مسرحية «ثأر الله» لعبد الرحمن الشرقاوي
كتب عبد الرحمن الشرقاوي مسرحيته «ثأر الله»
١ بجزأيها: الأول «الحسين ثائرًا»، والثاني «الحسين شهيدًا» ما بين عامي
١٩٦٤ و١٩٦٩.
٢ والمسرحية قطعة من التاريخ الإسلامي تمثل مقتل الحسين بن علي وآل بيته
في كربلاء، بكل ما تحمل هذه الفترة من أحداث وتفاصيل تاريخية. ولقد اعتمد الشرقاوي
في مسرحيته اعتمادً تاريخيًّا حرفيًّا على كتاب «تاريخ الطبري»،
٣ إلا من منظرها الأخير، فهو من خياله.
ورغم مطابقة المسرحية لأحداث التاريخ، إلا أنها نجحت في عدة مواضع من حيث توظيف
التراث والتاريخ الإسلامي؛ فعلى سبيل المثال حاولت المسرحية أن تعالج فكرة اختيار
الحاكم الصالح للدولة الإسلامية، فهل يكون الحسين بن علي أم يزيد بن معاوية؟
رجل ١
:
تُب إلى الله وبايع للحسين.
أسد
:
ما خذلناه عليه رحمة الله،
ولكن ترك الأمر لأهله.
بشر
:
أوَلا كان الأمر حقًّا لابن هند،
أم تساوقتم إليه طمعًا فيما
لديه؟!
سعيد
:
آه منكم يا سراة الناس في هذا الزمن!
أنتم يا مَن تألبتم على
حكم علي،
عندما حاسبكم عما اقتنيتم،
عندما رد لبيت المال ما
كنزتم،
عندما نازعكم إقطاعكم،
ثمَّ سوَّى بين كل
المسلمين!
بشر
:
والحسين بن علي عندما يغدو إمامًا،
فسيغدو كأبيه … كأمير
المؤمنين؛
فيقيم العدل في الناس ويبغيه سلامًا،
وسيغلو في حساب
الأثرياء الكانزين.
بشر
:
ولهذا سوف لا يتبعه إلا قليل.
٤
وبعد الحوار السابق بعدة صفحات، تأتي المقارنة بين الحكَّام بصورة حضارية
أكثر:
رجل ٤
:
لم يعد يصلح للدولة حكم الخلفاء الراشدين!
رجل ٥
:
نحن في عصر الملوك القادرين.
بشر
(ساخرًا)
:
والرعايا الطامعين الخائفين.
بشر
:
بحنين لنبالات الرجال الصادقين الصالحين.
أسد
:
ولكل زمان دولته ورجال أعرف بأموره،
وحسين قرة عين رسول الله
يعيش زمانًا قد ولَّى،
ما عاد رجال كعلي لحكومة دولتنا أهلًا.
وحسين يسلك مثل أبيه،
وله مثل صلابته،
فإذا صار ولي الأمر فسوف
يسير كسيرته،
والدولة تطلب رجلًا آخر لا كعلي وحسين؛
فليس نجاح
ولي الأمر في أن يحكم بضميره،
أو أن يقضي عن نزعته أو تقديره.
نجاح الحاكم أن يستفتي في الأحكام ضمير الأمة.
٥
ومن الملاحظ أن الأقوال السابقة كانت لأصحاب الحسين، وكذلك لعامة الناس. أمَّا آل
البيت فهم يؤكِّدون ذلك أيضًا:
زينب
(منفجرة)
:
يا أخي، اذكر أننا في زمن لا يطلبك.
زينب
:
الرجال اليوم لا يرضون إلا بملك،
لم يَعُد بعدُ مكانٌ لإمام أو
خليفة،
أُهدِرت كل التقاليد الشريفة.
إنهم لا ينشدون اليوم إلا
حاكمًا يعطي ويمنع،
حاكمًا يعرف ما يبتاع منهم … ثمَّ يدفع!
