الفتح العربي
استن المشرع المسلم لأهل الذمة عددًا من القوانين استلهمها من تعاليم القرآن والحديث، غير أن الفقهاء لم يستطيعوا دائمًا فرض وجهة نظرهم على الحكام، وكان هؤلاء يحيدون عنها كلما اضطرتهم ظروفهم ومصالحهم إلى ذلك.
ولكن وجود الفروق بين المبدأ والحقيقة، وتردد الإدارة إزاء أهل الذمة في أثناء الفتوحات، كان له بعض الأثر بلا شك في العلاقات بين الشعب المقهور وسيده الجديد؛ أي: بين الأقباط والمسلمين.
ولتوضيح العلاقات بين هذين العنصرين اللذين ينتميان إلى شعب واحد، لا يكفينا الرجوع إلى أصول الفتح الإسلامي، بل يجب أن نضع أنفسنا في جو الأحداث ذاتها؛ ذلك لأننا لا نستطيع أن نفهم موقف العرب أو رد فعل الأقباط إن كنا نجهل ما ظهر من نيات الطرفين وما بطن، ثم لا نستطيع التمييز بين التدابير التي اتخذها العرب نحو الأقباط وبين التدابير ذات الطابع العام.
إن الفترة الأولى من الفتح الإسلامي كثيرة الغموض والإبهام، لذا يجمل بنا أن نلقي بعض الضوء عليها، موضحين النقط التي تبدو لأول وهلة غريبة عن الموضوع ولكن لها أثرًا بينًا في مجرى العلاقات بين المسلمين والأقباط.
(١) استعداد العرب نحو الأقباط
(١-١) النبي يعطف على الأقباط
ولا نخفي أن كلامًا يقوله النبي بهذه الدقة عن شعب لا يعرفه ويفكر في غزوه، لمدعاة إلى الدهشة والاستغراب، غير أننا نستطيع الجزم بأن صاحب الدعوة الإسلامية كان يضمر كل خير لسكان مصر الأصليين، ونتساءل الآن: هل كان لمارية القبطية تأثير حسن على شعور النبي؟ هل أحيط النبي علمًا بعداء الأقباط لحكامهم البيزنطيين؟ وهل استنتج من هذه العداوة ميل الأقباط إلى التعاون مع الفاتح المسلم؟ لو صدقنا هذا التأويل لاستطعنا أن نفسر مغزى الرسالة التي أرسلها النبي إلى المقوقس، مع كون المقوقس مرءوسًا لعاهل بيزنطيا.
وعلى كلٍّ، كانت مصر من الوجهة الجغرافية بعيدة عن جزيرة العرب، فكان لزامًا على العرب، وهم لا يملكون أسطولًا بحريًّا لاجتياز البحر الأحمر، أن يقطعوا على أقدامهم أراضي سوريا ولبنان لغزو مصر، ثم لما انتصر النبي على قريش ودخل مكة ظافرًا، اهتم أولًا بتوحيد جزيرة العرب وإدارتها، ولم يفكر جديًّا في بسط سلطانه على أراضٍ جديدة، وقد صرف من بعده خليفته أبو بكر معظم سني حكمه في تدعيم وحدة القبائل العربية وتطهير أوكار المقاومة بين القبائل الثائرة، ولم يشعر العرب فعلًا بقدرتهم على إظهار نشاطهم الحربي خارج الجزيرة إلا في خلافة عمر بن الخطاب.
(١-٢) العرب لا يجدون مبررًا سياسيًّا لفتح مصر
تساءل كثير من الكُتَّاب عن الأسباب التي دعت العرب إلى فتح مصر، وحاول بعضهم أن يجد حلًّا لهذه المسألة، غير أنه من الصعب الوصول إلى مبرر سياسي لهذه الفتوحات، لا سيما وأن المؤرخين المسلمين وفَّروا على أنفسهم مشقة البحث في هذا المضمار.
والواقع أن الفرس والروم كانوا ينشدون الراحة؛ لأن الحروب التي وقعت بينهم أنهكتهم، ثم لم يتوجسوا خيفة من القبائل التي تسكن الفيافي العربية المترامية الأطراف، وإذا اقتفينا آثار المؤرخين العرب الذين اهتموا بالرسالتين التي قد أرسلهما النبي إلى عاهلي إمبراطورية الفرس وإمبراطورية بيزنطيا، وجدناهم متفقين على أن عاهل بيزنطيا لم يُبالِ قط بالرد على الدعوة التي وُجِّهَت إليه، كما أن ملك الفرس مزق علانية الرسالة، معلنًا احتقاره للجنس العربي.
