(١) توظيف العادات والتقاليد الشعبية العربية في مسرحية «مجنون ليلى» لأحمد
شوقي
يقول الدكتور محمد غنيمي هلال:
كان أحمد شوقي صاحب الفضل في إدخال شخصية قيس ميدان الأدب العربي في
مسرحية … [ويؤكد ذلك بأن] فرقة القبَّاني مثَّلت في مسرح قهوة الدانوب
بالإسكندرية مسرحية جديدة تُسمَّى مسرحية «مجنون ليلى» في ١٣ / ١١ / ١٨٨٥، كما مثَّلت
فرقة «جماعة الترقي الأدبي» في مسرح زيزينيا بالإسكندرية
عام ١٨٩٤ مسرحية بهذا الاسم أيضًا … لذلك نعتقد أن هذه المسرحية لم يكن لها
تأثير في شوقي، وبخاصة لأنها مُثِّلت في الإسكندرية في المرة الأولى (١٨٨٥)
في وقتٍ لم يكن قد تطَّلع فيه إلى التأليف المسرحي، ثمَّ مُثِّلت في المرة
الثانية حين كان شوقي في أوروبا.
١
وعدم تأثُّر شوقي بأي عمل مسرحي يتعلق بقصة «المجنون»، يؤكده الحوار الذي دار
بينه وبين طاهر الطناحي عندما سأله عن المصادر التي اعتمد عليها في رواية المجنون،
فقال شوقي: «اعتمدت في هذه الرواية على خلقي وابتكاري … ولا أكتمك أنني اعتورتني
صعوبات جمة في وضع قصة المجنون أولًا، ثمَّ حبكها للمسرح ثانيًا.»
٢ ورغم هذا القول — من قِبَل شوقي — فلم يقرُّه أي ناقد من النقَّاد ممن
تعرَّضوا لهذه المسرحية، بل وهاجموا فيها أحمد شوقي أشد الهجوم.
٣
وتبدأ المسرحية بمنظر يصفه شوقي قائلًا: «ساحة أمام خيام المهدي في حي بني عامر —
مجلس من مجالس السمر في هذه الساحة — فتية وفتيات من الحي يسمرون في أوائل الليل،
وفي أيدي الفتيات صوف ومغازل يلهون بها وهم يتحدَّثون. تخرج ليلى من خيام أبيها عند
ارتفاع الستار ويدها في يد ابن ذريح.»
٤ — وهو شاعر من شعراء الحجاز — ثمَّ تقدمه ليلى بعد ذلك إلى صاحبتيها
«سلمى» و«هند».
ومن الجدير بالذكر أن هذا المنظر لم يقبله بعض النقَّاد من شوقي، واعتبروه مظهرًا
من مظاهر الضيافة في العصر الحديث.
٥ ويقول د. شوقي ضيف في ذلك:
ومن الأشياء العصرية التي دخلت في المسرحية، ولم تكن معروفة بين البدو
حينئذٍ ما نراه في أول منظر من مناظرها؛ إذ نشاهد ليلى تخرج من خبائها
ليلًا ويدها في يد ابن ذريح؛ الوافد اليثربي، وتقدِّمه إلى صواحبها، ولم
يكن شيء من ذلك يجري في البادية. إنما كان يأتي الوافد أو الضيف ليلًا
تهديه النيران الموقدة، وتنبحه الكلاب، فيستيقظ الحي، ويقبل عليه من يريده
ويكرمه؛ تلك عادتهم. أمَّا شوقي فأدخل ابن ذريح إلى دار المهدي أو خبائه
كما يدخل الضيوف في العصر الحاضر.
٦
والبحث يرى أن أحمد شوقي اعتمد في ذلك على كتب الأدب التراثية التي تحدَّثت عن
مجالس السمر، وعن اجتماع الفتية والفتيات. وكثيرًا ما كان الكاتب يعقِّب على مثل
هذه الاجتماعات بقوله: وكانت العرب لا ترى بأسًا في ذلك، أو قوله: والعرب ترى ذلك
غير مُنكر أن يتحدث الفتيان إلى الفتيات.
٧ كما أن أحمد شوقي عندما أراد أن يكتب هذه المسرحية نجده قد درسها من
الناحية الاجتماعية، وقال في ذلك: «درست العصر الذي عاش فيه هذا العاشق المجنون،
وهو عصر معاوية بن أبي سفيان؛ رأس الدولة الأموية ومنشئها، وأنا اسمِّي هذا العصر
من الناحية الاجتماعية «الجاهلية المهذَّبة»،
٨ هذا بالإضافة إلى أن الأصفهاني ذكر العديد من هذه الاجتماعات عند حديثه
عن أخبار المجنون.
٩
ومن السمات الاجتماعية الشعبية ذكْرُ اسم المحبوب إذا تخدَّرت قدم المحب، وهي من
العادات والتقاليد الشعبية في البيئة العربية. ويحدِّثنا الألوسي عن هذه العادة
قائلًا: «ومن مذاهبهم [أي العرب] أن الرجل منهم كان إذا خُدِّرت رجله ذكر من يحب أو
دعاه فيذهب خدرها. ورويَ أن عبد الله بن عمر — رضي الله تعالى عنه — عندما خُدِّرت
رجله فقيل له: ادع أحب الناس إليك، فقال: يا رسول الله.»
١٠ وقد أوضح أحمد شوقي هذه العادة في المسرحية من خلال هذا الموقف بين
ليلى وهند:
هند
:
… … … ما
دهاك ليلى؟ ما الخبر؟
ليلى
:
أحسُّ رجلي خُدِّرت
حتى كأنَّها الحجر
ومن العادات العربية الشعبية في المسرحية الاهتمام، والاعتقاد في العرَّاف، ومدى
تأثيره في حياة الأشخاص. وعلم العرافة هو: «الاستدلال ببعض الحوادث الحالية على
الحوادث الآتية بمناسبة بينهما، أو مشابهة خفية، أو ارتباط بينهما … لكون ما في
الحال علة لما في الاستقبال، بشرط أن يكون الارتباط بينهما خفيًّا لا يطَّلع عليه
إلا الأفراد؛ إما بتجارب شاهدوها في أمثالها، أو بحالة مودعة في نفوسهم عند الفطرة
بحيث يغلب على طالعهم سهم الغيب.»
