الشريعة الإسلامية وأهل الذمة
كان العرب يجهلون فن الحكم، فشغلتهم إدارة الأراضي المحتلة جديًّا، أضف إلى ذلك أن القرآن بتعليماته الدقيقة فيما يجب اتباعه حيال أهل الذمة لم يسهل المهنة الملقاة على عاتق الحكام، الذين اضطروا إلى تجاهل بعض تعليمات القرآن والحديث أو تفسيرها حسب أهوائهم.
وهكذا تعرضت هذه المبادئ منذ بداية الفتح، لبعض التعليقات الخطيرة، فازدادت الفوارق بين المبدأ، الذي كان يشتد أحيانًا على أهل الذمة ويذلهم، وبين تطبيقه.
ويجدر بنا أن نستعرض بإيجاز الشريعة الإسلامية ولا سيما فيما يتعلق بتشغيلهم في الإدارة الإسلامية وبزيهم الخارجي حتى نجيد فهم الأحداث التي حاقت بمصر الإسلامية.
(١) أهل الذمة في القرآن
تحدث القرآن أكثر من مرة عن أهل الذمة بأسلوب واضح وتارة بأسلوب يحتاج إلى بعض التعليقات، وهذه بعض آياته:
سورة آل عمران آية ٢٨: لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِين.
سورة المائدة آية ٥١: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
سورة التوبة آية ٨: كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ.
(٢) شروط عمر
خضع أهل الذمة أيضًا إلى «شروط عمر»: إننا نجهل كيف سن هذا التشريع بالتدقيق، وكان المؤرخون أمثال ابن عبد الحكم والكندي والبلاذري لا يعلمون بها، ولا شك أن بعض نصوصها وردت في كتب التاريخ والقانون ولا سيما النصوص الخاصة بالزي الخارجي، أما القلقشندي، فهو الذي أعطاها صبغتها الرسمية عندما ذكرها في كتاب «صبح الأعشى» ومع كل، لا نستطيع إغفالها؛ لأن بعض ولاة مصر والعالم الإسلامي رجعوا إليها في ظروف مختلفة.
هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا:
«قال عبد الرحمن بن غُنم: فلما أتيت عمر بالكتاب زاد عليه: ولا نضرب أحدًا من المسلمين، شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا.
وقام القلقشندي بعد ذلك بتلخيص الشروط المفروضة على أهل الذمة، وهي كالآتي: الجزية، والضيافة، والانقياد لأحكامنا، وألا يركبوا للحمير بأن يجعل الراكب رجليه من جانب واحد، وأن ينزلوا المسلمين صدر المجلس وصدر الطريق، والتمييز عن المسلمين في اللباس، وأنهم لا يرفعون ما يبنونه على جيرانهم من المسلمين، وأنهم لا يحدثون كنيسة ولا بيعة فيما أحدثه المسلمون من البلاد.
(٣) عدم إباحة أهل الذمة الانخراط في خدمة المسلمين
«وقال أبو موسى الأشعري للخليفة: «استخدمت رجلًا نصرانيًّا» فأجابه الخليفة: «ماذا فعلت أيها الرجل؟ إن الله سيعاقبك، ألم تدرك معني قوله تعالى هذا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (سورة المائدة الآية ٥١)، فقلت: «يا أمير المؤمنين، استخدمته للكتابة فقط وتركت جانبًا عقيدته»، فأجابه عمر: «ليس هذا عذرًا ولن أشرف أبدًا الذين احتقرهم الله، ولن أرفع أبدًا الذين وضعهم الله في حالة دنيئة، ولن أقترب من الذين أبعدهم الله منه.».
وكتب إلى الخليفة أحد قواده ليستعلم بخصوص إدخال الكفار في الوظائف العامة فقال: «إن الأموال تدفقت على الخزينة بكثرة ولا يستطيع غيرهم أن يقوم بالأعمال الحسابية، قل لي حينئذ ما يستحسن عمله.»، فأجابه عمر: «ولا تشركوا الكفار في أعمالكم، لا تعطوهم ما حرمه الله عليهم، ولا تضعوا ثروتكم في أيديهم، ولا تنسوا هذا المبادئ التي يجب أن يسير عليها كل رجل.».
وكتب أيضًا الخليفة إلى أحد قواده: «إن الذي يستخدم كاتبًا نصرانيًّا يجب ألا يشاطره في حياته أو يكون له عطفه أو يجلسه بجانبه أو يستشيره؛ لأن النبي والخليفة أمرا بألا يستخدم الذميين في الوظائف.».
وتلقى الخليفة رسالة من معاوية بن أبي سفيان يقول فيها: «يا أمير المؤمنين» إني استخدم في ولايتي نصرانيًّا لا أستطيع بدونه أن أجمع الخراج، ولكن أردت قبل أن يقوم بهذا العمل أن أنتظر أوامركم، فأجاب الخليفة: «أدعو الله أن يقيني هذا الشر! قرأت الرسالة التي وجهتها إليّ بخصوص النصراني، وأعلم أن هذا النصراني قد تُوفي والسلام!».
فإن قيل: إن الآيات التي ذكرتها تتعلق فقط بشعور الصداقة نحو النصارى، بينما أن المسألة تتعلق باستخدامهم في الوظائف العامة، أقول: «لا يستخدم الإنسان إلا من يثق به؛ لأنه قد يحب فيه الصفات التي تدفعه إلى الأمانة، فإذا استخدمت رجلًا أمينًا، فأظهرت له صداقتك، وهي عنوان الثقة بينك وبينه، تكون بذلك قد توليته، وعلى أي حال، فإن الله تعالى حل المشكلة الخاصة بالذميين حلًّا قاطعًا؛ إذ قال: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (سورة المائدة الآية ٥١).
إن تفسير القرآن مهمة صعبة ودقيقة، فقد علق بعض فقهاء الإسلام على الآيات القرآنية بوجوب إبعاد أهل الذمة من المناصب الرسمية مع أن القرآن لم يذكر ذلك بصريح العبارة، ولكن ألم يكن الفقهاء مستشاري الحكومات الإسلامية؟
(٤) القيود الخارجية المفروضة على أهل الذمة
وقال أبو يوسف أيضًا: «حدثني عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامل له، أما بعد، فلا تدعن صليبًا ظاهرًا إلا كسر ومحق، ولا يركبن يهودي ولا نصراني على سرج وليركب على إكاف، ولا يركبن امرأة من نسائهم على رحالة وليكن ركوبها على إكاف، وتقدم في ذلك تقدمًا بليغًا وامنع من قبلك فلا يلبس نصراني قباء ولا أثوب خز ولا عصب، وقد ذكر لي أن كثيرًا ممن قبلك من النصارى قد راجعوا لبسي العمائم وتركوا المناطق على أوساطهم، واتخذوا الجمام والوفر وتركوا التقصيص، ولعمري لئن كان يصنع ذلك فيما قبلك إن ذلك بك لضعف وعجز ومصانعة، وأنهم حين يراجعون ذلك ليعلموا ما أنت، فانظر كل شيء نهيت عنه، فاحسم عنه من فعله والسلام.».
وإن هذه الفقرة لتدل بوضوح على أن هذه القيود قد خرقت أحيانًا بعد ظهورها، وترجع أسباب هذه المخالفات أكثر ما ترجع إلى اعتبارات مالية وسياسية، وسنتحقق من ذلك بوضوح عندما نتكلم عن عهد الولاة.