نقول هذا كله لنقيم البرهان على أن الفتوحات العربية لم ترتكز على أغراض دفاعية، وما أسهل الكشف عن أسباب الفتوحات، لقد وحَّد الإسلام القبائل العربية، التي اعتادت شن الإغارات على بعضها، كما اعتادت السلب والنهب لسوء أحوالها الاقتصادية، فلما حلت بينها روح الإخاء التي نشرها الإسلام محل العداء المألوف، بحث سكان الجزيرة بطبيعة الحال عن أرض أقل جدبًا ليرتزقوا منها، فلم يتردد المسلمون — وقد حفزتهم قوة إيمانهم واقتناعهم بأن الشعوب التي لا تعتنق الإسلام تضمر لهم العداء — أقول لم يتردد المسلمون إلى الخروج عبر حدود بلادهم لينتزعوا من المشركين والوثنيين بقاعهم الغنية.
(١-٣) أسباب الفتح الإسلامي لم تكن دينية فحسب
يميل بعض المفكرين إلى تصوير الغزاة العرب الأولين بمظهر المبشرين المسلمين، الذين دفعهم إيمانهم إلى فتح العالم بأسره.
تغيرت سياسة قواد العرب تغييرًا شاملًا بعد اتصالهم بالعالم الخارجي، فقد رأينا النبي يهنئ نفسه علانية لما انتصر الإمبراطور المسيحي هرقل على الفرس الوثنيين دون أن يبالي بما قد تجره هذه الانتصارات من نتائج سيئة على الدين الإسلامي، وقد رأيناه أيضًا في موقعة بدر في السنة الثانية للهجرة ينازل ألف قريشي وهو على رأس ثلاث مئة محارب فقط، ولكن مسئولية الحكم جعلت خلفاءه يحسبون لكل قدم حسابه، وكانت الاعتبارات السياسية قد حلت محل الاعتبارات العاطفية.
وذكر السواد الأعظم من مؤرخي العرب كيف تسلم عمرو الرسالة التي تلقاها من عمر، وقالوا: إن عمرًا لم يفضها إلا بعد أن وطأ بقدميه أرض مصر خوفًا من أن تكون الرسالة متضمنة إلغاء الأمر بالزحف.
إن كانت هذه الوقائع صحيحة، فهي تدل على أن العرب عندما احتكوا بالعالم الخارجي أخذوا يعملون على التوفيق بين مبادئهم الدينية وغاياتهم العسكرية والاقتصادية، وأن حروب الجهاد لم تعد سببًا للفتح، بل أصبحت نتيجة له، وسوف نرى، عند التحدث عن الإدارة العربية، أن الحكام كانوا يهدفون إلى النفع المادي بجانب حض الشعوب المغلوبة على اعتناق الإسلام.
(١-٤) التفوق العنصري عند العرب
ولما سيطر النبي على شبه جزيرة العرب، أراد أن يضم إليه القبائل المسيحية، فأثار عفوًا مشكلة المسيحيين العرب؛ لم يستطع أحد أن يطعن في جنسيتهم العربية بينما صممت تلك القبائل على أن تحتفظ بمنزلتها وعزتها، ورفضت كلية أن يعاملها المسلمون معاملة العرب من الدرجة التالية.
وكان النبي أول من كتب إلى مسيحيي نجران يدعوهم إلى إبرام ميثاق معه، وكان ذلك في السنة العاشرة من الهجرة، فأرسلت قبيلة نجران وفدًا ليفاوض النبي للحصول على أحسن الشروط ولإفهامه أن القبيلة لن تتنازل عن عقيدتها مهما كان الثمن.
وقد ذهب الوفد إلى مكة، وبمجرد وصوله دخل المسجد؛ حيث كان النبي، وأخذ الأعضاء يصلون على الطريقة المسيحية … متجهين عكس القبلة، فاغتاظ المسلمون لهذا المسلك ولكن محمدًا أمرهم بأن يتركوهم وشأنهم، وعندما انتهوا من الصلاة توجهوا إلى النبي، ولكنه أدار لهم ظهره ورفض أن يجيبهم محتجًّا بأنهم وارفون في حلل غالية الثمن.