١٢ وقد استخدم شوقي شخصية عرَّاف اليمامة، عندما ذبح شاة ثمَّ رقى عليها
بعزائم، وأعلن أن شفاء قيس مرتبط بالأكل منها، تقول «بلهاء» في ذلك:
لقد مرَّ عرَّاف اليمامة بالحمى
فما راعنا إلا زيارته صُبحًا
طوى الحيَّ حتى جاء عن قيس سائلًا
وأظهر ما شاء المودَّة والنصحا
ولاحت له شاةٌ جثومٌ بموضعٍ
تخيَّلها ظلًّا من الليل أو جُنحا
فقال اذبحوا هاتيك فالخير عندها
فقام إليها يافعٌ يحسن الذبحا
فقال انزعوا من جثة الشاة قلبها
فلم نال قلب الشاة نزْعًا ولا طرْحًا
فلما شويناها رقى بعزائم
عليها وألقى في جوانبها المِلحا
وقال اطلبوا قيسًا فهذا دواؤه
كأني به لما تناوله صحَّا
١٣
ومن العادات الشعبية في المسرحية أيضًا: أن الرجل إذا ضلَّ طريقه يقلب ثيابه
ويسير في حالة تصفيق لعله يهتدي إلى الطريق الصواب، ويقول في ذلك الأبشيهي: «إن
الرجل منهم كان إذا ضلَّ في فلاة قلب قميصه وصفَّق بيده كأنه يومئ بهما إلى إنسان
فيهتدي … والأصل في قلب الثياب التفاؤل بقلب الحال.»
١٤ وهذه الحالة كان عليها قيس — في المنظر الأول من الفصل الرابع في
المسرحية — عندما يتحدث عنه «جنِّيٌّ» لآخر بقوله:
لقد ضلَّ الطريق أمَا تراه
يُصفِّق باليمين وبالشمال؟
وقد قلب الثياب عليه نهجًا
ومن المظاهر أيضًا ذلك الاعتقاد — والسائد حتى يومنا هذا في مجتمعاتنا العربية
بصفة عامة، والمصرية بصفة خاصة — بالتشاؤم عند خلجة العين اليسرى،
١٦ وهذا كان إحساس قيس بعدما قابل «بشر» وعلم — بعد ذلك — بموت «ليلى»،
فنجده يقول لبشر:
… … … …
أنا يا بشر بالفجيعة شاعر
خُلِجت قبل نلتقي عيني اليسرى
وأحمد شوقي كشاعر أعجبه ذلك الاعتقاد القديم في البيئة العربية، وهو أن لكل شاعر
شيطانًا يوحي له بالشعر والإلهام، فأدخل منظرًا كاملًا في الفصل الرابع ليصوِّر فيه
ذلك الاعتقاد من خلال هذا الحوار بين قيس وبين شيطانه «الأموي»:
قيس
:
أرى سارق أشعارٍ
جريئًا ما له ثانِ
فقد يُسطَى على بيتٍ
وقد يُسرَق بيتان
ولا ينتحل الإنسان
أبياتًا لإنسان
وما أنشدت من شعرٍ
فمن صنعي وإحساني
ولم أهتف به بعد
ولم تسمعه أذنان
فما أنت ومن أين
أتتْ أُذنيك ألحاني؟
الأموي
:
أنا الملقي عليك الشعـ
ـر من آنٍ إلى آن
قيس
:
(ثمَّ يناجي نفسه):
أجل، سمعت باسم شيـ
ـطاني ولكن لم أره
أبي وأمي حدَّثا
ني في الليالي خبره
(يعود إلى خطاب الأموي متردِّدًا.)
قيس
:
ما أنت إلا صورةٌ
في عصبي مصوَّرة
وعبثٌ لو كان عقـ
ـلي حاضرًا لأنكره
قيس
(وهو ينكت على الأرض بعودٍ)
:
ويحي أقيس واحدٌ
أم نحن قيسان هنا؟
وأيُّنا الشاعر؛ هـ
ـذا الأمويٌّ أم أنا؟
أم الذي بي وبه
من عبث السحر بنا؟
ويقول مصطفى صادق الرافعي عن «شعر الجن وأخبارها»:
فللأعراب شعر كثير يزعمونه للجن، ويعقدون له الأخبار، وقد تناقله عنهم
الرواة وتظرفوا به في الأحاديث، وأمثلته كثيرة. وكان أبو إسحاق المتكلم —
من أصحاب الجاحظ — يقول في الذي تذكر الأعراب من عزيف الجان وتغوُّل
الغيلان: أصل هذا الأمر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم
الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في الفلاة والخلاء والبعد عن الإنس استوحش،
ولا سيَّما مع قلة الاشتغال … والوحدة لا تقطع أيامهم إلا بالمُنى
وبالتفكير. والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة … [أمَّا عن] أسماء شياطين
الشعراء … قالوا: إن لافظ بن لاحظ هو صاحب امرئ القيس، وهبيد صاحب عبيد بن
الأبرص …
١٩
وإذا كان البحث قد أطال في سرد ووصف بعض العادات والتقاليد العربية كما جاءت في
المسرحية، فإن هذه الإطالة مرجعها الدخول في أهم عادة عربية عُرِفت عند العرب بصفة
عامة، وعند الشعراء بصفة خاصة، وهي عادة «التشبيب»التي تمثل الصراع في المسرحية.
