذا أنوي؟
أنوي أن أنزل للناس
وأحدِّثهم عن
رغبة ربي.
الله قوي، يا أبناء الله،
كونوا مثله.
الله فعول يا
أبناء الله،
كونوا مثله.
الله عزيز يا أبناء الله.
الشبلي
:
خفف من غلوائك يا شيخ؛
فلقد أحرمت بثوب الصوفي عن الناس.
الحلاج
:
تعني هذي الخرقة،
إن كانت قيدًا في أطرافي
يلقيني في بيتي جنب
الجدران الصمَّاء،
حتى لا يسمع أحبابي كلماتي؛
فأنا أجفوها
أخلعها … يا شيخ.
إن كانت شارةَ ذلٍّ ومهانة،
رمزًا يفضح أنا جمعنا
فقر الروح إلى فقر المال؛
فأنا أجفوها، أخلعها، يا شيخ.
إن كانت
سترًا منسوجًا من أنيتنا،
كي يحجبنا عن عين الناس، فنحجب عن عين
الله؛
فأنا أجفوها، أخلعها، يا شيخ.
يا رب اشهد، هذا ثوبك،
وشعار عبوديتنا لك،
وأنا أجفوه، أخلعه في مرضاتك.
يا رب اشهد،
يا رب اشهد.
ومن هنا تأتي قضية نبذ الحلاج لخرقة الصوفية، وهي قضية تراثية، فقد قال التاريخ:
إن الحلاج بعد زيارته الأولى إلى مكة وقيامه بالحج عاد إلى بغداد مع جماعة من
الفقراء، ثمَّ نبذ خرقته الصوفية وأخذ في صحبة أبناء الدنيا، وأخذ يتكلم على الناس
ويتخذ المجلس ويدعو الخلق إلى الله.
٩ أمَّا ماسنيون فيفسِّر نبذ الخرقة — بالنسبة للحلاج — فيقول: «ولما عاد
من مكة إلى الأهواز بدأ الوعظ في الناس؛ مما أثار حفيظة الصوفية عليه، فنبذ خرقة
الصوفية كيما يتكلم بحرية مع أبناء الدنيا.»
١٠ وهذا التفسير — أو هذا المعنى — هو الذي سار عليه صلاح في المسرحية.
١١ ومن الملاحظ أن الشبلي — وهو من الصوفيين — أنكر على الحلاج نبذه
للخرقة — كما جاء في المسرحية. وهذا من الناحية التاريخية ثابت،
١٢ ويوضِّحه لنا ماسنيون بقوله: «ونبذ الخرقة وتمزيق المُرَقَّعة معناه
التخلي عن طريقة الاستسرار، والتجرد بالنفس عارية أمام الملأ، مستهدفًا بها إلى
الاتهام والأحقاد.»
١٣
ومن الملاحظ أن نبذ الخرقة من قبل ا لحلاج كان بسبب النزول إلى عامة الناس؛ كي
يعظهم في أمور الدين لا أمور الدنيا كما أراد صلاح عبد الصبور، فهكذا يقول التاريخ؛
فقد كان الحلاج يجتمع بالناس وبالشيوخ في الأسواق وفي المساجد، ويملي على تلاميذه
الكثير من أمور الدين،
١٤ وذلك من أجل الزهد والتصوف ووعظ الناس.
ومما سبق نستطيع أن نقول: إن صلاح عبد الصبور قد وظَّف القضية التراثية،
والمتمثِّلة في نبذ الخرقة، توظيفًا فنيًّا مقبولًا؛ لأننا وجدنا — في التاريخ — أن
نبذ الخرقة كان من أجل الوعظ الديني فقط، ولكن صلاحًا أراد الوعظ الدنيوي؛ أي إنَّ
الحلاج أراد بنزع الخرقة نزع القيود الصوفية التي تمنعه من التعايش مع عامة الناس،
والتعرف على ظلم المجتمع، كي يمنعه من خلال الوعظ الديني؛ أي إن صلاحًا أخذ السبب
المباشر في نزع الخرقة من التاريخ كي يخدم به سببًا آخر دنيويًّا، وبذلك وظَّف
الخرقة التراثية توظيفًا فنيًّا يُساير روح العصر لكتابة المسرحية، وهو عصر
الستينيات الذي يصبح فيه نزع الخرقة رمزًا على التزام الفنان.
أمَّا القضية التراثية فيما سبق — بعد قضية الخرقة — تتمثَّل في أن ولاة الأمور
بدءوا في إساءة الظن بالحلاج؛ لأنه يؤلب عليهم العامة، ويراسل أشخاصًا يطمعون في
الحكم؛ أي إن الحلاج من الزعماء السياسيين في المسرحية، وهو لا ينفي ذلك، بل يؤكد
أنه يراسل حكَّام المستقبل، وحكمهم سيكون في ظل الإسلام. هكذا أراد له الكاتب في
المسرحية، مخالفًا بذلك التاريخ الذي يؤكد على أن الحلاج راسل القناني وحيدرة
والسمري وابن حمَّاد بمكاتبات كانت تخصُّ أمورًا تخالف الإسلام، مثل الاستغناء عن
الحج المعروف بالقيام بشعائر تشبهه في البيت.
