تسامح أسرة محمد علي والاعتراف القانوني بالمساواة بين المسلمين والأقباط
في هذه الحقبة المضطربة من حياة مصر؛ أي: في فجر القرن التاسع عشر، لم يكن يتصور الإنسان
أن ضابطًا ألبانيًّا قدم البلاد حديثًا، يستطيع بمحض إرادته أن يعدل القوانين، التي سُنت
منذ أجيال لتحديد حالة الذميين الاجتماعية في العالم الإسلامي، وكان من الصعب أن يتصور
أن
حاكمًا مجهولًا، يخضع لسيادة السلطان، قد يشرع في حركة إصلاحية جريئة فيلقي على السلطان
والعالم أجمع درسًا جميلًا في التسامح.
قد يقول البعض: إن محمد علي اتبع هذه السياسة لشدة رغبته في إرضاء الأجانب، وحرصه
على خلق
جو ملائم لتعاونهم معه؛ إذ كان تعاونهم لا بد منه لعدة اعتبارات لنسلم جدلًا بهذا الرأي،
ولكن لماذا تسامح أيضًا مع رعاياه النصارى؟ ومن كان يجبره على ذلك؟ ليس الأجانب على كل
حال؛
لأنهم كانوا يحتقرون الأقباط، ولا الباب العالي الذي أشعل نار الثورة في أنحاء الإمبراطورية
لصلابته نحو الذميين.
ثم إن ولاة مصر الحديثة، لما انتهجوا سياستهم القومية، لم يخلطوا بين الأقباط ومسيحيي
الغرب في حين أن الأقباط أنفسهم لم يرغبوا في ربط مصيرهم بمصير الأجانب لكرههم لهم، ففي
منتصف القرن التاسع عشر ظهرت — بفضل سياسة الأسرة الملكية وبتأثيرها — تيارات جديدة كان
من
شأنها أن تحطم نهائيًّا النظم الاجتماعية العنيفة التي كان يُعمل بها.
وهذا التطور البطيء الوطيد الأركان كُلل بالفوز بفضل تعاون الأسرة المالكة مع الأعيان،
فعلينا أن نحدد الدور الذي لعبه كل من الطرفين قبل أن ندرس الأحكام الرسمية، التي قررت
المساواة السياسية والاجتماعية بين جميع العناصر التي تتألف منها الأمة المصرية.
(١) روح التسامح في الأسرة الملكية
مما لا شك فيه أن محمد علي خلق في مصر جوًّا اجتماعيًّا جديدًا، ولما كان خلفاؤه
مشبعين بهذه الروح، فقد انتهجوا سياسة رفعت مصر في نظر الأمم الغربية، وليس في
استطاعتنا أن نعدد مآثر العائلة الملكية في هذه الناحية؛ لأن الأمثلة كثيرة جدًّا على
عكس العصور السابقة.
وفضل مؤسس الأسرة المالكة كبير جدًّا؛ ذلك لأنه تولى السلطة في عصر مضطرب غاية
الاضطراب، في عصر كانت الخزينة المصرية خاوية من المال بينما كانت مصاريف الدولة باهظة
والأقلية الدينية معرضة دائمًا لاضطهاد الحكام، ومما يزيده فضلًا أنه كان أول حاكم مسلم
اتبع سياسة تسامح حقة، أما السلطان محمود الثاني، الذي تولى عرش الإمبراطورية العثمانية
عام ١٨٠٨، فقد اكتفى بحذو محمد علي بالكلام، لا بالأعمال، كان يقول: «لا أريد أن تكون
هناك فوارق بين أفراد شعبي المنتمين إلى أجناس أو أديان مختلفة، ويجب ألا يختلفوا إلا
في طريقتهم الصلاة في معابدهم.» غير أن هذه التصريحات لم تكن قاطعة إلا من حيث الشكل
ولم تطبق تطبيقًا عمليًّا، وبعد إحدى وعشرين سنة انتزعت الدول من السلطان فرمان
الكلخانة سنة «١٨٣٩م»، وهو عبارة عن تصريح شفاهي كُتب بأسلوب مبهم، وبعد سبع عشرة سنة
أخرى، انتزعت منه وعدًا شفاهيًّا آخر دوَّن في الخط الهمايوني المؤرخ سنة ١٨٥٦.
وفي هذا الأثناء كانت مصر تسرع الخطى تحت إشراف ولاتها في سبيل الوصول إلى المساواة
السياسية والاجتماعية بين أبنائها، والفضل في الحصول على هذه النتيجة يعود بلا شك إلى
إرادة وقوة عزم مؤسس الأسرة الملكية.
فلما جلا الفرنسيون عن مصر، تركوا الأقباط لا حول لهم ولا قوة، وتركوا المسلمين في
حالة هياج شديد، اتُّهم القبطي بالتعاون مع المسيحي الأجنبي مع أن
الأقباط — كما بيناه — لم يرغبوا في وجود الأجانب
بينهم بل تمنوا رحيلهم، ولكن المسلم الذي تحمل السوء من جراء أعمال القمع في أثناء
ثورتي القاهرة، حاول أن يثأر لنفسه من النصارى، فأهان الأقباط وفرض عليهم الغرامات وحكم
على بعض أعيانهم بالقتل.
ولا غرابة حينئذ إذا كان الأقباط، في تلك الحقبة التعسة من تاريخهم، نظروا إلى
الأجنبي برهة، وكتب المستر وليم هاملتون، قائد الأسطول البريطاني عام ١٨٠١، من مدينة
أثينا بتاريخ يوليو ١٨٠٢: «يميل الأقباط كثيرًا إلى الإنجليز وهم في هذه الآونة شديدو
الاستعداد لإجابة مطلب الحكومة البريطانية.»١ ولما أهمل البريطانيون هذه العروض، تحول الأقباط إلى الفرنسيين، وكتب
الجنرال سيبستياني بدوره في التقرير الذي رفعه إلى بونابرت بتاريخ يناير عام ١٨٠٣،
يقول: «اقترح المباشر القبطي أن يراسلني ليطلعني على الحوادث المهمة في مصر وسوريا،
وعرض خدماته وخدمات أمته في حالة تطلعنا إلى الشرق، وتدل جميع المظاهر على شدة إخلاصه
لنا، ولكني أجبته بأن ليس عندي تعليمات بهذا الشأن.».٢
ولم يعطف محمد علي نفسه على الأقباط قبل أن يستتب الأمن في البلاد، ولما كان همه
الأول دفع رواتب جنوده وإحباط دسائس أعدائه، فقد اعتمد أول الأمر على الطريقة
التقليدية، وهي فرض غرامات على الأقباط الذين أفلحوا في أن يصرفوا الأنظار عنهم في
أثناء المعارك بين الأتراك والمماليك بعضهم بعضًا، ثم في أن يعينوا مباشرين
ويغتنوا.
ولما استقرت الأمور، ترك محمد علي جانبًا نظم الحكم العتيقة ومن اللحظة التي قرر
فيها
استخدام المصريين والاعتماد عليهم، قضى مبدئيًّا على التفرقة بين القبطي والمسلم؛ لأن
كليهما يستطيعان أن يقدما له أحسن الخدمات، ورأى أيضًا أنه لا داعي لتحقير الأقباط بدون
سبب؛ لأن الشخص، إذا أريد أن يؤدى واجبه على أحسن وجه، وجب أن يكون محترمًا من الناس،
ومضمون «التذكرة» الآتية هو أحسن دليل على صدق نيات الباشا، وبها: «إن يوسف الذي يشتغل
في الجبخانة في خدمة الدولة، وقد حررنا له هذه التذكرة الصادرة من ديواننا وسلمناها
إليه حتى لا يتعرض لأية ملحوظة بسبب زيه.».٣
لقد كان الأمر صريحًا، ولما كانت مسألة الأزياء، حتى أوائل القرن التاسع عشر، لم
تفقد
من حدتها التي كانت عليه في أوائل الفتح الإسلامي، فقد غضب المسلمون لموقف محمد علي
بدليل أن الجبرتي يحدثنا عن الأمر الذي صدر عام ١٢٣٣ﻫ «١٨١٧م» «إلى الأقباط والأروام
بأن يلزموا زيهم من الأزرق والأسود، ولا يلبسون العمائم البيض؛ لأنهم خرجوا عن الحد في
كل شيء ويتعممون بالشيلان الكشمير الملونة والغالية في الثمن، ويركبون الرهوانات
والبغال والخيول وأمامهم وخلفهم الخدم بأيديهم العصى يطردون الناس عن طريقهم، ويلبسون
الأسلحة، وتخرج الطائفة منهم إلى الخلاء، ويعملون لهم نشانًا يضربون عليه بالبنادق
الرصاص.»٤ إلا أن الجبرتي كان يشك في إمكان تنفيذ هذه الأوامر، وها هو يسارع فيضيف
إلى ما تقدم: «فما أحسن هذا النهي لو دام».
