التوظيف السياسي للتراث الشعبي
أمَّا الأغنية الشعبية، فهي إنتاج المجتمع كله من خلال أفراده المبدعين الذين يعبِّرون عنه، وهي تعكس شعور الجماعة وذوقها أكثر مما تعكس شعور مُغنِّيها وذوقه، وهي تتسم بأنها غير مكتملة الخلق مطلقًا؛ ففي كل لحظة من تاريخها يمكن أن يُعاد خلقها من جديد، وأن تُضاف إليها أشياء، وأن تُحذف منها أشياء، كما أنها لا توجد في شكل واحد فقط، ولكن في عدة أشكال … فالكلمة سواء كانت مدوَّنة أو غير مدوَّنة ما هي إلا انعكاسات الفكر. ومن هنا تصبح القضية هي ما تعبِّر عنه الكلمة، لا كيف تبدو الكلمة … وتتميز الأغنية … بأن عدد الشخصيات فيها محدود للغاية، ولا يظهر في المشهد الواحد أكثر من شخصيتين عادة، كما تتميز بأنها اقتصادية من ناحية التعبير … [كما أنها لا تهتم] بوصف المكان أو الزمان أو الشخصيات.
ومن منطلق الأغنية الشعبية كتب نجيب سرور معظم أعماله المسرحية، ولا سيَّما ثلاثيته: «ياسين وبهية» عام ١٩٦٤، و«آه يا ليل يا قمر» عام ١٩٦٦، و«قولوا لعين الشمس» عام ١٩٧٢. وقد أخذ في «ياسين وبهية» الجوهر العام للموال، ثمَّ تخلَّى عن الإطار المكاني الذي نشأ فيه الموال؛ وهو الصعيد، واستبدل به الإطار الآخر؛ وهو الريف، وعلى وجه التحديد قرية «بهوت»، وهي إحدى قرى مصر؛ حيث دارت فيها أعنف المعارك قبل ثورة ١٩٥٢، وأصبحت هذه القرية رمزًا للصراع ضدَّ الطبقية في مصر. بذلك استطاع «نجيب سرور» أن يحقق التلاؤم بين الأصل الشعبي للأغنية وبين قضايا العصر، فنجد المسرحية تتعرض إلى قضايا الفلاحين، والصراع على الأرض، ومحاربة المستعمر الذي يريد استغلال الأيدي العاملة في المصانع. ومن هنا يعود إلى الأغنية الشعبية من خلال المشكلة الاقتصادية التي اجتاحت البلاد، والتي من مساوئها أن عجز «ياسين» عن الزواج من «بهية».
ويقوم نجيب سرور بتقديم بطلي المسرحية، فيقول عن ياسين:
أمَّا بهية:
وهي:
وبعد هذا التقديم، يصوِّر نجيب سرور علاقة الحب التي تربط بين البطلين من خلال المشكلة الاقتصادية التي تمنع الزواج، وهي الحاجة إلى النقود؛ فالزواج كي يتم يحتاج إلى نقود، والنقود في بهوت نادرة الوجود، وليس أمام ياسين وبهية سوى انتظار الفرج:
ومن قلة المال في بهوت وسوء الأحوال الاقتصادية يدخل نجيب سرور إلى قضية الريف المصري قبل الثورة، فالإقطاع متمثِّلًا في الباشا يسلب كل شيء من أهل القرية، يسلب الأرض والمحصول، حتى العرض. وعندما يريد بهية تخدم في قصره يرفض ياسين، ومع هذا الرفض تأتي الشرارة الأولى لثورة الفلاحين على الإقطاع.
وبالفعل تدخل القرية في صراع مرير مع الباشا ورجاله، فقد أتى موسم الحصاد، وجاءت معه رغبة الباشا في الاستيلاء على المحصول، وأيضًا رغبته في سلب شرف بهية، ولكن الفلاحين تعلو أصواتهم بكلمة «لا»، ويُطلق رجال الباشا الرصاص عليهم، وتشتعل المعركة، فيقوم الفلاحون بحرق قصر الباشا، وتتدخل السلطة فيسقط الشهداء، ومنهم ياسين الذي أصبح رمزًا على النضال الوطني. وينتهي بذلك الجزء الأول.