وهذه العادة تحدَّثت عنها كُتب الأدب في مواضع عديدة.
٢٠
وتتلخص في أنه لا ينبغي للمحب «الشاعر» أن يذيع أمر حبه واسم محبوبته في أشعاره؛
لأن هذا البوح يُلحق العار بالمحبوبة وبأهلها وبقبيلتها؛ لذلك يحقُّ عليه أن يُحرم
من محبوبته إلى الأبد، بل ويُهدر دمه من قبل الخليفة. ولنتتبع الآن هذه القضية
بشيءٍ من التفصيل كما جاءت في المسرحية؛ ففي الفصل الأول يأتي هذا الحوار:
ليلى
:
وكيف ظللت اليوم سعد؟ أهازلٌ
كتِربك أم في صالح ورشاد!
سعد
:
بل الجدُّ يا ليل سبيلي وديدني
حياتي بوادٍ والمجُونُ بوادٍ
صحبت زيادًا طول يومي تلقفا
لأشعار قيسٍ من لسان زياد
وإن زيادًا — منذ كان — لرائحٌ
علينا بشعر العامريِّ وغاد
ولولا زياد ما تمثَّل حاضرٌ
بأشعار قيس أو ترنَّم باد
(يبدو على ليلى شيء من الزهو، فتتهامس الفتيات.)
سلمى
:
انظري هند تري ليـ
ـلى اكتستْ زهوًا وكِبرًا
وتعالت كابنة النعـ
ـمان أو كابنة كسرى!
هند
:
لِمَ لا سلمى، ألم
يرفع لها المجنون ذكرًا؟
٢١
وإلى هنا لا نرى بأسًا من قضية التشبيب، بدليل شعور ليلى بالزهو والافتخار عندما
سمعت — من سعد — بانتشار أشعار قيس فيها، وكذلك قول سلمى وهند، وكان أحمد شوقي أتى
بهذا الحوار تمهيدًا وإرهاصًا للدخول في صراع المسرحية، وعلى الرغم من أن هذا
الحوار يعتبر متناقضًا أمام الأحداث المقبلة عليه، إلا أن له نصيبًا كبيرًا من
الحقيقة التراثية والتاريخية عند شعراء آخرين غير قيس بن الملوح، يقول في ذلك د.
علي البطل: «لم يكن العرب يأنفون من التشبيب المتَّزن ببناتهم على هذه الصورة
الانفعالية التي تصورها القصص … بل ربما كان الأمر على العكس من ذلك؛ إذ كانوا يرون
تشبيب الشعراء مدعاة لاشتهار بناتهم. وقصة الأعشى مع المحلق مشهورة في ذلك، وأكثر
منها شهرةً موقف معاوية حين سمع تشبيب عبد الرحمن بن حسان بابنته، وكذلك تشبيب عمر
بن أبي ربيعة بسكينة بنت الحسين.»
٢٢
وفي الفصل الثاني يبدأ أحمد شوقي بالدخول في بداية الصراع، المتمثل في التشبيب،
من خلال تغني صغار الحي به:
الطائفة الأولى
:
قيسُ عصفور البوادي
وهزارُ الربوات
طِرت من وادٍ لوادي
وغمرت الفلوات
إيه يا شاعر نجدٍ
ونَجِيَّ الظَّبيات
أضْمِرِ الحبَّ وأبْدِ
لأعفِّ الفتيات
الطائفة الثانية
:
قيس كشَّفتَ العذارى
وانتهكتَ الحرمات
ودمغت الحيَّ عارًا
في السنين الغابرات
قد ذكرت الغيل دعوى
واصطنعت الخلوات
وفي الفصل الثالث يتصاعد الصراع أكثر، عندما يتدخل «منازل» غريم قيس في حبِّ ليلى
متمسِّكًا بالتقاليد البدوية — ظاهريًّا
٢٤ — أمام جموع الحيِّ؛ حتى يبعد قيسًا عن طريقه، فيقول:
رُبَّ شعرٍ قال في ليلى، به
هتف البدو وضجَّ الحاضرون
إنني أخشى عليكم عاره
رُبَّ عارٍ ليس تمحوه السنون
ضجرت ليلى وضجَّت أمُّها
وأبوها وتأذَّى الأقربون
وغدا كلُّ فتى من عامرٍ
حين يلقي الناس محنيَّ الجبين
٢٥
وفي المنظر الأول من الفصل الرابع، نجد قيسًا يُبدي الندم على تشبيبه بليلى،
ويُظهر ذلك الندم للأموي — شيطان شعره — فيقول:
اذهب وإن لم أدرِ رُو
حٌ أنت أم أنت شبحْ
اذهب فلست صالحًا
وأيُّ شيطان صلُحْ؟
كنت قرين السوء لي
وكنت شرَّ من نصحْ
لولاك ما بُحت بما
خدَّش ليلى وجرحْ
ويؤكد الأموي أن التشبيب منافٍ للتقاليد العربية في ذلك الوقت، ويأتي هذا التأكيد
من خلال قوله لقيس:
قُم اهتف بليلى وشبِّب بها
وخلِّ التقاليد وانسَ الحُرَم
٢٧
ويرى البحث ضرورة التعرض لرأي المعنيين بهذا التشبيب والمتأثِّرين به؛ وهما: ليلى
وأبوها «المهدي»؛ ففي الفصل الأول يذهب قيس إلى ديار ليلى طلبًا للنار؛ لخلو دياره
منها. وفي هذا المشهد يتناجى الحبيبان، ومن فرط العشق تحترق راحتا قيس دون أن يشعر،
فيسقط فاقدًا الوعيَ، فتستغيث ليلى بأبيها:
ليلى
:
أبي ها أنت ذا جئت
أغثنا أبتي أدركْ
لقد حُرِّق بالنارِ
فما يصحو إذا حُرِّك
ليلى
:
أبي انْفِ النَّاس من فِكْرك
هنا لا تقع العينُ
على غيري ولا غيرك
ومن هنا يبدأ الصراع بين الظهور بين العاطفة والتقاليد، أو بين الحقيقة والواقع؛
فالحقيقة تتمثل في حب قيس لليلى، وحب ليلى لقيس. والواقع يتمثل في التقاليد؛ أي
