أحوال الأقباط الحقيقية تحت حكم الولاة
(١) طابع الاحتلال العربي
(١-١) حسن معاملة الفاتحين
كيف عامل العرب المصريين لما احتلوا بلادهم؟ جهل مؤرخو العرب تفاصيل هذا الموضوع، ولكن حنا النقيوسي لم يتردد في إبراز صورة كئيبة لهذا الاحتلال لم يغفل فيها حوادث القتل والسلب والنهب والتخريب … إلخ.
لا بد أن تصحب الحملات الحربية أعمال العنف، خاصة إن كان أصحابها مدفوعين بحرارة الإيمان، ولكن بينما يؤكد أسقف نيقيا سوء استغلال العرب لانتصاراتهم، إذا العثور حديثًا على بعض أوراق البردي، التي يرجع عهدها إلى الفتح الإسلامي يثبت لنا مسلك العرب المشرف حيال أهل الذمة.
بسم الله الرحمن الرحيم؛ هذا ما أخذه عبد الله بن جابر وزملاؤه المحاربون من النعاج للذبح في هيراكليوبولس، لقد أخذنا من أحد وكلاء تيودوراكس، النجل الثاني لآباء قيرس، ومن نائب خريستوفورس، أكبر أنجال آبا قيرس، خمسين نعجة للذبح وخمس عشرة نعجة أخرى، وقد أعطاها لإطعام رجال مراكبه وفرسانه وقوات مشاته المصفحة، تحرر في شهر جمادى الأول سنة ٢٢ﻫ وكتبه ابن جديد.
وبينما نشاهد اليوم حروبًا يتسابق فيها الطرفان إلى اقتراف الأعمال الوحشية، ينبغي أن نذكر أن قبائل العرب كانت تحترم الملكية الفردية وذلك أثناء قيام الحرب، وفي زمن اشتهرت فيها الأمم بالعنف والقسوة.
واختتم جروهمان هذا كله بقوله: «إن هذه المعاملة إزاء شعب مغلوب قلما نراها من شعب منتصر.».
(١-٢) افتقار العرب إلى سياسة ثابتة
ومما يؤسف له حقًّا أن يؤدي الجشع الذي أوجدته ثروة مصر وريبة الخلفاء في سياساتهم نحو الولاة إلى عواقب وخيمة، فالإحصاءات تدل على أن الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين منذ سنة ٢٠ﻫ «٦٤١م» إلى سنة ٢٥٢ﻫ «٨٦٦م»؛ أي: من ولاية عمرو بن العاص إلى ولاية ابن طولون، نصَّبوا في بحر مئتين وخمس وعشرين سنة مئة وأحد عشر واليًا، ولو أن بعض الولاة قد عينوا مرتين أو ثلاث مرات، إلا أن المدة القصيرة التي كانوا يحكمون خلالها لم تسنح لهم الفرصة لاتباع سياسة إنشائية أو على الأقل للتفكير في وضع خطة معينة.
ونضيف إلى ما تقدم أن أربعة وعشرين واليًا حكموا مصر أثناء خلافة هارون الرشيد وحده؛ أي: في ثلاث وعشرين سنة.
ويواصل الأستاذ جاستون فييت بحثه قائلًا: «إن عدم الاستقرار الذي لازم تعيين الولاة لم يكن في صالح البلاد على الإطلاق؛ إذ كيف يطلب من موظف جاء من الخارج ويثق من عدم بقائه في الولاية، أن يعير البلاد اهتمامه أو أن ينظم مواردها أو أن يسهر على دولاب إدارتها؟».
وهناك طابع آخر لازم الحكم العربي أثناء الفتوحات، في مصر وفي جميع البلدان التي احتلها العرب، ألا وهو افتقار الحكم إلى خطة مرسومة يسير عليها، فإن القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كانت تصدر حسب الظروف وتبعًا لمقتضيات الحال، ويرجع السبب إلى أنه لم يكن في نية العرب أن يقيموا في تلك البلاد ولا أن يديروها، بل كانوا يهدفون إلى غرض واحد هو المحافظة على سلامة مؤخرة جيوشهم حتى يقوموا بفتوحات جديدة، ويحصلوا على المال الكافي لمتابعة أعمالهم العسكرية الجديدة.
ولا نجد أي أثر لنشر التعليم حتى بعد إنشاء المستعمرات العربية في الدلتا بوقت طويل، ومن جهة أخرى، أنشأ العرب نظامًا للضرائب، ولكنهم لم يفكروا في تنظيم إدارة للحسابات في المدينة المنورة.
ويتضح من ذلك كله، أن تقلب السلطة وعدم اهتمام العرب بالشعوب التي أخضعوها، وتخبط سياسة الولاة وتضاربها، خلقت جوًّا لا يساعد على حسن التفاهم.
(٢) طموح عمرو بن العاص ونتائجه
(٢-١) كان عمرو يسعى إلى حكم مصر حكمًا مطلقًا
لبى عمرو طلب الخليفة دون تردد، ألم يكن يعتبر مصر ملكًا له، سلبه الخليفة منه عندما أقاله من الولاية؟ ولا شك أن العودة إليها قد تمكنه من حكم البلاد لحسابه الخاص وإغفال سلطة الخليفة.
ولم يكن طموح عمرو جديدًا، فقد ظهر لأول مرة يوم استسلام حصن بابليون، وإلا كيف نفسر عطفه على الجيوش المغلوبة؟ لماذا رغب في أن يصالح أعداءه صلحًا شريفًا بالرغم من معارضة الزبير وعدد وفير من جيشه، وبالرغم من مقدرة الجيش العربي على اقتحام الحصن واستغلال انتصاراته الحربية استغلالًا تامًّا؟ ثم إذا انتقلنا إلى الإسكندرية، وجدنا أيضًا نفس هذا الاستعداد للتسامح على الرغم من صمود المدينة أربعة عشر شهرًا، مما اضطر الزبير ومن معه أن يرفعوا احتجاجهم مرة أخرى؛ إذ كانوا يريدون تطبيق مبادئ الشريعة الخاصة بالشعوب المهزومة.