ومن جهة أخرى، فإن محمد علي لم يحل بين النصارى وبين ممارستهم لطقوسهم الدينية، ولم
يرفض للأقباط أي طلب تقدموا به لبناء أو إصلاح الكنائس، وتحوي مخطوطات قصر عابدين عددًا
كبيرًا من الأوامر الخاصة بالكنائس، حررت بالصيغة الآتية: «أمر إلى … بشأن التصريح
لطائفة الأقباط بتعمير الكنيسة ومساعدتهم في ذلك وعدم ممانعتهم.».٥
وفي عهد سعيد باشا والخديو إسماعيل تعددت أوامر بناء الكنائس، وقد رأينا الولاة
أنفسهم يستعجلون تنفيذها.٦
وكان الأقباط في عهد المماليك يعانون صعوبات كثيرة للحصول على إذن بالحج إلى الأراضي
المقدسة، ولكنهم استطاعوا بعد ذلك أن يقوموا كل عام بهذا الغرض تحت رعاية السلطات، وأول
وثيقة عثرنا عليها تعود إلى عام ١٢٤١ﻫ «١٨٢٥م»؛ أي: قبل فتح إبراهيم باشا بلاد الشام،
ويوصي فيها محمد علي متسلم غزة «بالقبط الذين يريدون الحج إلى القدس، وألا يدع لأحد
مجالًا في التداخل في شئونهم.»٧ أما الوثائق المؤرخة عامي ١٨٢٧ و١٨٢٨، فكانت موجهة إلى متسلمي غزة والقدس،
وكان الباشا يوصيهما بحماية الراهب القبطي والزوار الأقباط الوافدين إلى القدس كعادتهم
كل سنة حاملين قفص الشموع إلى كنيستهم التي بالقدس وبصيانتهم وإكرامهم عند وصولهم إلى
غزة والقدس،٨ وكان محمد علي أول حاكم مسلم منح الموظفين الأقباط رتبة البكوية، واتخذ له
مستشارين من النصارى.
ولم يكتفِ محمد علي بخلقه جوًّا من التسامح وتحسينه لحالة الأقباط، بل ذهب إلى حد
عدم
تردده في مؤازرتهم أحيانًا، فقد حدث عام ١٢٣٠ﻫ «١٨١٤م»، في أثناء تمرد حامية القاهرة،
أن اعتصم النصارى، وقد استبد بهم الرعب في أحيائهم، وأقاموا عليها المتاريس وأغلقوا بعض
الأبواب، وتسلحوا بالبنادق «وأمدهم الباشا بالبارود وآلات الحرب دون المسلمين حتى إنهم
استأذنوا كتخدا بيك في سد بعض الحارت النافذة التي يخشون وقوع الضرر منها، فمنع
ذلك.».٩
وقد حدث عام ١٨٤٥م شجار بين حمَّار ومزارع قبطي، فسب المزارع الحمَّار الذي ذهب يشكو
أمره إلى السلطات، فما كان من حاكم دمياط إلا أن أمر بضرب القبطي خمسمائة ضربة، والطواف
به في الحي النصراني ليُهان من الجميع، ولما علم محمد علي بهذا الحادث، أرسل أحد كبار
ضباطه الذي أمر بسجن حاكم دمياط خمس سنوات في قلعة أبي قير وتغريمه مبلغًا كبيرًا من
المال.١٠
أضف إلى ذلك أن مطران الأقباط الكاثوليك صرح للدكتور «بورنج» أنه يتجول في أنحاء
المدينة معلقًا صليبه على صدره بحيث يراه الجميع، ولم يحاول أحد سبه أو إهانته، وأن
الأقباط جميعهم يستطيعون ممارسة طقوسهم الدينية بحرية تامة.١١
وكانت السلطات نفسها تحترم الدين المسيحي، فقد أمر محمد علي عام ١٢٢٥ﻫ «١٨١٠م»، كما
فعل من قبله ابن طولون، أن تقام الصلوات لترتفع مياه النيل «وخرج النصارى الأقباط
يستسقون أيضًا، واجتمعوا بالروضة وصحبتهم القساوسة والرهبان وهم راكبون الخيول
والرهوانات والبغال والحمير في تجمل زائد، وصحبتهم طائفة من أتباع الباشا بالعصي
المفضضة.».١٢
ومن البديهي أن بعض الذين اعتادوا فهم الأشياء على طريقتهم الخاصة لم يرتاحوا إلى
هذا
التحول الكبير في معاملة النصارى، وقد نقل إلينا الجبرتي الذي كان يعبر إلى حد ما عن
شعور أبناء دينه، شكاوى الشعب بأسلوب لاذع، فقال: «كتبوا أوراقًا لمشاهير الملتزمين
مضمونها أنه بلغ حضرة أفندينا ما فعله الأقباط من ظلم الملتزمين والجور عليهم في
فائظهم، فلم يرضَ بذلك، والحال أنكم تحضرون بعد أربعة أيام وتحاسبوا على فائظكم
وتقبضونه، فإن أفندينا لا يرضى بالظلم وعلى الأوراق إمضاء الدفتر دار، ففرح أكثر
المغفلين بهذا الكلام واعتقدوا صحته، وأشاعوا أيضًا أنه نصب تجاه قصر شبرا خوازيق
للمعلم غالي وأكابر القبط.».١٣
هل يفهم من ذلك أن محمد علي لم يكن مهتمًا بالناحية الدينية؟ لا بالطبع، بدليل أنه
نراه يكافئ الذين يعتنقون الإسلام منحًا نقدية، ويعينهم في الوظائف الحكومية …
إلخ،١٤ ولم يتردد معاقبة المسلمين المرتدين علانية،١٥ ولكنه لم يعطِ نفس الأهمية للخلافات التي كان مصدرها التقاليد البالية
العتيقة.
وعلى الرغم من دلائل التسامح الواضحة التي امتاز بها عصر محمد علي، لم يكن في استطاعة
النصارى أن يدعوا بأنهم على قدم المساواة مع المسلمين، فقد حث والي مصر الكولونيل «سيف»
«سليمان باشا» إلى اعتناق الإسلام؛ حيث لا يجوز لغير المسلم بأن يتولى قيادة الجيش، ولا
شك أن الوالي كان يعلم أن الوقت لم يحن بعد ليقطع صلته كلها بالتقاليد القديمة، وقد
أفهمنا الجبرتي في معرض رثائه لأحد المباشرين النصارى يدعى عبود أن «الباشا كان يحبه
ويثق به ويقول: لولا الملامة لقلده الدفتردارية.»١٦ وهذا الاعتراف الصريح يحدد بوضوح موقف الوالي من الذميين، ولكن يجب أن
نلاحظ أيضًا أن محمد علي كان هو الآخر لا يرى في الأقباط إلا مباشرين ومحاسبين ممتازين،
فلم يحاول أن يدخلهم الجيش النظامي «وعلى كل فإن رغبة الأقباط عن الجندية كانت ظاهرة
بوضوح، ونفورهم من حياة المعسكرات كان من غنى عن الدليل»، ولا أن يعلمهم التعليم
الحديث، ومن الملاحظ أن أول بعثة علمية إلى فرنسا كانت خالية من الطلبة الأقباط مع أنها
كانت تجمع عددًا من المسيحيين.
وصفوة القول، فقد أجمع نقاد هذا العصر على تقدم العلاقات بين المسلمين والأقباط،
تقدمًا محسوسًا، ولكنهم أخذوا على الحكومة عدم اعترافها إلى ذلك الوقت بالمساواة
علنيًّا بين الدين المسيحي والإسلام.
وقد وصف المؤرخون الأجانب عصر عباس باشا بأنه عصر رجعي، والواقع أن عباس باشا كان
ضد
الأوروبيين أكثر منه ضد النصارى، وإذا استغنى عن عدد كبير من الموظفين الفرنسيين على
وجه الخصوص، فقد عين وزيرين للخارجية من أصل أرمني، وهما أرام بك واسطفان بك، كما أنه
لم يفكر في التخلص من المباشرين الأقباط، لقد علل بعض المؤرخين الأوروبيين كرهه
للأوروبيين إلى نفوره من المسيحيين، غير أننا لا نذكر أي أمر عدائي أصدره عباس باشا ضد
الطوائف النصرانية.
ويعود الفضل في إدخال النصارى، وبخاصة الأقباط، في صلب الأمة المصرية إلى الوالي سعيد
باشا والخديوي إسماعيل.
