(١) الدور الذي لعبه بطريرك اليعاقبة تحت الحكم الإسلامي
أصبح بطريرك الأقباط، على أثر الحفاوة التي أظهرها له رعاياه عند دخول العرب مصر،
مصدر قلق لعمرو بن العاص وسائر الولاة؛ إذ أدركوا مدى نفوذ هذا الخبر وعملوا في الحال
على وضعه تحت رقابة شديدة ومطالبته بالخضوع للسلطة الشرعية، وبمعنى آخر أنهم منعوه من
اتخاذ أي إجراء، حتى في محيطه الديني، دون استئذانهم.
وأرادوا أولًا إقرار انتخاب البطريرك، فألزموه أن يقيد اسمه في سجلات الديوان قبل
أن
يباشر أعماله، وقد استطاع أحد الشمامسة الكاثوليكيين يدعى جرجس أن يفوز في عهد عبد
العزيز بن مروان بالكرسي البطريركي، وذلك بتأييد بعض أساقفة الإسكندرية، ولكن اليعاقبة
اعترضوا على صحة انتخابه بدعوى أنه لم يُنتخب في يوم الأحد، فأولى عبد العزيز بن مروان
هذه المشكلة اهتمامه وأرسل في الحال بعض جنوده للمحافظة على النظام، ثم دعا الطرفين
المتخاصمين للمثول بين يديه،
١ وكان عبد العزيز قلقًا — بوجه خاص —
عندما وصل إلى الإسكندرية لتولي مهام منصبه، لم يرحب البطريرك الراحل بقدومه بحجة أن
موعد وصول الوالي لم يُعلن بعد، ويتهم ساويرس الملكيين بإثارة غضب عبد العزيز، وعلى أي
حال استدعى هذا الأخير البطريرك وسلمه إلى جنده، وأمرهم بألا يطلقوا سراحه إلا بعد أن
يدفع غرامة قدرها ألف دينار،
٢ واعتزم الوالي بعد ذلك أن يضع البطريرك رهن إشارته دائمًا وأن يلازمه في
جميع رحلاته، ويقال: إنه سمح بتشييد كنيسة في حلوان لسبب وضع البطريرك تحت
رقابته.
٣
ويبدو أن هذا التقليد تطور في عام ١٨٤ﻫ «٧٩٩م» وأصبح قانونًا، ويروى لنا ساويرس بن
المقفع أنه بعد أن اجتمع الأساقفة على هيئة مجلس الإسكندرية، واتفقوا على تعيين مرشح
لهم، عادوا إلى القاهرة ليقابلوا الوالي فلما رآهم سألهم: «ما حاجتكم؟» فقال له أنبا
ميخائيل: «نعلم رئاستك لأجل أن أبا المذهب الذي كان لنا قد تُوفي … لأجل ذلك أردنا أن
تقيم آخر عوضه يدير البيعة والشعب» ولما سألهم الوالي عن اسم المرشح، قالوا: «مرقس»
فأمر الوالي بتسجيل اسمه في الديوان، ثم أذن لهم بأن ينتخبوه بدلا من البطريرك
يوحنا.
وكان اسم الوالي، هذا الليث بن الفضل وتصفه سيرة البطاركة بأنه كان رفيقًا بالأقباط،
كما تروى لنا بعد ذلك أول زيارة قام بها البطريرك للسلطة المدنية، قال: «لما تم عيد
الفصح، دخل الأب البطرك أنبا مرقس إلى فسطاط مصر ليسلم على الوالي، فلما وصل مصر،
أعلموا الأب ميخائيل الأسقف والشعب بوصوله، فخرجوا إليه بالأناجيل والصلبان والمجامر
ولقوه بفرح عظيم وتهليل وقراءة، وكانوا يقولون نعم وحسن وصولك إلينا يا مرقس بن مرقس،
فمضى لمنزله ليستريح؛ لأنه كان آخر النهار، وبالغداة قام البطرك الأسقف أنبا ميخائيل
وباقي الأساقفة المجتمعين معهما ليجتمعوا بالوالي، فلما وصلوا إلى داره استأذنوا عليه
فأمر بدخوله، فلما دخل وسلم على الوالي، التقاه ودعا له … فأمره الوالي أن يجلس وساواه
في المخاطبة.».
٤
وقد ظن البطريرك أنه يستطيع بعد الفتح العربي أن يوصل علاقاته الدينية مع اليعاقبة
القائمين خارج الحدود المصرية، وفي عهد عبد العزيز بن مروان، حدث أن كتب البطريرك إلى
النجاشي وإلى ملك النوبة وكلاهما كانا وقتئذ مسيحيًّا وتابعًا لبطريركية الإسكندرية
لحملهما على الصلح وتسوية النزاع القائم بينهما، فأخبر الدساسون الوالي بذلك، فغضب وقرر
إعدام البطريرك، ولكن الكُتَّاب الأقباط — وكانوا آنئذ المتصرفين في الإدارة — أرادوا
إبعاد هذه الكارثة، فحرروا في الحال خطابات تختلف تمامًا عن الخطابات التي سُلمت إلى
المندوبين المسافرين إلى الحبشة وسحبوا التي كتبها البطريرك، ثم أخبروا الوالي بأن
المبعوثين موجودون ومعهم الخطابات التي كانوا يحملونها، فأمر عبد العزيز بإحضارهم فورًا
وأخذ منهم الخطابات، ولما قرأها لم يجد فيها أية إشارة إلى ما نُقل إليه؛ أي: أنه لم
يجد دعوة صلح موجهة إلى الأميرين المسيحيين، فهدأت ثورة غضبه وسمح للبطريرك بالعودة إلى
الإسكندرية.
٥
وفي سنة ٧١ﻫ «٦٩١م» استقبل البطريرك سمعان رسولًا من بلاد الهند
٦ يطلب إليه تعيين أسقف وكاهن، ولما كان البطريرك عالمًا بنية الوالي، امتنع
عن إجابة هذا الطلب قبل الحصول على تصريح من السلطة، ولكن الرسول لم يصبر وتوجه بطلبه
إلى أسقف آخر حقق رغبته، وكان لهذا التصرف أسوأ النتائج حسب ما جاء عن لسان الرواة، ثم
إن الكرسي البطريركي ظل شاغرًا لمدة ثلاثة أعوام بعد وفاة البطريرك سمعان.
وهكذا أخذت شخصية البطريرك تتلاشى كلما توطدت أركان الإمبراطورية العربية، ولم يعد
هذا الرئيس الديني سوى آلة يديرها الحكام حسب رغباتهم بالرغم من الألقاب التي كان
يمنحها لهم الولاة الفاطميون أو السلاطين المماليك، أضف إلى ذلك أنه رغم الاحترام الذي
كان يظهره رعاياه، لم يحتل البطريرك في الواقع إلا المكانة الثانية في الأمة القبطية،
أما المكانة الأولى، فكان يحتلها القائم على مالية الدولة أو على الأخص القبطي الذي كان
يتمتع بثقة رجال الحكم.
وهذا الخلاف حول الأسبقية الأدبية سبب في أواخر القرن التاسع عشر حادثًا خطيرًا بين
البطريرك كيرلس الخامس ولفيف من الأعيان بقيادة بطرس باشا غالي، رئيس الطائفة، وكان
البطريرك يناهض حركة الإصلاح التي كانت تنادي بها جمعية التوفيق لإدخال النظم الحديثة
في معاهد الطائفة، فاستطاع بطرس باشا الحصول على إذن من الخديو لنفي البطريرك، ورغم
الاحترام البالغ الذي يكنه الأقباط لرئيسهم الديني، لم يتأثروا كثيرًا من رؤية هذا
الشيخ الجليل في طريقه إلى المنفى تحت حراسة قوة من البوليس.
ولكن لا يسعنا أن ننكر الدور المهم الذي قام به بطريرك اليعاقبة منذ الفتح العربي،
وسنتكلم فيما بعد عن مساعيه المختلفة لصالح مصر الإسلامية، ويجدر بنا أن نذكر هنا أن
البكوات المماليك استعانوا به في جباية الضرائب المستحقة عن الأقباط، ويبدو أنه قام
بهذه المهمة خير قيام وحاز رضا جميع الحكام.
٧
(٢) حالة الأقباط الروحية تحت الحكم الإسلامي
سبق أن قلنا إن الأقباط، قبيل الفتح العربي، كانوا يستغلون دينهم لتحقيق أغراضهم
بدلًا من العمل على خدمته، ولكن مجيء العرب وتقدم الإسلام في مصر وعزلة الأقباط
المعنوية وجهل الإكليروس وعدم مله إلى الثقافة؛ كل هذه الأسباب أضعفت مركز المسيحية في
مصر مع مرور الزمن.
ووصف لنا البطريرك ديونيسيوس، الذي رافق الخليفة المأمون في رحلته إلى مصر إبان ثورة
الباشموريين، ما وصلت إليه المسيحية المصرية من سوء حال، فقال: «لقد رأينا هناك عادات
لا تتفق مع الفضيلة وتتنافى مع فضائل كيرلس وديوسقور وتيموثاوس الذين وضعوا قوانين
الكنيسة المصرية، وأول ما لاحظناه أن الأقباط ولا سيما رهبانهم، كفوا عن دراسة الكتب
المقدسة فلم يستغلوا منافعها، وأكثر الرهبان تقوى يحترفون الأعمال اليدوية ويسترسلون
بعض فقرات من الكتب الدينية، وأن الذين يقصدون ترقيتهم إلى رتبة الأسقفية لا يبالون
بتثقيف عقولهم، ولكنهم يهتمون بجمع المال ليشتروا رتبتهم، ولولا دفع مبلغ معين من
المال، لما استطاع أحد أن ينازل هذه الرتبة حتى إذا كان يمتاز بعلمه وسلوكه القويم،
ولما أخذنا نلومهم على موقفهم، اعتذر البابا «بطريرك الإسكندرية» وقال: «إننا نسلك هذا
الطريق بسبب الديون المستحقة على كنيسة الإسكندرية، ولولا المال الذي يجيء بهذه الطريقة
لعجزنا عن تسديد الديون.».