١٥ أمَّا ماسنيون فيقول: إن الحلاج كان الرئيس الملهم للوزراء مثل علي بن
عيسى وحمد القُنَّاني، وكذلك للأمراء مثل الحسين بن حمدان ونصر القُشوري، وكذلك
لولاة الأمصار أمثال أبي بكر الماذراني ونُجح الطولوني، وكذلك لبعض السامانيين
والملوك والأشراف الهاشميين.
١٦ ومن الملاحظ أن معظم هذه الأسماء هي الواردة في المسرحية، والقارئ لهذه
الصلة بين الحلاج وبين هذه الأسماء يظنُّ لأول وهلة أن هذه الرئاسة الملهمة هي
رئاسة دينية كما جاءت في التاريخ، ولكن ماسنيون أراد لها أن تكون رئاسة دنيوية
سياسية قائلًا: «وكانت لهم معه مراسلات فيها هداية روحية مما هيأ له الخوض في
السياسة العامة، ولا بُدَّ أن يكون الحلاج قد أهدى في تلك الفترة رسائله عن السياسة
وواجبات الوزراء إلى الحسين بن حمدان ونصر وابن عيسى.»
١٧
ومن الملاحظ في قول ماسنيون السابق كلمة «لا بُدَّ»، والتي توحي بل وتؤكد على أن
ماسنيون قد افترض أن رسائل الحلاج كانت في السياسة، وبسبب هذا الفرض وقع بعض
النقَّاد المحدثين في وهم افتراض ماسنيون بأن الحلاج رجل سياسة، بل أقاموا على هذا
الفرض عدة افتراضات أخرى تصوِّر الحلاج بزعيم سياسي كبير.
١٨ وكما سار النقاد وراء افتراض ماسنيون سار صلاح عبد الصبور في المسرحية،
وقد أقرَّ بذلك في تذييلها،
١٩ فالحلاج عنده أراد أن يقدِّم نفسه فداء لكلماته الإصلاحية والسياسية،
فإن كانت هذه الكلمات غير مؤثِّرة الآن، فإنه متأكد من تأثيرها بعد ذلك في قلوب
الناس. ومع المنظر الثالث من القسم الأول «الكلمة»، نشاهد «أحدب» و«أعرج» و«أبرص»
يدور بينهم هذا الحوار:
الأحدب
:
نعم، إني أحب الشيخ،
ولكن أسائل نفسي الحيرى:
تُرَى يستطيع أن
ينصب ظهري بعدما أحدب؟
الأعرج
:
أحس إذا سمعت حديثه الطيب
بأني قادر أن أثني الساق، وأن أعدو،
وأن ألعب.
بلى، فلقد أحسُّ بأنني طير طليق في سماواته،
ولكني إذا
فارقت محفله تبدت لي
ظلال الشك في حالي،
وعدت أجر ساق العجز،
يعرج خطوها المتعب
على دقات ساق الفقر والإملاق.
الأبرص
:
كأن الشمس حين أراه قد سمعت ضراعاتي،
وقد صبغت مذلاتي،
وصرت
أجوس في الطرقات مختالًا، نضير الوجه وردي الذراعين
بلا سوء ولا
وسم بسيمائي،
ولكني إذا فارقته لملمت ثوبي فوق أعضائي،
ولذت بستر
مسغبتي وإعيائي وأدوائي.
٢٠
ومن خلال هذا الحوار يعطينا الكاتب حقيقة كلمات الحلاج في نفوس العامة، فهذه
الكلمات لها من السحر والقوة في نفوسهم الكثير، ولكنها في نفس الوقت كلمات عقيمة؛
لأن تأثيرها يتوقف على وجود الحلاج بذاته ويزول بزوال وجوده؛ فصلاح عبد الصبور هنا
يصوِّر لنا عقلية الإنسان المؤمن العصري الواقعي الرافض للخرافات وللكرامات، حتى
ولو أكَّدتها المصادر التاريخية عن الحلاج.
٢١ ومن الملاحظ أن الكاتب قد تجنَّب هذا الجانب الخارق والأسطوري في حياة
الحلاج، واكتفى بتفسيره بأنه من خيال الناس من فرط إيمانهم بالحلاج
وبأقواله.
ومما سبق نجد أن صلاح عبد الصبور قد أكَّد على قوة وتأثير كلمات الحلاج في نفوس
العامة، وكذلك أكَّد على دوره السياسي والإصلاحي — منساقًا وراء ماسنيون — ولكن قوة
الكلمات وتأثيرها، وكذلك دوره السياسي لا يتحقَّقان إلا في وجود الحلاج بذاته وسط
العامة. وهنا يقع الكاتب في تناقض شديد؛ لأن الحلَّاج — أو الكاتب — أراد أن يموت
هو بذاته، بشرط أن تعيش كلماته أو يستمر تأثيرها في نفوس الناس وقلوبهم؛ كي يصنعوا
منها القدرة نحو النور، فكيف يتحقق هذا أمام الحوار السابق؟
أمَّا موقف الصوفية من الحلاج — في المسرحية — فنتعرف عليه من خلال ثلاثة من
المتصوِّفين في هذا الحوار:
الأول
:
ولكن شيخنا قد خلع الخرقة.
الثاني
:
وهبه خلع الخرقة …
تُرَى هل خلع القلب الذي وسد في الخرقة؟
أو
الله الذي يحيا بهذا القلب؟
الثالث
:
ولكن تلك شارتنا، ورتبتنا التي نزهي
بها، ونحس أنَّا حين
نلناها،
خلعنا الكون …
… … … …
رايتنا، لواء سفيننا، الخرقة.