وفي اليوم الثاني، قابلوا النبي الذي دعاهم إلى اعتناق الإسلام، ولما احتد النقاش، صرفهم بعد أن عيل صبره، غير أن الوفد عرض عليه إبرام معاهدة على أساس منح صاحب الدعوة الإسلامية بعض الفوائد المادية.
- (١)
كان للنبي أن يتصرف في أملاك وعبيد القبيلة، ولكنه في الواقع ترك لها حق استثمارها مقابل دفع ضريبة سنوية قدرها ألف حلة.
- (٢)
وكان على أهل نجران المسيحيين أن يستضيفوا مبعوثي النبي «لا يذكر الجند بوجه التحقيق» وذلك لمدة ما بين عشرين يومًا فما دون ذلك، ولا تحبس رسل فوق شهر.
- (٣)
وإذا نشبت الحرب في اليمن، كان عليهم أن يقرضوا ثلاثين جملًا وثلاثين حصانًا.
- (٤)
وكان عليهم أيضًا أن يكفوا عن مزاولة الربا.
- (٥) ولا يستطيع أحد أن يُكره رجال القبيلة على ترك دينهم وذلك مهما كانت الظروف.١٨
ولا ننكر أن استمرار وجود العناصر المسيحية بين الجماعات الإسلامية في شبه جزيرة العرب أصبح غير مرغوب فيه، ويقال: إن النبي، قبل وفاته، عبَّر عن رغبته في ألا يكون في بلاد العرب دينان، وقد قلق مسيحيو نجران لهذا النبأ، فأرسلوا في الحال وفدًا إلى أبي بكر، ولكن الخليفة أكد لهم أن الاتفاق الذي أبرموه مع النبي لم يزل قائمًا.
(٢) هل كان انتصار العرب رائعًا؟
نريد، قبل أن نحدد موقف الأقباط من الفتح الإسلامي، أن نجرد الأعمال الحربية التي قام بها عمرو من المبالغات التي أُسندت إليها.
(٢-١) مقارنة بين الإسكندر المقدوني وعمرو بن العاص
وادي النيل فريسة سهلة ومغرية لكل من يريد غزوها، وقد انتهزت الدول المجاورة مرارًا فرصة ضعف السلطة المركزية لاجتياح هذا الوادي، فغزاه الهكسوس، ثم الليبيون فالأحباش والآشوريون والفرس.
غير أن غزوة الإسكندر كانت بدون شك أكثر هذه الغزوات نجاحًا، وخلاصة الرواية أن الإسكندر وصل إلى الفرما بعد أن فتح مدينتي صور وغزة وتقدم منها إلى مدينة منف «أي: العاصمة»، دون أن يقذف بسهم واحد، وطرد الفرس، ففرح لذلك الأهلون الذين كانوا يرزحون تحت نير هؤلاء الطغاة، وأظهروا حماستهم للغازي الجديد، وتوجه الإسكندر بعد ذلك نحو الشمال وأسس مدينة الإسكندرية، ثم سار على ساحل البحر الأبيض المتوسط حتى بلغ مرفأ مرسى مطروح، وتوغل نهائيًّا في واحة سيوة قبل أن يعود إلى منف، وقد استطاع الإسكندر، في أقل من سنة، أن يفتح مصر وينظمها.
(٢-٢) الجيش العربي
إن البيانات التي تحصلنا عليها فيما يختص بعدد الفرق العربية التي قامت بفتح مصر تعوزها الدقة، ولكن لم يعترض عليها مؤرخ إلى الآن.
وما من أحد يستطيع أن يشك في قيمة هؤلاء المحاربين وشجاعتهم؛ إذ كانت هذه الصفات من أهم الأسباب التي أضعفت الروح المعنوية للقوات البيزنطية، كانوا فرسانًا جسورين يجيدون استخدام السلاح، ولكنهم مع ذلك لم يكونوا يبلون أحسن البلاء إلا في ساحات القتال المنبسطة أمامهم، فإذا اعترضتهم الأسوار المحصنة، وقفوا أمامها لمدد طويلة أو قصيرة حسب الظروف.
فقد اضطروا مثلًا إلى القتال أمام الفرما شهرًا تقريبًا، وصمد حصن بابليون أمامهم سبعة أشهر، وظلت الإسكندرية تقاوم أربعة عشر شهرًا.
