سياسة بونابرت الإسلامية وموقف الفرنسيين من الأقباط
إن الحملة الفرنسية على مصر تهمنا لعدة أسباب، فهي أول محاولة منذ الحروب الصليبية قامت بها دولة غير مسلمة لغزو وادي النيل، وهي أيضًا أول مرة منذ الفتح العربي تحكم مصر دولة مسيحية، كما أنه لأول مرة منذ ظهور الإسلام يحاول بعض مسيحيي أوروبا التعاون مع مسلمي مصر.
لذلك تحتل هذه الفترة مكانًا عظيمًا في تاريخ العلاقات بين المسلمين والأقباط؛ إذ كان هذان العنصران أمام مشكلة جديدة، فما كان موقفهما من هذا الفاتح؟
(١) بونابرت، حامي الإسلام
في ٢٨ يونيو عام ١٧٩٨؛ أي: قبل نزول القوات الفرنسية إلى الساحل المصري، وصل الأميرال «نلسون» أمام الإسكندرية، وكان جادًّا في البحث عن أسطول بونابرت فلما لم يجده هناك، أراد أن يحذر المصريين من هجوم فجائي يُشن عليهم، ولكنهم رفضوا الاستماع إليه لعدم ثقتهم بالأجنبي على الإطلاق، وطلبوا إليه أن يغادر مياه الإسكندرية على وجه السرعة.
وكان بونابرت يعلم أن العمارة الفرنسية قد تستقبل استقبالًا عدائيًّا، إذا ما وصلت إلى الساحل المصري، ولكنه كان شديد الثقة بسياسته الجديدة، وكان يعتقد أنها سوف تزيل الحواجز القائمة منذ أجيال بين الشرق المسلم والغرب المسيحي.
وكانت باكورة أعمال بونابرت تصريحه للقوات الفرنسية المتأهبة لغزو مصر، وذلك قبل نزولها إلى البر؛ أي: في أول يوليو: «إن الشعوب التي سوف نعيش معهم يدينون بالإسلام، وأول ما يؤمنون به هو أن «لا إله إلا اله ومحمد رسول الله» فلا تنازعوهم في ذلك، بل عاملوهم كما عاملتم اليهود والإيطاليين، واحترموا رجال الدين كما احترمتم الحاخامات والمطارنة، وأظهروا للمواسم التي أمر بها القرآن والمساجد نفس التسامح الذي أظهرتموه إزاء الأديرة والمعابد وإزاء ديانة موسى والمسيح.».
ولما كانت الثورة الفرنسية قد أبعدت الفرنسيين عن الديانة، فقد اكتفى بونابرت بتوصية رجاله أن يظهروا احترامهم للمسلمين، أما تصريحه الذي وجهه إلى الشعب المصري، فكان أكثر وضوحًا؛ إذ كشف فيه نواياه الحقيقية وعن السياسية التي سوف ينتهجها إزاءهم وقد ظلت هذه السياسة رائدة مدة إقامته بينهم. قال بونابرت في ندائه للمسلمين: «أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجربجية وأعيان البلاد، قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضًا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائمًا يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكواللرية «الفرسان» الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين، ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني، وأعداء أعدائه أدام الله ملكه.».
ولما كان يريد أن يقوم بأكبر دعاية حول موقفه هذا، فقد كتب إلى الجنرال «مارمون» بتاريخ ٢٨ أغسطس ١٧٩٨ يقول: «… قابل من طرفي الشيخ المسيرى وقل له فيما تقوله كيف احتفلنا بمولد النبي، قل له: إني في القاهرة أجتمع برؤساء القضاء وكبار القوم ثلاث أو أربع مرات كل عشرة أيام، وإني أكثر الناس اقتناعًا بصفوة الديانة الإسلامية وقداستها.».
وفي اليوم نفسه، كتب إلى الشيخ المذكور رأسًا يقول له: «… أرجو ألا يتأخر الوقت الذي أستطيع فيه جمع العناصر الحكيمة والمثقفة في البلاد، ووضع نظام ثابت يرتكز على مبادئ القرآن الحقة الوحيدة التي تستطيع إسعاد البشر دون سواها.».