٨
هذا ما وصلت إليه الكنيسة القبطية بعد مضي قرنين فقط من دخول العرب مصر، نعم إن بعض
الرهبان حاولوا إصلاح النظام والقلوب، وقد اشتهر بعضهم بوضع المؤلفات العلمية والدينية،
ولكنهم ظلوا أقلية ضئيلة لا يستطيع مواطنوهم أن يفتخروا بهم لقلة عددهم، أضف إلى ذلك
أن
مؤلفاتهم ليس فيها أصالة ولا جدة.
وتتابع البطاركة على كرسي الإسكندرية الواحد تلو الآخر دون أن يأتوا لها بمفاخر
جديدة، وكان عصرهم موقوفًا من حيث الهدوء والاضطراب على رضا أو عدم رضا الحكام عليهم
وعلى هدوء الحالة العامة أو اضطرابها، ولم يبذل أحدهم مجهودًا حقيقيًّا ليبث روحًا
جديدة في هذه الكنيسة التي كانت تضمحل تدريجيًّا، أما كتاب سير البطاركة، فكانوا يسردون
لنا المشاكل المالية التي كانت تشغل أذهان الطائفة.
زد على ذلك أنه منذ اضطهاد الأقباط في عهد السلاطين المماليك، كانت أحيانًا تمضي
فترات طويلة من الزمن قبل انتخاب البطريرك الجديد،
٩ وقد استفحل الأمر بعد احتلال الأتراك مصر، ولكن الرعية لم يهتموا كثيرًا
بهذه الحالة الشاذة، وقد حدث أيضًا في عصر الفاطميين، عند انتخاب البطريرك افرام أن يقع
الاختيار على مرشح علماني، إذا لم يتقدم أي مرشح له صبغة دينية.
وكان الإيمان بالمسيحية صوريًّا، ولما كان التعليم الديني منعدمًا، أصبح الإكليروس
لا
يفهم أصول الدين، وكان البطريرك يشبط من عزائم رعاياه بدلًا من تدعيمها؛ ذلك لأن العيش
في سلام كان هدفه الأول بل الوحيد. وجاء في «سيناكسار» اليعاقبة أنه حدث أن أساء أسقفان
معاملة رعيتهما، فلامهما الأنبا يوساب أكثر من مرة وطلب إليهما أن يحسنا معاملتهما،
ولكنهما رفضا النصيحة، فتركهما وشأنهما، واستنجدت الرعية به وقالوا له: «إذا فرضت هذين
الأسقفين علينا، فإننا سنخرج من ديننا.»، فما كان من البطريرك إلا أن دعا أساقفة القُطر
كله ونفض يديه أمامهم من تبعة معاقبة هذين الأسقفين،
١٠ وفي عهد السلطان الملك الكامل، حدث أن تاجرًا يدعى حنا اعتنق الإسلام
ليتزوج من مسلمة، ثم ندم على عمله وأراد أن يستشهد، فقيل له: «اذهب عند البطريرك واطلب
مشورته واعمل بها.»، ولكنه أجاب: «أخشى أن يخيفني البطريرك من الموت.».
١١
وكانت حالة الأساقفة والقساوسة أكثر سوءًا، ولما كانت حاجتهم إلى المال تفوق حاجة
البطريرك إليه، صاروا يعبدون المادة، ففي عام ٨٣٥م، ظل الكرسي البطريركي شاغرًا منذ مدة
طويلة بعد وفاة البطريرك سمعان، وهنا ظهر موظف متزوج، ومنح الأساقفة العطايا، فاتفقوا
مع بعض أعيان الإسكندرية لانتخابه بطريركًا،
١٢ وهناك دليل آخر على حب المال، ذلك أن أسقفًا كان يعيش في الوجه القبلي في
القرن الثامن عشر، فطلب إلى الأب الرحالة «سيكار»
Sicard الفرنسي أن يعلمه سر صناعة الذهب.
١٣
أما الشعب، فكان لم يزل يعطف سرًّا على تراث الفراعنة الروحي، وكان قد ورث عنهم اللغة
وبعض العادات، وكان يرغب أيضًا في تكريم ما تبقى من آثار قديمة، وكتب الرحالة
«نوردن»
Norden في هذا الصدد يقول: «لقد عرف
المصريون القدماء والمحدثون، الوثنيون والمسيحيون والمسلمون، المتعلقون بالخرافات، كيف
يجمعون بين طقوس الأديان المختلفة، فلا غرابة إذا وجدنا بينهم من يجل الأهرامات وأبا
الهول إجلالًا ظاهريًّا، بل يكن لها شعورًا داخليًّا فياضًا، وكان البعض يذهب إلى حد
إقامة حفلات دينية تكريمًا لها، فيثيرون غضب المسلمين الذين أعلنوا صراحة من عدوانهم
لعبادة الأصنام.»
١٤ وتفسير «نوردن» هذا يوضح لنا ما جاء في تاريخ المقريزي عن سبب تحطيم وجه
أبي الهول، قال: «كان شخص يُعرف بالشيخ صائم الدهر قام في نحو من سنة ثمانين وسبعمائة
لتغيير أشياء من المنكرات، وسار إلى الأهرام وشوه وجه أبي الهول شعثه.».
١٥
ولكن يجب ألا نلوم الأقباط وحدهم على ذلك، فإن الانحطاط شمل جميع مسيحيي الشرق، ويجدر
بالذكر أن أبناء الطائفة الملكية بحلب في القرن السابع عشر أساءوا تفسير تعاليم الديانة
المسيحية إلى حد أنهم صرحوا رسميًّا بتعدد الزوجات على شرط ألا يتم الزواج بامرأة ثانية
إلا إذا قامت علاقات زوجية بينهما لمدة سنتين، ولا يتم الزواج بامرأة ثالثة إلا إذا
قامت العلاقات بينهما لمدة خمس سنوات،
١٦ ويرى الأستاذ حبيب زيات الذي نشر هذه الوثيقة أن ذلك الأمر ما هو إلا نتيجة
للتأثير الإسلامي، فهل تأثر الأقباط بالأغلبية؟ وإلى أي حد تأثروا؟
(٤) المنافسة بين الملكيين واليعاقبة
لقد أشرنا عرضًا في أثناء هذا البحث إلى المنافسة القائمة بين الملكيين واليعاقبة،
وقد نشأت منذ انعقاد مجمع كالسيدونيا «٤٥٣م» واستمرت طوال الحكم الإسلامي، وترتب عليها
نتائج خطيرة جدًّا، لذلك لا نستطيع أن نمر عليها دون أن نتحدث عنها.
ظل نفوذ بطريرك اليعاقبة كبيرًا جدًّا داخل مصر وخارجها بالرغم من القيود التي وضعت
للحد من نشاطه، وإذا كان الوالي امتنع في بادئ الأمر أن يتدخل في شئون الأقباط
الداخلية؛ أي: في المسائل الدينية البحتة، فقد اضطر إلى التدخل بعد إلحاح اليعاقبة
أنفسهم وخاصة بعد الدسائس التي حاكها الملكيون، ويقول ميخائيل السوري
٤٢ في هذا الصدد: «لما عجز اليونانيون الخبثاء «يقصد هنا الملكيين» عن إساءة
الأقباط، كما كانوا يفعلونه فيما مضى، لم يكفوا عن أعمالهم السيئة، وكانوا يعينون في
أنطاكيا ومصر لشعوبهم بطاركة ليثيروا الفوضى بين السوريين والمصريين والأرمن، كالثعبان
الذي بُترت رأسه ولم يزل يحرك ذيله، وكان يوجد في سوريا وبلاد الأرمن وكذلك في فلسطين
ومصر، علاوة على بطريرك وأساقفة طائفتنا، بطريرك وأساقفة للملكيين، كانوا يثيرون الفوضى
بقدر إمكانهم بين أفراد هذه الأمم الثلاثة، وإذا أتيحت لهم الفرصة، بين النوبيين
والأحباش.».
وكان الأقباط يستعينون بالوالي لأغراض شخصية؛ هذا قس يشكو إليه؛ لأنه لم يرقَ إلى
درجة أسقف فيخبره بوجود كنز مخفي؛ وهذا قس آخر يسافر إلى دمشق، ويدعي أمام الخليفة بأن
في استطاعته ملء خزانة الدولة الخاوية من ذهب بطريرك اليعاقبة الذي كان يصنعه بنفسه
بطرق كيميائية ليزين كنائسه بالأواني النفيسة،
٤٣ ولا تخلو سير البطاركة من القصص المماثلة، فلا داعي من الإطالة في هذا
الموضع ولا سيما أن معظم هذه الحالات فردية، ولا يسعنا أن ننكر أن الرغبة في الثأر خلقت
سوابق خطيرة، إلا أن توخينا الدقة يحملنا إلى القول بأن الملكيين لا اليعاقبة هم الذين
حرضوا الولاة المسلمين على التدخل في المسائل الدينية البحتة.
وكان الملكيون أصحاب حظوة لدى السلطات البيزنطية لإخلاصهم لها، فلم يرضخوا للحكم
العربي بمحض رضاهم، وكان الإجلال الذي أحاط به عمرو بن العاص بطريرك الأقباط بنيامين
ومصادرته معظم الكنائس والأديرة لصالح اليعاقبة، بعث عند الملكيين رغبة الانتقام
منهم.
ثم كانت الفوارق تزداد بين رعايا الطائفتين كلما رسخت أقدام الحكم العربي في مصر،
لقد
فرح اليعاقبة فرحًا عظيمًا لتخلصهم من اليونانيين، فلم يعودوا يتوجهون إلى بيزنطيا،
وإذا كانت بلاد النوبة والحبشة تخيب آمالهم ولا ترسل لهم المعونة في الأوقات الحرجة،
كان الأقباط ينطوون على أنفسهم ويحاولون تهدئة غضب الحكام.