إلا أن عمرًا أراد بدهائه أن يحتفظ بوحدة مصر، فكان يعرف أن البلاد غنية بمواردها، ويرى أن المصلحة تقضي بمنع توزيعها على المحاربين كغنيمة حربية، وبمعاملة سكانها ورؤسائهم الدينيين معاملة طيبة، وباحترام شعورهم الديني … وعدم استنزاف ثروة البلاد وجباية الضرائب حتى لا تسوء حالة مصر الاقتصادية، وقصارى القول، كان يريد كسب صداقة الشعب ومحبته لا إذلاله وامتهان كرامته.
إذًا، كان لعمرو سياستان: الأولى عامة، استلهمها من تعليمات الخليفة، والأخرى شخصية تستحق منا اهتمامًا خاصًّا؛ لأنها وفرت على الأقباط عدة التزامات.
(٢-٢) عمرو يطلب تحكيم عمر لمنع توزيع الأراضي
«إن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد حين افتتح العراق: «أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه أن الناس سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس عليك به إلى العسكر من كراع ومال، فأقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار بعمالها ليكون ذلك من أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر، لم يكن لمن بعدهم شيء.».
وقال عمر في مناسبة أخرى: «كيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت ما هذا برأي.»، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: «فما الرأي ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم.»، فقال عمر: «ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل، بل عسى أن يكون كلًّا على المسلمين، فإذا أقسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل الشام والعراق؟»، فأكثروا على عمر، رضي الله تعالى عنه، وقالوا: «أتقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا ولأبناء القوم ولأبناء القوم ولأبناء أبنائهم ولم يحضروا؟».
ولكن عمر لم يقتنع بهذه الحجج وذهب به الأمر إلى أن يحكم عشرة من علية القوم في هذا الخلاف طبقًا للعوائد العربية التي يستنكرها القرآن، مصدر التشريع، وقد قال هؤلاء الحكام جميعًا: «إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به، رجع أهل الكفر إلى مدنهم.».
ويمكن الجزم بأن المسألة كانت على جانب عظيم من الأهمية؛ لأن هذا «الشيء» الذي أعطاه عمرو للزبير يدل بوضوح على أن عمرو كان يشعر بضرورة التخلص من معارضة الزبير حتى لا يثير مرة أخرى مسألة المدن المحتلة بقوة السلاح.
(٢-٣) هل فُتحت مصر بصلح أم عنوة؟
أثارت هذه المسألة مناقشات حادة بعد فتح العرب لمصر؛ إذ أكد بعض الفقهاء أن البلاد فُتحت بصلح، والبعض الآخر أن البلاد فُتحت عنوة، بينما انضم فريق ثالث إلى الرأي الأول ولكن بشيء من التحفظ.
إلا أنه يجدر بنا أن نذكر الوقائع قبل أن نورد وجهات النظر المختلفة.
ويطلق الكُتَّاب اليوم على فتح مصر والبلاد المجاورة لها اسم «الجهاد»؛ أي: الحرب التي قام بها المسلمون ضد الكفار، الذين رفضوا الدعوة إلى الإسلام.
أضف إلى ذلك أن السواد الأكبر من المؤرخين المسلمين لم يشكُّوا في صحة الرسالة، التي بعث بها النبي إلى حاكم مصر، وإذا سلمنا بأن المصريين لم يلبوا هذه الدعوة ولم يرفضوها رفضًا باتًّا كما يدعي بعض الكُتَّاب، فإن بطء العمليات الحربية ووجود العنصر القبطي في الجيوش البيزنطية تدل على مقاومة الأهلين للفتح العربي.
وقد أراد البعض أن يبرر تسامح عمرو بأن حاميتي بابليون والإسكندرية طلبتا وقف القتال، ولكنهما في كلتا الحالتين لم يقوما بهذا العمل إلا بعد أن شعرنا بإفلات زمام الأمر من بين أيديهما، ثم إن نصوص القرآن صريحة في هذه الحالة: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (سورة محمد، آية ٣٥).
ويتضح من ذلك أن المسألة لم تحل إلى الآن، والذين يدعون أن مصر فُتحت صلحًا رجحوا رأيهم لأسباب حربية وسياسية واقتصادية، ولجئوا إلى الفقهاء لإثبات صحة نظريتهم.
(٢-٤) تسامح عمرو في إدارته
أما في مصر فقد نفذ عمرو بن العاص أوامر الخليفة عمر؛ لأنها كانت تتفق ومطامعه الشخصية، فكان تسامحه على مصر في أثناء ولايته مثار دهشة المصريين وإعجابهم.
وبديهي أن يقلق عمرو من الحفاوة الرائعة التي استقبل بها الشعب رئيسه الديني، فبادر إلى استشارة البطريرك في أحسن طريقة يتمكن بها من إدارة البلاد وسؤاله عن أنسب موعد لجباية الضرائب، كما أنه طلب إليه أن يبارك حملته على طرابلس؛ ذلك لأن عمرًا كان يقصد من مساهمة البطريرك في نجاح هذه الحملة بأن يجعله مسئولًا عن الأمن في البلاد وعن إخلاص السكان للعرب، وكافأه فعلًا على هذه الخدمات؛ إذ ترك اليعاقبة يستولون على معظم كنائس الملكيين وأديرتهم.
ثم إن اهتمام عمرو باليعاقبة جعلهم يبنون الآمال الكبار على المستقبل، مما حدا بالأسقف المؤرخ ساويرس بن المقفع أن يصف شعورهم هذا بقوله: «كانت الشعوب فرحين مثل العجول الصغار إذا حل رباطهم وأُطلقوا على ألبان أمهاتهم.».
وكان ساويرس على حق في وصفه؛ ذلك لأن الأقباط لم يعاملوا بهذه المعاملة اللينة منذ أمد بعيد، أضف إلى ذلك أن العرب في أثناء ولاية عمرو لم يحاولوا أن يضغطوا على الأقباط ليعتنقوا الإسلام ولم يضطهدوهم.