… … … …
الثاني
:
وهل تمنعنا الخرقة أن نأبه للظلم،
وأن نثبت للظالم؟
… … … …
الثالث
:
تقول الحق، لكني أخشى إن خلعناها،
بأن نصبح كالناس، نجادل في أمورهم.
٢٢
والملاحظ في هذا الحوار أن اختلاف الصوفية — في المسرحية — بالنسبة للحلاج تمثَّل
فقط في نزع الخرقة الصوفية ونزوله إلى عامة الشعب، وهذا الاختلاف جاء من خلال
انقسامهم وترددهم حول: هل من حق الصوفي نزع الخرقة والانخراط في المجتمع أم لا؟
والحقيقة أن الكاتب نجح في توظيف موقف الصوفية من الحلاج بصورة مقبولة في الحوار
السابق؛ لأن التاريخ يؤكِّد على أن الصوفية اختلفوا في أمر الحلاج
٢٣ فيما يتعلق باعتقاده الديني، لا من أجل نبذه للخرقة، فقالوا عنه: إنه
يستطيع أن يؤلِّف مثل القرآن، وإنه ساحر، ومشعوذ، وزنديق، ومجنون، وكافر، وخبيث،
وله مغوثات.
٢٤ وبمقارنة ما جاء في التاريخ وفي المسرحية حول اختلاف الصوفية في أمر
الحلاج، نجد الكاتب أراد أن يبعد فكرة القول بتكفير الحلاج وجنونه — كما جاء في
التاريخ — حتى ينقذ بطله، ويجعله يسير في إصلاحه الاجتماعي والسياسي كما أراد له
دون أي عائق؛ لأن فكرة تكفير أو جنون الحلاج من قبل الصوفية ستهدم تضحيته من أجل
العامة؛ لذلك اكتفى الكاتب بإظهار الاختلاف حول نبذ الخرقة فقط.
ومع آخر مشاهد القسم الأول «الكلمة»، نجد ولاة الأمور قد تربَّصوا بالحلاج، وذلك
بانخراط بعض رجال الشرطة بين عامة الشعب الملتفين حول الحلاج وكلماته؛ كي يجدوا في
هذه الكلمات ما يدينه. وبالفعل تحقق لهم ما أرادوا من خلال هذا الحوار:
الحلاج
:
… … … … … …
أراد الله أن تتجلى محاسنه، وتستعلن أنواره؛
فأبدع من
أثير القدرة العليا مثالًا، صاغه طينًا،
وألقى بين جنبيه ببعض
الفيض من ذاته،
وجلاه، وزيَّنه، فكان صنيعه الإنسان؛
فنحن له
كمرآة، يطالع فوق صفحتها
جمال الذات مجلوًّا، ويشهد حسنه فينا.
… … … … … …
ويمشي القحط في الأسواق، يجبي جزية الأنفاس.
… … … … … …
وخلف
القحط يمشي تحت ظل البيرق المرسل
جنود القحط، جيش الشر والنقمة.
… … … … … …
يقود خطاهمو إبليس، وهو وزير ملك القحط.
وليس القتل
والتدجيل والسرق،
وليس خيانة الأصحاب والملق،
وليس البطش
والعدوان والخرق،
سوى بعض رعايا القحط، جند وزيره إبليس.
… … … … … …
فكيف إذن نصفي قلبنا المعتم؟
ليستقبل وجه الله، يستجلي جمالاته،
نصلي … نقرأ القرآن،
نقصد بيته، ونصوم رمضان.
نعم، لكن هذي أول
الخطوات نحو الله
… … … … … …
فكن نورًا كمثل الله؛
ليستجلي على
مرآتنا حسنه.
… … … … … …
الشرطي
:
أتعني أن هذا الهيكل المهدوم بعض منه،
وأن الله جل جلاله متفرق
في الناس؟
الحلاج
:
بلى، فالهيكل المهدوم بعض منه إن طهرت جوارحه،
وجل جلاله متفرق
في الخلق أنوارًا بلا تفريق،
ولا ينقص هذا الفيض أدنى اللمح من
نوره.
شرطي ثالث
:
فأنت إذن إله مثله ما دمت بعضًا منه؟
الحلاج
:
رعاك الله يا ولدي، لماذا تستثير شجاي،
وتجعلني أبوح بسر ما
أعطى؟
أَلَا تعلم أن العشق سر بين محبوبين،
هو النجوى التي إن
أُعلِنت سقطت مروءتنا؛
لأنَّا حينما جاد لنا المحبوب بالوصل
تنعمنا؛
دخلنا الستر، أطعمنا وأشربنا،
وراقصنا وأرقصنا، وغنينا
وغنينا،
وكوشفنا وكاشفنا، وعوهدنا وعاهدنا،
فلما أقبل الصبح
تفرقنا.
تعاهدنا، بأن أكتم حتى أنطوي في القبر.
الشرطي
:
كفى، يا شيخ، هذا القول عين الكفر …
الحلاج
:
عين الكفر … ويلك … هذا القول لي، فاسمع.
وإن كنت سألقى الهول
لو كشفت وجه السر.
أجل لا، بل ويلتي جرجرت من زهوي إلى حتفي،
ولكن … كيف … هل أترك هذا اللفظ مُلقًى فوق أثوابي؟ إذن فاسمع، وقل
في الأمر ما ترضاه،
لقد أحببت مَن أنصف،
فأعطاني كما
أعطيت.