استحالة إتمام هذا الحب بالزواج بسبب التشبيب؛ تبعًا للتقاليد العربية. ومن الواضح
— في الحوار السابق — أن ليلى تفضِّل الحقيقة على الواقع، بعكس أبيها الذي يفضِّل
الواقع على الحقيقة؛ أي التمسُّك بالتقاليد التي تبعده حتى عن العطف والشفقة — وهما
من المشاعر الإنسانية الفطرية المحطِّمة لأي تقاليد. ولعل أحمد شوقي جاء بهذا
المشهد كي يُطلعنا على الشعور الحقيقي والداخلي لليلى، وهو شعور غير معروف عند أهل
الحي، بدليل قول أحدهم واصفًا ليلى:
أراها وإن لم تخطَّ الشباب
عجوزًا على الرأي لا تُغلب
تصون القديم وترعى الرميم
وتُعطي التقاليد ما توجب
وبالجاهلية إعجابها
إذا قل بالسلف المعجب
ومن سُنَّة البيد نفض الأكفِّ
من العاشقين إذا شبَّبوا
٢٩
ومن الواضح أن أحمد شوقي جاء بهذا الوصف لليلى كي يكون تمهيدًا لموقفها في
الاختيار بين قيس و«ورد الثقفي» عند الزواج من أحدهما. وهذا الاختيار هو قمة الصراع
في المسرحية. ويبدأ هذا الاختيار عندما يذهب ابن عوف
٣٠ — أمير الصدقات في الحجاز، وعامل من عمَّال بني أمية — إلى ديار المهدي
والد ليلى؛ كي يخطبها لقيس. وأمام شفاعة ابن عوف لقيس يشعر المهدي بالحرج؛ لذلك
يترك الأمر لليلى كي تختار:
المهدي
:
هو الحُكم يا ليلُ ما تحكمين
خُذي في الخطاب وفي فصله
ليلى
:
… … … إنه
مُنى القلب أو منتهى شُغله
ولكن أترضى حجابي يذالُ
وتمشي الظنون على سدله؟
ويمشي أبي فيغضُّ الجبين
وينظر في الأرض من ذلِّه
يداري لأجلي فضول الشيوخ
ويقتلني الغمُّ من أجله
يمينًا لقيت الأمرَّين من
حماقة قيس ومن جهله
فُضحت به في شِعاب الحجاز
وفي حَزن نجدٍ وفي سهله
فخذ قيس يا سيدي في حماك
وألق الأمان على رحله
ولا يفتكر ساعة بالزواج
ولو كان مروان من رُسلِه
٣١
وكما كان التسرع من قبل ليلى في رفض «قيس» كان تسرُّعها — أيضًا وفي نفس الموقف —
في قبول «ورد». وبعد محاولة يائسة من ابن عوف كي يثنيها عمَّا عزمت عليه، تقول
له:
أنظِّف ثوبي يا أميرُ فطالما
ظهرت به في الحيِّ غير نظيف
٣٢
هذا هو موقف ليلى الظاهر أمام الناس من تشبيب قيس بها، لكن ما هو موقفها تجاه
نفسها؟ هل هو نفس الموقف أمام الناس من حيث التمسك بالتقاليد أم لا؟ والإجابة تكمن
في قولها لنفسها — بعد أن اختَلتْ بها:
ربَّاهُ ماذا قلت! ماذا كان من
شأن الأمير الأريحي وشاني؟
في موقفٍ كان ابن عوف مُحسنًا
فيه وكنت قليلة الإحسانِ
فزعمت قيسًا نالني بمساءةٍ
ورمى حجابي أو أزال صياني
والنفس تعلم أن قيسًا قد بنى
مجْدِي، وقيسٌ للمكارم بان
لولا قصائده التي نوَّهن بي
في البيد ما علم الزمان مكاني
نجدٌ غدًا يُطوى ويفني أهله
وقصيد قيسٍ فيَّ ليس بفان
مالي غضبت فضاع أمري من يدي
والأمر يخرج من يد الغضبان
قالوا: انظري ما تحكمين فليتني
أبصرت رشدي أو ملكت عناني
ما زلت أهذي بالوساوس ساعة
حتى قتلت اثنين بالهذيان
وكأنني مأمورةٌ وكأنما
قد كان شيطانٌ يقود لساني
قدَّرت أشياء وقُدِّر غيرها
حظٌّ يخُطُّ مصاير الإنسان
٣٣
وإلى هنا يتضح الصراع في المسرحية، والمتمثل في أمرين؛ أولهما: قضية التشبيب في
التقاليد العربية، والآخر: الصراع الداخلي عند ليلى، المتمثل في لحظة الاختيار
والندم على هذا الاختيار. والبحث يرى ضرورة التحدث عن هذا الصراع بشيءٍ من
التفصيل:
(١-١) قضية التشبيب في التقاليد العربية
لقد وقف بعض النقَّاد أمام هذه القضية في المسرحية بين مؤيِّدٍ لوجودها
التاريخي في التقاليد العربية، وبين رافضٍ لها. ومن المؤيِّدين لوجودها — على
سبيل المثال — الدكتور عبد القادر القط، الذي تحدَّث عن الشاعر المحب الذي
حُرِم من محبوبته بسبب التشبيب قائلًا:
ولم يكن الشاعر ليعترف بمثل تلك القيود الاجتماعية الصارمة، فهو ليس
عاشقًا فحسب، ولكنه شاعر في المقام الأول يستمدُّ من حبِّه وحي موهبته،
ثمَّ من حرمانه وقودًا متجدِّدًا لها، وهكذا تقوم بينه وبين المجتمع
خصومة تدور على المواجهة والتحدي، يستعين المجتمع فيها بالسلطان،
ويحتمي فيها المحب بالشعر بما يرى أهل صاحبته أنه قد جلب العار عليهم.