هل كان بونابرت صادقًا في دعواه؟ إن كانت الاعتبارات السياسية هي في رأينا التي أملت عليه موقفه هذا، يجب ألا نستبعد أن الشرق قد أثر فيه تأثيرًا عميقًا، وأنه كان يكن للإسلام عطفًا كبيرًا، فلم يمل من الاجتماع بالعلماء. أما العلماء، فعلى الرغم من أن الفاتح الفرنسي كان يثير ظنونهم، وأنه لم يكن في نظرهم إلا كافرًا، فكانوا يرتاحون لإثارة المناقشات الدينية في حضرته، وكانوا يعجبون إعجابًا شديدًا بعقليته الجبارة مما جعلهم يأملون سرًّا بأنه سينضم إليهم يومًا من الأيام رافعًا لواء الإسلام.
وقع بونابرت في الشباك التي نصبها هو نفسه، ألم يقل ذات يوم لمن حوله بعزمه على ارتداء الملابس الشرقية وربما على اعتناق الديانة الإسلامية؟ ولما كان بونابرت لا يحترف دينًا ولا يعترف بوجود الله، فلم يكن من المنتظر أن يثير اعتناقه الإسلام قلق في نفسه فضلًا عن أن إسلامه قد يخدم مراميه السياسية، ولكن قواده سخفوا الفكرة ثم اعترضوا عليها صريحًا.
وها هو ذا بونابرت يرجئ مؤقتًا تنفيذ رأيه، إلا أنه عاد إلى التفكير فيه جديًّا بعد انهزامه أمام عكا، ولما عاد من سوريا، أذاع على الشعب «أنه يتلقى عدة دروس في القرآن، فأخذ يجيده ويحبه»، وأضاف إلى ذلك «أنه ينوي بناء مسجد كبير ثم اعتناق الإسلام»، وها هو يعود إلى مباحثة العلماء ومناقشتهم ويسألهم ما الشروط المتوفرة عند المسلم الصادق، فهو يطرح أمامهم المشكلة بكل صراحة ويريد أن يجيبوا عليها بدقة، ولما كان يشك في شعور رجال جيشه، كان يسائل نفسه إن كان اعتناق الإسلام وحده سيُحدث الانقلاب الذي يرجوه من الناحية السياسية، ولكن عواقب اعتناق الجنرال عبد الله مينو الديانة الإسلامية لم تشجعه على ذلك.
لقد غرق الأسطول الفرنسي في أبي قير، ولم يبقَ لدى القائد العام إلا بضعة آلاف من الجند، ولما قطع خط المواصلات بينه وبين فرنسا، وفقد كل أمل في وصول النجدات لم يستطع، وحوله شعب يكن له العداء، إلا أن يأمل — وإن كان هذا الأمل بعيدًا — في قدرته على كسب عطف هذا الشعب الذي تدين غالبيته بالإسلام.
ولكن كيف عامل الأقباط والنصارى عامة؟
(٢) بونابرت يضحي بالأقباط ليناصر الإسلام؟
غير أننا لاحظنا عدم اهتمامه لمنح الأقباط دفعة واحدة جميع حرياتها وبخاصة حرية العبادة … ولما طلب الأقباط إليه أن يلغي القيود التي فرضها المماليك على شعائرهم الدينية، أجاب المعلم الجوهري بخطاب مؤرخ ٧ ديسمبر سنة ١٧٩٨م: «استلمت الكتاب الذي أرسلته الأمة القبطية وأنه من دواعي سروري حماية هذه الأمة التي لن تكون من الآن فصاعدًا موضع الاحتقار، وعندما تتيح الظروف، الشيء الذي لا أراه بعيدًا، قد أسمح لها بأن تقيم شعائرها الدينية علانية كما هو الحال في أوروبا؛ حيث يتابع كل إنسان عقيدته.»، ولكنه أضاف إلى ذلك: «سأعاقب بشدة القُرى التي قتل فيها الأقباط في أثناء الثورات التي نشبت، بينما أنك تستطيع من الآن أن تخبر أبناء طائفتك بأني أسمح لهم بأن يحملوا السلاح ويركبوا البغال والخيول ويضعوا العمامات على رءوسهم ويتزيوا بما يشاءون.».