الشرطي
:
يا أهل الإسلام … هذا شيخ زنديق.
لقد استطاع صلاح عبد الصبور من خلال الحوار السابق أن يوظِّف عدة قضايا تراثية
وتاريخية بصورة فنية؛ فالحلاج — في الحوار السابق — تحدث عن تجلي الله وحلوله في
الإنسان. ومن الثابت تاريخيًّا أن قول الحلاج بالتجلي والحلول
٢٦ كان من أكبر القرائن التي أدَّت إلى تكفيره من قبل العلماء والفقهاء
والصوفية، وهو أول من قال به،
٢٧ وقال مقولته الشهيرة: «أنا الحق،
٢٨ أي أنا الحق الخالق؛ أي أنا هو الله.»
٢٩ وتوظيف الكاتب لهذه القضية كان مقبولًا؛ لأنه تجنَّب أقوال الحلاج
المباشرة في التجلي والحلول — كما جاءت في الكتب التراثية والتاريخية — تلك الأقوال
التي تدلُّ على الكفر في الظاهر، وعلى الإيمان الصوفي في الباطن، وذلك حتى تكون
شخصية الحلاج مؤثِّرة في القارئ وفي عامة الناس في المسرحية؛ فالحلاج عند صلاح وفي
هذا الحوار إنسان عادي أكثر منه صوفيًّا، أو بعبارة أخرى: مصلح اجتماعي وسياسي أكثر
منه واعظًا دينيًّا؛ لأنه كان يتخذ الدين والحب الإلهي ستارًا كي يبثَّ أفكاره
الاجتماعية والسياسية في نفوس العامة. والدليل على ذلك أن الشرطة قد فطنت لهذه
الأفكار.
صوفي
(للمجتمعين)
:
يا قوم
هذا الشرطي استدرجه كي يكشف عن حاله،
لكن هل أخذوه من
أجل حديث الحب؟
لا، بل من أجل حديث القحط،
أخذوه من أجلكمو أنتم؛
من أجل الفقراء المرضى، جزية جيش القحط.
الأعرج
:
هذا حق؛ فالشرطة خدام السلطان.
وبعد قضية التجلي والحلول نجد الكاتب يتعرض إلى قضية تراثية أخرى، هي إفشاء
الحلاج للعلاقة بينه وبين ربه، أو إفشاء العلاقة الإلهية بين الصوفي وبين الله.
وهذا البوح من قبل الحلاج تؤكِّده كتب التاريخ،
٣١ مثل قول الشبلي: «كنت أنا والحسين بن منصور شيئًا واحدًا، إلا أنه أظهر وكتمت.»
٣٢ ومن الملاحظ أن التاريخ لم يوضِّح لنا حقيقة هذا البوح، أو السر الذي
باح به الحلاج، ونعتقد أن المقصود به هو قول الحلاج بالتجلي والحلول. وكما صمت
التاريخ أمام بوح الحلاج بالسر صمت صلاح عبد الصبور أيضًا في المسرحية، وكل ما قام
به هو إيهام القارئ بأن الحلاج قد باح بالسر، بل وبنى أحداثًا كثيرة على هذا البوح
الوهمي الذي اعتبره سقطة الحلاج الكبرى التي ستؤدي إلى هلاكه. ونحن نقول: كان من
الواجب على الكاتب أن يستغل مقولة الحلاج الشهيرة «أنا الحق» — كما جاءت في التراث
التاريخي — لأنها سقطته الكبرى والحقيقية. وكان من الممكن أن يبني عليها صراع
الحلاج مع السلطة حول الكفر والإيمان، فتكون أكثر إقناعًا من مجرد الإيهام بالبوح
بالسر؛ لأن الحلاج عندما باح بالسر في المسرحية لم يكن في حالة تؤهله لهذا البوح من
وجهة نظر الصوفية، على اعتبار أن البوح بالسر شطحة من شطحات الصوفية.
٣٣ وكل ما يُحسب للكاتب في هذه القضية التراثية أنه وظَّفها من أجل إقناع
القارئ بأن الحلاج كان يتمنى العذاب تكفيرًا لما قام به من بوح للسر؛ لأن التاريخ
لم يطلعنا على الأسباب التي من أجلها كان الحلاج يريد الموت على أيدي الناس.
٣٤
وفي القسم الثاني من المسرحية، وهو الموت، نشاهد الحلاج مسجونًا مع سجينين آخرين،
ويبدأ التعارف بينهم بصورة مبهمة؛ لأن السجينين لم يفهما حديث الحلاج الصوفي،
ويستمر هذا التعارف وهذا الانفصال طوال تسع صفحات. ولعل الكاتب أراد من ذلك أن
يبيِّن أن عامة الناس في انفصال تام عن كلمات الحلاج، باعتبار أن السجينين رمزٌ
لهم. والدليل على ذلك أن الحلاج حاول معهما كما حاول مع عامة الناس — قبل سجنه — في
بثِّ آرائه الاجتماعية والسياسية الإصلاحية، فأخذ يتحدث مع السجين الثاني — لأن
السجين الأول تنحَّى جانبًا — عن إحياء الأرواح من خلال الكلمات والوعظ الديني، وعن
الدنيا الفاسدة والدنيا الجديدة، والمساواة بين الناس والحاكم والمحكوم، والوالي
العادل والوالي الظالم.