أما الملكيون، فكانوا على عكس ذلك؛ إذ إنهم لم ينقطعوا يومًا واحدًا عن التطلع إلى
بيزنطيا، وكانت الأحداث التي تقع على ضفاف البوسفور تهمهم أسوة بالتي تقع على ضفاف
النيل، وكذلك لما كتب سعيد بن بطريق تاريخه، أولى الحوادث البيزنطية والمصرية نفس
الاهتمام في حين أن خصمه ساويرس بن المقفع لم يركز اهتمامه إلا في داخل الحدود المصرية
ويتجاهل الحوادث الخارجية.
على أن الملكين لم يعارضوا الحكم العربي علنًا، بل حاولوا أن يتفاهموا مع المحتل
الجديد، ولم يكن أمامهم لتحقيق هذا الغرض سوى خطة واحدة وهي مساعدة العرب على تشديد
قبضتهم على اليعاقبة، فرموا بذلك عصفورين بحجر؛ أي: نيل حظوة المنتصر وإضعاف نفوذ
اليعاقبة في آن واحد.
وقاموا بعملهم هذا بعد سقوط الإسكندرية مباشرة، ويقول حنا النقيوسي في هذا الصدد:
«جمع ميناس الملحد ٣٢٫٠٥٧ قطعة من الذهب وسلمها للإسماعيليين «كذا» بينما كانت الغرامة
التي فرضها عمرو عن المدينة لا تتجاوز ٢٢ ألف قطعة.».
٤٤
ونقرأ من جهة أخرى في السينكسار اليعقوبي أن البطريرك أغاتوا «لقي شدائد كثيرة من
أجل
الأمانة، من ذلك أن في زمانه مضى إنسان اسمه تاوداسيوس، وكان ملكيَّ المذهب، إلى مدينة
دمشق وتقدم إلى يزيد بن معاوية الخليفة بها، وقدم له أموالًا كثيرة وأخذ منه منشورًا
بأن يتولى مدينة الإسكندرية والبحيرة، ومريوط، فلما أتى، تسلط على أبينا البطريرك ووزنه
الجزية ووزن تلاميذه في كل سنة ستة وثلاثين دينارًا، وألزمه بكل ما ينفق على مراكب
الأسطول في كل سنة، وكان يزن عنه سبعة آلاف دينار في كل سنة، ولكثرة شره لم يختلط به
أهل ملته؛ لأنهم كرهوا منه ما عمل مع البطريرك، ولا يمكن الأب أن يخرج من قلايته وقال:
«كل من وجد البطريرك في الطريق يقتله، فمكث الأب في قلايته محبوسًا إلى أن أهلك الله
هذا المنافق.».
٤٥
ولكن اليعاقبة لم يسلموا بهزيمتهم، وقام أحدهم، وكان كبير مستشاري قرة بن شريك، ونجح
في إقناع الوالي بجعل الملكيين يدفعون ضعف الضريبة المقررة.
٤٦
ولا شك أن الملكيين لم يزالوا يشعرون بقوة نفوذهم؛ لأنهم فكروا في ولاية عبد العزيز
بن مروان في أن ينتخبوا بطريركًا من بين أفراد طائفتهم ويفرضوا سلطته على أفراد
الطائفتين، أضف إلى ذلك أنه عندما قال الوليد: «ما أدع بطركًا يتقدم في أيامي.» كان
هناك طبيب من أهل الإسكندرية اسمه «أنوبيس»، فلما وجد الوسيلة، سأل الأمير أن يأمر أن
يقدمه بطركًا من الإسكندرية وكان يوميًّا خلقدونيًّا، فقبل سؤاله، وكان كاتب اسمه
انسطاسيوس من الإسكندرية ودفع هذا الكاتب ألف دينار للأمير جعل الفير بطرك الخلقدوني
بمدينة الإسكندرية.
٤٧
ثم حدث أن شُفيت زوجة الخليفة هارون الرشيد المختارة على يد بطريرك الإسكندرية
الملكي، فمنحه الخليفة مبلغًا كبيرًا من المال على سبيل الهدية، وأعطاه أمرًا يسترد
بمقتضاه من اليعاقبة جميع الكنائس التي كانوا قد صادرها لصالحهم، وعاد البطريرك إلى
الإسكندرية واسترجع هذه الكنائس.
٤٨
وكان الخلفاء يستغلون شعور الحقد بين هاتين الطائفتين، فيكلفون أصحاب الطائفة الأولى
بتنفيذ الأوامر التي يصدرونها ضد أصحاب الطائفة الثانية، ولما أمر الخليفة المأمون «أن
تؤخذ من البيع في كل مكان العمد والرخام، كان الواصل في هذا الطلب إنسانًا مخالفًا
مبغضًا من النسطورية اسمه العازر، فلما وصل إلى مصر، اجتمع إليه أهل مذهبه النجس الذين
هم الهراقطة الخلقدونيون المقيمون بالإسكندرية.».
٤٩
وفي خلافة عبد الله بن مروان، ذهب الملكيون واليعاقبة إلى حد التماس تحكيم قاضٍ مسلم
في مسألة خاصة بملكية إحدى الكنائس.
ومن البديهي أن الحكام العرب لم ينظروا بعين السخط إلى هذه الخلافات المستجدة؛ لأنها
كانت تتيح لهم فرصة التدخل في أمور رفضوا التدخل فيها في بادئ الأمر غير أنهم كانوا
يظهرون قلقهم بسبب العلاقات القائمة بين الملكيين وبيزنطيا، ثم بينهم وبين دول أوروبا
الكاثوليكية، وقد احتفظ لنا القلقشندي بنصوص مستندات لها أهمية كبيرة في هذا الموضوع،
وهذه المستندات خاصة بمراسيم تنصيب البطاركة الملكيين واليعاقبة بالإسكندرية، وكان
الحكام يوصون البطريرك الملكي في هذا المرسوم بأن يمنع رعاياه القاطنين في المناطق
الساحلية من إقامة أية علاقة خفية بينهم وبين الأجانب القادمين إلى مصر، أما المرسوم
الخاص بتنصيب البطريرك اليعقوبي فإنه لم يذكر شيئًا عن هذا الموضوع غير أنه يشير إلى
علاقاته بالحبشة.
٥٠
أما عن العلاقات بين اليعاقبة والملكيين، فلنذكر قصة تُظهر لنا مدى الكراهية التي
كانت تفرق بينهم، وهي قصة المصلح مرقس بن كنبر ولسنا في حاجة إلى الوقوف بهذه القصة
طويلًا، فقد ذكرها أبو صالح الأرمني بتفاصيلها، ونقول فقط: إن الإصلاحات التي كان
يقترحها مرقس على البطريرك اليعقوبي للتقرب بين الطائفتين سببت طرده من الكنيسة
القبطية، وكان مرقس يقترح السماح للشعب القبطي بأن يطيل شعره ومنع الختان والتوصية
بالاعتراف السري، ولما بلغ الخلاف أشده، لجأ مرقس إلى ساحة السلطان، ولكن البطريرك
اليعقوبي انتصر عليه؛ لأن الملكيين كانوا معدمي النفوذ في ذلك الوقت، وانتقم بعد ذلك
المباشرون الأقباط أحسن انتقام بفرض جزية مضاعفة على المدن التي أطاعت مرقس بن كنبر،
وكان انتقامهم هذا لمصلحة الخزينة المصرية.
واكتنف الغموض تاريخ الملكيين في العهد العثماني، فقد تركوا لمصيرهم، منذ سقوط
القسطنطينية في القرن السادس عشر، يتخبطون في غياهب الفقر والجهل، وفي أوائل القرن
الثامن عشر، لم يكن في القاهرة إلا ملكي واحد على خمسمائة قبطي؛ أي: حوالي عشرين نسمة،
وكان يوجد ما يقرب من المائة في الإسكندرية وبعض الأسر المتفرقة في موانئ رشيد ودمياط
والسويس، وغني عن البيان أنه لم يكن لهم أي نفوذ، وكان السلطان يوافق بين حين وآخر على
تعيين بطريرك ملكي لكرسي الإسكندرية، ثم إنه من الصعب علينا، بما لدينا من المعلومات،
أن نعرف بالتحديد عدد الملكيين الذين ظلوا خاضعين لروما، وعدد الذين انشقوا مع
البيزنطيين، بيد أن اهتمام دول أوروبا بمصير الملكيين المصريين يدل على أن بعضهم جدد
صلاته بالكرسي الرسولي، ولكن البابوات كانوا يهتمون أيضًا بمصير اليعاقبة، الذين حولوا
كراهيتهم، بعد زوال الملكيين، نحو الإفرنج.
٥١
(٦) العلاقات بين المسيحية العالمية ومصر المسيحية تحت الحكم الإسلامي
إن الدور الذي لعبه البطريرك، والحوادث اليومية التي كانت تقع بين الملكيين
واليعاقبة، جعلتنا نقتنع بأن الدول المسيحية لم تهمل تمامًا مصير الأقليات الدينية في
مصر.
والواقع أنه لما اجتاح الإسلام الشرق، حاول النصارى القاطنون في البلاد المحتلة،
مدفوعين بغريزتهم، أن يحتفظوا برباط روحي مع الدول المسيحية الكبرى، وبينما توجه
الملكيون نحو بيزنطيا، اتجه اليعاقبة نحو النوبة والحبشة على الأخص؛ لأن الحبشة كانت
الحصن المنيع الذي لم يجرؤ العرب على اقتحامه أبدًا.
٦٩
وكانت علاقات الأقباط بالنوبة والحبشة طبيعية؛ لأن بطريرك الإسكندرية كان الرئيس
الروحي لتلك البلاد، ثم إن تدهور نفوذ البطريرك يومًا بعد يوم لم يقلل من الاحترام الذي
كان يتمتع به في الحبشة، وقد رأينا كيف كان النجاشي يضحي بعزة نفسه ويطلب باحترام إلى
السلطات المصرية أن ترسل له مطرانًا، ويصف ابن فضل الله العمري كيف كان حكام الحبشة
يقابلون من يحمل رسالة من البطريرك اليعقوبي، فيقول: إن رجال الدولة والقساوسة
والأراخنة كانوا يستقبلونه على حدود المقاطعات وفي أيديهم المجامر، ولما كان المندوب
يصل إلى مدينة «أمهره» كان النجاشي يستقبله شخصيًّا ويمتنع منذ هذه اللحظة عن إصدار
أوامره حتى يوم الأحد الذي يلي وصول المندوب، وعندئذ كان النجاشي ورجال الدين والدولة
يعقدون جلسة في ساحة الكنيسة لإصغاء مضمون الرسالة، وكان النجاشي يستمع إليها وهو
واقف.