٦
والشرقاوي أراد من وراء هذه الفكرة — فكرة الحاكم الصالح — أن يقيم صراعًا بين
اليمين واليسار، وممثل اليمين يزيد وأتباعه، وممثل اليسار الحسين وأتباعه.
ونعني باليسار هؤلاء الذين اهتمُّوا بالجانب الاجتماعي في الإسلام،
واعتقدوا أنه فلسفة اجتماعية تنظِّم العلاقة بين الناس بعضهم والبعض الآخر؛
لصالح الغالبية العظمى التي تتكون من الفقراء والمستضعفين … [واليسار] هو
النزعة الاشتراكية بكل ما فيها من مثاليات. إنه يسارٌ متشدد فيما يعتقد أنه
الحق، ولكنه إنساني قبل كل شيء؛ فأهدافه هي إقامة العدل، وإسعاد الناس،
واحترام حريتهم، وتقديس آدميتهم؛ ولذلك لم يتوسل هذا اليسار بأي وسيلة لا
تتفق مع أهدافه، فهو يرفض أصلًا فكرة أن الغاية تبرر الوسيلة، فمهما تتعقد
الأمور، ومهما تلجئه الضرورة؛ فإنه لا يتوسل إلى غايته العادلة بوسيلة غير
عادلة …
أمَّا اليمين الذي نقصده فهو الاتجاه المعارض لهذا، وهو الذي سمح بالفروق
الشاسعة بين أفراد المجتمع الإسلامي، وهو الذي حارب ضدَّ اليسار لتظل فئة
قليلة تحتفظ بالثروة، وتتحكم سياسيًّا واجتماعيًّا في غالبية المسلمين …
[والصراع بين اليمين واليسار هو] صراع بين فكرتين أساسيتين: فكرة التكافل
الاجتماعي وفكرة سيادة الفردية. وهو صراع تدخل فيه عدة عناصر مكملة؛ فهناك
فكرة العصبية العربية في مقابل فكرة تساوي المسلمين أمام الله وأمام
الشريعة، وفكرة أن الإسلام يدعو إلى التأمل العقلي ويحضُّ عليه، وفكرة
التسليم والإيمان غير المفكر أو المتدبر. وكل هذه الأفكار المتصارعة وغيرها
شقَّت طريقها في الحياة الإسلامية منذ واجه اليسار اليمين، واتَّخذت في كل
عصر من العصور الثوب الذي يلائمها.
٧
والصراع بين اليمين واليسار في المسرحية أراده الشرقاوي تبعًا لميوله الاشتراكية
السياسية،
٨ وكان هذا واضحًا في شخصية الحسين الذي يعلم مسبقًا بهلاكه هو وأهل
بيته، ولكنه مضى في طريق الموت من أجل المبادئ؛ ليكون رمزًا للصمود من أجل ما يؤمن
به.