أمَّا عن توظيف التعابير الشعبية في هذا الجزء؛ فهي عديدة، ومنها: «الحلم» الذي استخدمه الكاتب بصورته الشعبية؛ أي جعله يقوم بدور النبوءة:
وبالنظر إلى مفردات الحلم، نجد أن البحر الواسع وعدم وجود برٍّ له دلالة على المتاهة وعدم وضوح الطريق المرسوم لياسين وبهية، وكذلك الشال الأحمر يدل على الدماء والموت، أو الاستشهاد لياسين، والحمامة البيضاء دلالة على صعود الروح، والرياح العاتية دلالة على الثورة، وانقلاب القارب دلالة على انقلاب الحال، وصياح بهية وسط الأمواج دلالة على حزنها في المستقبل على فقد ياسين.
ومن التعابير الشعبية أيضًا في هذا الجزء «الموال»، وقد استخدمه الكاتب ليُبرز من خلاله العيوب الاجتماعية، مثل التفاوت الطبقي بين الفلاحين وبين الإقطاعيين:
وعندما أراد الكاتب أن يبيِّن عن تحكم الإقطاعيين في القانون واستخدامه ضدَّ الفلاحين في سبيل مصالحهم الشخصية قال:
ومن التعابير الشعبية أيضًا «الأغنية»، وقد استخدمها نجيب سرور للتعبير عن المواقف المختلفة، مثل صعوبة إتمام الزواج لمعظم فتيات قرية بهوت بسبب قلة المال، وتحكم الباشا في الحالة الاقتصادية للقرية:
هذا بخلاف الأغاني التي تصف جمال بهية، وكذلك أحلام ياسين بالزفاف. ومن الملاحظ أن هذه الأغاني عمَّقت المعاني الشعبية ذات الجذور العميقة عند القارئ.
ومن الملاحظ أن هذه الأمثال رغم كونها معروفة إلا أننا نشعر بأنها نابعة من قرية بهوت؛ لأنها متأثِّرة بظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فيها. بذلك أصبحت الأمثال تعبيرًا عن واقع القرية وأهلها. ومن الجدير بالذكر أن هذه الأمثال تصطنع الصبر والاستكانة والسلبية واليأس في بعض الحالات. وهذا الشعور هو شعور أي أمة أو قرية تعيش في عهد الاستعمار والإقطاع وما يصاحبه من ظُلْم وقهر.
لقد أراد نجيب سرور أن يسجِّل التاريخ السياسي والاجتماعي في ثلاثيته، فإذا كان قد بدأ بتصوير صراع الفلاح ضدَّ الإقطاع في الجزء الأول «ياسين وبهية»، نجده في الجزء الثاني «آه يا ليل يا قمر» يصوِّر صراع العمال ضدَّ الرأسمالية والاحتلال الإنجليزي في مصر.
ويبدأ الجزء الثاني بعد مرور عدة أعوام على استشهاد ياسين في الجزء الأول، وقد قامت علاقة تعاطف بين بهية وبين «أمين» العطشجي في وابور الطحين، الذي كان صديقًا لياسين في معركته ضدَّ الباشا، وبمرور الوقت يتقدَّم أمين لخطبة بهية، لكن والدها يرفض بسبب وعده لياسين. وهنا تقول له الأم:
وبالفعل يوافق الأب ويتم الزواج، ويأخذ أمين بهية إلى بورسعيد ليعمل في كامب الإنجليز. وبمرور الوقت يُدمن أمينٌ الخمر ويعيش في اللاوعي، بعدما اكتشف أنه لم يترك بهوت، فالإقطاع في بهوت هو نفسه الرأسمالية في بورسعيد، وكما كان الباشا يتحكم في القرية وأهلها، وجد أن الإنجليز يحكمون مصر وشعبها من خلال المأجورين من الرأسمالية في بورسعيد، فيقول لبهية:
وأمام هذا الواقع المرير، يترك أمين الكامب الإنجليزي ويعمل في أحد المصانع، بعد أن انضمَّ إلى صفوف المقاومة الشعبية، ولكن الظلم قد تفشَّى في كل مكان ووصل إلى المصنع، وهنا لا يجد أمين أي مفر من مواجهته. وبالفعل يتمرَّد، ويتمرَّد معه عمَّال المصنع، وتأتي الحكومة وتقتل بعض العمال ومنهم أمين، وإذا كان استشهاد ياسين في الجزء الأول رمزًا على ضحايا الإقطاع في بهوت؛ فأمين أيضًا ضحية الرأسمالية في بورسعيد.
ومن التعابير الشعبية في هذا الجزء «الحلم» أيضًا، فبعد موت أمين يأتي لبهية في المنام شيخ ليقودها في عالم الخيال؛ حيث ترى ياسينًا وأمينًا ورجلًا ثالثًا لا تعرفه:
(بهية تضحك ضحكة مغتصبة باكية.)