٧٠
كتب ابن فضل الله العمري هذه السطور في عهد سلاطين المماليك؛ أي: في الوقت الذي تزعزت
فيه مكانة البطريرك بمصر، مما يجعلنا نتساءل ما سبب احترام ملك ذي سلطان واسع لشخص كان
يعيش أغلب الأحيان في بؤس مادي وأدبي شديدين؟ ونجد أحسن رد على ذلك على صفحات تاريخ ابن
فضل الله العمري؛ إذ يقول: إن المسيحيين اليعاقبة كانوا يعتقدون أن سر الاعتقاد لا قيمة
له إلا إذا وافق عليه بطريرك الإسكندرية، لذلك يضطر النجاشي أن يلتمس تعيين الأسقف الذي
يمثله البطريرك في الحبشة، وكان إرسال الخطاب إلى البطريرك يحط من شأن النجاشي إلا أن
إرساله كان عملًا لا مفر منه.
وقد ظلت العلاقات بين نصارى مصر وجيرانهم الإفريقيين بعد الاحتلال العربي، بل لقد
زادت قوة هذه العلاقات؛ لأن ملك النوبة وإمبراطور الحبشة كانا ينتهزان حجة أي اضطهاد
يقع على النصارى أو أي إجراء يصيب هيبة البطريرك ليتدخلا في شئون مصر، بينما أن الولاة
العرب لم يترددوا في طلب وساطة البطريرك في سبيل تأمين حدودهم الجنوبية، إلا أن
العلاقات القائمة بين البطريرك والملوك المسيحيين كانت تقلق الحكام المسلمين وخاصة بعد
احتلال مصر مباشرة، بل كان حضور قسيس لطلب تعيين مطران يكفي لإلقاء الرعب في نفوس رجال
الإدارة.
٧١
ولم تهتم الحبشة جديًّا بمركز الكنيسة القبطية قبل القرن الثالث عشر الميلادي، وإذا
اتصلت بها قبل ذلك، كان لسبب واحد هو طلب تعيين المطران «الابونا»؛ ذلك لأن موقع النوبة
المسيحية بين الحبشة ومصر كان يؤهلها لتقوم بدور المدافع الأول عن المسيحية
المصرية.
وفعلًا قذف ملوك النوبة عام ١٣٢ﻫ «٧٥٠م» بجيوشهم عبر الحدود المصرية انتقامًا للإهانة
التي لحقت بالبطريرك ميخائيل الأول، وكان ذلك أول مظهر من مظاهر التضامن بين المسيحيين
وأهمها، وينقل إلينا ساويرس بن المقفع هذا الحادث، بل يحدثنا عنه بحماس، قال: «لما علم
الملك قرياقوس بأن عبد الله بن مروان زج بالبطريرك في السجن سار من بلاد النوبة يريد
ديار مصر في عسكر عظيم فيه مائة ألف فارس بمائة ألف فرس ومائة ألف جمل، ولقد شاهد مَن
أخبرنا بعينه أن الخيل التي تحتهم كانت تقاتل بأيديها وأرجلها في الحرب كما يقاتل
فرسانها فوقها، وكانوا خيلًا قصارًا مثل الحمير، فلما فربوا إلى مصر ليسبوها، ونزلوا
في
البركة المعروفة إلى اليوم ببركة الحبش، نهبوا وقتلوا وسبوا المسلمين، وقد كانوا فعلوا
ذلك بمسلمي الصعيد، وكان الملك قبل وصوله إلى مصر قد سير رسولًا اسمه الأبرخس، من كبراء
المملكة، إلى عبد الله يأمره أن يطلق البطرك، فأخذه عبد الملك واعتقله مع البطرك، فلما
علم بمجيء الملك ووصوله إلى مصر ولم تكن له قدرة على محاربته وخاف منه جدًّا، أطلق
رسوله الأبرخس من السجن، فخرج في لقاء الملك بعد أن قرر معه واستحلفه أنه يرده وعساكره
إلى بلاده، ولا يدعه أن يتقدم إلى حصونه ولا يحاصره، وكان المسلمون يسرقون النوبة
ويبيعونهم بمصر، فعاد بعسكره بعد أن نهب من المسلمين شيئًا كثيرًا».
٧٢
وكذلك ظل الأقباط يستنجدون ببلاد النوبة في أوقاتهم العصيبة طالما ظلت بلاد النوبة
مسيحية، ففي أثناء المجاعة التي حاقت بمصر، في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله،
استنجد النصارى بأريحية الملك جورج النوبي.
ولم تبلغ العلاقات بين مصر والحبشة درجة الخطورة، بالرغم من المظاهر التي صحبتها،
هذا
لأن مصر والحبشة لم تستطع أن تخوض غمار حرب لطول المسافة التي تفصلها برًّا وكثرة
العقبات الطبيعية التي تقوم بينهما وتعدد الثورات الداخلية والأخطار الخارجية التي
تهددهما، ثم إنهما لم ترغبا خوض غمار حرب بالرغم من أنهما لم تحاولا التفاهم قط ولا
الارتباط بالصداقة.
٧٣
كانت الحبشة في حاجة إلى حسن استعداد مصر بينما أن مصر كانت في حاجة إلى حسن استعداد
الحبشة، ولا ننسى أن مطران الحبشة كان يتلقى تعيينه من بطريرك الإسكندرية الذي كان يخضع
لسلطة والي مصر المسلم.
لذلك كان النجاشي يرغب في عدم قيام أية حرب بين الدولتين، ولا سيما أن رعاياه كانوا
يحجون كل عام إلى بيت المقدس حيث أقيمت دار لإيوائهم، وكانوا يريدون القيام بهذه الرحلة
الدينية وهم مطمئنون تمامًا.
أما مصر، فكانت تدرك أن الحبشة جارة لا يرتاح لها، بل إنها جارة خطرة كل الخطر إذا
حكمتها إدارة قوية، وكانت مصر تعلم أيضًا أن النجاشي يتحكم في بعض القبائل الإسلامية،
وأنه ينتقم منها كلما وقع اضطهاد على الأقلية القبطية في وادي النيل، وكانت تعرف خاصة
أن منابع النيل «أو أحد المنابع المهمة له» تنبع من أعالي هضاب الحبشة، فكانت تخشى في
كل حين أن يقطع أو يحول مجراها.
وكانت فكرة تحويل مجرى النيل هذه تقلق بال المصريين منذ أمد بعيد، يكتب المسيو
«كاميرير»
Kammerer قائلًا: «كان المسلمون ينتابهم
الرعب منذ أجيال بسبب حرمانهم من مياه النيل نتيجة لتآمر جيرانهم عليهم، ولم يزل هذا
الخوف ينتابهم، ولما كانوا مقتنعين، وهم على حق، بأن مصر لا تعيش إلا بفضل النيل، كانوا
يرون من المحتمل جدًّا أن يحول مجرى النيل، وهم في ذلك مخطئون.»
٧٤ ولم يكن الصليبيون أقل اقتناعًا من المصريين، ولما فكروا في إشراك الحبشة
في حروبهم ضد الإسلام، لم يكن استعمال هذا السلاح الفاصل؛ أي: تحويل مجري النيل، بعيدًا
عن خططهم، ولما علم سلاطين المماليك بتدبير مؤامرة لهذا الغرض، منعوا الرحالة الأجانب
من دخولهم الحبشة؛ إذ كانوا يعتقدون أن هؤلاء الرحالة إنما يذهبون إلى الحبشة لحمل
النجاشي على تحويل مجرى النيل الخصيب، وكان الرواة الغربيون أنفسهم يعتبرون تنفيذ هذا
المشروع ممكنًا إذا فكر في تنفيذه، ونقرأ في رحلة «جيلبرت دي لانوا»
G. de Lanoy «سنة ١٤٢٢م» ما يأتي: «لا يسمح السلطان لأي مسيحي
بالذهاب إلى الهند عن طريق البحر الأحمر ولا عن طريق نهر النيل لمقابلة القس يوحنا
«النجاشي وقتئذ.» خوفًا من أن يتفق المسيحيون معه على حرمانهم من هذا النهر أو على أي
عمل عدائي آخر؛ ذلك لأن المسيحيين هناك والقس يوحنا يناصبون العداء. إنه ليس في استطاعة
السلطان تحويل مجرى النيل، ولكن القس يوحنا يستطيع تحويله حيث يشاء، وإذا لم يقم بهذا
العمل بعد، فالسبب يعود إلى عدد المسيحيين الكبير الذين يقيمون بمصر، وخوفًا عليهم من
الموت جوعًا.».
٧٥
وجاء الرحالة «برتراندون دي لابروكبير»
La Broquiere
بنفس الحجج بعد عشر سنوات،
٧٦ وحوالي عام ١٤٥٠م طلب ملك «أراجون» إلى النجاشي تخريب مصر بقطع ماء النيل
عنها،
٧٧ وكان الأب «فانسليب» في كتابه عن مصر يعتقد أنه من المستطاع تحويل مجرى
النيل، ويذكر خطابات أرسلها النجاشي إلى سلاطين مصر يهددهم فيها بتحويل مجرى النيل إن
أساءوا معاملة الأقباط،
٧٨ وكان الرحالة «سافاري»
Savary الذي زار
مصر في القرن الثامن عشر، يؤمن بتحقيق هذه المعجزة.
٧٩
ولعب البطريرك مرارًا دور الوسيط، وكان نفوذه القوي لدى بلاط النجاشي كفيلًا بأن يكلل
مسعاه بالنجاح.