أما قواد الحملة، ولا سيما عمرو والزبير، فلم يتخذوا من الحرب صناعة، إلا أنهم تدربوا على أساليب القتال في سوريا ولم تنقصهم سعة الحيلة.
(٢-٣) الجيش البيزنطي
وقد استطاع جان ماسبيرو أن يقدم لنا، بفضل دراسته لأوراق البردي، معلومات في غاية الأهمية والدقة، فإن مؤلفه هو المرجع الصحيح فيما يختص بحالة الجيش البيزنطي.
ويتبين من ذلك جليًّا المهمة التي وكلت إلى هذا الجيش الذي كان يرأسه المدنيون، نعم إنه كان مكلفًا بالدفاع عن أراضي مصر، إلا أنه قصر في ذلك أيما تقصير عندما دخل الفرس مصر عام ٦١٩؛ أي: قبل الفتح الإسلامي بزمن قليل.
وسبب ذلك أن الجيش كان مرهقًا بأعمال بوليسية، كالضرب على أيدي اللصوص والمحافظة على الأمن ومساعدة محصلي الضرائب، والتدخل لصالح الإمبراطورية في الخلافات المذهبية، فلم يوجد جيش بمعنى الكلمة يتفرغ للقتال، وأن ما كان يُطلق عليه خطأ هذا الاسم لم يكن إلا قوة بوليسية ليس لها قيادة موحدة، ولا قائد عسكري، بل كانت موزعة على خمسة رؤساء مدنيين يتمتعون بسلطات مماثلة.
ويقول ماسبيرو: إن هذا الجيش كان يتألف من ٢٣ ألف رجل، وإن هذا العدد كان كافيًا أو قل — أكثر من الكافي — لصد الاثني عشر ألف أو الخمسة عشر ألف مقاتل الذين وُضعوا تحت إمرة عمرو، ولا سيما أنه كان يحتمي وراء تحصينات، ولكن بينما كان العرب كلهم تحت قيادة مركزة وكانوا يهجمون على العدو بقوات كبيرة، لم يفكر البيزنطيون قط في وضع خطة للدفاع مبنية على التعاون، وهكذا، بينما كان العرب يشددون الخناق على حصن بابليون، لم يأتِ محافظ واحد لنجدة المحاصرين، فقد كان كل واحد منهم ينتظر بدوره هجمات العدو، مما جعل العرب يتفرقون دائمًا على البيزنطيين من حيث العدد.
ويجمل جان ماسبيرو أسباب الانتصارين الفارسي والعربي بقوله: إن كانت مصر قد انهارت أمام غزوات القرن السابع، فلا يرجع ذلك إلى افتقار الجيش إلى الرجال، ثم إن التحصينات التي أقيمت في الأماكن المعرضة للغزو على حدود البلاد كانت في حالة تسمح لها بالصمود.
كان جيش مصر مجزأً، وكانت القيادة موزعة على عدة قواد، كل واحد منهم يقاتل لمصلحته، ومن المؤكد أيضًا أن محافظ ليبيا لم يسهم في القتال إلا عندما هاجمه العرب رأسًا بعد احتلال وادي النيل بأسره.
ثم اشتهر البيزنطيون بعدم مبالاتهم بالصالح العام وعداوتهم الشخصية وعدم تعاونهم، ولم يكن هناك ضباط صناعتهم الحرب».
ولم يكن في الجيش المصري إلا عدد قليل جدًّا من الجنود الأعجميين المرتزقة، وكان معظمه مؤلفًا من سكان مصر «أي: من الأقباط» الذين فقدوا صفاتهم الحربية منذ قرون مضت.
ويستنتج مما ذكره المؤرخ حنا النقيوسي أن الجيش البيزنطي كان عبارة عن رؤساء يعوزهم الفن العسكري والخبرة الحربية، يفقد معظمهم أعصابهم أمام الخطر ويعجزون عن اتباع خطة منسقة، حيث كان كل واحد منهم يقاتل لحسابه الخاص غير متبع لنظام، كما أن الجنود كانوا غير مدربين وغير مخلصين لرؤسائهم.
(٢-٤) انحطاط روح البيزنطيين المعنوية
(٣) موقف الأقباط
(٣-١) مرشدو العرب من اليهود
ولم يكن اليهود في ذلك الوقت يفكرون في القيام بثورة، ولم تكن عندهم الوسائل التي تسمح لهم بالقيام ضد الإمبراطورية البيزنطية، ولكن عندما تغلغل العرب في أراضي العدو، تذكر اليهود أعمال العنف والاضطهاد التي تحملوها في عهد البيزنطيين، وعرضوا في الحال على العرب الغزاة خدماتهم وأعطوهم المعلومات التي تفيدهم، وبذلوا لهم المساعدة في سوريا ومصر.
هل يصح أن نعتمد على هذه الأحداث ونقول إن الأقباط، مثل اليهود، أرادوا أن ينتقموا ممن اضطهدهم في تلك الظروف الحرجة؟ لا نجرؤ على ذلك؛ لأن الأقباط فوجئوا بتقدم العرب غير المنتظر، فبقوا حيارى زمنًا طويلًا وتركوا الحوادث تقرر مصيرهم، ولما أرادوا أن يتخذوا موقفًا إيجابيًّا، كان السيف قد سبق العزل؛ لأن قرارهم جاء متأخرًا.
ولو تواطأ العرب مع كبار الأقباط أن يخوضوا المعركة لاستطاعوا دون شك أن يعتمدوا على تعاون الشعب لهم، ولكن الشعب كان يجهل نيَّات العرب، فخاف أن يظهر عداءه لبيزنطيا في أثناء المعركة، قبل أن تصبح بيزنطيا على هاوية الانكسار.
(٣-٢) كان الأقباط يريدون تغيير حكامهم
والمعلوم أن المصري كره دفع الضرائب منذ العصور القديمة، فكان يُظهر طاعته للحكام الذين كانوا يضربون صفحًا، لسبب من الأسباب، عن تحصيل الضرائب المستحقة عليه، بينما كان لا يكتم عداوته للسلطة التي تفرض عليه تلك الضرائب.
(٣-٣) هل استقبل الأقباط المسلمين كمحررين؟
لما توغل العرب في الأراضي المصرية، كان الأقباط يجهلون كل شيء عن نواياهم، فلا يعلمون إذا كان العرب سيرغمونهم على اعتناق الإسلام، أو سيصادرون أملاكهم، أو سيحتفظون بنظام الضرائب البيزنطي، وظلت هذه المسائل محل استفهام الأقباط، فلم يدركوا أغراض العرب إلا في أثناء حصار حصن بابليون؛ أي: عندما أثيرت مسألة الهدنة بين المتحاربين، وأدرك الأقباط حينئذ أن الحاكم العربي أكثر تسامحًا من الحاكم الفارسي أو الحاكم البيزنطي؛ إذ خيرهم بين حلول ثلاثة: إما اعتناق الديانة الإسلامية والامتناع عن دفع الضرائب، وإما قبول الحماية الإسلامية مع دفع دينارين عن كل رجل يصلح للقتال، وإما استئناف القتال وقبول ما يترتب عليه من نتائج.
زد على ذلك أن العرب لم يحاولوا قط أن يطمئنوا الشعب المصري على نواياهم؛ إذ كانوا يجهلون اللغتين اليونانية والقبطية، كما لم يحيطوا أعمالهم الحربية بأية دعاية، ومع أنهم قاتلوا — على عكس الفرس — بشيء من الرفق، ولم يقوموا بأعمال تخريبية منظمة أو بإراقة دماء الشعب، إلا أنهم تمادوا مضطرين في بعض الأحيان في اقتراف أعمال مشينة وحركات قمع دامية مما لم يساعدهم على كسب ثقة الشعب وعطفه عليهم.
وقد يكون حماس المسلمين الديني سببًا في ارتكاب بعض الأعمال العنيفة، فيقول حنا النقيوسي أيضًا: «إنه عندما يدخل المسلمون المدن، ومعهم المصريون الذين ارتدوا عن المسيحية، كانوا يستولون على أملاك المسيحيين الفارِّين ويسمون خدام المسيح أعداء الله.».
وعلى كلٍّ، لم يستطع الأقباط أن يستقبلوا العرب كمحررين؛ ذلك لأن الغزاة كانوا يدينون بديانة أخرى، حقًّا، لقد حرر العرب اليعقوبيين من نير البيزنطيين، ولكن لم يكن هؤلاء اليعقوبيون يرتاحون إلى حكام آخرين عقيدتهم تخالف العقيدة المسيحية.
وإننا لو درسنا سلوك الأقباط في مختلف أدوار المعركة، لاستطعنا أن نلقي ضوءًا على موقفهم، ولكن يجدر بنا، قبل ذلك، أن نذكر شيئًا عن شخصية المقوقس الغامضة.
(٣-٤) صعوبة تحقيق شخصية المقوقس
وإنه من المرجح أن العرب حرفوا هذا الاسم، والمسألة في ذاتها ليست خطيرة، ولكن الخطر كل الخطر هو ذلك اللبس، الذي وقعوا فيه عندما كانوا يتحدثون عن محافظي مصر المختلفين، ويبدو أنهم أهملوا هذه الحقيقة ألا وهي أن كل محافظ «دوق» كان مسئولًا أمام بيزنطيا مباشرة، وعليه أن يرفع تقاريره إلى رئيس الإدارة الشرقية فقط، حقًّا، إن قيروس، بطريرك ودوق الإسكندرية، كان يتمتع بمركز ممتاز بالنسبة إلى سائر الدوقات؛ لأنه كان مكلفًا بجباية الضرائب إلى جانب وظيفته، وبعد، إنه لم يكن يستطيع الخروج على النظام المتبع أو أن يفرض سياسته الشخصية على زملائه، أو أن يبرم اتفاقات مع الفاتح، ثم يوقعها بالنيابة عنهم.
ماذا كان يقصد المؤرخ من كلمة «مصر»؟ هل كان يعني بها البلاد كلها؟ لا أظن هذا، إن الذين كتبوا التاريخ باللغة العربية، كانوا يستعملون هذه الكلمة في البداية للإشارة إلى المدينة نفسها، وجاء بعد ذلك المقريزي، فأراد أن يدقق في المعنى، ففرق بين «أرض مصر» (أي: القطر كله) و«فسطاط مصر» (أي: المدينة).
(٣-٥) ريبة الأقباط وحيرتهم
ولما كان الشعب قد أفسدته العبودية، فكان يتحمل تبدل سادته بشيء من عدم المبالاة على الرغم من الشعور الوطني، الذي بدأ يظهر عنده.
(٣-٦) ولنعد الآن إلى صلب الموضوع
وقد قام العرب بحصار حصن بابليون مدة طويلة، مما أرغم البيزنطيين على الدفاع دون الهجوم لقلة عددهم وضعف خططهم العسكرية، ولم تصل إلى البيزنطيين النجدة بينما كانت قوات عربية تصل باستمرار لتعزز مواقع المحاصرين، ومع ذلك لم نعثر على نص واحد يشير إلى أن الأقباط قدموا أية مساعدة إلى جيش عمرو في أثناء هذا الحصار الطويل.
ولكن العرب لم ينخدعوا بهذا الكلام، فأرسل إليهم عمرو مَنْ يقول لهم: «ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال؛ إما أن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.».
وقد حاول المقوقس أن يعقلهم قائلًا: «إذًا أخبركم، أما دخولكم في غير دينكم، فلا آمركم به، وأما قتالهم، فأنا أعلم أنكم لن تقروا عليهم ولن تصبروا صبرهم ولا بد من الثالثة.»، قالوا: «أفنكون لهم عبيدًا أبدًا؟».
وأخيرًا انتهى الأمر بقبول حماية العرب، وقد سارع عمرو إلى عقد الهدنة، فلامه على ذلك الزبير؛ إذ كان يريد اقتحام الحصن واستعباد السكان بعد توزيع أملاكهم على المجاهدين.
وعندما دخل عمرو المدينة «استقبله الأهلون بالاحترام على الرغم مما أصابهم».
هوامش
ونذكر في هذا الصدد الحادث الذي أثاره بعض أقباط مصر الذين ادعوا أنهم ينتمون إلى إحدى الأسر العربية الكبيرة في شبه الجزيرة العربية، وقد اشتروا بلا شك هذا الانتساب، ولكن ادعاءهم هذا أثار الرأي العام، فرفعوا أمرهم إلى القاضي العمري الذي صدَّق على نسبهم، ولكن الرأي العام رفع الأمر إلى قاضي بغداد «البكري» الذي رد المدعين خائبين «الكندي ص٣٩٩، ٤١٣ إلى ٤١٥».