كان سعيد يرغب في إشراك الأهالي في حكومة البلاد، بل كان يريد على الأخص إخراج
الأتراك من سلك الوظائف المدنية والحربية، وأن الخطبة الوطنية التي ألقاها في الضباط
المصريين في أواخر عهده قد أثرت فيهم تأثيرًا كبيرًا، ويقال: إنها من الأسباب التي أدت
إلى الحركة التي قاموا بها تحت إشراف عرابي باشا.
وكان من الطبيعي حينئذ ألا يحافظ سعيد باشا على روح التسامح التي أوجدها محمد علي
الكبير إزاء النصارى، بل يعمل على إزالة آخر العواقب نحو اندماجهم في صلب الأمة، فقطع
كل علاقة بينه وبين القديم بقراره قبول النصارى في الجيش، وتطبيق قانون الخدمة العسكرية
عليهم، وكان يعتقد سعيد أن النصارى إذا حملوا السلاح للدفاع عن وطنهم وخضعوا إلى نفس
الواجبات التي يؤديها المسلمون، اكتسبوا نفس الامتيازات التي يتمتع بها مواطنوهم، وينص
الأمر العالي الصادر في جمادى الأولى عام ١٢٧٢ﻫ «يناير ١٨٥٦م» على أن أبناء أعيان القبط
سوف يدعون إلى حمل السلاح أسوة بأبناء أعيان المسلمين، وذلك مراعاة لمبدأ
المساواة،١٧ إلا أن الأقباط وقد أعفتهم السلطة منذ أجيال من الخدمة العسكرية رأوا في
هذا الإجراء عملًا ملتويًا يهدف سعيد من ورائه إلى اضطهادهم، فلم يترددوا في تقديم
شكواهم إلى بعض أفراد الجالية البريطانية؛ أي: الإرساليات البروتستانية التي أجازها
بطريرك الأقباط، فضغطت هذه الإرساليات على الوالي كي يعفي الأقباط من الخدمة العسكرية،
أما تفاصيل هذه المسألة، فقد سردها علينا مؤرخان إنجليزيان معاصران،١٨ وهما يصرحان أن التجنيد كان أداة لاضطهاد النصارى الذين قد يعرضون بعد
تجنيدهم إلى مختلف ألوان الاضطهاد، وأضافا إلى ذلك أن المراد هو إكراههم على اعتناق
الإسلام؛ إذ يكون إسلامهم شرطًا أساسيًّا لترقيتهم في سلك الجيش، فوسط البطريك كيرلس
الملقب بالمشرع، بعض الإنجليز فاستطاع هؤلاء أن يحملوا سعيد على إعفاء الأقباط من
الخدمة العسكرية، ولكن يبدو أن البطريرك دفع عمله غاليًا؛ إذ مات بعد ذلك بقليل بتأثير
السم، ومن جهة أخرى، أقال سعيد عددًا كبيرًا من الموظفين الأقباط.
إنه يصعب علينا، بما لدينا من المستندات، أن نؤكد هذا الحادث أو نكذبه، وليس من
المستحيل أن الأقباط تحملوا بعض الظلم، وهذا أمر طبيعي إذا قدر أن المسلمين لم يعتادوا
بعد إلى اعتبار الأقباط على قدم المساواة، ولا سيما في سلك الجندية.
وعلى كل، فهناك أمر صريح ألا وهو انتظام الأقباط في سلك الجيش في عهد إسماعيل، وإذا
كنا لا نحتاج أن نثبت نفور المصريين المسلمين والأقباط على السواء من الخدمة العسكرية
في ذلك الوقت، إلا أن كلا الطرفين أدركا أنهما خاضعان لقانون التجنيد، وبينما كان
الكاتب الفرنسي «جبرائيل شارم» Charmes يتحدث إلى
الخديوي إسماعيل في قصر عابدين، مرت كتيبة من الحرس أمام القصر، فقال إسماعيل لمحدثه:
«انظر إلى هذه الكتيبة أن فيها عربًا وأقباطًا، ومسلمين ونصارى، وهم يسيرون في صف واحد،
وإني أؤكد لك أنه لا يوجد بينهم من يهتم بديانة جاره، وأن المساواة بينهم
تامة.».١٩
وهكذا كان سعيد باشا أول من دعى النصارى إلى حمل السلاح بمحض إرادته وقبل أن يخضع
السلطان نفسه إلى مطالب الدول الأجنبية فيعلن الخط الهمايوني المؤرخ ١٨ فبراير ١٨٥٦،
وإذًا لم تتأثر مصر بحركة الإصلاح في تركيا ولم تنتظر إصدار تعليمات الآستانة للقيام
بعمل مماثل.
والآن، وقد وضحنا بعض النقط الخاصة بتجنيد الأقباط، فإنه يجدر بنا أن نبرئ سعيد باشا
من التعصب الذي أريد اتهامه به، ألم نشاهد في عصره موظفين رأوا التقرب إليه بمنع إقامة
الأفراح في حالة اعتناق قبطي الديانة الإسلامية؟ وقد كتب الوالي إلى مدير جرجا في هذا
الشأن يقول: «علمت بأنه لسبب إسلام أقباط سوهاج، تجمع بعض الأهالي والشباب وتوجهوا عند
القاضي وأخذوا المذكور ومروا به بالأسواق متظاهرين ومفتخرين بإسلامه، وبما أن هذا العمل
كدر خواطر الأقباط والأجانب، فعند وصول علم بذلك قمتم بتفريق المتظاهرين تهدئة لخواطرهم
ثم عزلتم عمدة الناحية لسبب تساهله وتسامحه في ذلك أيضًا، ثم حيث إن هذه الإجراءات، ولو
أنها أوجبت الممنونية، وإنما يجب أيضًا بحسب التنبيهات بأنه عند حدوث مثل هذا الأمر
ينبغي إفادة هذا الطرف.».٢٠
أضف إلى ذلك أن سعيد باشا هو الذي ألغى الجزية المفروضة على الذميين بأمر أصدره في
ديسمبر سنة ١٨٥٥٢١ وكتب المؤرخ «بول مريو» Paul Merruau في
هذا الصدد: «إن الحد الذي وضعه الإسلام بين مختلف طبقات الشعب قد زال فعلًا بعد أن تولى
سعيد الحكم، فإن روح تسامحه ظهرت في سلسلة من أعماله قد يطول بنا سردها، فقد عين
مسيحيًّا حاكمًا للسودان،٢٢ وهو إجراء يميز عهده أحسن تمييز؛ إذ إن هذا التعيين خطوة جديدة في طريق
التسامح، وهذا التسامح يهدف إلى إفادة البلاد بكل الكفاءات مهما كانت الديانة التي
تنتمي إليها، ونضيف إلى ذلك أن سعيد باشا سمح للجنود المصريين أن يمارسوا ديانتهم
المسيحية علانية.».٢٣
أما الخديو إسماعيل، الذي تلقى علومه في فينا ثم في باريس، فقد وجد عند عودته إلى
بلاده أن الجو يصلح لاتباع سياسة من التسامح على أوسع نطاق، وقد أراد كأسلافه ألا تسبب
المسائل الدينية أي احتكاك بين العنصرين، وعبر عن خطته بوضوح في الأمر الصادر عند توليه
السلطة ردًّا على سؤال وجهه إليه أحد كبار الموظفين، قال في الإفادة المؤرخة ١٠ محرم
١٢٨٠ﻫ «١٨٦٣م»: «إن خليل عوض الحاوي، من أهالي السلمية ومن طائفة الأقباط، قدم عرضًا
يطلب فيه الخروج عن الدين المسيحي، برغبته وبدون إجبار، واعتناقه الدين الإسلامي، فإنه
يجب استحضاركم قسيسًا من قساوسة الأقباط، وكم عمدة من عمد الأقباط لأجل إقرار خليل عوض
الحاوي أمامهم بأنه راغب اعتناق دين الإسلام من غير أن يجبره أحد في ذلك لأجل ألا تكون
هذه المسألة وسيلة فيما بعد للتشكي، وبعد إقراره أمامهم يصير التصديق منهم على الإقرار
ويحفظ بالمديرية.»٢٤ ولم تكن هذه الإجراءات الدقيقة تتبع في مصر قبل ذلك التاريخ، بل كانت
الإجراءات في مثل هذه الأحوال بسيطة للغاية.