ويرجع أول مسعى كلف به إلى عهد المستنصر بالله الفاطمي؛ إذ أمره الخليفة بالتوجه
إلى
النجاشي ليخبره بأن مستوى النيل في هبوط، الأمر الذي لا بد أن يلحق ضررًا بسكان مصر،
وقد حمل الخليفة البطريرك هدية نفيسة ليقدمها إلى النجاشي، ويقول المقريزي: «أمر
النجاشي بفتح سدّ يجري منه الماء إلى أرض مصر، ففتح وزاد النيل في ليلة واحدة ثلاثة
أذرع، واستمرت الزيادة حتى رويت البلاد وزُرعت ثم عاد البطريرك فخلع عليه المستنصر
وأحسن إليه.».
٨٠
وقد استخدم البطريرك نفوذه في مناسبات أخرى لمصلحة مصر والإسلام، ويقص ابن فضل الله
العمري أن عبد الله الزيلعي، رئيس الوفد الحبشي المسلم، جاء مصر بين عامي ١٣٣٢ و١٣٣٨م
وطلب إلى السلطان أن يحمِّل البطريرك رسالة يطلب فيها إلى النجاشي أن يكف عن اضطهاد
المسلمين وانتزاع أراضيهم التي يقدسونها، وأمر السلطان بتحرير رسالة بليغة يلوم فيها
هذه الأعمال، ويطلب منع أي: كائن من اقترافها، فحررها البطريرك، ويقول ابن فضل الله:
إن
الخطاب أتى بأحسن النتائج.
٨١
ولم يحل توسط البطريرك بين اتصال البلدين مباشرة، ولكن معظم الوفود المرسلة من لدن
النجاشي كان غرضها إما طلب رسم مطران جديد، وإما تيسير مهمة الحج إلى بيت المقدس
للأحباش، وفي الظروف العادية كان نص الرسالة مكتوبًا كما يأتي على وجه التقريب: «نرجو
السلطان أن يأمر البطريرك برسم مطران علينا يكون صالحًا وعالمًا، لا يحب الذهب ولا
الفضة».
على أن النجاشي كان ينتهز هذه الفرصة ليعطي سلطان مصر فكرة عن قوته، وكان يكتب ذلك
بأسلوب في غاية من الاحترام، غير أنه كان ينتهز هذه الفرصة ليعطي السلطان فكرة مجسمة
عن
قوته المادية، وكان السلطان يدرك مقصد النجاشي، فيجيب عليه بخطاب آخر يعطيه فكرة مجسمة
أيضًا عن عدد قواته وعدتها.
وكان الوفد الحبشي يقدم دائمًا الهدايا للسلطان، وكانت الهدايا عبارة عن عبيد وأدوات
وأسلحة مذهبة، وإذا لاحظ السلطان أن الهدية قليلة القيمة، لم يتأخر في تأنيب رئيس
الوفد، وحدث في عام ٩٢٢ﻫ أن قدر السلطان قنصوه الغوري الهدايا المقدمة من الوفد بخمسة
آلاف دينار أو دون ذلك، «فلما عاينها السلطان وبخ الذي طلع بها وأحضر له قوائم هدايا
ملوك الحبشة إلى الملوك السالفة مثل الأشرف برسباي والظاهر جقمق والأشرف قايتباي وغير
ذلك من الملوك، وأحضر عدة تواريخ يُذكر فيها هدايا ملوك الحبشة إلى ملوك مصر، فقرنت
بها.».
٨٢
وكان عدد أفراد الوفد كبيرًا؛ لأنه كان يشمل الحجاج الذاهبين إلى بيت المقدس، ويصف
لنا المؤرخ ابن إياس «عام ٩٢٢ﻫ» طريقة استقبال هذا الوفد وصفًا مفصلًا؛ إذ يقول: «… كان
مجموع هؤلاء الحبش الذين حضروا إلى مصر نحو ٦٠٠ إنسان … وكان صحبتهم البطرك وعليه برنس
حرير أزرق، وكانت أعيانهم راكبة على خيول والبقية مشاة، فطلعوا القلعة من سلم المدرج،
والبطرك ماشٍ قدامهم، فلما وصلوا إلى باب الحوش، كان صحبتهم كراسي حديد عالية، وقصدوا
أن يجلسوا عليها بحضرة السلطان، فلم تمكنهم رءوسهم النواب من ذلك، ووقع في أيام الملك
الأشرف قايتباي مثل ذلك وطلعوا معهم بكراسي فما مكنوهم من الجلوس عليها بحضرة السلطان
…
ولما نزلوا من القلعة، نزل معهم الوالي والمهمندار وجماعة من رءوس النواب، فوصلوهم إلى
الميدان خوفًا عليهم من العوام أن يرجموهم.».
٨٣
ونرى من ذلك أن البطريرك كان يهتم شخصيًّا بكل ما يمس الحبشة، وتقول إحدى الروايات
القديمة إنه كان يكتب للنجاشي مرتين في السنة «بموافقة السلطان»، ولكن أبطلت هذه العادة
في خلافة الحاكم، ولما كان سلطان مصر يتسلم خطابًا من النجاشي، كان يطلب إلى البطريرك
أن يؤكد للنجاشي احترامه، ويرجوه أن يحسن معاملة مسلمي إمبراطوريته.
٨٤
والويل كل الويل إذا فوجئ البطريرك وهو يتخاطب رأسًا مع الحبشة دون تصريح من السلطات
الشرعية، «وفي يوم الاثنين، العشرين من شهر جمادى الأولى، عقد مجلس بين يدي السلطان
بالقضاة الأربعة وغيرهم، منهم الشيخ بدر الدين العيني، نسيب بطريرك النصارى اليعاقبة،
وكان السلطان غضب عليه بحيث ضربه وحبسه في المقشرة، وأخذ منه شيئًا كثيرًا، فأمر بكتابة
إشهاد عليه أنه لا يكتب إلى ملك الحبشة بنفسه ولا بوكيله، لا ظاهرًا ولا باطنًا، ولا
يولي أحدًا في بلاد الحبشة لا قسيسًا ولا أعلى منه ولا دونه إلا بإذن من السلطان ووقوفه
على كتابته، وأنه متى خالف ذلك انتقض عهده وضُربت عنقه، وحكم قاضي المالكية بذلك ونفذ
بقية القضاة، ثم قرئ الأشهاد بين يدي السلطان والجماعة ورسم بكتابة خمس نسخ منه ليكون
عنده وعند كل من القضاة الأربعة نسخة وانفض المجلس على ذلك.».
٨٥
غير أن البطريرك لم يكن هدفًا لمثل هذه العقوبات الصارمة إلا نادرًا، وكان السلطان
جقمق على حق من شكواه من الأحباش؛ إذ وصله من النجاشي في ذلك الحين خطاب فيه عتاب شديد
اللهجة، بل إنذار على موقفه من الأقباط، وقد تسلم هذا الخطاب عام ٨٤٧ﻫ «١٤٤٣م» من وفد
كان يحمل إليه هدايا، وكان أحد رئيسي الوفد مسلمًا يُدعى عبد الرحمن ويحترف التجارة،
وقد تضمنت هذه الرسالة فيما تضمنت، بعد عبارات الإكبار والإجلال المتبعة: «في أيام
الظاهر برقوق ونجله الناصر فرج الدين كانا قائمين بالعدل خصوصًا بإخواننا النصارى … وقد
بلغنا الآن أن هذه القواعد قد تغيرت من قِبل قوم كانوا عن طريق العدل حائدين وفي طريق
الظلم خائضين، والآن إذا مات أحد من إخواننا النصارى، لا يدفن إلا بعد مشقة كبيرة لأهله
وأقاربه، ويؤخذ منهم ما لم تجرِ به عادة في أيام الملوك السالفة، والله تعالى لم يعذب
أحدًا من خلقه بقطع الرزق … ثم بلغنا أن ثَمَّ من يتعرض إليهم في كنائسهم في أوقات
صلاتهم وفي أيام أعيادهم بقطع مصانعاتهم وأخذ ما لا يستحقون أخذه، وإنهم في غاية الضيق
في ذلك … وأبونا البطريرك وإخواننا النصارى الذين هم الآن تحت عز سلطانكم ومملكتكم
الشريفة نفر قليل جدًّا، ضعفاء الحال، مساكين في كل الجهات … وأنتم حفظكم الله ليس يخفى
عليكم ما في بلادنا الواسعة من المسلمين تحت حكمنا، ونحن لهم ولملوكهم مالكون ولم نزل
نحسن إليهم في كل وقت وحين … وملوكهم عندنا بالتيجان الذهب، راكبون الخيول المسوّمة ولا
نأخذ منهم جزية ولا شيئًا قليلًا ولا كثيرًا … وإن كنتم في شك من ذلك، فاسألوا التجار
والمترددين إلى بلادنا ليخبروكم بذلك بالحق والصدق … وليس يخفى عليكم ولا على سلطانكم
أن بحر النيل ينجر إليكم من بلادنا ولنا الاستطاعة على أن نمنع الزيادة التي تروي بها
بلادكم عن المشي إليكم، ولا يمنعنا عن ذلك إلا تقوى الله تعالى والمشقة على عباد الله
…
وما قصدنا بهذا إلا أن يكون بيننا وبينكم الصلح كما كان بين الملوك السالفين.»
٨٦ ثم طلب النجاشي من السلطان إبراز أوامره لإعادة بناء الأديرة والكنائس التي
هُدمت، وأن يأمر ألا يقول أحد للنصارى: يا كلب.
٨٧
وها هو ذا النجاشي يبعث بتهديداته مرة أخرى لمصر وها هو ذا السلطان وقد اعتراه الخوف،
ثم حاول دحض ادعاءات النجاشي غير أنه أرسل له وفدًا يحمل الهدايا، وقد حجز النجاشي هذا
الوفد حتى يشاهد بنفسه كيف ينتقم الأحباش من المسلمين، كما دعاه إلى رؤية إحدى
الجثث.