وكذلك صار الأقباط في عهد بونابرت من خيبة أمل إلى خيبة أمل، نعم أنه استعان بهم في جباية الضرائب، كما فعل المماليك من قبله، ولكنه اتخذ هذا الإجراء مرغمًا؛ إذ كان يتكلم عنهم بقسوة شديدة فيقول: «إنهم لصوص مكرهون في البلاد غير أنه يجب مراعاتهم؛ لأنهم يعرفون الأصول العامة لإدارة البلاد دون سواهم».
لذلك عين المعلم جرجس الجوهري مباشرًا عامًّا وخوله السلطة على سائر المباشرين، ولكنه حرص على أن يكون معه موظف فرنسي لمراقبته، ثم لم يزل بونابرت منذ هذه اللحظة يترقب أول فرصة للتخلص من الجوهري، ولما ترك القائد الفرنسي مصر، أرسل إلى الجنرال «كليبر» كتابًا مؤرخًا يوم ٢٢ أغسطس عام ١٧٩٩م يقول له فيه بصراحة: «… كنت مزمعًا، إن سارت الأمور سيرها الطبيعي، أن أضع نظامًا جديدًا للضرائب يجعلنا نستغني تقريبًا عن خدمات الأقباط.».
وأخيرًا، بالرغم من حاجته إلى زيادة عدد جيشه، لم يفكر بونابرت قط في الاستعانة بالأقباط، كما أن الأقباط أنفسهم لم يظهروا حماسًا زائدًا في طلب تجنيدهم، فلم تؤلف الفرقة القبطية — كما سنبينه فيما بعد — إلا في عهد الجنرال «كليبر»، وفي ظروف خارجة تمامًا عن إرادة الأقباط.
وكان بونابرت يأمل من وراء استغنائه عن خدماتهم، مراقبة دخل الضرائب مراقبة فعلية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه كان يرغب خاصة في ترضية المسلمين. وكتب إلى قواده في عدة مناسبات يقول لهم: «مهما فعلتم، تأكدوا من أن النصارى في صفكم، فلا تترددوا إذًا في تفضيل المسلمين على النصارى.» وكرر هذا القول على الجنرال «كليبر» قبل رحيله إلى فرنسا، ولما انتصر على القوات العثمانية في أبي قير وأراد أن يطمئن الأعيان والعلماء عن نياته، صرح علانية: «نعم، أني أكره النصارى لقد سحقت ديانتهم وحطمت هياكلهم وقتلت قساوستهم، وهشمت صلبانهم ونكرت إيمانهم، وعلى الرغم من ذلك فإني أراهم يفرحون لفرحي ويتألمون لألمي فهل من المعقول أن أعتنق من جديد الدين المسيحي؟ وما الفائدة التي سأجنيها من هذا العمل؟».
(٣) موقف المسلمين
لقد أتيح لنا بفضل المستندات الثابتة التي ذكرناها، أن نجزم بأن بونابرت حاول بأقواله وأعماله كسب عطف المسلمين، ولم يذهب طبعًا لإرضائهم إلى حد اضطهاد النصارى، ولكنه لم يبدِ لهؤلاء ما يدل على عطفه عليهم.
ولكن بونابرت لم يوفق في إزالة البغضاء من قلوب المسلمين، بسبب وجوده بينهم، ذلك بالرغم من المظاهر المواتية، فكان يشعر أن الشعب يتحمل حكمه كارهًا، وأنه يترقب الفرصة التي تتاح له للتخلص منه، ولما تحدث الجبرتي عن زيارة القواد الفرنسيين للأعيان بمناسبة الأعياد الإسلامية، أصرح بأن الأعيان كانوا يستقبلونهم بشيء من الترحيب المصطنع.