ثم كانت العلاقات بين الخديو وبطريرك الأقباط على خير ما يرام، ويقص علينا قليني
فهمي
باشا في مذكراته أنه «عندما أريد تنظيم شوارع مصر وفتح شارع كلوت بك، كانت يقضي النظام
لجعل هذا الشارع قويمًا أن يمر بكنيسة الأقباط، فعرض على الأنبا ديميتريوس البطريرك
آنئذ أن تبنى له كنيسة أفخر من هذه الكنيسة وكذا دارًا للبطريركية أفخر من دارها
الحالية، كل ذلك على نفقة الحكومة في نظير مرور الشارع معتدلًا، فأجاب البطريرك قائلًا:
«إني أتشاءم من هدم معبد ديني ليكون طريقًا، كما أنني لا أرضى لجناب الخديو أن يوافق
على هذا العمل، ولما عُرض الأمر على الخديو قال: لتكن إرادة البطريرك وليبقَ المعبد
قائمًا كما هو.».٢٥
ولأول مرة أيضًا نرى حاكمًا مسلمًا يشجع أديبًا ويدعم ماديًّا التعليم الطائفي، وفي
أمره العالي المرسل إلى نظارة المالية، طلب الخديو منح المدارس القبطية الأرثوذكسية
إعانة مالية فقال: «إنه نظرًا لما عُلم لدينا من حصول السعي والاجتهاد من بطركخانة
الأقباط في استعداد وانتظام مكاتب ومدارس وإيجاد معلمين بها لتعليم الأطفال ما يلزم من
العلوم واللغات الأجنبية ونحو ذلك، وسعيها في هذا النوع أوجب الممنونية عندنا، فلأجل
مساعدتها على ذلك وتوسعة دائرة التعليم الجارية بمكاتبها، قد سمحت مكارمنا بالإحسان على
تلك البطركخانة بألف وخمسمائة فدان عشورية من أطيان المتروك والمستبعدات الموجودة
بالمديريات على ذمة الميري.».٢٦
ذلك لأن الخديو كان يؤمن بأن القبطي مصري كالمسلم على حد سواء، وكان لا يرتاح إلى
الذين كانت تستهديهم الإرساليات الإنجليزية أو البروتستانتية، ولقد ذهب إلى حد وضع مركب
بخاري تحت إمرة البطريك ديميتريوس ليطوف برعيته ويحثها على البقاء في كنف الكنيسة
القبطية.٢٧
وقرر إسماعيل بعد ذلك علانية ورسميًّا المساواة بين الأقباط والمسلمين، وذلك بترشيح
الأقباط لانتخابات أعضاء مجلس الشورى، ثم بتعيين قضاة من الأقباط في المحاكم.
ولما تحدث الخديوي إلى نوبار باشا عن انتخابات مجلس شورى النواب، قال له: «عندنا
أقباط أيضًا بين المنتخبين وقد فتحنا الأبواب للمسلمين والأقباط بدون تمييز.»٢٨ مع العلم أن قانون سنة ١٨٦٦ الخاص بإنشاء مجلس الشورى كان لا يفرق بين
المصريين، وتنص المادة الثانية منه على أن «كل شخص بلغ من عمره الخامسة والعشرين يمكن
ترشيحه على شرط أن يكون أمينًا ومخلصًا، وأن تتأكد الحكومة من أنه وُلد في البلاد.»،
أضف إلى ذلك أنه لما كان مجلس الشورى في أول عهده يستوحي إرشادات الخديو إسماعيل، فقد
أجمع النواب، بمناسبة مناقشة سياسة الحكومة التعليمية، على أنه يجب على المدارس
الأميرية أن تقبل أولاد النصارى والمسلمين بدون تفرقة، وقال بهذه المناسبة أحد أعضاء
المجلس من المسلمين: «محمد الشواربي»: إن الأقباط ما خرجوا عن كونهم من أبناء الوطن،
ولذلك يجب أن يكونوا ضمن المدارس التي تعمل بالمديريات، ولا يكونون خارجًا منها متى
أرادوا الدخول فيها.٢٩
ويجب نهائيًّا ألا ننسى أن الخديو إسماعيل هو أول حاكم طلب رتبة الباشوية لرجل
مسيحي،٣٠ وكان الأقباط يصرحون بفخر، بعد وفاة هذا العاهل، بأن حالتهم تحت حكمه كانت
أحسن مما هي عليه تحت الاحتلال البريطاني، وقد ذكروا أن في عهد إسماعيل كان بينهم عدد
كبير من ذوي الرتب، وأن واصف باشا عزمي كان يشغل وظيفة مشرفة للغاية؛ إذ كان كبير
التشريفاتية، وبالرغم من أن البعض كذب هذه الإدعاءات وقالوا: إن هؤلاء الأقباط كانوا
يشغلون في الواقع وظائف أقل أهمية من التي ذُكرت، فإن الأقباط على الأقل لم ينكروا
ضمنًا شدة تسامح الخديو، وكتب «ساشو» Sachot المبعوث
إلى مصر من لدى الحكومة الفرنسية إلى «دروي» Duruy
وزير معارف فرنسا قائلًا: «ليس رعايا مصر من المسلمين فحسب! فمن المعلوم أن من أهلها
عددًا غير يسير من المسيحيين الأقباط، وإني انتهز هذه الفرصة؛ لأنوه بالتسامح الديني
المنتشر في أنحاء القطر المرفرف على الجميع دون استثناء مما يشرف قوانين البلاد وشمائل
أهلها.».٣١
ولكن أجمل مدح هو الذي فاه به إسماعيل باشا نفسه، فقد قال يومًا لجبرائيل شارم: «يعيش
المسيحيون في تركيا في جو من التسامح المشوب بالاحتقار! وأما في مصر فإنهم يعيشون في
جو
من التسامح المقرون بالاحترام.».٣٢
ولم ينأ خلفاء إسماعيل عن هذه السياسة، بل كانت الأقلية ترى وجودهم على رأس الدولة
ما
يضمن سلامتهم، وعلى كل فقد ظهرت في أواخر عهد إسماعيل قوة جديدة هي الرأي العام، وكانت
المسائل الوطنية الكبرى تناقش بحرارة في الصحافة وفي الاجتماعات وفي مجلس شورى النواب،
وبالرغم من أن السلطة التنفيذية كانت تسيطر على جميع المسائل التي تهم الدولة، فقد
اضطرت أكثر من مرة أن تعمل حسابًا لهذه القوة الجديدة.
والآن، وقد بينا موقف الحكام، يجدر بنا أن نتبع رد فعل الرأي العام والأعيان أمام
سياسة الحكام الجديدة.
لقد ذكرنا طوال دراستنا انتقادات الجبرتي للإجراءات التي اتخذها محمد علي لصالح
الأقباط، وأن ما لدينا من المستندات لا يسمح لنا بتسجيل غير هذه الانتقادات، أما
الرحالة الذين تحدثوا عن تسامح محمد علي، فقد اقتصروا على ذكر الوقائع دون أن يخبرونا
إذا كانت الأكثرية اعتادت هذه الأمور.
ولا يعقل أن نتوقع تغيير عقلية الشعب — أو على
الأقل الطبقة المستنيرة بين عشية وضحاها — بأمر محمد علي، ولكننا نستطيع أن نؤكد —
مستندين إلى بعض الأدلة — أن العلاقات بين العنصرين تحسنت تحسنًا ملحوظًا، وأن مبدأ
المساواة السياسية والاجتماعية أصبح شيئًا فشيئًا أمرًا مألوفًا، وكتبت «لوسي دوف جوردون» Lucy Duff-Gordon تقول: «إن أهالي ببا،
ومعظمهم من المسلمين، انتخبوا جرجس القبطي عمدة لهذه البلدة … ومما أثار إعجابي، روح
التسامح التي أجدها في كل مكان، ويظهر أن المسلمين والأقباط على وئام تام، ويوجد في ببا
ثلاث عشرة أسرة قبطية مقابل عدد كبير جدًّا من المسلمين، ومع ذلك انتخب الأهالي جرجس
عمدة لهم، وكانوا يقبلون يده طائعين بينما كنا نمر في طرقات القرية.».٣٣
ومما كان يلفت النظر أيضًا، وجود رؤساء الوزارات النصارى كنوبار باشا وبطرس باشا
غالي، في الاحتفال بسفر المحمل، مندوبين عن الخديو.