أمَّا رد الفعل بالنسبة للسجين فتمثَّل في شعوره بأن كلمات الحلاج طيبة، ولكنها
لا تصنع شيئًا؛ لأن السجين كان يحب الكلمات عندما كان صغيرًا، وعندما كبر ونضج
أجبره الواقع على كرهها. وهنا يحاول الحلاج — وللمرة الثانية — أن يعظه دينيًّا،
فينجح بعض الشيء، وقد أخذ السجين يتأمل كلمات الحلاج «النظرية»، والتي من الممكن أن
تؤثِّر أكثر لو خرجت إلى الناس، وبعيدًا عن جدران السجن،
٣٥ وهنا تأتي المواجهة بينهما من خلال هذا الحوار:
السجين الثاني
:
اسمع لي يا شيخ،
إنك رجل من أذكى من قابلت فؤادًا أثبتهم جارحة
عند الشدة،
وتحب الناس؛ لأنك من أجل الناس سُجِنت وعُذِّبت.
… … … …
لِمَ لا تهرب؟
السجين الثاني
:
كي تحمل سيفك من أجل الناس.
الحلاج
:
لا أخشى حمل السيف ولكني أخشى أن أمشي به؛
فالسيف إذا حمَلتْ
مقبضه كفٌّ عمياء أصبح موتًا أعمى.
السجين الثاني
:
ولماذا لا تجعل من كلماتك نور طريقه؟
الحلاج
:
هب كلماتي غنت للسيف، فوقع ضرباته
أصداء مقاطعها، أو رجع
فواصلها وقوافيها
ما بين الحرف الساكن والحرف الساكن،
تهوي رأس
كانت تتحرك،
يتمزَّق قلب في روعة تشبيه،
وذراع تُقطع في موسيقى
سجعه،
ما أشقاني عندئذٍ! ما أشقاني!
كلماتي قد قتلت.
الحلاج
:
المظلومين …
أين المظلومون، وأين الظلمة؟
أوَلَم يَظلم أحدُ
المظلومين
جارًا أو زوجًا أو طفلًا أو جاريةً أو عبدًا؟
أوَلمْ
يظلم أحدٌ منهم ربه؟
مَن لي بالسيف المبصر؟!
مَن لي بالسيف
المبصر؟!
السجين الأول
:
هل تبكي يا سيد؟
لا تحزن، قد ينفرج الحال.
الحلاج
:
لا أبكي حزنًا يا ولدي، بل حيرة
من عجزي يقطر دمعي،
من حيرة
رأيي وضلال ظنوني
يأتي شجوي، ينسكب أنيني.
هل عاقبني ربي في
روحي ويقيني؟
إذ أخفى عني نوره،
أم عن عيني حجبته غيوم الألفاظ
المشتبهة،
والأفكار المشتبهة؟
أم هو يدعوني أن أختار لنفسي؟
هبني اخترت لنفسي، ماذا أختار؟
هل أرفع صوتي
أم أرفع سيفي؟
ماذا أختار؟ …
والملاحظ في هذا الحوار أن كلمات الحلاج بدأت قوية ومؤثِّرة، ثمَّ اتسمت بالضعف
والتفكك، ثمَّ انتهت بالتردد وخواء المعاني. وهذا بسبب واقعية وإيجابية السجين
الثاني الذي كشف للحلاج أن دوره الحقيقي يجب أن يتمثَّل في القيام بما يقوله
وبطريقة عملية؛ لذلك يطلب منه الهروب من السجن، ولكن الحلاج أراد أن يقوم بدور
الواعظ والمصلح الاجتماعي السياسي نظريًّا فقط، ويترك التطبيق العملي والفعلي
لغيره؛ لذلك يرفض الهروب. ومن هنا جاء تردد الحلاج في نهاية الحوار، فهل يرضى
بالوعظ والكلمات «هل أرفع صوتي؟» أم بالهروب من السجن والقيام بتطبيق ما يقوله من
كلمات «أم أرفع سيفي؟» وينتهي هذا التردد باختيار الحلاج رفع الصوت لا رفع السيف،
وذلك مع السجين الأول؛ لأن السجين الثاني اختار أن يرفع السيف؛ فقد هرب من السجن.
أمَّا السجين الأول فلم يهرب، وذلك بسبب حبه لكلمات الحلاج «النظرية» والمُقيدة له،
وبمرور الوقت يشعر بخواء معانيها وعدم جدواها؛ لذلك يندم على حبِّه لها، وتقيُّده
بها، وعدم هروبه مع السجين الثاني، فيقول للحلاج:
ماذا يرجو إنسان أكثر من أن يسعد؟
وأنا قد كنت سعيدًا في ظلِّك …
يا
خيبة سعيي
يا خيبة سعيي
أحببتك حتى قيَّدني حبك
في هذا الفخ كأني فأر
مقعد.
ليسامحك الله.
بكلامك ضيعت حياتي …
وبعد ذلك يأتي المنظر الثاني والأخير، وقد خصصه الكاتب لمحاكمة الحلاج، وتتكون
هذه المحاكمة من ثلاثة قضاة هم: «أبو عمر الحمادي» و«ابن سليمان» و«ابن سُريج».
وقبل وصول الحلاج إلى المحكمة نشعر بتدبير مؤامرة لإدانته، وأن الحكم بالإدانة متفق
عليه من قبل القاضيين «أبي عمر الحمادي» و«ابن سليمان»؛ لذلك يصف أبو عمر الحمادي
الحلاج بالرجل المفسد، ويصف العامة من الناس — المتجمعة خارج المحكمة لرؤية وسماع
المحاكمة — بأهل الفتنة وأوباش الناس. ولكي يتصاعد الصراع بين القضاة، جعل صلاح عبد
الصبور القاضي ابن سريج ندًّا للقاضيين.