ويتضح من ذلك أن العلاقات مع المحتل لم تكن طيبة إلا في المظهر، وإذا كان بونابرت قد استمر في إظهار صداقته نحو المسلمين، إلا أنه شعر بفشله في إقناعهم بحسن نياته، وبأن القوة لا بد منها لإقرار النظام؛ إذ كان الشعب ينظر إليه كرجل كافر يقود جيشًا من الكفار وأن قيامه بمصر كان يشجع النصارى على حساب المسلمين غير أنه أمل، حتى آخر لحظة، في قدرته على إزالة عداء الشعب نحوه، وكان إصراره هذا يستحق كل الإعجاب، ولا سيما أن قواده كانوا يكظمون غيظهم من هذه السياسة، ولما آل الحكم إلى الجنرال «كليبر»، لم يتردد هذا القائد في محاباة النصارى ويأذن للجنرال المعلم يعقوب تكوين «الفرقة القبطية».
وقبل أن نتناول الكلام عن هذه الفرقة التي انتقدها بعض المؤرخين الوطنيين، وكانت موضع لاتهامات لا أساس لها من الصحة، يجدر بنا أن نبسط سياسة الأقباط إزاء الفرنسيين.
(٤) موقف الأقباط
هل كان في موقف الأقباط ما يبرر هذه الروح الانتقامية؟ لا. ومن المحتمل أن يكون الأقباط قد وجدوا في قدوم الفرنسيين أبناء دينهم ما يلطف من مصيرهم، ولكن موقفهم من الأوروبيين فيما مضى والوثائق التي عثرنا عليها عن الحملة الفرنسية، لا تسمح لنا من الجزم بأن الأقباط حاولوا مساعدة الغزاة.
هل نستطيع أن نأخذ عليهم موقفهم السلبي وقت الخطر؟ ولكن هل كان في استطاعتهم أن يقوموا بعمل ما بعد أن جردتهم السلطات من سلاحهم؟
إننا نميل إلى الاعتقاد بأن النصارى كانوا أضعف من أن يستطيعوا اتخاذ أي قرار، فرضخوا لأوامر الأغلبية، وكانوا في أثناء القتال يعتبرون أنفسهم متضامنين مع مواطنيهم المسلمين.
وقلق المسلمون لعمل الأقباط هذا مما دعا الجبرتي إلى اتهام النصارى صراحة بالتعاون مع الفرنسيين، وأخذ يشهر بالنساء السوريات واليونانيات اللواتي كن يدخلن الحريم لإلقاء الرعب في قلوب نساء البكوات المماليك وحملهن على دفع الضرائب التي فرضها الفرنسيون، ثم يحمل على المباشرين الأقباط الذين يقومون بجباية الضرائب «على طريقة كبار الموظفين»؛ أي: باستعمال السوط، وقال أخيرًا الجبرتي: إن الأقباط والسوريين واليونانيين واليهود أصبحوا لا يحتملون؛ لأنهم يركبون الخيل ويحملون السلاح.
ولكن سبق أن قلنا كيف كان بونابرت يعامل الأقباط بالقسوة، وأنهم لم يفوزوا بمعاملة استثنائية إلا بعد أن تولى الجنرال «كليبر» الحكم، وبعد أن ثار سكان القاهرة مرة أخرى على الفرنسيين ما لبث أن ألغيت الإجراءات الاستثنائية بعد مقتل القائد الجديد.
ولما اغتال سليمان الحلبي الجنرال «كليبر» تحرك نار الانتقام في قلوب الجنود الفرنسيين واشتعلت فجأة، وقال نقولا ترك: إنه كان في نية العساكر الفرنسية أن يبيدوا جميع سكان القاهرة من مسلمين ونصارى.