ولكن هذا الاقتصاص من أناس لا ذنب لهم زاد من غضب السلطان، وقد استطاع أحد الأباطرة
الأحباش، واسمه سيف الأرعد، في أثناء حكمه؛ أي: فيما بين عام ١٣٤٢م وعام ١٣٧٠م، أن يجعل
السلطات المصرية تفرج عن البطريرك مرقس بعد أن زجته في السجن، وذلك بدون أن يلجأ إلى
سلاح التهديد، وكانت العلاقات التجارية بين مصر والحبشة وقتئذ مزدهرة سواء عن طريق البر
أو البحر، ولما كان يتعذر على سيف الأرعد أن يقدم مساعدة مباشرة إلى البطريرك، فقد ألقى
القبض على جميع التجار القادمين من القاهرة، ثم أرسل فرسانه ليبثوا الرعب بين القوافل
وليعوقوا سيرها، وكتب الرحالة «بروس»
Bruce في هذا
الشأن: «ولما كانت أسباب هذه الأمور غير خافية، وكان البطريرك قد أُلقي في السجن
لابتزاز المال منه، اتهم سكان مصر السلطان بالظلم واضطر السلطان أن يفرج عن البطريرك
بشرط أن يعيد السلام بين سيف الأرعد ومصر، وتحقق ذلك بسرعة.».
٨٨
وعلى إثر توسع الإمبراطورية المصرية في السودان وتوطيد أركانها في عهد محمد علي وسعيد
باشا والخديو إسماعيل حدثت عدة احتكاكات كانت سببًا في نشوب الحرب بين الإمبراطوريتين،
وكانت دوافع هذه الحروب سياسية بحتة، فلا دخل لها في موضوعنا، ولكن يجدر بنا أن نذكر
هنا عملًا مشرفًا قام به البطريرك اليعقوبي، فقد وفق مرة أخرى إلى منع نشوب الحرب بين
مصر والحبشة في عهد سعيد.
تلك هي أبرز ما في العلاقات بين المسيحيين اليعاقبة والأحباش.
وكان يعيش إلى جانب اليعاقبة طائفة الملكيين، وقد أخذ نفوذها يتضاءل بسرعة تفوق سرعة
تضاؤل نفوذ اليعاقبة، ولكنها استطاعت في عهد السلاطين المماليك أن تلفت نظر أوروبا
إليها، فنرى من المناسب أن نذكر شيئًا عنها.
وإذا قرأنا بعناية الحوادث المتعلقة بالكنيسة المصرية، لاحظنا أن السلاطين المماليك،
ومن بعدهم الولاة العثمانيين كانوا يعاملون الملكيين معاملة خاصة وسبب ذلك يرجع خصوصًا
إلى العوامل الاقتصادية.
وسعت الحروب الصليبية الهوة بين الإسلام والمسيحية، غير أنها وطدت العلاقات السياسية
والاقتصادية بين الشرق والغرب، وأكثرت المعاملات التجارية في حوض البحر الأبيض المتوسط،
وكانت الامتيازات التي حصلت عليها جمهوريتا البندقية وجنوة من مصر تدل على مدى اهتمام
السلاطين المماليك ومن بعدهم الباشوات الأتراك بإيجاد مصدر كسب ذي أهمية لبلادهم
وبالتالي لأنفسهم، ومن جهة أخرى، اتحدت إسبانيا الكاثوليكية على أنقاض الإمبراطورية
العربية في الغرب فاتسع سلطانها وزادت ثروتها، بينما كانت فرنسا تلعب دور حامية
الكاثوليكية في الشرق.
وإن لم يستطع الكنيسة الكاثوليكية، بعد هزيمة لويس التاسع في المنصورة وتونس، أن
يؤلف
جيشًا جديدًا من الصليبيين، فإن نفوذه ظل قويًّا وكلمته مسموعة في أوروبا، ألم يطع أمره
عندما هدد بالحرمان كل من يبيع أسلحة للدول الإسلامية؟ ألم يملِ شروطه على البيزنطيين
المنشقين عن روما في مجمع فلورنسا عام ١٤٢٩ عندما طلبوا من ملوك الغرب مساعدتهم
العسكرية ضد الأتراك؟ وكذلك رأينا البابا، بصفته حامي الكاثوليك في العالم، يهتم بمصير
الملكيين المصريين، وقد أدى تدخله إلى نتائج محسوسة، لا سيما بعد الحوادث التي وقعت في
عهد الناصر محمد بن قلاوون، وقبل هذه الحوادث، عندما زار القاهرة وزير المغرب وأغلقت
كنائس العاصمة، استغل الملكيون هذا الإجراء للفت نظر الدول الغربية إليهم، وبينوا
للحكام المصريين أن قرارهم هذا كان يتنافى مع الحكمة، ويقول المفضل بن أبي الفضائل «إن
الأشكري» «عاهل القسطنطينية» سأل أجراء أهل الذمة بالديار المصرية على عادتهم وفتح
كنائسهم، ففتحت ورسم لهم بالاستواء في الركوب، وكانوا قبل ذلك يركبون عرضًا من جهة
واحدة.
٨٩
ويضيف المقريزي إلى ما تقدم أنه في عام ٧٠٣ﻫ «١٣٠٣–١٣٠٤م» أرسل ملك برشلونة وفدًا
حمله بالهدايا الثمينة لجميع كبار الموظفين وطلب فتح الكنائس، فوافقت السلطات على فتح
كنيسة اليعاقبة بحارة زويلة وكنيسة البنادقة.
٩٠
ثم تدخل البابا شخصيًّا بعد حوادث عام ٧٢١ﻫ «١٣٢٨م» الأليمة، وقدمت بعثة بابوية تحمل
رسالة من البابا يطلب فيها جماعة الحكومة للنصارى، وقد صرح البابا بالنيابة عن العالم
الكاثوليكي بأن الفرنج سيعاملون المسلمين الموجودين في بلدهم بنفس الطريقة التي سيعامل
بها النصارى في مصر وسوريا.
وسنكتفي بهذه الأمثلة الثلاثة؛ إذ إنها توضح لنا كيف فقد اليعاقبة، الذين كانوا في
عزلة تامة، الأمل في أن تساعدهم الحبشة بطريقة إيجابية، وكيف حولوا أنظارهم نحو أوروبا
بعد أن لمسوا أثر تدخلها لصالح الملكيين، ونتساءل مرة أخرى إذا كان الأقباط لم يكونوا
مدفوعين بعامل اليأس «الأدبي والمادي» عندما طلبوا الاشتراك في مجمع فلورنسا والانضمام
إلى الكنيسة الكاثوليكية.
(٧) العدالة الإسلامية إزاء الأقباط
المعلومات التي لدينا عن العدالة عند العرب بالنسبة للأقباط قليلة؛ لأن التاريخ لم
يسجل سوى بعض تفاصيل في هذا الموضوع، وعلى الرغم من أن العرب كانوا يميلون إلى التدخل
في شئون الأقباط القضائية، كما لمحنا إلى ذلك عندما تكلمنا عن سياسة الغرب الاستعمارية،
فقد تركوا إلى البطريرك سلطة واسعة نسبيًّا، وكتب علماء الحملة الفرنسية: «يصدر
البطريرك حكمه في كل الخصومات التي تشجر بين رعاياه غير أن حكمه ليس نهائيًّا؛ إذ إن
في
استطاعة الخصمين — إذا اتفقا على ذلك — رفع أمرهما إلى القاضي الذي يثبت عادة حكم
البطريرك … ويقضي البطريرك أيضًا في الجرائم الطفيفة ذات العقوبات التأديبية، وإذا
اتُّهم قبطي مثلًا بسرقة مسلم، فعلى الأخير أن يشكوه للبطريرك، وبالعكس إذا كان المسلم
هو السارق، فعلى القبطي أن يشكوه أمام القاضي أو حاكم المدينة.».
٩١
بقي علينا أن نعرف على أي أساس كان البطريرك يصدر أحكامه، هل كان هنا قانون؟ يقدم
لنا
سيزوستريس سيداروس باشا، الذي درس بالتفصيل نظام البطريركات، البيانات الآتية: «فيما
يختص بالأقباط الأرثوذكس، كان البطريرك في القاهرة والمطارنة في الأقاليم مكلفين بالفصل
في المنازعات التي تقوم بين رعاياهم، ولم تكن أحكامهم مقيدة بأية قاعدة، ولكن إذا
اعتمدنا على بعض أجزاء من مستندات معظمها مجهولة اليوم، نميل إلى الاعتقاد بأنه كانت
توجد بعض النصوص ترتكز عليها السلطات الدينية لإصدار أحكامها، كما أن هذه السلطات كانت
تستشير أحيانًا أعيان الطائفة قبل إصدار حكمها، ولم يكن هناك أي نص مكتوب يتعلق بتنفيذ
الأحكام، فكان البطريرك أو المطارنة ينفذونها رأسًا دون الالتجاء للسلطات المدنية، وكان
ينتج من ذلك أن الأحكام لم تكن نافذة إلا باتفاق الطرفين المتخاصمين.».
٩٢
ويظهر أنه لم يطرأ أي تغيير على هذا الوضع، غير أنه حدث في عام ١٨٧٣، عندما تُوفي
البطريرك ديميتويوس الثاني: «أن تشاور أعيان الأمة فيما بينهم وقرروا إعداد مشروع
لإصلاح الكنيسة قبل انتخاب البطريرك الجديد ليصدق عليه حسب قوانين الكنيسة التي جمعها
ابن العسال في القرن الثالث عشر، وكانت هذه القوانين تنص على أن البطريرك يجب أن يستشير
ذوي العلم والتقوى من القساوسة والعلمانيين، وخصوصًا الأشخاص الذين لهم علاقة بصاحب
العرش، قبل البت في المسائل المهمة، وعلى هذا الأساس كون مجلس أقره الخديو بالمرسوم رقم
١٧ بتاريخ ٦ فبراير سنة ١٨٧٤م.».
٩٣
ويتضح من ذلك أن الأعيان كانوا يعترفون ضمنًا بأن الحالة ليست على ما يرام، وأن الأمة
القبطية في حاجة إلى اقتفاء أثر حركة التقدم التي قامت بها الأسرة المالكة، وكان الغرض
من هذا العمل أيضًا الحد من اختصاصات البطريرك لمصلحة العلمانيين، فليس عجيبًا إذًا أن
نرى البطريرك كيرلس الخامس يحاول تعطل هذا المرسوم.