ابن سريج
:
أأبا عمر، قل لي، ناشدت ضميرك:
أفلا يعني وصفك للحلاج …
بالمفسد، وعدو الله
قبل النظر المتروي في مسألته
أن قد صدر
الحكم …
ولا جدوى عندئذٍ أن يُعقَد مجلسنا؟
أبو عمر
:
هل تسخر يا ابن سريج؟
هذا رجل دفع السلطان به في أيدينا
موسومًا بالعصيان،
وعلينا أن نتخير للمعصية جزاءً عادلًا،
فإذا
كانت تستوجب تعذيره …
أبو عمر
:
وإذا كانت تستوجب تخليده
في محبس باب خراسان …
أبو عمر
:
وإذا كانت تستوجب أن يهلك …
أبو عمر
:
لا، ليس بأيدينا؛ إذ نحن قضاة لا جلَّادون،
ما نصنعه أن نجدل
مشنقة من أحكام الشرع،
وبعد ذلك يأتي الحلاج للمثول أمام القضاة، فيعرض عليه أبو عمر الحادي مواد
الاتهام المتمثلة في إلقاء بذور الفتنة في عامة الناس، من خلال وعظه الديني
والتعرُّض بالقول للحكَّام. وهنا يتدخل ابن سريج كي يوضِّح لأبي عمر أنه يلقي مواد
الاتهام دون ترك أي فرصة للحلاج كي يدافع عن نفسه، وهنا يدخل القضاة في مناقشات
عديدة تنتهي بالموافقة على إعطاء الفرصة للحلاج كي يدافع عن نفسه. وبالفعل نجد
الحلاج يتحدث عن نشأته الأولى وتلقيه للعلوم المختلفة، ثمَّ معرفته بسر الوجود،
وتمسُّكه بالخرقة، وهكذا إلى أن يصل إلى فكرة التجلي والحلول، فيأتي هذا
الحوار:
الحلاج
:
… … … …
تعشقت حتى عشقت، تخيلت حتى رأيت
رأيت حبيبي، وأتحفني بكمال
الجمال، جمال الكمال
فأتحفته بكمال المحبة،
وأفنيت نفسي
فيه.
ابن سريج
:
بل هذا حال من أحوال الصوفية،
لا يدخل في تقدير محاكمنا؛
أمر
بين العبد وربه،
لا يقضي فيه إلا الله.
لنُسائِلْه عن تهمة تحريض
العامة؛
فلهذا أوقفه السلطان هنا.
هل أفسدْتَ العامة يا
حلاج؟
الحلاج
:
لا يفسد أمر العامة إلا السلطان الفاسد؛
ومن هنا يسارع أبو عمر في إلقاء مواد اتهام جديدة، تتمثل في تحريض العامة على
العصيان، بدليل إرسال الحلاج لرسائل سرية لأبي بكر الماذراني، وحمد الطولوني،
والقناني.
أبو عمر
:
لِم أرسلتَ إليهم برسائلك المسمومة؟
الحلاج
:
هذا ما جال بفكري؛
عانيت الفقر يعربد في الطرقات،
ويهدم روح
الإنسان؛
فسألت النفس:
ماذا أصنع؟
هل أدعو جمع الفقراء
أن
يلقوا سيف النقمة
في أفئدة الظلمة؟
ما أتعس أن نلقي بعض الشر
ببعض الشر!
ونداوي إثمًا بجريمة!
ماذا أصنع …؟
أدعو الظَّلَمة
أن يضعوا الظلم عن الناس.
لكنْ هل تفتح كلمة
قلبًا مقفولًا برتاج
ذهبي؟
ماذا أصنع؟
لا أملك إلا أن أتحدث،
وَلْتنقل كلماتي الريح
السوَّاحة،
ولأثبتها في الأوراق شهادة إنسان من أهل الرؤية؛
فلعل
فؤادًا ظمآنًا من أفئدة وجوه الأمة
يستعذب هذي الكلمات؛
فيخوض
بها في الطرقات،
يرعاها إن ولي الأمر،
ويوفق بين القدرة والفكرة،
ويزاوج بين الحكمة والفعل …
٤٠
ومن خلال هذا القول، يستنبط أبو عمر مواد اتهام جديدة، تتمثل في أن الأمة تشقى في
ظل الوالي؛ لذلك ينتشر الفقر والجوع بين عامة الناس، وحتى تتلاقى خيوط المؤامرة
تأتي — في هذا الوقت — رسالة من الوالي تفيد بأنه قد عفا عن الحلاج فيما نسب إليه
من اتهام يخص الوالي والدولة، ولكنه لن يسامح في حقِّ الله؛ لذلك يطلب من القضاة
محاكمة الحلاج فيما نُسِب إليه من كفر وزندقة. وهنا تنكشف المؤامرة أمام ابن سريج،
فيتنحَّى عن القضية، وينصرف من مجلس الحكم. وتستمر القضية — أو المؤامرة — وينادي
الحاجب على الشبلي؛ الشاهد الوحيد، والمرشَّح من قِبَل القصر للإدلاء بالشهادة،
فنجده يتحدث بكلام مضطرب، ثمَّ تعتريه حالة الوجد الصوفي، فيتحدث عن التجلي والحلول
مثل الحلاج، وعندما يسأله القاضي: هل هذا قولك أم قول الحلاج؟ نجده يتردد، ويطلب
إعفاءه من الإجابة، فيفهم القاضي — أو هكذا أراد أن يفهم — بأن هذا القول
للحلاج.