ولما درس عمرو حالة البلاد قرر أنه من المستحيل عليه أن يجبي الضرائب دون معاونة النصارى، فكتب إلى الخليفة يقول له: لما كان المسلمون لا يعرفون البلاد معرفة تامة فإنهم لا يستطيعون حصر المبالغ التي يمكن جمعها من الضرائب، وأنه استخدم لهذا الغرض نصرانيًّا قديرًا ونزيهًا على أن يحل غيره محله عندما يعرف حالة البلاد جيدًا.
وفكر عمرو أيضًا في إيجاد أداة قد تكفل حسن سير العدالة وصرح بمساهمة الوطنيين النصارى فيها، فقسم البلاد إلى عدد من الدوائر وعين في كل دائرة منها قاضيًا قبطيًّا كلفه بفض الخلافات المدنية والدينية لغير المسلمين، أما إذا كان الخلاف بين قبطي ومسلم، رفع الأمر إلى مجلس مكون من قضاة الطرفين، وكانت المسائل الجنائية من اختصاص القضاة المسلمين وحدهم.
(٢-٥) الخلاف بين عمر وعمرو على جباية الضرائب
لما استشار عمرو الأقباط في مسألة الضرائب، نصحوا له ألا يقوم بجبايتها حسب التقويم القمري، ولكن حسب التقويم المصري الذي وضعه الفراعنة منذ أمد بعيد وفق الفصول والمواسم، وقد وافق عمرو على هذا الرأي، ولكن عمرًا أنكر على عامله هذا التصرف لحاجته الملحة إلى المال، وأمره بأسلوب قاطع أن يستعجل جباية الضرائب ويرسلها إلى المدينة.
ولم يحل بخاطر إنسان أن يخالف عمرو أوامر الخليفة، ولكن ذلك الذي حدث بالفعل، وتبادل التابع والمتبوع في هذا الشأن عدة خطابات امتازت باللهجة الشديدة، ثم كان عمر لا يفهم لماذا تهبط قيمة الضرائب المفروضة على مصر سنة بعد سنة، ولكن هذا ما حدث بالفعل بعد أن شُلت حركة التجارة من جراء الحروب، وبعد أن قل عدد دافعي الجزية لازدياد عدد النصارى الذين اعتنقوا الإسلام، أما أهل الذمة أنفسهم، فلم يجدوا غضاضة في الإفلات من الجباة كلما سنحت لهم الفرصة، وسنتحدث عن ذلك عند الكلام عن المالية.
لما استبطأ عمر بن الخطاب الخراج من قِبل عمرو بن العاص، كتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص، سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد؛ فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، وقد أعطى الله أهلها عددًا وجلدًا وقوة في بر وبحر، وأنها قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملًا محكمًا مع شدة عتوهم وكفرهم، فعجبت من ذلك وأعجب مما عجبت أنها لا تُؤدي نصف ما كانت تُؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدوب، ولقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج، وظننت أن ذلك سيأتينا على غير نزر ورجوت أن تفيق فترفع إليَّ ذلك، فإذا أنت تأتيني بمعاريض تعبأ بها، لا توافق الذي في نفسي، لست قابلًا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك، ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك من كتابي وقبضك، فلئن كنت مجربًا كافئًا صحيحًا، إن البراءة النافعة، وإن كنت مضيعًا لطعًا، إن الأمر لعلى غير ما تحدث به نفسك، وقد تركت أن أبتلى ذلك منك في العام الماضي رجاء أن تفيق فترفع إليَّ ذلك، وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا عمالك، عمال السوء، وما توالس عليه وتلفف اتخذوك كهفًا، وعندي بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك فيه، فلا تجزع أبا عبد الله أن يؤخذ منك الحق وتعطاه، فإن النهر يُخرج الدرُّ والحق أبلج ودعني وما عنه تلجلج فإنه قد برح الخفاء، والسلام.»
فكتب إليه عمرو بن العاص: «بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من عمرو بن العاص، سلام الله عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد؛ فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين في الذي استبطأني فيه من الخراج، والذي ذكر فيه من عمل الفراعنة قبلي وإعجابه من خراجها على أيديهم ونقص ذلك منها مذ كان الإسلام، ولعمري للخراج يومئذ أوفر وأكثر والأرض أعمر؛ لأنهم كانوا على كفرهم وعتوهم أرغب في عمارة أرضهم منا منذ كان الإسلام، وذكرت أن النهر يُخرج الدر فحلبتها حلبًا قطع درها، وأكثرت في كتابك وأنبت وعرضت وتربت وعلمت أن ذلك عن شيء تخفيه على غير خبر، فجئت لعمري بالمفظعات المقدعات، ولقد كان لك فيه من الصواب من القول رصين صارم بليغ صادق، وقد عملنا لرسول الله ﷺ ولمن بعده، فكنا نحمد الله مؤدين لأمانتنا حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا نرى غير ذلك قبيحًا والعمل به شيئًا فتعرف ذلك لنا ونصدق فيه قلبنا معاذ الله من تلك الطعم ومن شر الشيم والاجتراء على كل مأثم، فأمضي عملك، فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنيئة والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبق فيه عرضًا ولم تكرم فيه أخًا، والله يا بن الخطاب؛ لأنا حين يُراد ذلك مني أشد غضبًا لنفسي ولها إنزالها وإكرامًا، وما عملت من عمل أرى عليه فيه متعلقًا، ولكني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت يغفر الله لك ولنا، وسكت عن أشياء كنت بها عالمًا، وكان اللسان بها مني ذلولًا، ولكن الله عظم من حقك ما لا يجهل.»