ونقرأ أيضًا في البند الرابع من الأمر المؤرخ ١٠ فاندميير عام ١٠، الخاص بإعادة تنظيم الإدارة المصرية: «أن الأقباط ما هم في مصر إلا أقلية مكروهة من المسلمين؛ لأنهم يعملون على إثارة هذا الحقد عليهم، إنه يجب علينا أن نضمن لهم العدل والحرية، ولكن ليس من الحكمة بل من الخطر أن نتحالف معهم ونمنحهم الامتيازات؛ لذلك سيحضر رؤساؤهم ورؤساء الأمتين اليونانية والسورية جلسات الديوان على أن يكون رأيهم استشاريًّا فقط.».
وعمل «مينو» على تحقيق مشروع بونابرت الخاص بتجريد الموظفين الأقباط من امتيازاتهم، وقد ألغى فعلًا وظائف المباشرين في النظام الإداري الجديد، واستثنى من ذلك المعلم يعقوب «الذي لا مراء في كفاءته وإخلاصه للفرنسيين، وقد يبقى في الديوان بصفه مستشار لمدير الإيرادات العامة، وطلب إليه أن يقدم إلى الجنرال «استيف» المشايخ الذين سيقومون بجباية الضرائب، ويكون لهم لقب المباشر، وكذلك الأقباط الذين سيعملون تحت إمرة هؤلاء الشيوخ».
أما الأقباط، فقد اتهموا بدورهم الفرنسيين أنهم يريدون التخلص منهم كي يختلسوا مال الخزينة العامة، وعلى العموم فإن هذه الإجراءات التعسفية الموجهة ضدهم جعلتهم يتمنون جلاء الفرنسيين عن الأراضي المصرية، نعم أنهم كانوا يعلمون أن مواطنيهم المسلمين سوف يحاولون الانتقام منهم، إذا ما رحل الفرنسيون عن البلاد، ومع ذلك اختاروا أقل الضررين، وفضلوا أن يقاسوا العذاب على أيدي المسلمين مدة من الزمن على حرمانهم من وظائفهم إلى الأبد.
(٥) الجنرال يعقوب وتكوين الفرقة القبطية
على أن هناك نقطة لم تزل غامضة ألا وهي تعاون الأقباط العسكري مع المحتل.
واعتمد سلامة موسى على هذه المذكرات ليكتب في جريدة «مصر» القبطية عدة مقالات يمجد فيها أعمال الجنرال يعقوب الذي اعتبره أول من رفع صوته في مصر وفي أوروبا مطالبًا بحرية البلاد واستقلالها.
على أننا نرى شخصيًّا أن مختلف النظريات التي قيل بها حتى الآن نظريات خاطئة، ونقول: إن الجنرال يعقوب أنكر وطنه إن لم يكن قالبًا فقلبًا منذ اللحظة التي كون الفرقة القبطية، وسنرى من جهة أخرى أن الأمة القبطية استقبلت عمل الجنرال يعقوب بفتور.
فإذا أردنا أن نفهم نفسية هذا الرجل، يجب أن نلقي نظرة عن أعماله قبل الاحتلال الفرنسي.
كان يعقوب زكيًّا وصحيح البدن، وقد اشتهر بمهارته في ركوب الخيل كان يشغل كسائر أبناء طائفته وظيفة المباشر، ولكنه لم يكن مسالمًا مثلهم؛ إذ إنه انضم، قبل وصول الفرنسيين بزمن طويل، إلى صفوف إبراهيم بك ومراد بك في المعركة الكبرى التي دارت بين جيوش المماليك وجيوش القبطان باشا، وقد شكره البكوان لشجاعته وأغدقا عليه النعم، وفي سنة ١٧٩٨، أصبح يعقوب وجيهًا وثريًّا يحترمه ويعتبره الجميع.
ونشعر هنا أن يعقوب المقاتل أعجب بقوة هؤلاء الجند الشبان الذين هزموا مماليك مراد بك وإبراهيم بك الذين عُرف عنهم أنهم لا يكسرون، ثم إن يعقوب عرف عنه أن إخلاصه لرؤسائه يذهب به إلى حد إنكار الذات، وكان المماليك هم رؤساءه بالأمس، أما اليوم فكان الفرنسيون رؤساءه.
وقد ألحق يعقوب الجنرال «ديزيه» مباشرًا، وأعجب إعجابًا شديدًا بهذا القائد الشاب لشجاعته الفائقة ومهارته الحربية، فما كان منه إلا أن ألقى بدواته المعلقة بزناره واستل سيفه من غمده وخاض غمار معارك طاحنة، وعرض نفسه للهلاك أكثر من مائة مرة، هذا لأنه كان يعتبر نفسه جنديًّا من جنود بونابرت، وأخذ ينسى شيئًا فشيئًا أصله المصري القبطي.
لا يترك الإنسان بلاده باحثًا عن المغامرة إلا بدوافع قوية، وكان الأقباط لم يدركوا أبدًا السبب الذي جُندوا من أجله، أما يعقوب، فكان عالمًا بما فعل، أنه نسي وطنه ووهب نفسه لخدمة رؤسائه الجدد منذ الأيام السعيدة التي تعاون خلالها مع «ديزيه»، ولكن كيف يكسب تقديرهم وهو مباشر؟ لذلك انتسب إلى الجيش وساعدته أعمال البطولة التي قام بها على اكتساب عطف الفرنسيين، وتسلم قبل الجلاء بعشرة أيام رتبة جنرال خطابًا يعبر فيه بونابرت عن خالص شكره على الخدمات التي أداها لفرنسا، فحال هذا التقدير دون اهتمامه بعروض الصدر الأعظم الذي منح له الأمان ووعده بإعادته إلى وظيفته السابقة، أما المعلم جرجس الجوهري، فقبل عروض الصدر الأعظم واستأنف نشاطه الخاص بجباية الضرائب تحت الحكم العثماني، ذلك لعدم وجود رباط الود بينه وبين الفرنسيين، بخلاف المعلم يعقوب الذي تعلق من زمن بالجنرال «ديزيه»، وكان يَكِنُّ لهذا البطل حبًّا شديدًا لم يحاول أن يخفيه أبدًا، ولما خر «ديزيه» صريعًا في ساحة القتال الأوروبية، حياه جنوده المقيمون في مصر «وكان المعلم يعقوب حاضرًا بملابسه العسكرية الفاخرة وقد التف حوله حرس الشرف وفرقة من جنوده، وكان حزنه يفوق كل حزن، ولما فكر الفرنسيون في عمل نصب تذكاري له، أسرع يعقوب بالكتابة إلى الجنرال «مينو» قائلًا: «يا ديزيه! سيقام لك نصبًا في فرنسا! إن يعقوب الذي كنت تحبه وكان يدللك كنفسه سيدفع ثلث التكاليف مهما بلغت … وهكذا سوف تعلم الأجيال القادمة أن يعقوب الذي حارب بجانبك كان يستحق تقديرك … يا للحسرة! لقد وهبك قلبه منذ زمن طويل.».
وهو كما نرى شعور لم نعهده في أقباط هذا العهد! لقد امتاز يعقوب عن سائر أفراد أمته، وأراد أن يهدف مثل «ديزيه» إلى الفخر على ساحة القتال، ولكن شاء القدر أن يصاب على السفينة التي كانت تقله إلى فرنسا بمرض مجهول قضى نحبه على أثره، ولم تكن آخر كلماته عن مصر ولا عن أسرته ولا عن أفراد فرقته الذين ساروا في ركابه، وبينما كان يحتضر، طلب إلى الجنرال «بليار» الذي كان بجواره، أن ينعم عليه بدفنه في قبر «ديزيه» نفسه، ولكن لم تنفذ رغبته؛ لأنه تُوفي على ظهر الباخرة فألقي جسده في عرض البحر.
(٦) الأقباط بعد جلاء الفرنسيين
عمل الفرنسيون في الاتفاقية التي وقعوها على تأمين النصارى والمسلمين الذين ساعدوهم، فاشترطوا في المادة الثانية عشرة أن لكل من يقطن مصر مطلق الحرية، مهما كانت جنسيته، في اللحاق بالجيش الفرنسي دون أن تتعرض أسرته للاضطهاد أو توضع ممتلكاته تحت الحراسة، وفي المادة الثالثة عشرة أنه لن يُضطهد الذين يقطنون مصر، مهما كانت ديانتهم، في أشخاصهم أو في ممتلكاتهم بسبب علاقاتهم مع الفرنسيين في أثناء احتلالهم مصر، على أن يتبعوا من الآن فصاعدًا قوانين البلاد.
ولكن على الرغم من هاتين المادتين الصريحتين، فقد أرهق الشعب الفرنسيين في أثناء انسحابهم، ثم وجه غضبه إلى النصارى.
وهكذا لم تحاول الإجراءات التي اتخذها رجال الشرطة ولا تصريحات الوالي دون التخفيف من نار الانتقام المتأججة في قلوب الشعب إلا بعد مضي وقت طويل.
(٧) دروس الحملة
دام احتلال الفرنسيين لمصر أقل من ثلاث سنوات، ولكن هذه الفترة الوجيزة كانت حافلة بالأحداث ومليئة بالعظات.
جاء بونابرت إلى مصر مشبعًا بأحسن الشعور نحو المسلمين، وكان يريد أن يحابيهم على حساب النصارى إلا أن المسلمين أساءوا الظن به ثم عادوه، وأخيرًا كرهوه، إنهم نسوا تصريحات بونابرت المفعمة بالعطف على الإسلام، وظلوا يتذكرون دخول الفرنسيين ساحة الأزهر حيث كان يعتصم ثوار القاهرة.
أما شعور النصارى، فكانت أكثر تعقيدًا وقد رحب البعض؛ أي: اليونانيون والسوريون والأوروبيون، باحتلال الجيوش الأجنبية لمصر بينما أن البعض الآخر؛ أي: الأقباط، كبت شعوره ولم يظهروا عداءهم كما حدث عندما نزل الصليبيون إلى السواحل المصرية؛ ذلك لأن حملة بونابرت كانت خالية من الطابع الديني، ثم إنهم كانوا يرحبون أن يرفع الفرنسيون من شأنهم حتى شعروا بأن المحتل كان يقصد تجريدهم من وظائفهم التقليدية؛ أي: وظائف المباشرين، وعندئذ تمنوا عودة رؤسائهم الأتراك.
ولم يصف أحد شعور بونابرت نحو الفرنسيين أحسن من بونابرت ذاته؛ إذ قال في جزيرة سانت هيلينا بحضور «لاس كازبس»: «كنت أسيطر على جنودي إلى درجة يكفي معها أن أصدر إليهم أمرًا يوميًّا عاديًّا لأجعلهم يعتنقون الإسلام، وكان الشعب يرضى عن هذا العمل، وحتى النصارى أنفسهم قد يجدون في هذا العمل أحسن حل لمشكلتهم، ولكانوا أقروني لاعتقادهم أنني لا أستطيع أن أفعل لنا ولهم أحسن من ذلك.».
وبالاختصار، فإن الأقباط كانوا يتمنون رحيل هذا الأجنبي الذي لم يفدهم بشيء، بل كان وجوده بينهم يزيد كره المسلمين لهم.
- أولًا: أن احتقار المسلمين للأقباط جعل التفاهم بين هذين العنصرين من أعسر الأمور.
- ثانيًا: أن وجود أمة مسيحية في مصر أساءت إلى العلاقات بين الأقباط والمسلمين بالرغم من أن هذه الأمة كانت مشبعة بروح العطف على الأغلبية.
- ثالثًا: أن الأقباط الذين اضطهدهم المماليك واحتقروهم أصبحوا يرحبون بأمم أوروبا المسيحية على شرط أن تكون هذه الأمم منزهة عن كل غرض ديني.