ويختتم الكاتب المسرحية بالحكم على الحلاج من خلال هذا الحوار بين القاضي وعامة
الناس:
أبو عمر
:
ما رأيكمو يا أهل الإسلام
فيمَن يتحدث أن الله تجلَّى له،
أم أن
الله يحل بجسده؟
أبو عمر
:
والآن … امضوا، وامشوا في الأسواق.
طوفوا بالساحات وبالخانات،
وقِفُوا في منعطفات الطرقات؛
لتقولوا ما شهدت أعينكم.
قد كان
حديث الحلاج عن الفقر قناعًا يخفي كفره،
لكن «الشبلي» صاحبه قد
كشف سره،
فغضبتم لله، وأنفذتم أمره،
وحملتم دمه في الأعناق
وأمرتم أن يُقتل،
ويُصلب في جذع الشجرة.
الدولة لم تحكم،
بل نحن
قضاة الدولة لم نحكم.
أنتم …
حُكِّمتم، فحَكَمتُم
فامضوا،
قولوا للعامة
العامة قد حاكمت الحلاج امضوا …
ومن خلال هذا المنظر — في المسرحية — نستطيع أن نخرج بعدة قضايا تراثية هامة
استطاع الكاتب أن يوظِّفها توظيفًا فنيًّا:
- أولًا: مواد الاتهام: من الملاحظ أن مواد الاتهام في هذا المنظر كانت تتمثل في الفتنة
بين الناس والتعرُّض للحكَّام، وإرسال رسائل سرية لمن يطمعون في
الحكم. وهذه الاتهامات كلها سياسية، هكذا أراد صلاح عبد الصبور؛
لأن التاريخ يؤكِّد على أن مواد الاتهام الحقيقية بالنسبة للحلاج
كانت تتمثل في الكفر والجنون والسحر والكرامات والزندقة، وادِّعاء
الربوبية، والقول بالحلول،٤٢ ورغم كثرة هذه الاتِّهامات في كتب التاريخ إلا أنها
تجمع على اتهام واحد، وتسهب في وصفه، وهو ما أُثبِت على الحلاج بما
يعرف بالاستغناء أو إسقاط الوسائط؛ فقد كان ضمن الكتب والرسائل
التي جُمِعت من أنصار الحلاج كتاب:
حكى فيه أن الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه أفرد في
داره بيتًا لا يلحقه شيءٌ من النجاسة ولا يدخله أحد، ومنع
من تطرقه، فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله طوافه حول البيت
الحرام، فإذا انقضى ذلك وقضى من المناسك ما يُقضى بمكة
مثله جمع ثلاثين يتيمًا، وعمل لهم أمْرَأ ما يُمكِنه من
الطعام، وأحضرهم إلى ذلك البيت، وقدَّم إليهم ذلك الطعام،
وتولى خدمتهم بنفسه، فإذا فرغوا من أكلهم وغسل أيديهم كسا
كل واحدٍ منهم قميصًا، ودفع إليه سبعة دراهم، فإذا فعل ذلك
قام له مقام الحج.
٤٣
وبالمقارنة بين مواد الاتهام في المسرحية وبين مواد الاتهام في
كتب التاريخ، نجد أن صلاح عبد الصبور تأثَّر — كما تأثَّر بعض النقَّاد
٤٤ بما ذكره ماسنيون في مقاله عن اتِّهام الحلاج باتهامات
سياسية. ولعل الكاتب أراد ذلك — في المسرحية — كي لا يثبت على
الحلاج الاتهام الحقيقي؛ وهو الكفر. وهذا من الناحية الإسلامية —
وكذلك بالنسبة لبعض النقَّاد
٤٥ — بدليل أن في حياة الحلاج وأخباره أقوالًا كثيرةً
تدلُّ في ظاهرها على الكفر
٤٦ لم يأتِ بها الكاتب في المسرحية ولم يشر إليها؛ لأنه
أراد بمحاكمة الحلاج — على سبيل الاتهام السياسي — أن يطرح قضية
الفنان أو الشاعر في صراعه مع السلطة في تلك الفترة — عام ١٩٦٤ —
وأن يعبِّر عن معاناته كشاعر؛ فالحلاج تمسَّك بسلاح الكلمة مؤمنًا
بأن تأثيرها في الناس سوف يظهر في المستقبل؛ فالأمل معقود في
الأجيال القادمة؛ لذلك كان اهتمام صلاح عبد الصبور بالحلاج
اهتمامًا سياسيًّا وإصلاحيًّا واجتماعيًّا أكثر من الاهتمام به
دينيًّا وصوفيًّا، بدليل أن الحلاج في المسرحية كان يدافع عما
نُسِب إليه من اتهامات سياسية طوال أربع عشرة صفحة.
٤٧ أمَّا دفاعه عن الاتهام الديني فاستغرق جملة واحدة
كانت إجابة لسؤال ابن سريج: «هل تؤمن بالله؟» قال فيها: «هو
خالقنا، وإليه نعود.»