لقد أوجد هذا التسامح سوابق خطيرة بالنسبة للعرب، غير أن الأقباط استفادوا كثيرًا منه، ويرجع الفضل، دون شك، إلى موقف عمرو الذي كان يبغي من وراء ذلك أن يصبح حاكم مصر المطلق، وأخيرًا أراد أن يجعل الإسكندرية حاضرته بحجة أن المساكن التي تركها اليونانيون تصلح لإيواء جيش الاحتلال، ولما رفض عمر أن يصرح له بالإقامة حيث كان يريد، صدع عمرو للأمر وعاد إلى الفسطاط.
ولما تولى علي بن أبي طالب الخلافة وانقسم العالم الإسلامي إلى معسكرين متخاصمين، حكم عمرو مصر باسم معاوية، إلا أنه اشترط عليه، إزاء هذه الخدمة العظيمة، أن يتعهد له بتركه واليًا على مصر طوال حياته، ومن الواضح أن عمرًا كان يتحين الفرص ليعلن استقلاله، وينادي بنفسه أول خليفة على مصر بعد أن يفصلها تمامًا عن بقية الإمبراطورية، العربية.
(٣) الولاة يتبعون سياسة أساسها المنفعة
لم يحاول خلفاء عمرو أن ينهضوا بالبلاد، فقد اقتصر عملهم على المحافظة على الأمن وإرسال الجزية للخلفاء الأمويين ثم إلى الخلفاء العباسيين، ولما كانت مدة ولايتهم على وجه العموم قصيرة، فقد أرادوا أن يحققوا بعض المكاسب الشخصية.
وكيف يتبعون سياسة أخرى ولم يترك لهم الخلفاء الوقت الكافي لوضع برنامج إيجابي! وإذا قاموا بأي عمل لمصلحة البلاد، كانوا يثيرون شكوك السلطة المركزية وقلقها، وما حركة التنقلات التي كانت تشملهم إلا الدليل البين على عدم اهتمام الخليفة بما قد يقوم عملاؤه به من مجهود في مصلحة هذه الولاية.
(٣-١) المال أساس العلاقات بين المنتصر والمهزوم
ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن صيحة الإعجاب هذه قد رددها كل أعرابي وطئت قدماه وادي النيل، وكان من الطبيعي أيضًا أن يعمل رجل الصحراء، الذي خرج منتصرًا من حرب شنها على إمبراطوريتين، على الاستفادة من انتصاراته، وأصدق دليل على ذلك هو إلحاح الجيوش المنتصرة في سبيل توزيع الأراضي الواسعة أمثال العراق وسوريا ومصر.
(٣-٢) الضرائب الأولى التي فُرضت على الأقباط
لما اجتمع مندوبو الفريقين حول قلعة بابليون ليحددوا شروط التسليم، كان أكثر اهتمام العرب منصبًّا على قيمة الجزية التي ستفرض على المغلوب.
إلا أن هذا المبدأ الخاص بطريقة توزيع وجباية الضرائب لم يستمر مع الأسف إلا فترة قصيرة جدًّا مما سبب التباين فيما نقله المؤرخون العرب، هذا التباين الذي يرجع جزئيًّا إلى تعارض التدابير التي فرضتها الإدارة، فالنصوص العربية تفرق بين الجزية والخراج مع أن هاتين الكلمتين تنطبقان على نوع واحد من الضرائب، ومن حسن الحظ أن نصوص المؤرخين العرب المبهمة قد عوضها اكتشاف ورق البردي، الذي يرجع تاريخه إلى القرون الأولى للهجرة.
ومن ناحية أخرى، بينما يدعي هؤلاء المؤرخون أن ضريبة قدرها ديناران فُرضت على أهل الذمة جميعًا فيما خلا الشيوخ والنساء والأطفال والمتوسلين والمشوهين، اتضح لنا أن هذا الرقم ما هو إلا متوسط ما يؤديه كل دافع ضريبة ليس إلا.
(٣-٣) تدهور الحالة الاقتصادية والضرائب التي نتجت عنها
ولما ساء المحصول الزراعي، رفض دافعوا الضرائب أن يسددوا المفروض عليهم كله، وحاولوا بطبيعة الحال أن يتحايلوا على الخزينة، وقد نعم المصريون من هذه الناحية بمزية لم يكونوا يتوقعونها، فبينما كان الحكام البيزنطيون يلجئون عادة إلى الضرب لحمل الشعب على دفع الضرائب، أعلن الإسلام بأنه إذا كان شخص في حالة لا تسمح له بدفع الجزية، فلا يجوز للحاكم أن يُكرهه على ذلك بالعقاب البدني؛ أي: باستعمال العصا، أو بتعريضه لأشعة الشمس الملتهبة، أو رش جسمه بالزيت المغلي، وإنما الوسيلة الوحيدة المصرح بها هي السجن لعدم دفع الديون.
وبينما كان الدخل ينقص أخذت المصروفات تزداد، فكانت الرغبة في القيام بفتوحات جديدة وضرورة تأمين سلامة الإمبراطورية تقتضيان الاحتفاظ بجيوش وفيرة وكاملة العتاد، كما اقتضت المحافظة على الأمن الداخلي إنشاء قوة بوليسية منذ الساعة الأولى.
(٣-٤) الإجراءات في سبيل زيادة الدخل
احتفظ الأقباط بذكريات حسنة عن حكم عمرو بن العاص لهم، رغم أنه لم يتردد في اتخاذ إجراءات مخالفة للقانون في سبيل مضاعفة الإيراد، ويقول ابن عبد الحكم في ذلك: «إن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال لقبط مصر: إن من كتمني كنزًا عنده فقدرت عليه قتلته»، وأن نبطيًّا من أهل الصعيد يقال له: بطرس «ذُكر لعمرو أن عنده كنزًا، فأرسل إليه، فسأله، فأنكر وجحد فحبسه في السجن وعمرو يسأل عنه: «هل تسمعونه يسأل عن أحد» فقالوا: «إنما سمعناه يسأل عن راهب في الطور»، فأرسل عمرو إلى بطرس، فانتزع خاتمه من يده، ثم كتب إلى ذلك الراهب أن ابعث إليَّ بما عندك وختمه بخاتمه، فجاء رسوله بقلة شأمية مختومة بالرصاص، ففتحها عمرو، فوجد فيها صحيفة مكتوبة فيها: «مالكم تحت الفسقية الكبيرة» فأرسل عمرو إلى الفسقية، فحُبس عنها الماء ثم قُلع البلاط الذي تحتها، فوجد فيها اثنين وخمسين أردبًّا ذهبًا مضروبة، فضرب عمرو رأسه عند باب المسجد، فذكر ابن رقية أن القبط أخرجوا كنوزهم شفقًا أن يبقى على أحد منهم فيقتل كما قتل بطرس.».
لم يفه الخلفاء بتصريحات حاسمة كالتي فاه بها عمرو، ولكنهم حرصوا على أن تكون للقوانين تفسيرات مطاطة تطاوع حاجتهم إلى المال، نعم لم يريدوا أن يتخطوا حدود القوانين، ولكنهم ذُهلوا لنقص دخلهم بهذه السرعة، ولما كانوا غير مستعدين في أي وقت من الأوقات لوقف سيل فتوحاتهم أو الحد من ترف معيشتهم، فقد أُرغموا على اتخاذ إجراءات مالية انتهت بإثارة موجة من السخط بين أفراد الشعب النصارى والمسلمين على السواء.
وإليك بعض الأمثلة، كان يوجد في مصر في العصر البيزنطي؛ أي: قبل أن يفرض المسلمون الجزية على البلاد، مساحات كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة قد هجرها أصحابها من الأقباط الذين رفضوا أن يسددوا الضرائب المفروضة عليها، ولما جاء العرب، ترك السكان أراضي أخرى صالحة للزراعة للسبب نفسه، فأصبحت السلطة لا تجني أية فائدة منها.
وقد عرض الوالي الوليد بن رفاعة في سنة ١٠٩ﻫ «٧٢٧م» على الخليفة هشام بن عبد الملك هذه الحالة المحزنة التي آلت إليها بعض الأراضي في مصر، والتمس منه أن يصرح بهجرة بعض القبائل العربية إلى مصر لتسد الفراغ الذي يشكو منه، وقد صرح الوالي أن استقرار العرب في هذه الأراضي لن يلغي خراجها «وهو ضريبة الخمس» ليفرض مكانه العشورية «وهي ضريبة العشر» وعلى كل، فإن هذه الهجرة قد تؤدي إلى ازدهار البلاد؛ إذ إن الأراضي المذكورة لم تسدد الخراج ولا العشورية.
وصرح هشام بن عبد الملك، عملًا بمشورة الوليد بن رفاعة، لثلاثة آلاف فرد من قبيلة قيس بالنزوح إلى مصر والإقامة فيها، وقد اشترط عليهم شرطًا واحدًا، وهو ألا يقيموا في الفسطاط وأن يستقروا في الحوف الشرقي، وسرعان ما اغتنى من أقام منهم في مدينة بلبيس لقيامهم بنقل البضائع الصادرة إلى بلاد العرب، وسرعان ما أخبروا سائر أفراد قبيلتهم بثرواتهم، فخف إلى مصر خمسمائة آخرون، فقدمت أفواج أخرى طلبًا لثراء ونزلت في الأراضي التي هجرها سكان البلاد الأصليون.
على أنه يجدر بنا أن نذكر أن هؤلاء العرب لم يحضروا إلى مصر لأغراض اقتصادية بحتة؛ إذ إن الوالي الوليد بن رفاعة لم يقدم اقتراحه إلى الخليفة إلا بعد ثورة الأهالي الأولى في الحوف الشرقي، وأن أول فوج من المهاجرين قطن في مدينة بلبيس؛ أي: في المكان الذي نشبت فيه الثورة.
يتضح من هذه الفتوى أن السلطة استغلت لمصلحتها هذا الخطأ في ذلك العصر؛ إذ إنها تجاهلت عدم وجود أي فارق بين الجزية التي كانت تُجبى نقدًا وبين الخراج، الذي كان يجمع عينًا، وهاتان الضريبتان كانتا مفروضتين، على أي حال، على أهل الذمة دون سواهم.
وقد كان عبد العزيز بن مروان أول من فرض على الرهبان جزية قدرها دينار في عام ٦٥ﻫ (٦٨٥م)، وبرر هذا الإجراء بأنه ليس من العدل أن تدفع الطبقات الفقيرة الضرائب ويُعفى عنها الرهبان والمطارنة والبطاركة، الذين يملكون ثروات عظيمة، ولما صار عبد الله بن عبد الملك واليًا على مصر في سنة ٦٨ﻫ (٦٨٦م)، اعتقد الأقباط أن السلطة ألغت الأمر الآنف الذكر، ولكن الوالي خيَّب آمالهم، فحمل عليه المؤرخون النصارى وأظهروا كراهيتهم له.
ومع ذلك كانت إيرادات الدولة في نقصان مخيف بالرغم من زيادة الضرائب، فقرر عبيد الله بن الأحدث، بعد مضي ثمانين سنة على الفتح العربي، أن يقوم بمسح الأراضي مسحًا دقيقًا بما في ذلك الأراضي البور، وقد نفذ قراره هذا في عام ١٠٦ أو ١٠٧ﻫ (٧٢٤ أو ٧٢٥م) وجلب إلى الخزينة أربعة ملايين دينار على الرغم من هبوط سعر الحنطة.
واتضح بعد ذلك أن المَسَّاحين لم يكونوا على جانب كبير من الدقة في عملهم؛ إذ وضعوا نصب أعينهم تخليص الدولة من المأزق المالي الحرج، الذي وقعت فيه على حساب الشعب، ونستخلص ذلك من قراءة إحدى أوراق البردي المعروفة اليوم باسم أوراق «رينييه»، أن أحد المسَّاحين قدر عقارًا بمائتي فدان، غير أن صاحبات العقار عارضن في هذا الرقم، وقلن إنهن مسحن الأرض كلها بما يقتضيه ضميرهن، فبلغت مساحتها ٩٣١ فدانًا من الأراضي الزراعية، وبعد فحص الأوراق والمستندات المتعلقة بهذه الأرض فحصًا دقيقًا، وصلت السلطة إلى تقدير مساحته ﺑ ٨٤١ فدانًا فقط، وعلق الأستاذ «جروهمان» على هذا الحادث قائلًا: «إذ وردت مثل هذه الأخطاء في الحجج الخاصة بالأبعديات الكبيرة، فما بالك بالقضايا التي كان يتعرض لها صغار الفلاحين الذين يفتقرون إلى وسائل الدفاع الناجحة».
وخصص أحمد بن المدبر ديوانًا للمراعي بعد أن كانت معفاة إلى تاريخه من الضرائب، ومنع أيضًا حرية التجارة بها وفرض عليها ضريبة أسماها «المراعي».
وهذه الضريبة التي ذُكرت مرارًا في القوائم المدونة على أوراق البردي كانت تُفرض على الأرجح على رءوس الأغنام، كما فُرضت فوق ذلك ضريبة على المروج أشارت إليها أوراق البردي دون أن تحدد طبيعتها؛ أما ضريبة الصيد، فهي ترجع أيضًا إلى عهد ابن المدبر.
وقد ذكرت هذه الضرائب كلها باسم «الضرائب الهلالية»؛ لأنها كانت تُجبى على حساب الشهر القمري، بعكس الخراج الذي كان يُجبى على حساب السنة الشمسية، يضاف إلى هذه الضرائب ضريبة أخرى معروفة باسم «الصدقة» وقد أصبحت في هذا العهد حسنة قانونية إجبارية على شكل ضريبة يدفعها المسلمون غير المسيحيين على السواء، ورد ذلك في أوراق البردي.
ويعتبر ابن المدبر آخر من حكم في مصر لحساب حكومة بغداد، فقد تولى من بعده ابن طولون، الذي بادر إلى إلغاء الرسوم والضرائب الجديدة، التي فرضها ابن المدبر، وكان لها أسوأ أثر في البلاد.
(٣-٥) جشع أم تعصب؟
نعتقد شخصيًّا أن العامل الديني لم يكن إلا وسيلة تذرع بها الولاة لينالوا الثروة، ولا شك أن العقيدة الدينية، أو بعض الأسباب الأخرى، حملت بعض الولاة على سلوك مسلك آخر، ولكن لا يجوز أن نستند إلى سياسة الولاة وإجراءاتهم في مصر، لنقرر إذا كانوا يعملون بدافع التسامح أو بدافع التعصب.
ويتهم ساويرس الوالي عبد الله بأنه حصل من أهل الذمة ثلثي دينار زيادة عما كانوا يدفعونه من قبل ويصفه الأسقف بأنه «كان محبًّا للمال جدًّا».
ولم يكن قرة بن شريك، الذي خلف عبد الله في ولاية مصر، أقل حبًّا للمال من سلفه، ويقص علينا ساويرس أنه لما ذهب البطريرك اليائس إلى قرة ليهنئه بالولاية، كما جرى العرف، قبض عليه قرة وقال له: «الذي قبضه منك عبد الله بن عبد الملك تحتاج أن تقوم لي بمثله.» ويحكى المؤرخ عن قرة أيضًا أنه اقتحم كنيسة الفسطاط مع نفر من الفساق المقربين إليه وبعض المهرجين، ومكثوا أمام الهيكل في أثناء أداء الصلاة.
إنها سنة استنها أحد الولاة الجشعين، فأصبح من المتعذر بعد ذلك أن يحال بين الولاة اللاحقين وبين نهجهم على منوال هذا السلف، وقد أرسل الخليفة سليمان بن عبد الملك إلى مصر أسامة بن زيد ليقوم على بيت المال، ويبدو أن هذا الرجل كان أكثر جشعًا ممن سبقه، ويقول المؤرخون المسلمون والنصارى: إنه قام بمصادرة الأملاك بغير حق كما أسرف في القتل بصورة وحشية، ولقد جمع الرهبان وأخبرهم بوجوب الإبقاء على الرسم الذي فرضه عبد العزيز عليهم، كما أجبرهم على أن يطلبوا من رجال الضرائب خاتمًا من حديد تنقش عليه أسماؤهم وموعد دفع الضرائب، على أن يضعوا هذا الخاتم في أحد أصابعهم حتى إذا ما قبض على راهب وكانت يده عاطلة منه قُطعت في الحال.
ويظهر أن أمر أسامة هذا دخل في دور التنفيذ، أما الرهبان الذين لجئوا إلى الأديرة واعتقدوا أنهم تمكنوا بهذه الطريقة الهرب من دفع الضريبة دون أن ينالهم أي عقاب، فقد قام رجال الشرطة بالبحث عنهم والقبض عليهم، ثم حكم عليهم بقطع رءوسهم أو جلدهم حتى الموت، وإلى جانب ذلك، أصدر أسامة أمرًا يحتم على السكان، الذين يسافرون بطريق النيل شمالًا أو جنوبًا أن يحملوا جواز سفر مدموغًا.
وقد كان لهذه الإجراءات أسوأ وقع في النفوس، إلا أن وفاة الخليفة حال في الوقت المناسب دون قيام ثورة في البلاد، لهذا لم يتوانَ عمر بن عبد العزيز بعد توليته الخلافة في سنة ١٠١ﻫ «٧١٩م» في عزل أسامة وتعيين أيوب بن شرحبيل مكانه بعد أن كلفه بتهدئة الخواطر وباستعمال اللين مع السكان، ثم أمره الخليفة بإلقاء القبض على أسامة ووضع حلقة من الحديد حول عنقه وتكبيل يديه وقدميه بأوتار خشبية، وسيق أسامة، وهو على هذه الحال، إلى مكان إعدامه، ولكنه مات في أثناء الطريق.
وفي خلافة هشام، أُعيد تعيين حنظلة بن صفوان على مصر «١١٩ﻫ/٧٣٦م»، وكان قد تولى هذا المنصب من قبل في عهد الخليفة يزيد، ولم يتبع حنظلة الخطط الحكيمة التي رسمها له الخليفة هشام، بل رفع الضرائب ولم يقتصر على فرض رسوم على الآدميين، بل تعداه إلى الحيوانات بعد أن أجرى إحصاءً عامًّا لها، وفرض أيضًا ضريبة الدمغة على الإيصالات.
وكانت للخليفة هشام سياسة حكيمة تخالف سياسة عامله السيئة، فقد كان يحاول كسب عطف الأقباط، الذين لم يفقدوا بعد نفوذهم في البلاد بدلًا من إثارة غضبهم بفرض ضرائب جديدة، ولما ظلوا بدون بطريرك مدة من الزمن، أمر الخليفة بتنصيب رئيس ديني عليهم، وأمر أيضًا بتسليم كل شخص سدد ضرائبه براءة رسمية باسمه حتى «لا يظلم أحد ولا يكون في مملكته ظلم»، ذكر الأسقف ساويرس كل هذا، ثم أردف قائلًا: «كان هشام رجلًا خائفًا من الله على طريق الإسلام وكان محبًّا لسائر الناس.».
وكان استهتار الولاة بمصلحة مصر واضحًا لدرجة أنه عندما اشتدت الدسائس والمؤامرات في بلاط بغداد في القرن الثالث الهجري، كان من النادر أن يترك شخص ذو نفوذ بلاط الخليفة ويعيش بعيدًا عنه، وإذا اختير واليًا على قطر من الأقطار، عين وكيلًا عنه يدير شئون الحكم باسمه ويخصه بجزء من الدخل مقابل هذا التعيين.
وكان جمع المال هو الهدف الأول للولاة، ولذلك عانت البلاد أزمة اقتصادية شديدة قبل ظهور الدولة الطولونية؛ إذ قل المحصول بسبب استنزاف الحكومة لمواردها جزافًا.
على أن معاملة الأمويين للشعوب المغلوبة كانت بصفة عامة أحسن من معاملة العباسيين لهم، فكثيرًا ما استعمل هؤلاء القوة والعنف لابتزاز الأموال، وأكبر الظن أن حاجتهم الملحة إلى المال حالت دون اتباعهم سياسة اللين، وعلى كل، فإن تاريخ البطاركة اليعاقبة ما هو إلا سلسلة طويلة من الشكاوى، ابتدأت من عهد البطريرك الثاني والخمسين بعد القديس مرقص، وقد بلغ اليأس بأحد الأساقفة، واسمه قزمان، إلى حد جعله يتنازل عن سلطته لعلية القوم من طائفته، فجعلهم مسئولين عن تأدية المبالغ المستحقة للحكومة ثم انسحب إلى مدينة «دمرو».
(٤) ثورة الأقباط
أدرك الأقباط أنهم بالغوا في تفاؤلهم؛ لأن الحكومة مهما كانت متسامحة لا تستطيع أن تعيش دون جباية الضرائب، وزادت خيبة أملهم عندما أدركوا أن الفاتح الجديد كان يريد أن ينعم بثمرة انتصاره، لذلك لم يلبثوا أن وضعوا نصب أعينهم هدفًا واحدًا هو تغيير حكامهم الجدد والتحرر من ربقتهم.
وقف الشعب في أثناء الفتح موقف المحايد، الذي يعطف على العرب، ولكن بعض الأقباط الذين يسكنون ضواحي الإسكندرية انحازوا إلى البيزنطيين، وانضموا إلى صفوفهم عندما قام هؤلاء بهجوم مضاد على العرب، وسبب هذا الانحياز — كما سبقت الإشارة إليه — أن عمرًا أجاب بخشونة على صاحب «إخنا» عندما طلب إليه تحديد قيمة الضريبة الواجب دفعها للخزينة.
غير أن الأقباط لم يحركوا ساكنًا بعد مقتل عثمان والانشقاق الذي حدث بين أنصار علي بن أبي طالب وأعدائه، وقد أثار هذا الموقف دهشة المستشرقين، ولكن الأكليروس القبطي — وكان وقتئذ هو الذي يمكنه إشعال نار الثورة — كان راضيًا كل الرضا عن الاحتلال العربي؛ لأن عمرو أكرم بطريركهم كل الإكرام وأحاطه بالإجلال والاعتبار وطلب إليه نصائحه وبركته، وأمر بإعفاء رجال الدين من الجزية.
ولما قامت ثورة العباسيين على الأمويين، كان الموقف في مصر قد تغير كل التغير؛ لأن خلفاء دمشق فرضوا الجزية على رجل الدين وزادوا نسبتها على الشعب؛ وذلك لحاجتهم إلى المال مما أغضب الشعب لهذين الإجراءين فثار عام ١٠٧ﻫ «٧٢٥م» في أثناء خلافة هشام بن عبد الملك، وهذا دليل على عدم رضاء الأقباط — وعلى رأسهم رجال الدين — عن حكامهم.
وأدت هذه السياسة إلى تعدد الثورات في البلاد واستفحال أمرها، فقد قامت خمس ثورات مهمة بين سنة ١٢١ﻫ «٧٣٩م» وسنة ١٥٦ﻫ «٧٧٣م».
ولو كانت الثورة اندلعت في القطر المصري وحده بسبب الخلاف حول دفع الضرائب، لما قام الخليفة بالسفر إلى مصر لقطع دابرها، ولكن صادف أن أعلن نصر بن شباث في الوقت نفسه الثورة على الخلافة، واعتمد في حركته على السوريين الذين ظلوا مخلصين لبني أمية، كما وصل أسطول حربي من الأندلس ورسا في ميناء الإسكندرية، فقلق المأمون كثيرًا وخشي استفحال الصورة؛ لأن المصريين لا يتورعون على الاتفاق مع الأمويين، الذين لجئوا إلى إسبانيا كما اتفقوا مع العباسيين ضد الأمويين.
وعلى الرغم من أن البطريرك يوساب عمل جاهدًا لإقناع البشموريين على عدم ارتكاب أعمالهم العدوانية، نرى ساويرس يبرر ثورتهم فيقول: عامل العرب البشموريين على الأخص في غاية من القسوة، فقد ربطوهم بسلال إلى المطاحن وضربوهم بشدة ليطحنوا الغلال كما تفعل الدواب سواء بسواء، فاضطر البشموريون أن يبيعوا أولادهم ليدفعوا الجزية ويتخلصوا من آلام العذاب، ولما اقتنعوا نهائيًّا أن هذا الظلم لا يحده إلا الموت، وأن بلادهم كلها مستنقعات تخللها الطرق الضيقة التي ينفردون بمعرفتها، وأنه يعد من المستحيل على جيوش المسلمين أن يغزوها، فقد اتفقوا جميعًا على إعلان الثورة ورفضوا دفع الجزية … وكان البطريرك يوساب يذوب حسرة على رعيته التي تحالف على إفنائها الطاعون والمجاعة والحرب، غير أن البشموريين وطدوا عزمهم على مواصلة القتال وأخذوا يصنعون لأنفسهم الأسلحة وحاربوا الخليفة علانية ورفضوا دفع الجزية على الإطلاق، ووصلت بهم الحال أنهم قتلوا كل مَنْ جاء إليهم ليقوم بعمل الوسيط بينهم وبين السلطة، وقد تحسر البطريرك عليهم؛ لأنهم خاضوا غمار الحرب ضد عدو يفوقهم في العدد والعتاد.
ولنترك الآن ديونيسيوس يحدثنا بنفسه عما طرأ: «عندما وصلنا إلى مدينة الفرما، استدعاني الملك وقال لي: «لقد علمت أيها البطريرك بنبأ ثورة النصارى المصريين المعروفين باسم البياماي، وأنهم لم يكتفوا بالخراب الذي أصابهم من جراء هجومنا الأول عليهم، ولولا تسامحي وعدم تفكيري في القضاء عليهم لما أرسلت إليهم رجلًا مثلك، خذ معك المطارنة الذين بصحبتك وسائر المطارنة المصريين واذهب لمقابلتهم وفاوضهم بشرط أن يسلموا الثوار، وليأتوا معي ومع جيشي إلى المكان الذي أُعَينه فأسكنهم فيه، فإذا رفضوا فإني سأقتلهم بالسيف.»، ولما حدثت الخليفة طويلًا على أساس أن يخضع البشموريين لحكمه ويتركهم في بلادهم أجاب بالنفي وقال: «لا! فليخرجوا من البلاد أو يتعرضوا للقتل.».
ويجدر بنا أن نذكر هنا أنه بينما كان البشموريون يقاتلون قتال اليائس في ثورتهم الأخيرة التي يخرج منها المقريزي بنتائج عن جانب عظيم من الخطورة، لم يسجل المؤرخون أية ثورة للأقباط في أية بقعة أخرى من القطر، والواقع أن الأقباط لم يلجئوا بعد ذلك إلى أسلوبهم القديم، كما يقول المقريزي؛ لأنهم لم يكن لديهم أبدًا غير هذا الأسلوب، ولما قامت الثورات، اشترك فيها الأقباط بتشجيع من العناصر الأجنبية سواء كانت هذه العناصر من المسلمين أو من البشموريين «وهم مزيج من الأقباط واليونانيين»، ولما أبيد البشموريون عن بكرة أبيهم، لم يحاول الأقباط القيام بأية حركة ثورية عامة.
(٥) الفوائد التي جناها الأقباط
(٥-١) الأقباط يحتكرون الأعمال الإدارية
إن الأحداث التي ذكرناها لا تعني بأن الأقباط كانوا تعساء تحت حكم الولاة العرب، بل كانوا أسعد كثيرًا مما كانوا عليه أيام البيزنطيين، وبالرغم من جهود الخلفاء واهتمامهم بتطبيق تعاليم القرآن، فإن الأقباط لم يقتصروا على شغلهم معظم الوظائف الإدارية فحسب، بل كان لهم الأمر والنهي في بعض الأحيان، وبقي نظام الضرائب والحسابات بين أيديهم مما أتاح لهم الفرصة لتحقيق مكاسب كبيرة، وكذلك يمكننا أن نقول إنه فيما يتعلق بالأقباط ظلت تعاليم القرآن غير معمول بها.
وكذلك اكتفى عمر بن عبد العزيز والمنصور والمهدي وهارون الرشيد والمأمون والمتوكل والمقتدر بالله بأن يعزلوا اسميًّا النصارى من الوظائف العامة، ولكنهم في الواقع تركوهم في مراكزهم.
(٥-٢) امتناع تنفيذ الأوامر الخاصة بزي النصارى
(٦) اتجاه العرب إلى اتباع سياسة استعمارية
بزغت شمس الإمبراطورية العربية في عهد الأمويين، فلما أصبحت حدودهم في مأمن من الخطر، أخذ الخلفاء يعملون على طبع البلاد المحتلة بطابع عربي إسلامي.
وما هذه إلا أمثلة تدل دلالة واضحة على الروح التي كانت سائدة في هذا العصر، وهذه الروح أخذت تزداد قوة؛ إذ كان العربي المنتصر يريد إظهار تفوقه على الذمي المقهور.
ثم جاء هارون الرشيد ففرض على الذميين زيًّا خاصًّا؛ ذلك لأن سكان الحدود كانوا يتجسسون لمصلحة الإمبراطور «نقيفور» البيزنطي، ولكن يلوح أن الإجراء لم ينفذ إلا في مدينة بغداد، أما أقباط مصر، فلم ينلهم منه شيئًا.
ولما انتقل الحكم إلى الولاة المستقلين وضعوا حدًّا للسياسة التي كان يتبعها الخلفاء، ونَعِمَ النصارى مرة أخرى بشيء من التسامح للأسباب التي سنبينها في الباب التالي.