ورموز الحلم واضحة حسب معناها الشعبي، فالشيخ يمثل الحكمة، والقمر يمثل الأمل في المستقبل، ولكن الحلم بعد ذلك يأتي برموز أكثر شعبية تدل على فقدان هذا الأمل في المستقبل، فنجد الوردة الحمراء التي يمسك بها ياسين وأمين تدل على الموت الدموي على أيدي الإقطاعيين والرأسماليين، ومن الممكن أن تدلَّ على ثورتهما ضدَّ الإقطاع والرأسمالية. أمَّا ملابس الرجال الثلاثة، فنجد صاحب الرداء الأخضر هو ياسين الفلاح، وصاحب الرداء الأزرق هو أمين العامل، وصاحب الرداء الأبيض هو عطية — بطل الجزء الثالث — الجندي. أمَّا البحر والنار والشوك، فهي رموز على الصعاب التي تواجهها مصر — أو بهية — للوصول إلى القمر أو الأمل.
ومن التعابير الشعبية في هذا الجزء أيضًا «العديد الشعبي» — البكائيات — فحينما يموت والد بهية تنعيه بقولها:
وعندما يموت أمين ورفاقه في المصنع تتمزَّق الأهالي في بكاءٍ شديدٍ، فتقول امرأة:
وتقول أخرى:
والعديد في هذا الجزء وظَّفه الكاتب ليصوِّر حالة فقدان الشعب لرجاله؛ لأن فقدانَ الرجلِ شيءٌ مُهمٌّ في الوجدان الشعبي وفي البيئة العربية. ومن الملاحظ أن أقسى نوع هو فقدان الأب؛ صاحب الدار ومؤسس الأسرة. ودلالة هذا الفقدان تظهر بوضوح في نفسية الابنة عن الابن كما رأينا عند بهية. والعديد هنا قصده الكاتب لإبراز روح الحزن والمأساة في المسرحية.
ومن التعابير الشعبية أيضًا «المثل»، فنجد الكورس يصف أهل الموتى وهم في حالة إعياء شديد ساهرون أمام المصنع، بقوله:
وعن وصف حال الذل والانكسار للفلاحين أمام السلطة الرأسمالية، نجد فلاحًا يقول:
ويبدأ الجزء الثالث من الثلاثية — مسرحية «قولوا لعين الشمس» — بترك بهية بورسعيد لتهاجر إلى السويس، ولتربي ولديها «أمينة وياسين» من أمين، وبمرور الوقت يعرض عليها «عطية» — عامل البناء المشارك في بناء السد العالي — الزواج، ولكنها ترفض. وإذا كان نجيب سرور قد اكتفى ببطل واحد في الجزء الأول؛ وهو ياسين، وكذلك في الجزء الثاني؛ وهو أمين، فإنه يأتي بثلاثة أبطال في الجزء الأخير: أولهما «عطية» الجندي قبل الثورة، وكان في بورسعيد أثناء استشهاد أمين، ثمَّ سافر إلى أسوان للمساعدة في بناء السد العالي حتى أصيب بسبب التفجيرات في الجبل. وبعد الإصابة، تحول إلى الأعمال الكتابية، واكتشف من خلال عمله الكتابي سرقات عديدة تكفي لبناء سد آخر. وهنا طارده أصحاب السرقات، واعتبروه هو اللص، وثانيهما «ياسين» ابن بهية من أمين، الذي تعلَّم ودخل الجندية ليكتشف الفساد فيها. وهنا يتمرَّد كما تمرَّد من قبله «ياسين» في الجزء الأول، ووالده أمين في الجزء الثاني، وثالثهما «حمدي» الفنان الأصيل الحاصل على أعلى الشهادات، ولكنه لا يجد فرصته الحقيقية في الحياة؛ لأنه رفض الابتذال، ورفض أن يعمل جاسوسًا على زملائه الفنانين؛ لذلك يدمن الخمر كما أدمنها قبله أمين — في الجزء الثاني — فيقتل نفسه بالرصاص يوم النكسة، التي جاءت كنتيجة طبيعية لفساد الحياة في مصر، وبذلك تنتهي المسرحية.
أمَّا الأمثال — في هذا الجزء — فكانت تتنوع بتنوع المواقف، فعندما يتقدم عطية لخطبة بهية تقول لها أمها:
ويقول لها عطية:
ويقول له الكورس بعد أن رفضته بهية:
وعن التعبير عن الأزمات تأتي هذه الأمثال:
و:
و:
ومن الملاحظ أن نجيب سرور عن طريق التعابير الشعبية قد وظَّف بعض المفاهيم الشعبية بصورة فنية مقبولة؛ فمثلًا فكرة «القدر» — أو المقدر والمكتوب — فكرة غيبية وخفية، لا يستطيع الإنسان أن يفعل أي شيء أمامها. أمَّا «القدر» في الثلاثية فيتمثَّل في الشر، سواء عند الباشا، رمز الإقطاع في بهوت، أو عند الرأسمالية في بورسعيد، أو عند الفساد المتفشِّي في مصر في الجزء الثالث. وهذا القدر أو الشر من الممكن تغييره عن طريق الثورة على مظاهر الفساد؛ أي إن القدر هنا من الممكن أن يقف أمامه الإنسان ويغيِّره.