٣٤
ومن الرافضين — على سبيل المثال — الدكتور طه حسين عندما تحدث عن التشبيب قائلًا:
ويقول الرواة لنا: إن هذه خصلة من خصال العرب، ولست أدري أحقُّ هذا!
ولكني أرجِّح أن هذا مذهب اخترعته الرواة ليخلقوا منه أشخاص القصص
الغرامية التي كانوا يضعونها لتلهية الجمهور وتسليته.
٣٥
كما يؤكِّد أستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الرحمن ما قاله الدكتور طه حسين
بشيءٍ من التفصيل قائلًا: «لم نسمع فيما وصل إلينا من أخبار العرب في الجاهلية
والإسلام أن تشبيب الشاعر بامرأة كان يحول بينه وبين زواجها، ولا نكاد نصادف
مثل هذا التقليد إلا فيما يتصل بأخبار العشاق المجانين، من أمثال قيس وعروة بن
حزام وغيرهما من الذين ينتسب وجودهم التاريخي إلى هذه الفترة المبكِّرة من
تاريخ الإسلام والمسلمين.»
٣٦ ولكن البحث يخالف هذا الرأي؛ لأن العرب قد بالغوا في التحرُّج من
التشبيب بنسائهن، فأخرجوهن عن أرضهم، وأبعدوهن آلاف الأميال. ولم يكن عدم زواج
الشاعر ممن شبب بها هو العقاب الوحيد. ومن ذلك ما رواه الأصفهاني عن الشاعر ابن
ميادة قائلًا: «كان الرمَّاح بن أبرد، المعروف بابن ميَّادة، ينسبُ بأم جحدر
بنت حسان المريَّة؛ إحدى نساء بني جذيمة، فحلف أبوها ليخرجنَّها إلى رجل من غير
عشيرته ولا يزوجها بنجد، فقدم عليه رجل من الشام فزوَّجه إيَّاها.»
٣٧ والبحث يقف مع من أيَّدوا وجود التشبيب في التقاليد العربية،
باعتبار البحث مع النص التراثي كما جاء في كتاب «الأغاني»؛ لأن به من دلائل
التشبيب الكثير.
(١-٢) الصراع بين العاطفة والتقاليد عند ليلى
لقد لاقت شخصية «ليلى» هجومًا عنيفًا من قبل بعض النقَّاد، مثل الدكتور محمد
مندور، الذي وصف عنصر الدراما في المسرحية بالضعف، وبخاصة في موقفها الأساسي،
قائلًا: «وهو الصراع الذي كنَّا نتوقع من المؤلف أن يركِّز عليه اهتمامه، وهو
الصراع الداخلي الذي كان من الطبيعي أن يثور في نفس ليلى بين حبِّها لقيس،
وخضوعها لتقاليد العرب التي تأبى على الفتاة أن تتزوج بمن تغزَّل بها في شعره،
وفضحها بحبِّه لها؛ ففي سهولة عجيبة يفوض المهدي والد ليلى لها الأمر لتختار
زوجها، وفي سهولة عجيبة تختار ليلى وردًا الثقفي وتفضِّله على قيس، وكل ما
نلمسه منها هو مجرد الندم على هذا الاختيار.»
٣٨ والبحث يخالف هذا الرأي؛ لأن ما يسميه الناقد ضعفًا في عنصر
الدراما يراه البحث قمة القوة في عنصر الدراما والصراع. والدليل على ذلك أن
أحمد شوقي قد وُفِّق في تصوير الصراع النفسي عند ليلى، سواء قبل زواجها من ورد
الثقفي في مشهد طلب النار،
٣٩ أو بعد الزواج منه، عندما قابلها قيس.
٤٠ لقد صارعت ليلى تقاليد بيئتها صراعًا نفسيًّا شديدًا حتى وضعها
والدها في موقف الاختيار، فأُصيبت بحالة من فقدان الوعي، فرفضت الزواج من قيس
وقبلت الزواج من ورد. واستمرَّ هذا الصراع النفسي عندها، فنجدها تأبى تسليم
جسدها لزوجها ورد، ثم يستمر هذا الصراع بين التقاليد بيئتها وبين حبها لقيس؛
فهي تخلص لزوجها، ولكنها لا تسلم له جسدها، بينما تسلِّم قلبها لقيس وترفض أن
تخضع لنزواته؛ حِفاظًا على كرامتها، وعلى عِرض زوجها، وهكذا تظل في معاناة
دائمة، وفي صراع نفسي مستمر بين التقاليد العربية في بيئتها، وبين حبِّها لقيس
حتى تموت.
ومن الواضح أن الصراع ضدَّ التقاليد في البيئة العربية عند «ليلى» قد مهَّد
له أحمد شوقي، بحيث يتقبله القارئ بصورة مقنعة. وهذا التمهيد تمثَّل في وجود
بعض العادات والتقاليد العربية — كما مرَّ بنا — مثل اجتماع الفتيان بالفتيات،
وتخدُّر القدم وذِكْر اسم الحبيب، وارتداء الملابس بصورة مقلوبة، والتصفيق
أثناء السير، وخلجة العين اليسرى والشعور بالتشاؤم. وهذه العادات جميعها عادات
عربية تراثية، ومنها المستمر إلى الآن في مجتمعاتنا العربية. ومما يُحسب لأحمد
شوقي أن هذه العادات أو هذه التقاليد لم تُذكر مطلقًا في قصة المجنون عند
الأصفهاني، ولكنه أتى بها من مخزونه التراثي والثقافي كي يعضِّد بها تقليد
التشبيب؛ وهو صُلب الصراع في المسرحية. ومن خلال ذلك، يتضح لنا أثر التراث
الشعبي عند شوقي، ومدى تأثُّر شوقي به، ومدى توظيفه له في هذه المسرحية.