ويقول القاضي «فان بيميلين» Van Bemelen إن الأزمة
المالية التي حلت بالبلاد قبيل عزل إسماعيل وطدت شعور التضامن بين عنصري الأمة «ومنذ
اليوم الذي تحمل فيه المصريون المسلمون والأقباط النصارى المتاعب من عدم دفع الحكومة
للمرتبات ومن ضرائبها الجائرة، نما بين هذين العنصرين شعور إخوة.».٣٤
وكان أول اختبار لوجود هذا الاتحاد ثورة عرابي باشا التي قامت للقضاء على الضباط
الجراكسة والتخلص من المراقبين الأجانب والنهوض بالعنصر المصري، ألم تكن هذه الأوقات
العصيبة فرصة للمسلمين والأقباط ليُظهروا تضامنهم وتعاونهم؟ قد اتفق فعلًا جميع
المراقبين على الإشادة بروح التعاون التي نشأت قبيل الحوادث الدامية التي وقعت في شهري
يونيو ويوليو من عام ١٨٨٢، بل من قبل عزل إسماعيل عام ١٨٧٩، وأن الالتماس الذي رُفع إلى
الخديو للمطالبة بإقالة «ريفرس ويلسن» Rivers Wilson
وتأليف وزارة وطنية ودعوة مجلس الشورى قد وقع عليه الضباط والأعيان وبطريرك الأقباط
وشيخ الإسلام، ولا يتردد الكاتب الإنجليزي «ولفريد سكان بلنت» الذي شاهد هذه الحوادث،
في التصريح بأن العلاقات بين المسلمين والأقباط لم تكن أحسن مما هي عليه
اليوم.٣٥
ولكن وجود عرابي باشا على رأس الثوار والخطاب الذي أرسله إلى «جلادستون» Gladstone عندما كان الإنجليز يهددون بضرب
الإسكندرية فهددهم بإعلان الجهاد بعد سقوط أول قذيفة بريطانية بناء على تعليمات
النبي،٣٦ ثم توزيع الأسلحة على أفراد الجاليات الأجنبية استعمالها ضد أفراد الشعب،
كل هذه الأسباب أثرت تأثيرًا على مجرى الحوادث، وحدث أن المتظاهرين والقوات المتقهقرة
كانوا يخلطون كثيرًا بين الأجانب والنصارى الوطنيين.
وقد اتهم بعد ذلك السلطات وقيل: إنها هي التي حرضت الثوار على مهاجمة الأقلية
المسيحية كي تحط من شأن حركة عرابي الذي اعتبر ثائرًا على الخديو، وقد قيل أيضًا: إن
الخديو إسماعيل عمل على تحريك تعصب الجماهير فأمر وحبذ القيام بقتل جميع
النصارى،٣٧ وسواء كانت هذه الإشاعات حقيقية أم كاذبة، فإننا لا نستطيع أن ننتفع بها في
المشكلة التي نحن بصددها إلا إذا كانت تدل على أنه كان في استطاعة الناس الصيد في الماء
العكر في هذه الآونة، وبعث المعتقدات القديمة التي كانت في طريقها إلى الزوال.
وجاء الاحتلال البريطاني في أعقاب ثورة الضباط، وبتعبير آخر، احتلت دولة مسيحية بلدًا
إسلامي، وفي أثناء هذا الاحتلال، اجتمع الأقباط عن هيئة مؤتمر في مدينة أسيوط وتقدموا
بمطالب عديدة باسم «الأمة القبطية»، وما لبث أن اجتمع أعيان المسلمين في مؤتمر عُقد
لهذا الغرض وأنكروا على الأقباط مطالبهم.
وأخذ الناس يتحدثون عن الخيانة وعن محاولة الأقلية المسيحية استغلال وجود دولة
أوروبية لمصلحتها، أما المعتدلون فقد تأسفوا على عمل الأقباط بأسيوط وقالوا: إنهم وقعوا
ضحية دسيسة إنجليزية كان يُقصد منها بذر التفرقة في البلاد للسيطرة عليها عن طريقها،
والواقع أنه لم تكن هناك أية خيانة؛ ذلك لأن الأقباط الذين كانوا على كرههم الشديد
للأجنبي لم يرتاحوا لدخول الإنجليز، وقد اعترف اللورد كرومر نفسه ضمنًا بذلك،٣٨ ولم تكن هناك أيضًا أية دسيسة إنجليزية بدليل أن الإنجليز أنفسهم فوجئوا
بهذا المؤتمر، وأن قليني فهمي باشا الذي عاصر هذه الأحداث أكد أن الذي أوحى به هو
الخديو عباس الثاني الذي أراد إقلاق المحتل من جراء ذلك.
إن انعقاد مؤتمر أسيوط في أثناء الاحتلال البريطاني يعد من الصدفة؛ ذلك لأن الأقباط
لم يكونوا يتوانون في يوم من الأيام عن التعبير عن عدم رضاهم لعواقب تقدم التعليم في
مصر، لماذا؟ قبل أن نجيب على هذا السؤال نعود إلى تسلسل الحوادث.
كانت لمصر، وهي بلاد غنية وحديثة العهد بالمدنية، عدة مرافق لاستغلال كفاءة شبابها
المتعلمين، وكانت إلى عهد توفيق باشا في حاجة إلى موظفين يديرون مصالحهم؛ إذ إن الطلبة
الذين تخرجوا في المدارس التي أنشأها محمد علي وأصلحها إسماعيل لم تكفِ لسد حاجات
البلاد، فقد كانت هناك وظائف لجميع أصحاب الشهادات لم يوجد واحد يعترض على حق الآخر في
شغل الوظائف، وهكذا استطاع الأقباط أن يديروا مالية البلاد وحدهم دون شريك لهم.
ولكن ما لبثت الديون التي اقترضها إسماعيل أن خلقت أزمة اقتصادية خطيرة، وقد استغرق
تسديد الديون موارد الميزانية، وكان من الطبيعي ألا تستطيع الحكومة الصرف على جيش كبير
ولا استبقاء العدد اللازم من الموظفين، فأحال الخديوي مئات الضباط إلى الاستيداع، أما
الطلبة الذين غادروا المدرسة قبل إتمام دروسهم للالتحاق بالوظائف الحكومية، فقد وجدوا
بعض الصعوبات لتحقيق أغراضهم.
ومن ناحية أخرى، استطاع الأقباط — منذ الفتح الإسلامي — احتكار إدارة البلاد المالية
والاحتفاظ بها بفضل طريقة شخصية للمحاسبة كانوا يحتفظون بسريتها، ويقول الدوق
«داركور»٣٩Duc d’Harcourt، في هذا الصدد: إن براعتهم الحسابية
فريدة في نوعها وهم، دون أن يستعينوا بكتابة الأرقام وبطرق اعتادها منذ نعومة أظفارهم،
يعملون حسابات في غاية التعقيد على أساس ، ، ، ، من ويصعب علينا أن نتابع عملهم الحسابي؛ لأنهم يقومون به بسرعة فائقة
مستعينين ببعض اختصارات غير مفهومة يدونونها على الورق، إننا نستطيع بدون شك أن نصل
أسرع منهم إلى الحل الدقيق، وذلك بالطرق الحسابية المتبعة في أوروبا، ولكن لما كانت
طرقهم موضوعة حسب المقاييس المستعملة في البلاد، ولما كانوا لا يلجئون إلى الحساب
العشري، فإن السرعة التي كانوا يعملون بها الحسابات في مصر تفوق سرعتنا، وبفضل هذه
الطرق المعقدة التي يعرفونها وحدهم، أصبح العرب لا يستغنون عنهم، وإن كانوا قد اضطروا
إلى أن يسلموا بتفوق الأوروبيين عليهم إلا أنهم ظلوا أصحاب الأمر والنهي دون منازع أمام
الوطنيين المسلمين.
وأعتقد «دور بك» Dor Bey، مفتش التعليم بمصر، أنه قد
يكتشف في المدارس القبطية على منهج خاص لدراسة الرياضيات، ولكنه لم يلبث أن قال: «لا
يوجد من ذلك شيء، فإن الأولاد الأقباط يصلون إلى هذه المهارة في الحسابات بعد تمرينات
عملية؛ إذ يصحبون غالبًا آباءهم إلى دواوين الحكومة ويجلسون بجانبهم أو تحت أقدامهم،
ويبدءون التدريب عليهم ثم يلتحقون بعد ذلك بدون أجر في خدمة الدولة.».٤٠
ولسنا في حاجة إلى القول إن هذه الملاحظات كان لها قيمة إلى ما قبل فترة الاحتلال،
ولكن لما شرع البريطانيون في تجديد طرق العمل الحكومي، ولما منعوا الآباء من استصحاب
أولادهم إلى مكاتبهم ولما تشددوا في تعيين ذوي الشهادات، ولما عمموا التعليم، شعر
الأقباط، أنهم سيفقدون الامتياز الذي مكنهم إلى ذلك الوقت من العيش عيشة رغدة ألا وهو
إدارة مالية البلاد، ويذكر هذا السبب بحذافيره الكاتب القبطي توفيق حبيب في مقدمة
تقريره عن مؤتمر أسيوط، فهو يقول: «كان الحكام يختصمون بالوظائف العمومية فئات أو طوائف
معينة سواء بحكم الميل أو الضرورة، ومن هذا القبيل نجد جميع الحكام والولاة الذين
تقدموا محمد علي، بل محمد علي نفسه وبعض خلفائه قد اختصوا الأقباط بمعظم مصالح الحكومة
في القاهرة والأرياف، كما اختصوا الأتراك بالمناصب العسكرية والإدارة، ولو قرأت أقوال
المؤرخين المسلمين لما وجدت اسم المصري المسلم في غير وظائف القضاء الشرعي إلا
نادرًا.»،٤١ ويستطرد الكاتب بذكر هذا القول المنسوب إلى اللورد كرومر: «لما احتل
الإنجليز مصر، كانت المصالح المصرية كلها تقريبًا في أيدي الأقباط.»، ثم قال: «قد أباح
رجال الاحتلال للمسلمين، بل أعدوهم لدخول جميع الوظائف الكتابية والحسابية وغيرها مما
كاد أن يكون محتكرًا للأقباط، إن الاحتلال البريطاني قضى على احتكار الأقباط لبعض
الوظائف.».