ومن الملاحظ أن القارئ لهذه المسرحية يقف حائرًا أمام شخصية الحسين بن علي، فهل
أراد لها الشرقاوي أن تكون شخصية دينية لها جلالها ومكانتها الدينية من حيث النسب
إلى آل البيت؟ أم أراد لها أن تكون شخصية سياسية تتنازع على الحكم؟ وأمام هذه
الحيرة نقول: إن الشرقاوي استطاع أن يأخذ الحسين بصورته الدينية كي يخلق منه حسينًا
آخر سياسيًّا، ولكن الشرقاوي فشل في إقناعنا بالحسين السياسي بقدر نجاحه في إقناعنا
بالحسين الديني. وبعبارة أخرى نقول: إن الحسين بن علي أراد أن يعيد زمن الخلفاء
الراشدين بصفة عامة، وزمن علي بن أبي طالب بصفة خاصة، وقد غاب عنه أن الزمن لا يرجع
إلى الوراء، وأن لكل فترة زمنية ظروفها، وحاكمها يتحدد تبعًا لهذه الظروف. والحسين
لا يحمل لقيادة الدولة — بعد موت معاوية — إلا الورع والتقى ومبادئ السلف الصالح،
وهذه المؤهلات لا تؤهله لقيادة الدولة؛ لأن الدولة الإسلامية في تلك الفترة كانت
مترامية الأطراف. وهذا التزايد في المساحة، بالإضافة إلى الفترة الزمنية بعد عهد
الخلفاء الراشدين إلى عهد الدولة الأموية، وما صاحبها من تطور حضاري، أصبحت تختلف
عن الدولة الإسلامية قبل العهد الأموي؛ فهي في السابق كانت محدودة، ويستطيع الخليفة
أن يحكم قبضته عليها وحده، بل ويتفقد أحوالها كل ليلة في سهولة ويسر. أمَّا في
العهد الأموي فالأمر يختلف، وبالتالي فالحاكم يختلف؛ لأنه أصبح لزامًا عليه — في
بعض الأحيان — أن يفصل بين كونه حاكمًا دينيًّا، وبين كونه حاكمًا سياسيًّا تبعًا
للظروف.
وهذه المرونة الواجب توافرها في الحاكم غير متوفرة عند الحسين بن علي؛ لذلك نجد
عامة الناس في نهاية الأمر يبتعدون عنه، ويفضِّلون يزيد بن معاوية؛ ذلك الحاكم
المرن المتحضر، الناظر إلى الحكم بنظرة تقدمية حضارية عصرية. والدليل على ذلك أن
عامة الناس في المسرحية لا يظهرون بمظهر الفقر أو الجوع، ولا يعانون من أي مشاكل في
ظل حكم يزيد بن معاوية؛ لذلك يحذِّر محمدُ بن الحنفية — أخو الحسين من أبيه —
وزينبُ الحسينَ من تولِّي الخلافة:
محمد
:
دولة قامت على الأطماع والخوف، فماذا أنت صانع …؟
ما عسى تصنع
إن صرت أمير المؤمنين؟
زينب
:
يا إمام الصالحين!
ما عسى تصنع في أهل القطائع …؟!
ما عسى
تصنع فيمن أترفوا من بيت مال المسلمين؟
ما عسى تصنع فيهم؟!
في
قصورٍ شيَّدوها، وجوارٍ قد شروها
وعطايا منحوها؟!
الحسين
:
مثلما سار أبونا رحمة الله عليه سأسير،
ليس هذا كله حقًّا لهم،
إنه حق الرجال الفقراء العاملين؛
فسأُبقي لهم حقهم المشروع وحده
…
محمد
:
وجواريهم وقد أنجبن أولادًا وأصبحن حرائر …؟
زينب
:
أترى تنتزع الأموال منهم …؟
زينب
:
ولهذا يرهبونك،
ستراهم أغلظ الناس عليك،
كل مَن صار له شيء من
المال هو الآن عدوك،
أم ترى تحرمهم من كل ما يمنحهم عزة الدنيا
ومما سبق نستطيع أن نقول: إن المسرحية أرادت أن تبيِّن لنا أن زمن المعجزات قد
انتهى، بانتقال الدولة الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين إلى الدولة الأموية في
زمن معاوية بن أبي سفيان؛ ففي المسرحية نجد البقية الباقية من رجال الحسين — وقت
حصار جيش يزيد لها في كربلاء — تطلب منه أن يقوم بمعجزة تخلِّصهم مما هم فيه، كما
كان يحدث في الدولة الإسلامية وقت الرسول ﷺ فيأتي هذا الحوار:
زهير
:
قل لنا يا ابن رسول الله ما يكشفه الله تعالى لك عما نحن ماضون
إليه؟
ابن عوسجة
:
قل لنا؛ فالله قد أعطاك سره.
نافع
:
قل لنا بعض الذي تعرف عن أخفى الأمور القادمة.