وبخلاف ما سبق، نجد أن أثر التراث عند أحمد شوقي في المسرحية تمثَّل بصورة
أكبر في الشخصيات؛ لذلك سيقتصر البحث على الحديث عن شخصيات «ليلى» و«قيس»
و«المهدي»، من خلال الأصول التراثية كما جاءت في كتاب «الأغاني» للأصفهاني،
وأيضًا من خلال صورتهم في المسرحية.
أولًا: شخصية ليلى
لقد صوَّر أحمد شوقي شخصية ليلى بصورة أقوى وأفضل مما جاءت عند الأصفهاني
في «الأغاني»؛ فهي عند شوقي لها من الجرأة الكثير، بدليل خروجها في الفصل
الأول من خيام أبيها ويدها في يد الشاعر ابن ذريح، كما مرَّ بنا، كما أن
لها دراية كبيرة بأمور السياسة رغم أنها تقطن البادية.
٤١ هذا بالإضافة إلى اللباقة في إدارة الحديث، والمقارنة بين
العاطفة والتقاليد عند حديثها مع ابن عوف،
٤٢ وأيضًا تفضيلها للشفقة والعطف على القسوة والتقاليد بالنسبة
لقيس، عند حديثها مع أبيها في مشهد طلب النار، كما مرَّ بنا. ومن الجدير
بالذكر أن هذه المواقف كلها لا وجود لها في الأصل التراثي عند الأصفهاني،
ولكن أحمد شوقي أتى بها كي يُضفي على شخصية ليلى بعض الصفات الإيجابية التي
تخدم صراعها ضدَّ التقاليد.
أمَّا موقف الاختيار عند ليلى عندما رفضت قيسًا زوجًا لها وقبلت وردًا،
ثمَّ ندمها على هذا الاختيار بعد ذلك، فلا وجود له أيضًا في الأصل التراثي
عند الأصفهاني، الذي قال عن هذا الموقف: «لما شُهِرَ أمر المجنون وليلى،
وتناشد الناس الشعر الذي عمله فيها، خطبها وبذل لها خمسين ناقةً حمراء وردُ
بن محمد العُقَيلي، وبذل لها عشرًا من الإبل وراعيها، فقال أهلوها: نحن
مُخيِّروها بينكما، فمن اختارت تزوجته، فدخلوا إليها وقالوا: لئن لم تختاري
وردًا لنمثِّلنَّ بك.»
٤٣ وفي موضع آخر يقول الأصفهاني: «وقيل: لما اختلط عقل المجنون
وترك الطعام والشراب، مضتْ أمه إلى ليلى فقالت لها: إن قيسًا قد ذهب حُبكِ
بعقله، وترك المطعم والمشرب، فلو جِئْتِه وقتًا لرجوت أن يثوب إليه بعض
عقله، فقالت ليلى: أمَّا نهارًا فلا؛ لأني لا آمن قومي على نفسي، ولكن ليلًا.»
٤٤
ومما سبق نجد أن أحمد شوقي قد أخذ شخصية ليلى من التراث القديم — من كتاب
«الأغاني» — وخلقها بصورة فنية إيجابية. هذا بالإضافة إلى بعض الأحداث
والمواقف التي جعلها تعضِّد هذه الإيجابية، مثل موقف أهل الحي ورأيهم في
ليلى من حيث تمسكها بالتقاليد أمام حبِّ قيس لها، كما مرَّ بنا. وهذا
الموقف — أيضًا — لا أصل له عند الأصفهاني. ومن الأدلة على ذلك وجود قصة في
«الأغاني» تثبت سلبية ليلى وضعفها أمام العاطفة نحو قيس، وذلك عندما
حدَّثها رجل من بني مرة عن أحوال قيس ومحبوبته ليلى دون أن يعلم أنها ليلى.
ومما جاء في حوارهما هذا الجزء:
قالت: هل سمعت بذكر فتًى منهم يُقال له قيس بن الملوَّح،
ويُلقَّب بالمجنون؟ قلت: بلى والله، وعلى أبيه نزلت، وأتيته فنظرت
إليه يهيم في تلك الفيافي، ويكون مع الوحش ولا يعقل ولا يفهم، إلا
أن تُذكر له امرأةٌ يُقال لها ليلى، فيبكي وينشد أشعارًا فيها.
قال: فرفعت الستر بيني وبينها فإذا فلقةُ قمر لم تر عيني مثلها،
فبكت حتى ظننت والله أن قلبها قد انصدع، فقلت: أيتها المرأة!
اتَّقِ الله! فما قلت بأسًا، فمكثت طويلًا على تلك الحال من البكاء
والنحيب حتى سقطت مغشيًّا عليها، فقلت لها: من أنت يا أمة الله؟
وما قصتك؟ قالت: أنا ليلى صاحبته المشئومة … فما رأيت مثل وَجْدها
وحزنها عليه قط.
٤٥
وهذا الموقف غير موجود عند أحمد شوقي في المسرحية، وهذا يثبت أن أحمد
شوقي أراد أن يُبعِد أي موقف يصوِّر ليلى بالضعف أو السلبية في صراعها. هذا
بخلاف المنظر الثاني من الفصل الرابع، عندما يطلب قيس من ليلى بعد زواجها
من ورد أن تهرب معه، ولكنها ترفض ذلك بسبب تمسكها بالتقاليد، وأيضًا من أجل
كرامة زوجها.