وقد أنشأ القانون الحديث بجانب المحاكم الأهلية مجالس مِلية لكل طائفة مسيحية يختص
بالفصل في قضايا الأحوال الشخصية.
هل كان الأقباط متساوين بالمسلمين أمام القانون؟ من المرجح أن العدالة في أوائل الفتح
العربي لم تشبها أية شائبة، وكانت تبحث شكاوى الأقباط بدقة وعناية، ويذكر التاريخ قصة
جنود جيش الاحتلال العربي، الذين ادعوا أحقيتهم في تحصيل أموال من بعض القرى المسيحية،
فطلب الوالي قرة بن شريك إلى رئيس المديرية أن يقوم بالتحقيق في مكان الحادث، أن يرسل
إليه تقريره ليبت في أمر هذا الخلاف على ضوء المعلومات الأكيدة.
٩٤
ولما كانت القضايا تنظر في المساجد، لم يكن يُسمح للنصارى واليهود بدخولها، ويذكر
لنا
الكندي أن القاضي خير بن نعيم كان يفصل في قضايا المسلمين داخل المسجد، ثم يجلس على
الباب الخارجي ليفصل في قضايا أهل الذمة.
٩٥
وبعد مدة؛ أي: في عام ١٧٧–١٨٤ﻫ «٧٩٣–٨٠٠م» سمح القاضي محمد بن قصرون بدخول النصارى،
إلا أن هذا الإجراء كان يعتبر استثنائيًّا.
٩٦
ومن ناحية أخرى، لم يستطع أي مسيحي أن يدلي بشهادته إذا كان أحد طرفي القضية مسلمًا،
وكان القاضي خير بن نعيم يسمح بأن يشهد المسيحي للمسيحي واليهودي لليهودي،
٩٧ وقد ظل هذا النظام معمولًا به إلى القرن التاسع عشر، ويقص علينا كلوت بك في
مذكراته
٩٨ أنه تعرض لاعتداء أحد الطلبة، فتألفت محكمة برئاسة ناظر الحربية لمعاقبة
المعتدي، وقد استمعت المحكمة إلى أقوال الطالب وزملائه ولكنها رفضت سماع رواية كلوت بك؛
لأنه مسيحيًّا ولا يستطيع أن يشهد ضد مسلم.
٩٩
(٨) اضمحلال اللغة القبطية
إن تاريخ اللغة القبطية ما هو إلا صورة لتاريخ الأقباط أنفسهم، احتفظ الشعب القبطي
بلغته في أثناء الحكم اليوناني الروماني وتجاهل لغة المحتل، ولكنه اهتم منذ الساعات
الأولى من احتلال العرب لمصر بدراسة اللغة العربية، نعم أنه درسها بدافع المصلحة
الشخصية بدليل أنه عندما كان يترك المحتل العربي الإدارة بين أيدي سكان البلاد الأصليين
الذين خدموا الحكومة البيزنطية لم يفكر قط هؤلاء الموظفون بدراسة لغة القرآن، بل اهتموا
بإبعاد الكلمات اليونانية من لغتهم، فاختفت الأسماء اليونانية للأماكن، ومراكز
المديريات «فيما عدا الأماكن التي أسسها اليونانيون»، وحلت محلها أسماء قبطية قديمة،
ثم
كان الكتاب المقدس يُقرأ باللغة اليونانية ويُشرح باللغة القبطية، ولما هُزم اليونانيون
لم يعد يُقرأ إلا باللغة القبطية فقط، وأصبحت الكتابة بالقبطية بعد أن ظلت باليونانية
حتى القرن السادس، وكذلك أخذت اللغة القبطية تتقدم وتزدهر.
ولكن هذا التقدم كان ظاهريًّا، والواقع أن انشقاق كالسيدونيا قد ألغى الأسباب التي
أدت إلى نهوض اللغة القبطية، ونلاحظ فعلًا أن اللغة القبطية وآدابها ازدهرت ازدهارًا
عظيمًا فيما بين مجمعين نيقيا وكالسيدونيا؛ أي: فيما بين القرنين الرابع والخامس، ولكن
لم تلبث العبقرية أن خمدت جذوتها فلم تنتج مؤلفات جديدة، وظلت اللغة اليونانية اللغة
الرسمية التي كان يتعلمها الأقباط الطموحون، وظلت أيضًا لغة الدين والتعليم والتجارة،
وكان المصري يستطيع أن يجهل اللغة القبطية دون اليونانية.
نعم إن طبقة الفلاحين العديدة ظلت تتكلم القبطية، كما اضطرت المسيحية أن تستخدم هذه
اللغة لتنشر تعاليمها بينهم، ولكن لما فقدت اللغة القبطية ميزتها كلغة الثقافة، لجأت
إلى اليونانية واستعارت عددًا كبيرًا من المصطلحات التي احتفظت بها حتى الآن، وفضلًا
عن
ذلك، لم تكن اللغة القبطية في يوم من الأيام لغة الإدارة والمصالح، فالموظفون الذين
حلوا محل اليونانيين بعد دخول العرب، كانوا يكتبون باليونانية على الرغم من كونهم
أقباطًا، وعندما أمر عبد الله بن عبد الملك في عام ٨٧ﻫ «٧٠٦م»، أن تكون اللغة العربية
لغة الدواوين، لم يحتج الأقباط على ذلك، بل أسرعوا إلى تعلم لغة المنتصرين.
وما من شك أن هذا الأمر أقلق الموظفين الذين كانوا يعملون باللغة اليونانية ولكن نعرف
اليوم، بفضل أوراق البردي التي اكتُشفت حديثًا، أن الحاكم العربي عجز عن تطبيق هذا
الأمر إثر إصداره؛ إذ وجدنا أوراقًا مكتوبة كلها باليونانية حتى عام ١٦٤ﻫ «٧٨٠م» بينما
وجدنا أوراقًا محررة باليونانية والعربية في آن واحد.
لهذا السبب قد يصعب علينا أن نعرف تفاصيل تطور اللغة القبطية عن طريق المستندات
الرسمية، ويجب أن نرجع إلى الوثائق الشخصية للوصول إلى معرفة حياة هذه اللغة واضمحلالها
التدريجي.
(٨-١) لماذا اتجهت اللغة القبطية إلى طريق الزوال؟
كانت مصر في القرن السابع الميلادي تتكلم اللغة القبطية، وما حل القرن الثاني عشر
حتى أصبحت كلها تتحدث باللغة العربية، فاستطاع العرب أن يجعلوا رعاياهم يهملون
لغتهم القديمة ويستعملون بدلها لغة أخرى، الأمر الذي عجز عن تحقيقه من قبلهم
اليونانيون والرومانيون ومن بعدهم الأتراك.
١٠٠
وهناك عاملان أساسيان عجلا بزوال اللغة القبطية من الحياة العامة، أولهما: إسراع
الموظفين النصارى إلى تعلم اللغة العربية لكي يحتفظوا بوظائفهم، وثانيهما: ازدياد
عدد الذين احتضنوا الإسلام وتركوا حال دخولهم الدين الجديد، لغة أجدادهم.
وقد عجَّلت أسباب أخرى زوال اللغة القبطية، ذلك أن العرب لم يكتفوا بفتح مصر بل
أرادوا احتلالها واستعمارها، فامتزج المستعمرون بالأسر المصرية وشجعوا هذه الأسر
على التكلم بلغتهم، أضف إلى ذلك أن اعتناق الإسلام يحتم دراسة القرآن وبالتالي
اللغة العربية، ثم أخذ عدد رجال الدين الذين حافظوا على التقاليد واللغة يتضاءل
بسرعة، أما الأديرة التي ازدهرت في أوائل الفتح، فما لبثت أن هجرها الرهبان حين
بدأت السلطات تفرض الضرائب على نزلائها، وبعد فترة قصيرة، تعلم القساوسة اللغة
العربية حتى يستطيع أن يفهم رعاياهم تعاليمهم، ولما كان مستواهم العقلي آخذ في
الهبوط، فقد تركوا دراسة القبطية عندما اقتنعوا بعدم فائدتها العملية.
(٨-٢) مراحل اضمحلال اللغة
حدث اضمحلال اللغة القبطية بالتدريج، «لقد كبتت اللغة العربية اللغة القبطية
رويدًا رويدًا مثل النبات الذي حُرم من الماء والشمس في ظل شجرة كبيرة، لقد ظلت
اللغة القبطية على قيد الحياة من القرن العاشر الميلادي، بل ازدهرت في الأديرة،
ولكنها، منذ القرن الحادي عشر، حُرمت من العناية فذبلت بسرعة حتى إذا جاء القرن
الثاني عشر كادت تلفظ أنفاسها.».
١٠١
وهذه بعض الحوادث التي تؤيد ما نقوله، ففي إحدى المنازعات التي شجرت في عام ١٣٢ﻫ
«٧٥٠م» بين الملكيين واليعاقبة بشأن ملكية بعض الكنائس، كتب البطريرك ميخائيل الأول
إلى السلطات التماسًا باللغة القبطية، ولكنه أرفق ترجمة عربية بالنص القبطي عملًا
بمشورة بعض المطارنة،
١٠٢ ويقص علينا الشماس يوحنا، الذي سرد حياة البطريرك ميخائيل، أنه بينما
كان موسى مطران أوسيم، في طريقه للمثول بين يدي الخليفة مروان الذي لجأ إلى مصر في
عام ١٣٢ﻫ «٧٥٠م»، ألقاه الجند أرضًا وأخذوا يضربونه على عنقه وعلى أضلاعه بقطع
نحاسية ويقولون له: «قدم لنا بعض العطايا لنتركك.»، ويضيف المؤرخ «أن المطران لم
يجبهم بكلمة واحدة؛ لأنه لم يكن يفهم لغتهم، وكنت مضطرًا أن أترجم له كل كلمة
يفوهوا بها.».