ليس الاحتلال البريطاني الذي ألغى احتكار الأقباط للأعمال الحسابية بفضل طرقهم
القديمة، إن إدخال الطرق الحديثة في العمل هي التي أدت إلى إلغاء هذا الاحتكار، ويقول
«هامون» Hamont: «بحق إن كل نظام كفيل بتسهيل
العمل الإداري، كان يرفضه الأقباط؛ إذ كانوا يعيشون في الفوضى ومن الفوضى.».٤٢
لم يستطع أحد أن يلومهم؛ لأنهم دافعوا بجميع الطرق عن مصدر كسبهم الوحيد على ما
يعتقدونه، ولكن نستطيع أن نلومهم؛ لأنهم احتفظوا في عصر التقدم والمدنية بعقليتهم التي
كانوا عليها في الأزمنة الغابرة، ونذكر أن هناك سندًا رسميًّا يكشف عن نية محمد علي،
بعد مصرع المعلم غالي، تعيين خبير فرنسي لينظم مالية البلاد.٤٣
والواقع أن الأقباط منذ الاحتلال البريطاني كانوا مشغولين بمستقبلهم أكثر من حاضرهم؛
إذ كانوا على غير حق عندما تقدموا بشكواهم إلى اللورد كرومر وعقدوا مؤتمرًا في أسيوط
يتبادلون فيه الرأي، عن مخاوفهم، وأقطع برهان لما نقدمه هو الإحصائيات التي أرسلها
السير «الدون جورست» E. Gorst المعتمد البريطاني إلى
حكومته في تقريره عن سنة ١٩٠١، وهذا الإحصاء يدل على أن الأقباط، الذي كان عددهم لا
يزيد عن عُشر سكان القطر، كانوا يحتلون ٤٥٫٣٢ في المائة من الوظائف ويقبضون ٤٠ في
المائة من المرتبات في حين أن نصيب المسلمين لم يكن يتجاوز ٤٤ في المائة والأجانب ٦ في
المائة.
هل كانت مسألة الوظائف الدافع الوحيد لعدم رضا الأقباط؟ بالطبع لا ذلك لأننا لا
نستطيع إهمال العامل النفساني، فإذا تعمقنا في البحث، وجدنا أن غضب الأقباط يقابل إلى
حد بعيد غضب عرابي باشا وصحبه، لقد حلل القاضي «فان بميلين» بدقة موقف عرابي، وأننا لا
نعد أنفسنا مخطئين إذا أرجعنا عدم رضا الأقباط إلى نفس الأسباب التي أدت إلى ثورة عرابي
باشا، ويكتب «فان بميلين» قائلًا: «على الرغم من التقدم الذي وصل إليه
المصريون.»٤٤ فإنهم كانوا أقل رضا عن ذي قبل، فقد حدث لهم ما يحدث عادة لشعب مظلوم تحسنت
حالته وفكت القيود عنه، فيتذمر هذا الشعب بدلًا من أن يظهر امتنانه، والواقع أننا نشعر
في هذه الحالة بحدة الآلام التي ما زالت فينا، وبالنير الذي ما فتئنا نحمله، ونحترق
شوقًا إلى امتلاك الأشياء التي تذوقنا جزءًا منها، وكنا فيما مضى نرضخ بحكم العادة لما
لا بد منه ولمصيرنا المحتوم، ولكن إذا كانت التجارب تدل على استطاعتنا التحرير من هذه
القيود، طلبنا بفارغ الصبر الحرية التامة والمستعجلة، وبينما كنا لا نجرأ بالمطالبة
بشيء في الماضي تزداد جرأتنا كلما تتحقق مطالبنا وتزداد رغبتنا فيما نجرؤ على المطالبة
به٤٥
إلا أن الأقباط لم يُظهروا استياءهم قبل عام ١٩٠٨م عندما رفع أعيانهم إلى كل من مصطفى
فهمي باشا واللورد كرومر عريضة طلبوا فيها المساواة الكاملة فيما يختص بالتعيين في
الوظائف الإدارية، وإغلاق المحاكم يوم الأحد وتعيين عضو آخر في الجمعية الاستشارية،
وأخيرًا تعليم الدين للطلبة المسيحيين في المدارس الأميرية.
وقد قبلت السلطات المطلبين الثاني والثالث بينما طرحت المطلبان الآخران على بساط
البحث، وقد تبادلت جريدتا «المؤيد» لصاحبها الشيخ علي يوسف «واللواء» التهاني بتلك
الخطوة نحو المساواة الاجتماعية، غير أن جريدة الحزب الوطني نشرت للشيخ عبد العزيز
جاويش مقالة عنوانها: «الإسلام غريب في بلاده»، كانت فاتحة نزال عنيف بين الصحافة
الإسلامية والصحافة القبطية.
وفي هذا الأثناء ترك مصطفى فهمي باشا الوزارة، فحل محله بطرس باشا غالي في ١٣ نوفمبر
١٩٠٨، ولسنا بحاجة إلى القول إن الرئيس الجديد استقبل استقبالًا فاترًا، ولاحظ محمد بك
فريد بشيء من التهكم، في مقال له، إن بطرس باشا غالي هو الوزير الوحيد الذي لا يحمل
شهادة عالية، واختتم مقالة بقوله: إنه سيحكم على الوزير الجديد على ضوء أعماله.
ارتاح الأقباط لتعين بطرس باشا غالي رئيسًا للوزراء وكفوا عن التذمر، وعقدوا آمالًا
كبيرة على تعيينه، وقد ذهب أحد الأقباط إلى الرئيس الجديد وقال له: «إن شاء الله يا
باشا تنظر لمطالبنا القديمة، وتساعدنا على نيل المساواة في عهدك.»، ولكن بطرس باشا
غالي، الرجل السياسي المحنك الحريص على مصالح الطائفة القبطية أكثر من سواه، قاطعه
قائلًا: «إني لا أنوي التدخل في هذه المسألة فابعدوا عنكم كل هذه الآمال الآن.».
ولكن بطرس باشا وقَّع مع الإنجليز اتفاقية السودان، فما كان من أحد الشبان المنتمين
إلى الحزب الوطني إلا أن اعتدى عليه وقتله، ويمكننا أن نتصور انفعال الأقباط وغضبهم
لهذه الفعلة، وأصبح أقل الناس تطرفًا مستعدين للموافقة على أشد المقترحات
تطرفًا.
وكان قد ظهر منذ بضع سنوات على مسرح السياسة خطيب شاب درس في جامعات مصر وفرنسا وتنبأ
بالخطر الذي ينجم عن تعادي عنصري الأمة، ولما كان وطنيًّا مخلصًا، فقد أدرك أن الوقت
غير مناسب للمجادلات الدينية، وكانت الأمة المصرية قد أدركت في عهد الاحتلال البريطاني
بأنه لم يعد من الحكمة أن تقوم مشادات لا فائدة منها تحول أنظار الرأي العام إلى أهداف
أخرى، وبأن العداء بين المسلمين والأقباط يساعد الأمة المحتلة على ترسيخ
أقدامها.
هذا الشاب هو مصطفى كامل مؤسس الحزب الوطني، وهو أول من جمع تحت لواء الوطنية
المسلمين والأقباط، وضم إلى حركته عددًا كبيرًا من أعيان الأقباط نذكر منهم ويصا واصف
ومرقس حنا، وقد لعبا فيما بعد دورًا سياسيًّا خطيرًا.
ومن خطب مصطفى كامل العديدة نختطف هاتين الجملتين: «إن المسلمين والأقباط شعب واحد
مرتبط بالوطنية والعادات والأخلاق وأسباب المعيش، ولا يمكن التفريق بينهما مدى الأبد.»،
«الأقباط إخوة لنا في الوطن.».