وفكرة «الموت» في الثلاثية جاءت بصورة تختلف عن المفهوم الشعبي لها؛ فالموت فيها جاء ليعبِّر عن موت الأفكار لا الأجساد، فنجد موت ياسين — في الجزء الأول — يعبِّر عن موت فكرة الثورة على الإقطاع أكثر من التعبير عن موت جسد ياسين، وكذلك موت أمين — في الجزء الثاني — يعبِّر عن موت فكرة الثورة ضدَّ الرأسمالية أكثر من التعبير عن موت جسد أمين. وأخيرًا نجد أن موت حمدي يعبِّر عن موت فكرة الثورة ضدَّ الفساد في مصر أكثر من التعبير عن موت جسد حمدي.
وفكرة «التناسخ» من الأفكار الشعبية الموظَّفة في الثلاثية أيضًا، فالروح بعد موت صاحبها تظل باقية تحوم وتحيط بأحبابها، وببعض الأماكن المألوفة لديها. ومن الممكن عودة الروح في شكل من أشكال الحيوان أو النبات، ولكن نجيب سرور وظَّف فكرة التناسخ بصورة مختلفة بعض الشيء، فإذا كان الموت عنده هو موت للأفكار لا للأجساد؛ فالتناسخ أيضًا هو عودة الأفكار لأجساد أخرى؛ لذلك نجد أن أمينًا في الجزء الثاني هو تناسخ لأفكار ياسين في الجزء الأول، وكذلك حمدي في الجزء الثالث هو تناسخ لأمين. ومن هنا وجدنا بهية مؤمنة بهذا التناسخ، ومؤمنة أيضًا بعودة ياسين بعد موته في أي شكل من الأشكال؛ لذلك تنتظره كل يوم تحت النخلتين.
وهكذا تمكَّن الكاتب نجيب سرور من الاستفادة من المأثورات والتعابير الشعبية ليوظِّفها في ثلاثيته؛ كي يخلق الجو السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تدور في جنباته أحداث مصر من خلال الثلاثية. بذلك استطاع الكاتب أن يحمل ثلاثيته أفكاره العصرية وآراءه السياسية، من خلال إبراز قضايا الشعب وهمومه من وجه نظر الشعب نفسه، عن طريق التعابير الشعبية التي تمثِّل وجدانه الشعبي؛ فهذه الثلاثية تبدأ بوصف عهد الظلم والاضطهاد أيام الإقطاع، وذلك في الجزء الأول «ياسين وبهية». أمَّا الجزء الثاني فقد عبَّر من خلاله نجيب سرور عن العصر الذي حاولت فيه مصر أن تنهض وتقاوم الاحتلال، من خلال شخصية «أمين» الذي يعتبر امتدادًا لياسين في الجزء الأول. ويختتم المؤلف ثلاثيته ليعبِّر عن قدرة مصر لتعرف طريقها إلى الثورة، من خلال شخصيات: «عطية» الجندي، و«ياسين» بن أمين، و«حمدي» الفنان، وهكذا يمتد زمن الثلاثية كي يعبِّر عن أهم الأحداث التي مرَّت بها مصر.
وتقول بهيجة صدقي رشيد: «شاعت هذه الأغنية — كما تدلُّ كلماتها — أثناء الحرب العالمية سنة ١٩١٤ إلى ١٩١٨، وكانت السلطة العسكرية البريطانية قد جندت آلافًا من العمال المصريين، لا سيَّما الصعايدة، لما اشتهروا به من قوة السواعد والصبر واحتمال العمل تحت أشقِّ الظروف. ولقد قاموا بحفر الخنادق، ومد سكة حديدية عبر الصحراء إلى فلسطين، وغيرها من الأعمال الشاقة؛ لذا تعرَّضوا لقذف القنابل، ومدفعية الألمان والأتراك الذين كانوا متحالفين ضدَّ الإنجليز وحلفائهم. والأغنية تعبِّر أبلغ تعبير عن شعور هؤلاء الرجال في غربتهم عن الوطن.» السابق، هامش ص٦١.