١٠٣
وخلاصة القول، لم يكن إقبال الرهبان على تعلم اللغة العربية بأقل من إقبال
العلمانيين؛ بدليل أنه لم يمضِ على الفتح قرن من الزمن حتى اضطر بعضهم أن يلجئوا
إلى المترجمين لقراءة النصوص القبطية، وكثر عدد الرهبان في القرن العاشر بدليل أنه
عندما كان أحد المسلمين يريد اعتناق المسيحية، درس تعاليمها على يد قسيس كان يشرح
له بالعربية النصوص القبطية للكتب المقدسة.
على أن صغار رجال الإكليروس هم الذين تسرعوا بدراسة اللغة العربية وإهمال اللغة
القبطية، أما كبار رجال الدين، من مطارنة وبطاركة، فأهملوا مدة طويلة تعلم اللغة
العربية، وقد وجدنا بطريركًا كان يجهل اللغتين العربية والقبطية، وهذا البطريرك
اسمه ميخائيل الخامس، وقد عاش في منتصف القرن الثاني عشر، غير أن رجال الإكليروس
عمومًا استعملوا اللغة العربية منذ بداية القرن العاشر لكي يفهمهم رعاياهم، ونعرف
الجملة الشهيرة التي قدم بها ساويرس بن المقفع تاريخه البطاركة: «استعنت بمن أعلم
استحقاقهم من الأخوة المسيحيين وسألتهم مساعدتي على نقل ما وجدناه منها «الأخبار»
بالقلم القبطي واليوناني إلى القلم العربي الذي هو اليوم معروف عند أهل الزمان
بأقاليم ديار مصر لعدم اللسان القبطي واليوناني من أكثرهم.»، وقد سبقه سعيد بن
بطريق في هذا المضمار، وكتب الأقباط فيما بعد تاريخهم بل مقالاتهم الدينية باللغة
العربية، وكان أشهر كُتَّاب الطائفة أمثال أبي شاكر بطرس بن الراهب ومكين وأبي
الفضائل إلخ … يجهلون القبطية.
ولم يلبث أن وَلِيَ بطاركة اليعاقبة اللغة العربية بعناية خاصة، وكتب ميخائيل
السوري، عن جبرائيل الثاني «١١٣١–١١٤٦م» «أنه كان بارعًا باللغة العربية وخطها،
ولما رأى أن الشعب المصري يتكلم اللغة العربية ويكتب بها، نظرًا لطول عهد السيادة
العربية، اهتم بترجمة التوراة والإنجيل إلى العربية، وكذلك بقية كتب الطقوس الدينية
الأخرى ليستطيع المؤمنون؛ أي: الشعب بأكمله، أن يفهم هذه الكتب.».
١٠٤
أما نشاط اللغويين الأقباط أمثال إخوة العسال وأبي البركات بن كبر، فيمكننا
تفسيره لا برغبتهم في تيسير تعلم الشعب اللغة العربية، بل لجعله يفهم لغة القداس
وطقوس العقيدة، وإذا كانت الصلوات تُتلى دائمًا باللغة القبطية، فإن الدروس الدينية
كانت تُشرح بالعربية.
ويقول المقدسي: إن نصارى مصر لم يزالوا يتكلمون اللغة القبطية حتى عام ٣٢٥ﻫ
«٩٨٥م»
١٠٥ أما المستشرق «كاترمير»، فيقول: إن الأسر الراقية كانت تمتاز عن العامة
بمعرفتها اللغة القبطية «وإن هذه اللغة كانت منتشرة في مصر كاللغة اللاتينية في
أوروبا.».
١٠٦
والواقع أننا لا نعرف بالدقة تاريخ زوالها، لقد حددنا القرن الثاني عشر الميلادي؛
أي: بعد سقوط الدولة الفاطمية، ولكنا نعتقد أنها ظلت مزدهرة في صعيد مصر مدة أطول،
ويذكر أبو صالح الأرمني عادة كانت متبعة في مدينة إسنا، وهي أن نصارى هذه المنطقة
كانوا يحضرون حفلات وأفراح المسلمين ويطوفون في الطرقات والميادين أمام العريس وهم
يهتفون بعبارات قبطية صعيدية.
١٠٧
وكان يندر أن يصادف في القرنين السابع عشر والثامن عشر شخص يتكلم القبطية، مما
جعل عددًا من الرحالة يؤكدون أنهم قابلوا آخر شخص يتحدث بهذه اللغة، ويقول:
«فانسليب»،
١٠٨ عن قبطي يدعى المعلم انسطاس إنه «الرجل الوحيد في مصر العليا الذي كان
يعرف لغة أمته؛ أي: القبطية.»، ويضيف إلى ذلك أنه لا يستفيد من معلوماته كثيرًا؛
لأنه كان شيخًا أصم يناهز الثمانين، ومع ذلك فقد متع نظره بمشاهدة الرجل الذي ستموت
معه اللغة القبطية تمامًا، غير أن القنصل «دي ماييه» كتب بعد «فانسليب» أن الناس في
بعض نواحي الصعيد ما زالوا يتكلمون باللغة القبطية بينما يدعي الرحالة «فورسكال»
Forskal أنه تَعرف على قبطي اسمه إبراهيم أناش
ومتفقه باللغة القبطية.
١٠٩
وعلى أي حال، إذا كان يوجد في بعض قرى الصعيد النائية، حتى القرن الثامن عشر، من
يتكلم اللغة القديمة، فإنه لم يعد أحد يفهم ما في الكتب ولا من يؤلفها،
١١٠ ويُحكى أن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، استقبل البابا ليون
الثالث عشر الوزير القبطي بطرس باشا غالي ووجه له بعض الأسئلة باللغة القبطية،
فاضطر بطرس باشا أن يعترف بجهله لهذه اللغة، ولما عاد إلى مصر أراد أن يتعلم لغة
أجداده.
(٨-٣) قيمة المؤلفات القبطية من الوجهة الأدبية
مرّ الأقباط بفترة انتقال طويلة لم يحسنوا فيها التكلم والكتابة باللغة العربية
ولا القبطية، وليس لدينا من المؤهلات التي تسمح لنا بتقدير المؤلفات القبطية خلال
الحكم الإسلامي، ولكن «أميلينو» الذي كان مترجمًا ماهرًا قارن بين وثيقتين، كُتبت
الأولى في ولاية عبد العزيز بن مروان، والثانية في القرن الثالث عشر الميلادي، في
عصر الملك الكامل، ويقول «أميلينو»: «لغة الوثيقة الأولى لغة العصور المزدهرة وليس
فيها ما يُشعر بالاضمحلال، وتدل الوثيقة الثانية على أن اللغة القبطية قد أصابها
بعض الفساد، وأصبحت خشنة عما كانت، ثم أدخلت فيها كلمات عربية، ولما كان المؤلف
يخطئ غالبًا في نقلها، جعل فهمها من الأمور الصعبة.».
١١١
أما عن اللغة العربية، فنستطيع أن نبدي نفس الملاحظات مع عكس الآية، فتاريخ
البطاركة لساويرس بن المقفع مكتوب بلغة عربية ركيكة، وأخطاء أسلوب كثيرة وتركيب
جملها ضعيف، وبمضي الزمن، تحسنت اللغة وأصبحت أقوى مما كانت عليه على الرغم من
الأخطاء النحوية التي اعتقد ناشرو المخطوطات المسيحية بوجوب تركها سواء ارتكبها
المؤلف عند كتابتها أو ارتكبها الخطاط عند نقلها.
(٨-٤) مدارس الأقباط ودراسة اللغة القبطية
لم يترك لنا التاريخ شيئًا يُذكر عن نظام المدارس القبطية، وكل ما نعرفه على وجه
التحقيق أن هذه المدارس كانت موجودة في مختلف العصور، ولكنا نجهل، حتى القرن التاسع
عشر، نوع التعليم الذي كانت تقدمه هذه المدارس، ويقول لنا «دور بك» عن المدارس
القبطية في عصر إسماعيل: «كثيرًا ما اضطرت الكتاتيب القبطية أن تنزوي في الحارات
وأن تختفي عن الأنظار بإقامتها داخل المنازل، واليوم، على الرغم من أن عصور
الاضطهاد قد بعدت، نجد دائمًا المدارس القبطية منزوية في الطرق الضيقة التي تشق
الأحياء المتوسطة بين طرق المواصلات الرئيسية … ولا تلعب اللغة القبطية الدور الأول
في المدرسة، ويكتفي المعلم بتلقين عدد من الأطفال الكتابة القبطية وبعض الصلوات
والترانيم الدينية؛ لأنه لا يعرف شخصيًّا أكثر من ذلك، وهكذا يضيع معلم المدرسة
وقتًا ثمينًا بدون فائدة تجنيها عقول هؤلاء الصغار، وأساس التعليم كله القراءة
والكتابة العربية.».
١١٢
(٨-٥) العرب واللغة القبطية
من الطبيعي أن يأمر العرب باكرًا باستعمال لغتهم في الأعمال الرسمية، ولا نستطيع
أن نقول إنهم أرادوا إبطال استعمال اللغة القبطية في مصر فيما عدا الحاكم بأمر الله
الذي يقال عنه إنه أمر خلال اضطهاده النصارى بمنع استعمال هذه اللغة.
١١٣
غير أن الفاتح كان يريد أن يحاط علمًا بما يقال في البلاد وبخاصة في محيط
البطريرك؛ لذا نراهم يهتمون بترجمة الصلوات والدروس القبطية ليتأكدوا من خلوها من
القذف بالإسلام، وقد سنحت له فرصة التدخل في الأمر، ولكن ليشجعوا الأقباط على
الاستمرار في التعليم بلغتهم وليمنعوهم من دراسة اللغة العربية، وذلك عندما لاحظوا
حماسهم الشديد لها احتفاظًا بوظائفهم.
ويقول لنا المقريزي: إن بعض الطلبة المسلمين كانوا يتعلمون في المدارس القبطية
ليدرسوا فيها الطب والرياضة، ولكن هذه وقائع حدثت في القرنين الثالث عشر والرابع
عشر؛ أي: في الوقت الذي دعم فيه استعمال العربية، وذهب الأقباط إلى حد دراسة القرآن
ليعتنقوا لغة أسيادهم.
١١٤