الحسين
:
أنا لا أعرف ما لا تعرفون،
أنا لا أعرف خيرًا منكم لو
تدركون.
زهير
:
إنما تخفض للناس جناح الذل من عزة علمك.
الحسين
:
ليس لي علم بما لا تعلمون.
برير
:
إن ما ضاق علينا من مدًى …
لفسيح عند مثلك.
ابن عوسجة
:
أنت أدنى الناس لله تعالى،
ورحاب الله ممدود إليك.
حبيب
:
قل لنا ماذا عسى نصنع بعد؟
بشر
:
أنت مَنْجَى الناس في المسرى العظيم!
نافع
:
قل لنا بعض الذي تعرف مما خصَّك الله به.
١٠
ومن الأمور الهامة التي تناقشها المسرحية فكرة الحكم، هل هو إمامة من خلال مبدأ
الشورى أم وراثة؟ … والصراع بين الإمامة والوراثة تمثَّل في المسرحية من خلال شخصية
الحسين ممثِّل الإمامة، وشخصية يزيد ممثِّل الوراثة.
سعيد
:
ولماذا — عمرك الله — تنكرت لما قال إذن …؟
إنه قد ترك الأمر
لنا شورى … وأنتم
تجعلون الأمر فينا قيصرية!
بشر
(مكملًا)
:
تجعلون الناس والدولة إرثًا لأُميَّة!
أسد
:
رجل مثل يزيد وليَ العهد طويلًا فتدرَّب،
فغدَا صاحب قدر وحقوق
لا تُغالب.
سعيد
:
صرت ممَّن يعرف الحق بأقدار الرجال!
بشر
:
إننا نعرف قدر المرء
مما هو من حقٍّ عليه أو ضلال!
أسد
:
أنت والله لجوج يا سعيد،
أنت لا تعرف ما وجه صلاح الأمر عندي
حين أدعو ليزيد،
إنني أدعو إلى حقن دماء المسلمين.
(للناس) احفظوا العهد؛ فإن العهد مسئول أمام الله رب العالمين.١١
وهذا الحوار إنما يعكس لنا مدى تردد الناس أمام مبدأ الشورى، وهل هذا المبدأ
يستطيع أن يُقصي قيصرية ووراثة يزيد للحكم. وهذا التردد نجده أيضًا عند الحسين وعند
أخيه محمد بن الحنفية:
الحسين
:
أوَأنأى يا أخي
عن نصرة الحق ودفع الظلم عن أمة جدِّي؟
… لا
بربك،
أفتدعوني إلى بيعة طاغٍ مستبدٍّ؟
محمد
:
إنما أدعوك أن تبعد عن بطش يزيد.
الحسين
:
إنما أدعو إلى الشورى لكي ينتخب الناس — بلا
قهر — إمامًا.
إذا اختاروا يزيدًا … واستقاما،
لم يكن في ذمتي للناس إلا الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر يا ابن الحنفية.
محمد
:
فابعث الآن إلى الأمصار من يدعو إليك،
فإذا بايعك الناس فأعلن
دعوتك،
وإذا ما اجتمع الناس إلى غيرك … فالله معك،
وسيبقى لك يا
سبط رسول الله فضلك،
وهو فضل الله لن ينقص منه بيعة الناس
لغيرك.
الحسين
:
يا لهذا الرأي، ما أعرف إن كنت أراه يا محمد!
محمد
:
إن تكن شورى فلا خيرة فيها أو رشاد؛
فالذي يحكم في الأمصار
عمَّال أمية،
ولديهم كل ما لا يملك الصالح من قهرٍ وترغيبٍ وزيفٍ
وفسادٍ.
إنما أخشى عليك الناس أن يختلف الناس عليك،
فإذا ما جاء
هذا اليوم يا ويلي، فلن تطلع شمس
في صباح،
فإذا أنت صريع … دمك
الغالي مباح!
١٢
ومن هنا نلاحظ أن الحسين في المسرحية كان يدافع من أجل مبدأ الشورى، ومن أجل
الإمامة؛ لذلك يقدِّم نفسه وأهله وأصحابه فداءً لهذا المبدأ. والقارئ يتقبل هذا
الفداء راضيًا من خلال النظر إلى شخصية الحسين الدينية. ولكن المسرحية أرادت — أو
أراد الشرقاوي — أن تظهر شخصية الحسين بمظهر الشخصية السياسية. وهنا نقف قليلًا
ونسأل: هل أصاب الشرقاوي باختياره لشخصية الحسين كي يصوِّر نزعته السياسية
الاشتراكية؟ وهل الحسين كان يدافع حقًّا عن الإمامة رافضًا لمبدأ الوراثة
والقيصرية؟
أمَّا عن السؤال الأول، فنجيب بأن الشرقاوي نجح فقط في اختيار شخصية الحسين كي
يجسِّد صراع اليسار ضدَّ اليمين، بالتزامه بالمبدأ وعدم الحياد عنه، حتى لو دفع
حياته وحياة آل بيته في سبيله. ولعل نجاح الشرقاوي في ذلك راجع إلى بثِّ أفكاره
الاشتراكية المصاحبة لثورة ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢، ولكن هذه التضحية من الناحية
السياسية لا تعبِّر عن المهارة والذكاء في السياسة، بل هي عكس ذلك تمامًا، فمن غير
المعقول أن يضحِّي إنسان بنفسه وبأهل بيته وبأصحابه من أجل لا شيء. هذا بالإضافة
إلى معرفته مسبقًا بمصيره المحتوم.
أمَّا السؤال الثاني، فنجيب — من خلال المسرحية — بقولنا: إن الحسين بن علي كان
يدافع عن الوراثة والقيصرية من خلال قناع الإمامة والدين ومبدأ الشورى، فالحسين كان
يطمع في الخلافة، لا عن مقدرة في قيادة دولة مترامية الأطراف، بل عن مقدرة واعتماد
على مكانته الدينية من حيث نسبه إلى آل البيت. وفي هذا المعنى يكمن دفاع الحسين عن
الوراثة والقيصرية التي تركها لها أبوه علي بن أبي طالب، والتي تخلَّى عنها أخوه
الحسن لمعاوية بن أبي سفيان. والتاريخ يقول لنا: إن الحسين بعدما سمع أن الحسن
تنازل وبايع لمعاوية قال لعامة الناس: «ليكن كل رجل منكم حلسًا من أحلاس بيته ما
دام معاوية حيًّا، فإنها بيعة كنت — والله — لها كارهًا، فإن هلك معاوية نظرنا
ونظرتم، ورأينا ورأيتم.»
١٣ ومن الملاحظ أن هذا المعنى تؤكِّده المسرحية في مناجاة الحسين لربِّه قائلًا:
إن كان ما بي مطمع للملك والمجد المؤثل،
إن كان ما بي رغبة في أن أكون
أنا أمير المؤمنين،
إن كنت مفتونًا بأعراض الحياة ولا أحس،
إن كان ما بي
شهوة للملك لكن لا تبين،
قد خالطت كوساوس الشيطان عقلي فالتبس،
ومضت
تخادعني لتبرير الخطيئة مثل آدم؛
فأظن أن تطلُّبي الدنيا دفاعًا عن حقوق
المسلمين،
وإخالُ أن تطلُّعاتي ثورة ضدَّ المظالم.
إن كان بي هذا الفتون،
إن كان بي زهو خفي لابسًا زهد التقى،
فاسكب على قلبي شعاعًا من جلال
حقيقتك؛
لأرى اليقين،
لأرى الحقيقة والخديعة في الذي هو كائن حولي،
والبحث يرى أن مبدأ الشورى في تولي الخلافة لم يتحقق بصورته الكاملة في عهد
الخلفاء الراشدين؛ فالرسول ﷺ أشار إلى خلافة أبي بكر الصديق دون التصريح
بها، وكذلك فعل أبو بكر بالنسبة إلى عمر بن الخطاب. أمَّا عمر فيُعدُّ — من وجهة
نظر التاريخ الإسلامي — أول من وضع أساس مبدأ الشورى في الإسلام، عندما اختار «علي
بن أبي طالب» و«عثمان بن عفَّان» و«طلحة بن عبيد الله» و«الزبير بن العوَّام» و«عبد
الرحمن بن عوف» و«سعد بن أبي وقَّاص»؛ ليكون الأمر شورى بينهم لاختيار الخليفة من
بعده، ومبدأ الشورى بهذا الاختيار لا وجود له؛ لأن هؤلاء الستة من القرشيين
المهاجرين، وفي هذا التخصيص دون الأنصار هدمٌ للشورى.
وأيضًا اختيار عمر لابنه عبد الله ليكون مُشيرًا فقط دون الدخول في الاختيار هدمٌ
للشورى، وأيضًا أمره لأبي طلحة الأنصاري ليكون في خمسين من قومه من الأنصار
ليحاصروا هؤلاء الستة؛ كي يختاروا الخليفة، وإلا قتلهم جميعًا أو بعضهم إذا
اختلفوا، هدمٌ للشورى؛ لأن الشورى «في أبسط تصور لها هي تبادل الرأي بين مجموعة من
الناس في أمرٍ من الأمور، أو هي صورة من صور النصيحة، وشكل من أشكال التعاون؛ فهي
بذلك ترتبط بموضوع النصيحة والرأي في الإسلام، ثمَّ إنها تحتاج إلى اتِّخاذ قرار.»
١٥ وهذا التصور للشورى لم يُطبَّق في موقف عمر بن الخطاب السابق.
والبحث يرى أيضًا أن الحسين بن علي ويزيد بن معاوية لم تنطبق عليهما شروط الخلافة
بصورة جامعة، وهي: «العلم» و«العدالة» و«الكفاية» و«سلامة الحواس والأعضاء»، فهذه
الشروط تنطبق على الحسين بن علي إلا من الشرط الثالث؛ وهو «الكفاية»، الذي يقول عنه
ابن خلدون: «وأمَّا الكفاية فهو أن يكون جريئًا على إقامة الحدود، واقتحام الحروب،
بصيرًا بها كفيلًا، يحمل الناس عليها، عارفًا بالعصبية وأحوال الدهاء، قويًّا على
معاناة السياسة؛ ليصح له بذلك ما جُعل إليه من حماية الدين، وجهاد العدو، وإقامة
الأحكام، وتدبير المصالح.»
١٦ وهذا المعنى لم ينطبق على الحسين بن علي؛ لأنه يفتقد إلى الدهاء
والمهارة السياسية وتدبير المصالح، وذلك عندما أقدم على هلاكه مُصاحبًا في ذلك آل
بيته. أمَّا يزيد بن معاوية فلم ينطبق عليه الشرط الثاني؛ وهو «العدالة»، الذي يقول
عنه ابن خلدون أيضًا: «وأمَّا العدالة فلأنه منصب ديني يُنظر في سائر المناصب التي
هي شرط فيها، فكان أولى باشتراطها فيه، ولا خلاف في انتفاء العدالة فيه بفسق
الجوارح من ارتكاب المحظورات.»
١٧ وهذا المعنى لم ينطبق على يزيد أو سيرته التاريخية.
ومن الجدير بالذكر أن الشرقاوي أجهد نفسه بكثرة الأحداث والشخصيات التاريخية
الإسلامية. وهذا التنقيب الدقيق للتاريخ جعل المسرحية أقرب إلى العمل التاريخي أكثر
من قربها للعمل الفني، وكان لزامًا على الكاتب أن ينتقي حدثًا واحدًا أو موقفًا
واحدًا من التاريخ كي يصبح مسرحية قائمة بذاتها؛ حتى يوظِّفها لغرضٍ بعينه، ولكن لم
يحدث هذا؛ لذلك نجد الشخصيات ثابتة لا تتطور، فمثلًا شخصية الحسين لم تتغير طوال
المسرحية، فهي ثابتة صامدة مؤمنة بمبدئها رغم تغير الأحداث من حولها. ومن الملاحظ
أن ما يمكن أن يقوله سعيد بن سعيد — وهو من أصحاب الحسين — يقوله بشر، أو محمد بن
الحنفية، أو زينب بنت علي، أو سكينة بنت الحسين، أو مسلم بن عقيل. هذا بالنسبة
لأعوان الحسين، وكذلك ما يمكن أن يقوله مروان بن الحكم — وهو من أنصار يزيد بن
معاوية، وصاحب بيت المال بالمدينة — يقوله الوليد، أو عمر بن سعد، أو ابن زياد.
وهذا بالنسبة لأعوان يزيد بن معاوية. والسر وراء هذا الثبات عند الشخصيات هو تحرُّج
الكاتب المسرحي عندما يتعرض للشخصيات الدينية، ويقوم بتوظيفها في إبداعه المسرحي —
كما بيَّنَّا في مقدمة هذا الباب — لذلك كان من الصعب على الكاتب أن يوظِّف هذه
الشخصيات كي تعبِّر عن أمور عصرية، أو عن وجهات نظر سياسية. ومن هنا وجدنا رجال
الدين في مصر يقفون بالمرصاد أمام تمثيل هذه المسرحية.
١٨
أمَّا الشخصية الوحيدة التي نجح الشرقاوي في توظيفها، فهي شخصية «وحشي» قاتل حمزة
بن عبد المطلب — عم الرسول ﷺ وسيِّد الشهداء — ونجاح التوظيف جاء بسبب أن
شخصية وحشي شخصية تاريخية، ولكن لم يكن معروفًا — من الناحية التاريخية — ما إذا
كان موجودًا زمن المسرحية أم لا. وبذلك استطاع الشرقاوي أن يوظِّفه في المسرحية كي
يرمز به عن يزيد بن معاوية وجيشه. وبعبارة أخرى: إن وحشي هو رمز على قتلة الحسين بن
علي؛ أحد آل البيت النبوي، وإن حمزة رمز للحسين وما سيئول إليه مصيره. ووحشي يظهر
في المسرحية في مواقف مختلفة كصيحة ندم تواجه قتلة الحسين، وعندما يظهر يحكي قصته
قائلًا:
وقتلت حمزة في أحد،
وظللت أنبش بطنه حتى عثرت على الكبد،
فنزعتها
وعصرتها لتلوكها أسنان هند.
قد كنت عبدًا حينذاك، وكان لي آمال عبد!
حتى
إذا ما كان يوم الفتح جئت إلى الرسول،
ووقفت أبكي لا أقول ولا يقول.
ودخلت في الإسلام لكنْ لم يصافحني الرسول،
لم يُعْطِني يده الكريمة بل نأى
عني بجنبه،
وركعت في عاري على قدم الرسول … فلم يُجِبْني.
أنا لم يصافحني
الرسول … ازورَّ عني.
وحملت عاري وانطلقت …
وشربت خمر الأرض لكن ما
انتفعت …
أيًّا مضيت فما يفارقني الشبح،
هو ذاك حمزة يصرع الأبطال
منطلقًا كإعصار مخيف.
… … … …
وحديث هند ما يزال يسيل في أذني:
فَلْتقذف
برمحك ظهره …
ستصير حرًّا إن قتلته،
ستنال مني ما اشتهيته.
قد كنت
عبدًا حينذاك لآل هند،
عبد له أحلام عبد!
… … … …
يا سيد الشهداء حمزة،
أنا مَن طعنتك غادرًا طعن الجبان،
ورميت عزتك الشموخ إلى الهوان،
أهديت
أشرف ما يجود به الزمان
إلى نساء بني أمية.
يا سيد الشهداء، ماذا أستطيع
الآن بعد؟
قل أي تكفير أقدِّمه فتقبل توبةً من معتذر؟
أفلا مقيل لمَن
عثر؟
أفلا نجاة لمن غدر؟
… … … …
يا سيد الشهداء حمزة قد غدوت ضحيتك.
… … … …
أنا ذاك مثل اللعنة السوداء منذ غدرت بك،
عدم تطارده الحياة،
ذنب
تحامته العصاة،
قبر تحرك،
عِرض مهين مُنتهك،
ندم تحاصره الذنوب،
عار
يفر الكل منه ويرجمونه،
رجس تنوء به القلوب،
قلق تجافته السكينة،
ومما يُحسب للكاتب في مسرحيته: المنظر الأخير؛ فهو المنظر الوحيد الذي أطلق
العنان لخياله فيه، ولا علاقة له بالواقع التاريخي. وفي هذا المنظر يصور الكاتب —
بعد مرور خمسة أعوام على مقتل الحسين في كربلاء — مدى العذاب الذي لاقاه أعداء
وقتلة الحسين، فنجد يزيد بن معاوية وحيدًا في الصحراء يصرخ ويتألم ثمَّ يموت من شدة
العطش، كما تألم الحسين بن علي وآل بيته من شدة العطش أيضًا، وكأن الكاتب أراد بهذا
المنظر أن يوضِّح أن عدالة السماء يقظة، وأن الله يمهل ولا يهمل. ويختتم الكاتب
المسرحية بخطاب طويل للحسين مُوجَّه إلى عامة الناس في المستقبل؛ كي يبعث في نفوسهم
الثورة على الظلم الاجتماعي والسياسي قائلًا:
فَلْتذكروني لا بسفككم دماء الآخرين،
بل فاذكروني بانتشال الحق من ظفر
الضلال،
بل فاذكروني بالنِّضال على الطريق؛
لكي يسود العدل فيما بينكم.
… فَلْتذكروني حين يختلط المزيَّف بالشريف،
فَلْتذكروني حين تشتبه الحقيقة
بالخيال،
وإذا غدا جبن الخنوع علامة الرجل الحصيف،
وإذا غدا البهتان
والتزييف والكذب المجلجل هن آيات النجاح.
… … … …
وإذا شكا الفقراء
واكتظَّت جيوب الأغنياء.
فَلْتذكروني،
فَلْتذكروني عندما يُفتى الجهول،
وحين
يستخزي العليم،
وعندما يَهنُ الحكيم،
وحين يستعلي الذليل.
فَلْتذكروني إن
رأيتم حاكميكم يكذبون،
ويغدرون، ويفتكون،
والأقوياء ينافقون،
والقائمين
على مصالحكم يهابون القوي
ولا يراعون الضعيف.
… … … …
وإذا غُزِيتم في
بلادكم وأنتم تنظرون،
وإذا اطمأنَّ الغاصبون بأرضكم وشبابكم يتماجنون.
فَلْتذكروني.
… … … …
فَلْتذكروا ثأري العظيم لتأخذوه من الطغاة،
وبذاك تنتصر
الحياة.
فإذا سكتم بعد ذلك على الخديعة وارتضى الإنسان ذله،
فأنا سأُذبَح
من جديد،
وأظل أُقتل من جديد،
وأظل أُقتل كل يوم ألف قتلة،
سأظل أُقتل
كلما سكت الغيور وكلما أغفا الصبور،
سأظل أُقتل كلما رغمت أنوف في المذلة،
ويظل يحكمكم يزيد ما … ويفعل ما يريد،
وولاته يستعبدونكم وهم شر العبيد،
ويظل يلعنكم وإن طال المدى جرح الشهيد؛
لأنكم لم تدركوا ثأر الشهيد،