ولما تُوفي مصطفى كامل عام ١٩٠٨، وهو في عنفوان الشباب، بكاه المصريون جميعًا، ومن
ضمن ما قيل في رثائه، نذكر كلمة مرقس حنا باشا: «كوَّن الفقيد الوحدة الوطنية وأرانا
طريق الإخاء والحرية، إن الشبيبة المصرية لا تعرف غير أنها الشبيبة المصرية ولا واجب
عليها سوى خدمة مصر والمصريين بلا تخصيص ولا تقسيم، هذا بناء مصطفى كامل وهذا عمل مصطفى
كامل، وقد بدا لنا جني ثمره من الآن؛ لأن الاتحاد هو السلم الأول للوصول إلى الحرية
والاستقلال.».
ولكن كانت هناك نقطة في برنامج الحزب الوطني قللت من حماس الأقباط، لقد دأب مصطفى
كامل على تأييد أحقية المسلمين دون سواهم بحجة أنهم يدينون بدين الدولة الرسمي، ولم
يخفَ اهتمامه بتجديد سياسة الجامعة الإسلامية، لذلك لم يوافق الأقباط على نقط برنامجه
كلها.
وعلى كل، لم تلبث أن ساءت العلاقات بين الأقباط وخلف مصطفى كامل محمد بك فريد. كان
محمد فريد وطنيًّا مخلصًا، ولكن يعوزه اللين، ففقد تأييد جميع الأقباط لحزبه، وكان
استقباله لوزارة بطرس غالي استقبالًا فاترًا، بل لم يفِه بكلمة واحدة تعبر عن تأثيره
الحقيقي وعن تأسفه لحادث اغتياله، ولما فقد كل أمل في معاونة الأقباط له، هاجمهم هجومًا
عنيفًا، وتراجع بعد ذلك وأكد أن القاتل كان مدفوعًا إلى اقتراف فعلته بعاطفته السياسية
لا الدينية، لكن الأقباط شهروا سياسة الحزب وطلبوا إلى أبناء طائفتهم ألا يسهموا في
أعمالهم.
ألم يُفهم من هذه الظروف أن مؤتمر أسيوط قام بتأثير شعور الانتقام؟ لذلك أنكره عدد
كبير من أعيان الأقباط وعلى رأسهم بطريرك الأقباط وواصف غالي باشا نجل بطرس باشا، فكتب
في عدد ٢٣ يناير من جريدة «الريفورم» الفرنسية يقول: إن التفاهم تام بين عنصري الأمة،
وأصدر بعد ذلك نداء يدعو فيه إلى الوحدة لمجابهة المستقبل.
أما الطلبات التي اتفق عليها خلال مؤتمر أسيوط، فلا تختلف عن الطلبات التي قُدمت
إلى
مصطفى فهمي باشا واللورد كرومر، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
(١)
راحة يوم الأحد.
(٢)
المساواة في الوظائف.
(٣)
تشخيص العناصر المصرية في الهيئات النيابية.
(٤)
التعليم في مجالس المديريات (أو ضريبة الخمس في المائة لإعانة مدارس
الأقباط في المديريات).
(٥)
الإنفاق من الخزينة المصرية على جميع المرافق المصرية على السواء.
وقد احتج المؤتمر الإسلامي الذي عُقد في مصر الجديدة، بتشجيع من السير الدون جورست
وبرئاسة رياض باشا، على محاولة الأقباط «تقسيم الأمة المصرية باعتبارها نظامًا سياسيًّا
إلى عنصرين دينيين، أكثرية إسلامية وأقلية قبطية.».٤٦
وقد لعب أعضاء هذا المؤتمر على وتر وحدة الأمة السياسية واستطاعوا بذلك أن ينتصروا
على منافسيهم، ويقول تقرير هيئة تنظيم المؤتمر: «إن مثل هذا التقسيم يستتبع تقسيم
الوحدة السياسية إلى أجزاء دينية؛ أي: تقسيم الشيء إلى أقسام تخالفه في الجهر … إن لكل
أمة دينًا رسميًّا وذلك ضروري بل مشخص من مشخصاتها، ودين كل أمة هو دين حكومتها أو دين
الأكثرية فيها، ولكن من غير المفهوم بالمرة أن يكون في الأمة أكثر من دين رسمي واحد،
وعليه فلا معنى للاعتراف بأقليات دينية تعمل في السياسة بهذه الصفة أو تكسب حقوقًا عامة
أكثر من أن تخلي بينها وبين القيام بواجباتها الدينية عملًا بحرية الاعتقاد … وبعد ذلك
كيف يمكن الاعتراف بأن أقلية دينية تباشر بهذه الصفة الأعمال العمومية، ويكون لها مطالب
خاصة كأنما هي أقلية سياسية؟ لا يمكن الاعتراف بذلك إلا إذا أمكن أن يكون للأمة دينان
في آن واحد، وأن يكون أساس الأعمال في المصالح العامة هو الدين … فمن الخطأ أن يكون من
الأشياء المسلم بها اعتبار أن الأمة السياسية تتألف من عناصر دينية.».
ولسنا في حاجة إلى ذكر ردود مؤتمر مصر الجديدة على مطالب مؤتمر أسيوط، بعد أن عرضنا
المبادئ التي سار على نهجها المؤتمر الإسلامي، وقد خفت حدة المجالات بعد عقد مؤتمر مصر
الجديدة، وعلى الرغم من عدم رضا الطرفين عن بعضهما، فقد حاولا جاهدين نسيان
الماضي.
ثم ما لبث أن اعترف مؤتمر الصلح المنعقد بباريس بحقوق بريطانيا على مصر، فهب الوطنيون
المصريون جميعًا ليحتجوا على هذا الاعتراف، وهنا أدرك سعد زغلول، زعيم الحركة الوطنية،
خطر إبعاد الأقباط عن عمل يتوقف نجاحه على اتحاد الأمة جمعاء، وكان يصرح دائمًا أن مصر
للأقباط وللمسلمين على السواء، وأن الجميع يتمتعون بنفس الحرية وبنفس الحقوق، ومن جهة
أخرى بينما كان مصطفى كامل مصريًّا وداعيًا للوحدة الإسلامية اقتصر سعد على أن يكون
وطنيًّا فقط.
فلا عجب إذا رأينا الأقباط ينضمون إلى حركته بحماس، ونستطيع أن نؤكد أنهم نافسوا
بغيرتهم مواطنيهم المسلمين ووضعوا نصب أعينهم تحقيق الأماني الوطنية، وكتب المؤرخ محمد
صبري في هذه الحركة قائلًا: «كان الأقباط — حسب اعتراف جريدة «المورننج بوست» الصادرة
بتاريخ ٩ أبريل سنة ١٩١٩ — أكثر تحمسًا للملكية من الملك نفسه «وهي ترجمة لتعبير فرنسي
Roi Plus Royaliste que»، لقد كانوا بين أشد الناس
تحمسًا للدفاع عن الفكرة الوطنية وكانوا أول ضحايا الاستقلال، وكان القساوسة يحضون على
حب الوطن من فوق المنابر وفي المساجد وفي الأزهر، وكان المشايخ والعلماء من جانبهم
يخطبون في الكنائس، وكان أشد المشاهد تأثيرًا ظهور الأعلام، وقد رسم عليها الهلال كأنه
يعانق الصليب، إن هذا الحدث ما هو إلا ثورة سياسية ودينية.».٤٧
(٢) الاعتراف القانوني بالمساواة السياسية والاجتماعية
هيأ محمد علي جوًّا اجتماعيًّا جديدًا؛ هذه حقيقة لا مفر منها، وقد اقتفى خلفاؤه أثره
وأتموا العمل الذي بدأه، ولم يلبث هذه التسامح، الذي ظهرت آثاره في حياة الأفراد العامة
أولًا، أن أثر في قوانين البلاد، وهكذا انتصر في أقل من قرن مبدأ المساواة المطلقة بين
المسلمين وغير المسلمين.
وكان أول مظهر قانوني لهذا المبدأ، إلغاء الجزية المفروضة على الذميين.