٤٨
- ثانيًا: شهادة الشبلي: من الملاحظ أن شهادة الشبلي أثناء محاكمة الحلاج كان يشوبها
القلق والتردد؛ مما أدى إلى إدانة الحلاج بالكفر. ومن الملاحظ أن
كتب التاريخ تختلف أيضًا في هذه الشهادة.٤٩ وكانت الفرصة متاحة لصلاح عبد الصبور كي يقيم صراعًا
فنيًّا عظيمًا بين الحلاج وبين القضاة، لو استغل لحظة تجلي الشبلي
أثناء المحاكمة، عندما تحدث بالتجلي والحلول؛ حتى يثبت أن الشطح
عند الصوفية أمر طبيعي،٥٠ لأن شطح الحلاج في حديثه عن التجلي والحلول كان السبب
الرئيسي لإهدار دمه.
- ثالثًا: شهادة عامة الناس: من الملاحظ أن شهادة عامة الناس في المسرحية جاءت بتوجيه من ولاة
الأمور، بل ودفعوا إليهم الرشاوى ليقولوا بكفر الحلاج وإحلال دمه.
وهذه الفكرة جاءت عند ماسنيون، وسار عليها صلاح عبد الصبور؛ لأن
كتب التاريخ تقول: إن إحلال دم الحلاج جاء من قبل القضاة والصوفية
والفقهاء والعلماء والحكماء والمتكلِّمين،٥١ ولم توجد بها أي إشارة لاتِّفاق العامة من الناس على
إهدار دم الحلاج. أمَّا عند ماسنيون فهم الشافعية وعامة الناس،
البالغ عددُهم أربعةً وثمانين شاهدًا. هذا بالإضافة إلى الممثلين
للأمة الإسلامية.٥٢
وأخيرًا نقول: إن صلاح عبد الصبور قام بتوظيف التراث الديني توظيفًا فنيًّا — في
هذه المسرحية — بصورة مقبولة، فالذي أغراه كي يستلهم شخصية الحلاج تمثل في ذلك
التردد والقلق، وعدم اختيار الطريق الصحيح للإصلاح الاجتماعي والسياسي عند الحلاج —
كما جاء في المسرحية — وهذه الصفات هي صفات الفنان عمومًا، والشاعر خصوصًا. هذا
بالإضافة إلى إيمان الحلاج بقيمة الكلمة؛ فقد «قُتِل الحلاج وأُحرِقت رفاته كما
تنبَّأ، وعبثت برماد جسده الرياحُ العاصفةُ، والمياهُ الجارية، ولكن بقيت آراؤه من
بعده تعمل عملها خلال العصور الوسطى جميعها، وتحاول أن تحيا حياة جديدة. وإننا
لنتبين قوة هذا الرجل وحيويته الروحية من الأثر العظيم الذي كان له في نفوس الأجيال
التي أعقبته.»
٥٣ وهذا هو مرمى كل فنان. أمَّا الذي نفَّر صلاح عبد الصبور مما في حياة
الحلاج التاريخية والتراثية، وأصر على عدم توظيفه أو استخدامه — بصورة مباشرة — قد
تمثَّل في اتهام الحلاج بالكفر؛ لذلك لجأ الكاتب إلى حياة الحلاج كي يوظَّفها
سياسيًّا واجتماعيًّا، وبذلك أضاف أبعادًا جديدةً لهذه الشخصية الدينية من خلال
رؤيته المعاصرة للمجتمع العربي بصفة عامة، والمصري بصفة خاصة. ويقول صلاح عبد
الصبور عن هذه المسرحية:
بطل وسقطته هذه هي مسرحيتي، والسقطة سقطة تراجيدية كما فهمتها عن أرسطو؛
نتيجةً لخطأ لم يرتكبه البطل، ولكنه في تركيبه. وباعث الخطأ هو الغرور وعدم
التوسُّط. وسقطة الحلاج هي مشهد البوح بعلاقته الحميمة بالله، وباعثه هو
الزهو بما نال. وهو حين ارتكب هذه السقطة أباح للناس دمه، بل وأباح لله دمه
إذ أفشى سر الصحبة، فسقطت مروءته أمام الله … وهنا ألقت المسرحية قضية دور
الفنان في المجتمع، وكانت إجابة الحلاج هي أن يتكلم … ويموت؛ فليس الحلاج
عندي صوفيًّا فحسب، ولكنه شاعر أيضًا، والتجربة الصوفية والتجربة الفنية
تنبعان من منبع واحد، وتلتقيان عند نفس الغاية، وهي العودة بالكون إلى
صفائه وانسجامه بعد أن يخوض غمار التجربة. كان عذاب الحلاج طرحًا لعذاب
المفكِّرين في معظم المجتمعات الحديثة، وحيرتهم بين السيف والكلمة، بعد أن
يرفضوا أن يكون خلاصهم الشخصي باطِّراح مشكلات الكون والإنسان عن كواهلهم
هو غايتهم، وبعد أن يُؤثِروا أن يحملوا عبء الإنسانية عن كواهلهم. وكانت
مسرحية مأساة الحلاج معبِّرة على الإيمان العظيم الذي بقي لي نقيًّا لا
تشوبه شائبة؛ وهو الإيمان بالكلمة.
٥٤
وبذلك استطاع صلاح عبد الصبور أن يوظِّف التراث الديني متمثِّلًا في شخصية الحلاج
الصوفي كي تكون تعبيرًا ذاتيًّا له، وكان الحلاج الصوفي هو الشاعر صلاح عبد الصبور.