٤٦ ونرى أن أحمد شوقي أتى بهذا المنظر في المسرحية كي يصوِّر لنا
عفَّة المحبين وطهارتهم أمام مغريات الحياة، وكذلك كي يثبت لنا قوة
التقاليد أمام العاطفة. ومن الجدير بالذكر أن أحمد شوقي لاقى هجومًا عنيفًا
من قبل بعض النقَّاد بسبب هذا المنظر؛
٤٧ لأنه كان يجمع بين قيس وليلى بعد زواجها من ورد، بل إن وردًا
هو الذي سمح لليلى بأن تلتقي مع قيس ثمَّ انصرف. ومن هنا قال النقَّاد عن
هذا المنظر بأنه منافٍ للتقاليد العربية. والقارئ لهذا النقد وللوهلة
الأولى يوافق عليه، ولكن البحث يخالف هذا النقد؛ لأن لكل من قيس وورد
لواعجه النفسية، والتي لا يستطيع أن يُبرزها إلا أمام نفسه؛ فالحبيب مجروح
لا يستطيع أن يقترب من محبوبته بسبب زواجها، والزوج مجروح لأنه لا يستطيع
أن يقترب من زوجته بسبب حبِّها لقيس.
وإذا كان موقف الحبيب مقبولًا، فموقف
الزوج مرفوض. ولكن البحث يقبل هذا الموقف من الزوج لسببين؛ أولهما: أن أحمد
شوقي صوَّر الزوج في حواره مع قيس، وكذلك مع ليلى عن قيس بأنه شخصية
إنسانية متفهمة متحضرة تلتمس العذر للمحبِّين،
٤٨ هذا بالإضافة إلى أن وردًا «الزوج» قد تزوَّج ليلى وهو يعلم
تمامًا مقدار حبها لقيس، بل إن زواجه من ليلى كان بسبب صورتها في أشعار قيس
التي كان يحفظها ويردِّدها؛ ومن هنا انشغل قلبه بها؛
٤٩ لذلك كان ورد الإنسان الوحيد الذي يعلم مدى الحب الرابط بين
قيس وليلى. والسبب الآخر يتمثَّل في سماح ورد بأن تلتقي ليلى بقيس مخالفًا
بذلك التقاليد العربية. والبحث يرى أن هذا التصرف من قبل ورد كان من أجل
ليلى لا من أجل قيس. هذا مع الأخذ في الاعتبار صورة ورد الإنسانية؛ لأن
ليلى بعد زواجها من ورد ساءتْ صحتها، وأصبحت في حالة احتضار؛ لذلك نجد
الزوج يستغل وجود قيس في الحي ثمَّ ينادي على ليلى لتلقاه؛ علَّها تقوى على
الحياة، محطِّمًا بذلك التقاليد العربية في سبيل حياة زوجته. وبذلك يكون
أحمد شوقي قد خلق الموقف التراثي خلقًا جديدًا بتفسير جديد. هذا بالإضافة
إلى رؤيته المعاصرة للعلاقة بين الثالوث الاجتماعي «الزوج، الزوجة،
الحبيب». تلك الرؤية المختلفة عما تصوِّره النقَّاد. والدليل على ذلك ما
جاء عند الأصفهاني واصفًا لهذا الموقف قائلًا: «وقيل: مرَّ المجنون ذات يوم
بزوج ليلى وهو جالس يصطلي في يوم شاتٍ … فوقف عليه ثمَّ أنشأ يقول:
بربِّك هل ضممت إليك ليلى
قُبيل الصبح أو قبَّلت فاها؟
وهل رفَّت عليك قرون ليلى
رفيف الأقحوانة في نداها؟
فقال: اللهم إذا حلَّفتني فنعم، قال: فقبض المجنون بكِلتا يديه قبضتين من
الجمر، فما فارقهما حتى سقط مُغشيًّا عليه، وسقط الجمر مع لحم راحتيه، فقام
زوج ليلى مغمومًا بفعله، مُتعجَّبًا منه.»
٥٠ وقد أخذ أحمد شوقي هذا الموقف التراثي وقام بتوظيفه بصورة فنية
حديثة، وبتفسير جديد، كما أوضحنا؛ فهل بعد ذلك يصرُّ النقَّاد في هجومهم
على هذا الموقف؟
ثانيًا: شخصية قيس
إذا كانت شخصية «ليلى» عند أحمد شوقي تمثِّل إيجابية التقاليد والتمسك
بها أمام العاطفة، فإن شخصية «قيس» تمثِّل سلبية العاطفة أمام التقاليد،
وذلك بالمقارنة بين دوريهما في المسرحية، وبين دوريهما في الأصل التراثي
عند الأصفهاني. ومن خلال هذه المقارنة، نجد أن مشهد طلب قيس للنار من ديار
ليلى موجود عند الأصفهاني، ولكن ليس بصورته كما جاء في المسرحية؛
فالأصفهاني يصف هذا المشهد على لسان قيس قائلًا: «وأتيتهم ليلةً ثانيةً
أطلب نارًا وأنا مُتلفِّع ببُردٍ لي، فأخرجتْ لي نارًا في عُطبةٍ
فأعطتنيها، ووقفنا نتحدث، فلما احترقت العطبة خرقت من بُردي خِرقةٌ، وجعلت
النار فيها، وكلما احترقت خرقت أخرى وأذكيت بها النار حتى لم يبق عليَّ من
البرد إلا ما وارى عورتي وما أعقل ما أصنع.»
٥١ ولقد أخذ أحمد شوقي هذا الموقف كي يُعضِّد به الصراع عند ليلى،
كما أوضح البحث سابقًا. ومن الملاحظ أيضًا أن أحمد شوقي قد أنكر على قيس كل
إيجابية ممكنة، حتى ولو كانت موجودة حقًّا في الأصل التراثي عند الأصفهاني،
فعلى سبيل المثال: نجد أن مشهد المنازلة بين «منازل» — غريم قيس في حبِّ
ليلى — وبين «زياد» — راوية قيس وصديقه — الذي ظهر بصورة إيجابية وشجاعة في
إدارة الحديث، والنيل من غريمه في المسرحية،
٥٢ كان أصلًا بين قيس وبين منازل عند الأصفهاني.