لم يكن محمد علي ينوي قط إلغاء الجزية؛ لأن كانت مصدر إيراد للخزينة، وذلك على الرغم
من فرمان الكلخانة «١٨٣٩م» الذي كان يتضمن إلغاء هذه الضريبة، وقد ظل حبرًا على ورق في
جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية، على أن الجزية التي كان يدفعها الأقباط في عصر محمد
علي تكاد لا تذكر بالنسبة للمرتبات التي يتقاضونها من الوظائف التي كانوا يشغلونها في
الدولة، وإذا أخذنا مثلًا ميزانية عام ١٨٣٢م «١٢٤٩ﻫ»، وجدنا أن الجزية التي كان يدفعها
الأقباط بلغت ستمائة كيسة أي ثلاثة آلاف من الجنيهات، بينما كانوا يتقاضون مرتبات بلغت
عشرين ألف كيسة؛ أي: ستين ألفًا من الجنيهات.٤٨
ومن جهة أخرى، فإن محمد علي باحتفاظه بالجزية لم يكن يهدف إلا لزيادة موارده لا
التقليل من شأن رعاياه الذميين، وعلى كل، فقد كان محمد علي أول حاكم مسلم فتح باب
الاستثناء صراحة، ليس للأعيان فحسب، بل ولعامة الشعب الذين كانوا يؤدون له خدمات ذات
شأن، وهكذا عندما ألحق نحوًا من مائة قبطي بالعمل في ترسانة الإسكندرية، ونظرًا
لكفاءتهم، فقد أشار بإعفائهم من دفع الجزية، والأمر الصادر في ٢٢ ربيع الآخر عام ١٢٥٢
«مايو ١٨٣٦م» يقول: «ويقتضي اتباع الأصول المدونة بها وربط ماهية ومرتب الصنف الذي
يستحقه الأقباط الذين يؤخذون للجهادية لكونهم يؤدون مصالح الميري، ومن اللزوم رعايتهم
ورفاهيتهم كمطلوبه.»٤٩
وقد ألغيت الجزية نهائيًّا في عصر سعيد باشا عام ١٢٧٢ﻫ «١٨٥٥م» ويفهم من أمر صدر
قبل
ذلك التاريخ أن سعيد باشا لم يتشدد أبدًا في جباية هذه الضريبة بطريقة عملية حيث إنه
في
عام ١٢٧١ﻫ «١٨٥٤م» تنازل عن مبالغ متأخرة قدرها خمسة عشر ألفًا من الجنيهات،٥٠ والأمر الصادر بتاريخ ٢١ صفر ١٢٧٢ﻫ «١٨٥٥م» يشمل رغبة الوالي في التلطف مع
الذميين المشمولين برعايته ويلغي الجزية فعلًا،٥١ ولم تثِر هذه المسألة مرة أخرى في عهد الخديو إسماعيل.
وكان من الطبيعي، وقد رُفعت عن الذميين القيود الخاصة بالضرائب والزي، أن يعاملوا
شيئًا فشيئًا على قدم المساواة بالمسلمين، وبالفعل، عندما أدخل الولاة النظام الدستوري
بمصر لم يسعهم إلا أن يعتبروا الذميين جزءًا لا يتجزأ من الدولة والاعتراف لهم على هذا
الأساس بنفس الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها المسلمون.
وتنص المادة الخامسة من البرنامج الذي وضعه «بلنت» ونشرته جريدة التيمس الصادرة في
أول يناير ١٨٢٢ على أن «الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني، فإنه مؤلف من رجال مختلفي
العقيدة والمذهب وأغلبيته مسلمون؛ لأن تسعة أعشار المصريين من المسلمين وجميع النصارى
واليهود وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم بلغتها منهم إليه؛ لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات،
ويعلم أن الجميع إخوان وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية.».
والدساتير المختلفة التي وضعت فيما بعد كانت أكثر صراحة ووضوحًا في هذا الشأن، وإننا
نذكرهم على سبيل المعرفة:
مشروع إصلاح قدمه إلى حضرة صاحب السمو توفيق باشا خديو مصر اتحاد الشباب
المصري سنة ١٨٧٩، وكان يقترح هذا المشروع «المساواة التامة بين جميع
المصريين أمام القانون واستعدادهم لشغل جميع مناصب الدولة دون تفرقة بسبب
أصلهم أو ديانتهم.».٥٢
مشروع دستور مصري «والمعتقد أن واضعه اللورد كرومر» بتاريخ ١٩٠٨ يقترح أن
«جميع رعايا الخديو هم مصريون بغض النظر عن دينهم أو عقيدتهم.».٥٣
على أن القانون النظامي والانتخابي الصادر في ٢١ يوليو سنة ١٩١٣ كان يعبر
عن الاضطراب الذي كان سائدًا منذ انعقاد مؤتمري أسيوط، ومصر الجديدة، فقد
حتم القانون تعيين أربعة نواب من الأقباط ضمن الأعضاء المعينين والبالغ
عددهم خمسة عشر، وكتب اللورد كنشنر إلى حكومته بتاريخ ٦ يوليو ١٩١٣ معلقًا
على هذا البند بقوله: «إن وجود تمثيل الأقليات هو دليل قاطع على رغبة
الحكومة في منح طبقات الشعب هذا اللون من التمثيل الذي من حقها
تمامًا.».
وقد أثار بعض أعضاء اللجنة التي شُكلت لوضع المبادئ العامة لدستور عام ١٩٢٢ مشكلة
التمثيل النسبي لجميع الطوائف الدينية، ويؤكد أنصار هذا النظام أنه إذا ضمنوا للأقليات
الدينية تمثيلًا ثابتًا في الجمعية الوطنية، فإنهم يمنعون بذلك الإنجليز من التدخل في
شئون مصر الداخلية بدعوى حمايتهم للأقليات، وأن في ذلك الاحتفاظ بالوضع الذي ينص عليه
القانون النظامي المعمول به «١٩١٣»، وبالرغم من تأييد بعض الأعضاء المسلمين والأقباط
لهذا المبدأ، فإن أغلبية الأعضاء عارضوه بشدة، فاستبعد، ويقول لنا قليني فهمي باشا في
مذكراته: إن الملك فؤاد — على الرغم من التسامح الديني الذي أظهره طوال حياته — كان
يعارض كل المعارضة إبقاء التمثيل النسبي على أساس التفرقة الدينية؛ ذلك أن هذا المبدأ
قد يبقي على الانقسامات القديمة التي يترتب عليها إضعاف الوحدة القومية.
غير أن دستور عام ١٩٢٢ ينص على المساواة التامة بين جميع المصريين أيًّا كان دينهم
أو
عقيدتهم، كما ينص على حريتهم في ممارستهم لشعائر دينهم وقبولهم بالوظائف الحكومية إلخ
…
وجرت التقاليد فوق ذلك على أن يكون دائمًا ضمن أعضاء مجلس الوزراء وزير قبطي.
وهكذا؛ بعد جهود دامت قرنًا من الزمن، جاء دستور الأمة ليتوج أعمال أسرة محمد علي
الكبير.
هوامش
(١) الوثائق الإنجليزية التي نشرها المسيو «دوان» في منشورات الجمعية الجغرافية
الملكية المصرية تحت عنوان: L’Anglelsre et
l’Egypte، ص٤٠٨.
(٢) الوثائق الفرنسية: de l’Egypte de 802 a
1804، ص١١.
(٣) في مجلة المعهد العلمي المصري سنة ١٨٩٤. Yocub Artim pacha, un Tezkene drain dr iss du
l’Hegue.
(١٤) تذكر الأمر الصادر بتاريخ غرة شوال ١٢٤١ﻫ «سجل ٥٧ معية سنية تركي ص٣٤» والأمر
الصادر بتاريخ ٧ من ذي القعدة ١٢٤١ «سجل ٢١ «معية تركي» ص٨٤».
(١٥) يذكر المستشرق «لين» لأنه قابل في شارع بالقاهرة امرأة ارتدت عن الإسلام
وتزوجت بنصراني فحكم عليها بالإغراق “Manners and Customs of
the Modern Egyptiaon, p. 126”.
(٣١) Rapport sur L’instruction en Egypt. Paris Juin,
1868.
(٣٢) Cianq Mois au cairo, p. 162. إن عددًا
كبيرًا من الأقباط استقروا في السودان في ذلك العصر وجنوا ثروات طائلة من
التجارة، ولكن ثورة المهدي سببت لهم أضرارًا لا تعوض.
(٣٦) احتج عرابي باشا لدى م. جريجوري، مراسل جريدة التيمس اللندنية، اتهامه
بالتعصب، غير أن المستر بلانت لاحظ أن القائد المصري أضفى على الحركة طابعًا
دينيًّا أكثر من مشايخ الأزهر أنفسهم.
(٤٩) محفوظات عابدين، خطاب من محمد علي إلى حبيب أفندي بتاريخ ٢٢ ربيع ثان ١٢٥٢
سجل ٧٤ «معية تركي» رقم ٩١٠ — تخصص الأقباط منذ عهد بعيد في أعمال بناء السفن،
وقد أرسل عبد العزيز بن مروان إلى تونس ثلاثة آلاف قبطي ليقوموا بهذه
الأعمال.
(٥٠) محفوظات عابدين، أمر عال إلى وزير المالية بتاريخ ٢٩ ربيع ثان ١٢٧١، سجل ١٨٨٠
«معية عربي» رقم ٥٧.
(٥١) محفوظات عابدين، أمر عال بتاريخ ٢١ صفر ١٢٧٢، سجل ١٨٨٣ رقم ٨.