٥٣ ولكن أحمد شوقي أنكر هذا الموقف الإيجابي والبطولي لقيس حتى
يصوِّره بالسلبية طوال المسرحية.
وبسبب هذا السلبية لاقت شخصية «قيس» نقدًا
شديدًا من قبل بعض النقَّاد.
٥٤ ولعل مخالفة هذا النقد ممكنة من حيث النظر إلى شخصية قيس
وسلبيته؛ لأن أحمد شوقي أراد أن يخلق تباينًا بين الشخصيات في المسرحية،
فإذا كانت ليلى تمثل إيجابية التقاليد أمام العاطفة، فإن قيسًا يمثِّل
سلبية العاطفة أمام التقاليد. وبذلك يقوى الصراع في المسرحية؛ فأحمد شوقي
تعمَّد إحداث هذا التباين بين شخصيتي «ليلى» و«قيس»، ولم يأتِ منه بصورة
عفوية كما ظنَّ النقاد. والأدلة على ذلك كثيرة، سواء ما توافقت مع القصة
التراثية عند الأصفهاني؛ كموقف حج قيس إلى مكة والدعاء لله بأن يزيده حبًّا
في ليلى،
٥٥ أو اختلفت مع القصة التراثية؛ مثل انقسام أهل الحي في أمر حبِّ
قيس لليلى بين مؤيِّدٍ لموقفه وبين رافضٍ له
٥٦ وكذلك مشهد الجن الذي أتى به شوقي كي يثبت سلبية قيس أمام
التقاليد والاستمرار في التشبيب،
٥٧ وأيضًا مشهد انفراد قيس بليلى بعد زواجها من ورد، فقد أتى به
شوقي كي يثبت إيجابية ليلى أمام تقاليد بيئتها، بعكس سلبية قيس أمام هذه
التقاليد، عندما طلب منها الهروب معه، كما مر بنا. وأخيرًا مخالفة شوقي
للأصفهاني عندما جعل موت ليلى قبل موت قيس، رغم أن العكس كان عند
الأصفهاني. وهذه المخالفة جاءت لتقوية الصراع في المسرحية؛ فموت ليلى كان
بسبب تمسكها بالتقاليد. وهذا الموت جعل قيسًا يندم على تشبيبه بها.
٥٨ أمَّا الأصفهاني فجعل موت قيس أولًا، وكان الندم من المهدي
والد ليلى الذي تمنَّى رجوع الزمن مرة أخرى ليزوِّجه من ليلى.
٥٩ ومن هنا نجد أن الأصفهاني هدم التقاليد أمام العاطفة. أمَّا
أحمد شوقي فتمسك بالتقاليد طوال المسرحية ولم يَحِد عنها.
ثالثًا: شخصية المهدي
لقد جعل أحمد شوقي «المهدي» والد ليلى عطوفًا حنونًا على قيس، رغم
تمسُّكه بالتقاليد في بعض الأحيان؛ فمثلًا نجده يشفق على قيس عندما سقط
مغشيًّا عليه، رغم خوفه من أن يراه أحد من أهل الحي،
٦٠ وكذلك تهدئته لأهل الحي عندما جاء ابن عوف وقيس لخطبة ليلى
٦١ وأخيرًا موقفه تجاه ابنته ليلى عند الاختيار بين ورد وبين قيس؛
فقد ترك لها حرية الاختيار دون أن يتدخل.
٦٢ ومن الثابت تراثيًّا أن هذه الشخصية بهذه الصفات لا نجدها عند
الأصفهاني، بل العكس، الذي وصل إلى التهديد بالقتل إذا اختارت غير ورد
زوجًا لها،
٦٣ وكذلك إحباطه لمحاولة شفاعة ابن عوف لقيس من أجل الزواج بليلى،
٦٤ وكذلك وقوفه أمام نفس المحاولة من قبل نوفل بن مساحق.
٦٥ وأمام هذا التناقض بين المسرحية وبين الأصل التراثي، نقول: إن
أحمد شوقي أراد أن يصوِّر شخصية «المهدي» بهذه الصورة كي لا يكون له أي
تأثير على ليلى في صراعها بين التقاليد والعاطفة. أمَّا شخصية «ليلى» عند
الأصفهاني فكانت مضطرة ومغلوبة على أمرها من قِبَل والدها «المهدي».
ومما سبق يتضح لنا مدى تأثُّر أحمد شوقي بقصة «المجنون» التراثية، كما
جاءت في كتاب «الأغاني»، ومدى توظيفه لهذا التراث بصورة فنية جعله يخلق ذلك
الصراع بين التقاليد والعاطفة، رغم فتور هذا الصراع في التراث، وكذلك
خلْقُه لذلك النموذج النسائي الفريد الذي يصل إلى درجة «الرمز»، المتمثِّل
في شخصية «ليلى». واهتمام أحمد شوقي بهذه الشخصية «النسائية» لم يأتِ من
فراغ. هذا إذا وضعنا في الاعتبار تاريخ كتابة المسرحية، وهو عام ١٩٣١، وما
سبق هذا التاريخ من اهتمام كبير في المجتمع المصري بقضية تحرير المرأة،
٦٦ وما كتبه «قاسم أمين» في هذا الشأن من خلال كتابيه: «تحرير
المرأة» و«المرأة الجديدة». واهتمام شوقي بالمرأة وقضاياها الاجتماعية لم
يتوقف على المسرح فقط، بل كان في الشعر أيضًا، عندما قال قصيدته «بين
الحجاب والسفور»، والتي مطلعها: