الفصل الثامن
كارثة النصرانية في عهد السلاطين المماليك
إن قصة الحروب الصليبية جعلتنا نلمس عن قرب اضمحلال العنصر القبطي منذ اضطهاد الحاكم
بأمر
الله له، وقد استمرت هذه الحالة في عهد سلاطين المماليك والأتراك؛ إذ كانوا لا يأبهون
مطلقًا بهذه الأقلية، كان السلاطين يعتبرون الأقباط جزءًا لا يتجزأ من الأمة؛ لأنهم كانوا
يقدمون لهم خدمات قيمة فيما يختص بجباية الضرائب، أضف إلى ذلك أن الحكام كان يمكنهم ابتزاز
أموال الأقلية بسهولة دون أن يخشوا من قيامها بأية حركة ثورية جديدة، فرتبوا مصير الأقباط
حسب هواهم أو هوى الشعب.
وقد استطاع بعض الكٌتَّاب الأقباط أن يشغلوا بعض المراكز الكبيرة في الدولة، ولكن
الشعب
كان يظهر غضبه بمجرد ما يرى قبطيًّا له نفوذ، وكان لم يعد يقبل أن يكون لأقلية دينية
صغيرة
حقوق عليه.
وتمكن القبطي، وسط هذه الاعتبارات كلها، أن يسير قدمًا؛ ذلك لأن مواطنه المسلم لم
يكن
حائزًا، أو قل إن شئت لم يكن يريد أن يحوز الصفات اللازمة للقيام بجباية الضرائب، وفيما
خلا
هذه الوظيفة، شعر القبطي أنه غير مرغوب فيه، وبذا أصبحت الأمة القبطية جماعة مهمتها تدريب
الأخصائيين في شئون الضرائب والمال.
لم تتغير حالة القبطي خلال ستة القرون التي سبقت عهد محمد علي الكبير، ولم يقع حادث
يستحق
الذكر عدا بعض أعمال الاضطهاد الطارئة، التي كانت تؤثر في سير حياته المطموسة التي لم
يكن
أمامها إلا هدف واحد هو الاحتفاظ بالعمل الوحيد الذي صرحت له به السلطات المدنية، وكان
هذا
العمل — أي: جباية الضرائب — سبب كيانه وأمله الوحيد في الثراء.
وسنقتصر فيما يختص بالعلاقات بين المسلمين والأقباط في هذه الفترة الطويلة على ذكر
بعض
الأحداث المتفرقة التي لا يجمعها أي ارتباط، ومتبعين طريقة المؤرخين العرب في سرد الحوادث
مكتفين بذكر بعض التفاصيل عن الأحداث القليلة التي لها بعض الأهمية.
•••
بينما كان الملك لويس التاسع يجلو عن مصر مع فلول جيشه، اعتلت عرش البلاد أسرة جديدة
ألا
وهي دولة المماليك البحرية، وكانت المهمة الملقاة على هذه الأسرة ليست هينة؛ إذ كان عليها
أن تقوم بتصفية ما تبقى من الدولة اللاتينية في الشرق، وأن تستعد خصوصًا لمواجهة خطر
الغزو
المغولي، ويجب أن نعترف بفضل مصر التي أنقذت العالم الإسلامي من تلك الكارثة، وذلك بشجاعة
الملك المظفر قطز ومماليكه.
قال عربي يمدح الملك الظاهر بيبرس خلف قطز: «كان يومًا في مصر ويومًا في الحجاز ويومًا
في
دمشق ويومًا في حلب.»، وكانت تكاليف الحرب باهظة وكان ملوك هذه الدولة في حياتهم الخاصة
يعيشون عيشة مترفة، ولذا كانوا دائمًا في حاجة إلى المال، وكانوا إلى جانب الضرائب العادية
والاستثنائية لم يتوانوا في اغتصاب أموال الذميين.
١
ومن الملاحظ أن الملكيين كانوا مميزين عن اليعاقبة؛ ذلك لأن الغرب تذكر الخدمات التي
أداها له هؤلاء الملكيون خلال الحروب الصليبية، ولما كانت العلاقات التجارية قد نمت وازدهرت
بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي، فقد استطاعت دول الغرب أن تضغط على البلاد الإسلامية
كلما كان الملكيون معرضين للاضطهاد، وكان من النادر ألا يأبهوا بهذه «الإنذارات».
أما اليعاقبة، فقد بقوا في عزلة عن سائر العالم، وكان يحدث بين حين وآخر أن يهدد ملوك
الحبشة مماليك مصر حتى يعود هؤلاء إلى شيء من التسامح، وقد خصصنا بابًا لهذه التدخلات
الخارجية، ولنعد الآن إلى الأحداث الداخلية.
نجد أولًا أن هناك أمرًا له أهميته، ذلك أن السلطان «أيبك» وهو أول من تولى الحكم
في دولة
المماليك البحرية، استوزر قبطيًّا اسمه شرف الدين أبو سعيد هبة الله ومنحه سلطة واسعة
للغاية،
٢ ويحق لنا أن نعجب بعد ما أحدثته جيوش الفرنج من فوضى واضطراب في البلاد، وبعد
الاضطهادات التي تحملها النصارى من أجل ذلك، أن يفكر أصحاب السلطان في تعيين قبطي وزيرًا
على مصر، غير أن المقريزي، الذي يروي لنا هذا الأمر، يضيف أن هذا الوزير أسرع في وضع
ضرائب
جديدة أسماها «الحقوق السلطانية» فحصل للناس منها ما لا خير فيه.
٣
وهكذا لما رأى السلطان أن خزائنه خالية من المال، ولما أراد أن يزيد دخله وينظم مالية
البلاد، لم يتوانَ لحظة في طلب مساعدة أحد الفنيين في المسائل المالية، ولم يكن هذا الفني
إلا قبطيًّا.
غير أن بيبرس لجأ في سنة ٦٦٣ﻫ «١٢٦٥م» إلى طرق عاجلة إذا صدقنا المؤرخ النصراني المفضل
بن
أبي الفضائل
٤ وقد كتب يقول: «لما قدم السلطان من الشام، أمر بالنصارى واليهود، فمسكوا عن
بكرة أبيهم وأوقدت لهم النار بالأحطاب في جورة كانت بالقلعة التي بناها دارًا للملك السعيد
وأراد إحراقهم، فاشتراهم الحبيس بخمسمائة ألف دينار يقومون منها في كل سنة بخمسين ألف
دينار، وكان هذا الحبيس في مبتدأ أمره كاتبًا في صناعة الإنشاء، ثم ترهب وانقطع في جبل
حلوان فيقال: إنه وجد في مغارة مالًا كان للحاكم العبيدي، أحد الخلفاء المصريين، فلما
حصل
له هذا المال وفد به الفقراء والصعاليك من سائر الأديان، فاتصل خبره بالسلطان الملك الظاهر
فأحضره وطلب منه المال، فقال له: إن طلب السلطان مني شيئًا ادفعه من يدي فلا، ولكنه يصل
إليك من جهة من تصادره وهو لا يقدر على ما يطلب منه فإني أعطيه وأساعده على خلاص نفسه
منك،
فلا تعجل، فلما كانت هذه الواقعة، ضمنهم من السلطان بذلك المال المقرر على النصارى، وكان
يدخل الحبوس ويطلق منها من كان عليه دين وهو عاجز عن وفائه، ثقيلًا كان أو خفيفًا، وكذلك
لما طلب من أهل الصعيد المقرر من أهل الذمة، سافر إليهم وأدى عنهم ما طلب منهم،وكذلك
سافر
إلى الإسكندرية فرأى أهلها منه ما هالهم … وقيل: أُحصي ما وصل إلى بيت المال من جهته
على
تلك الوجوه المقدم ذكرها في مدة سنتين فكان ستمائة ألف دينار مصرية خارجًا عما كان يعطيه
من
يده سرًّا للناس، وما خلص به من الحبوس.».
٥
هذه هي الرواية المسيحية، وهي تدعو إلى الاعتقاد بأن بيبرس أراد الحصول على كنز الراهب
بتهديد النصارى، وتختلف رواية المقريزي بعض الشيء عن تلك التي قصها علينا المفضل، قال:
«كان
قد كثر الحريق بالقاهرة ومصر في مدة سفر السلطان، وأشيع أن ذلك من النصارى، ونزل بالناس
من
الحريق في كل مكان شدة عظيمة ووجد في بعض المواضع التي احترقت نفط وكبريت، فأمر السلطان
بجمع النصارى واليهود، وأنكر عليهم هذه الأمور التي تفسخ عهدهم وأمر بإحراقهم، فجمع منهم
عالمًا عظيمًا في القلعة، وأحضرت الأحطاب والحلفاء، وأمر بإلقائهم في النار، فلاذوا بعفوه
وسألوا المن عليهم، وتقدم الأمير فارس الدين أقطاي، أتابك العساكر، فشفع فيهم، على أن
يلتزموا بالأموال التي احترقت، وأن يحملوا إلى بيت المال خمسين ألف دينار، فأفرج عنهم
السلطان وتولى البطرك توزيع المال، والتزموا ألا يعودوا إلى شيء من المنكرات، ولا يخرجوا
عما هو مرتب على أهل الذمة، وأطلقوا.».
٦
وفي عام ٦٧٨، أُقيل جميع النصارى الذين كانوا يعملون في ديوان الحرب وحل محلهم المسلمون،
وفي نفس اليوم الذي قامت السلطة بتنفيذ هذا القرار، هُدم دير الخندق الكائن خارج القاهرة
بالقرب من باب الفتوح ولم يترك فيه حجرًا على حجر، وقد اشترك جمع غفير في أعمال
التخريب.
وتدل الدلائل كلها على أن السلطان قلاوون وابنه الأشرف خليل أعادا النصارى إلى وظائفهم
بعد أن عزلهم منها، ويقول المقريزي: إن هؤلاء النصارى أصبحوا يعاملون المسلمين بأنفه،
وأرادوا أن يظهروا أهميتهم بارتداء الأزياء الثمينة، ويروى أن أحد النصارى، واسمه «عين
الغزال» صدف يومًا في طريق مصر «سنة ٦٨٢ﻫ» سمسار شونة مخدومة، فنزل السمسار عن دابته
وقبَّل
رجل الكاتب، فأخذ يسبه ويهدده على مال قد تأخر عليه من ثمن غلة الأمير وهو يترفق له ويعتذر،
فلا يزيده ذلك عليه إلا غلظة، وأمر غلامه فنزل وكتَّف السمسار ومضى به والناس تجتمع عليه
حتى صار إلى صليبة جامع أحمد بن طولون ومعه عالم كبير، وما منهم إلا من يسأله أن يخلي
عن
السمسار وهو يمتنع عليهم، فتكاثروا عليه وألقوه عن حماره وأطلقوا السمسار، وكان قد قرب
من
بيت أستاذه، فبعث غلامه لينجده بمن فيه، فأتاه بطائفة من غلمان الأمير وأدجاقيته فخلصوه
من
الناس وشرعوا في القبض عليهم ليفتكوا بهم، فصاحوا عليهم ما يحل ومروا مسرعين إلى أن وقفوا
تحت القلعة واستغاثوا: نصر الله السلطان، فأرسل يكشف الخبر فعرفوه من كان من استطالة
الكاتب
النصراني على السمسار وما جرى لهم، فطلب عين الغزال ورسم للعامة بإحضار النصارى إليه،
وطلب
الأمير بدر الدين بيدرا النائب والأمير سنجر الشجاعي، وتقدم إليهما بإحضار جميع النصارى
بين
يديه ليقتلهم، فما زالا به حتى استقر الحال على أن ينادي في القاهرة ومصر ألا يخدم أحد
من
النصارى واليهود عند أمير، وأمر الأمراء بأجمعهم أن عرضوا على من عندهم من الكُتَّاب
النصارى الإسلام، فمن امتنع من الإسلام ضربت عنقه ومن أسلم استخدموه عندهم، ورسم للنائب
بعرض جميع مباشري ديوان السلطان ويفعل فيهم ذلك فنزل الطلب لهم وقد اختفوا فصارت العامة
تسبق إلى بيوتهم وتنهبها حتى عمّ النهب بيوت النصارى واليهود بأجمعهم، وأخرجوا نساءهم
مسبيات وقتلوا جماعة بأيديهم، فقام الأمير بيدرا النائب مع السلطان في أمر العامة وتلطف
به
حتى ركب واليّ القاهرة ونادى من نهب بيت نصراني شُنق، وقبض على طائفة من العامة وشهرهم
بعدما ضربهم فانكفوا عن النهب بعدما نهبوا الكنيسة المعلقة بمصر وقتلوا منها جماعة، ثم
جمع
النائب كثيرًا من النصارى كتاب السلطان والأمراء واوقفهم بين يدي السلطان عن بعد منه،
فرسم
للشجاعي وأمير جاندار أن يأخذا عدة معهما وينزلوا إلى سوق الخيل تحت القلعة، ويحفروا
حفيرة
كبيرة ويلقوا فيها الكُتَّاب الحاضرين ويضرموا عليهم الحطب نارًا، فتقدم الأمير بيدرا
وشفع
فيهم، فأبى أن يقبل شفاعته وقال: «لا أريد في دولتي ديوانًا نصرانيًّا.» فلم يزل به حتى
سمح
بأن من أسلم منهم يستقر في خدمته، ومن امتنع ضربت عنقه، فأسلموا.
٧
ولم يرق في نظر المقريزي إسلامهم وقال: «صار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزًا يبدي
من
إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصرانيته من إظهاره.»، ولكن لم تمنع
هذه
الاعتبارات القيمة المسلمين من استعمال القسوة في معاملتهم الذميين، وكانوا أيضًا ينتقمون؛
لأنفسهم من النصارى كلما غزا بعض قراصنة البحر الأوروبيين سواحلهم.
٨
وفي شهر رجب من عام ٧٠٠ﻫ «١٣٠١م» حدثت مأساة في القاهرة غريبة في نوعها، ففي هذا
التاريخ
وصل القاهرة وزير صاحب المغرب حاجًّا، «وبينما هو ذات يوم يسوق الخيل تحت القلعة؛ إذ
هو
برجل راكب على فرس وعليه عمامة بيضاء وفرجية مصقولة وجماعة يمشون في ركابه وهم يسألونه
ويتضرعون إليه ويقبلون رجليه وهو معرض عنهم وينهرهم ويصيح بغلمانه أن يطردوهم عنه، فقال
له
بعضهم: «يا مولاي الشيخ، بحياة ولدك النشو تنظر في حالنا»، فلم يزده ذلك إلا عتوًّا وحمقًا،
فرق المغربي لهم وهمَّ بمخاطبته في أمرهم، فقيل له: «وإنه مع ذلك نصراني»، فغضب لذلك
وكاد
أن يبطش به، ثم كف عنه وطلع إلى القلعة.» ويستطرد المؤرخون قائلين: إن الوزير المغربي
«اجتمع بالملك الناصر محمد بن قلاوون ونائبه يومئذ الأمير سلار، فتحدث الأمير معه ومع
الأمير بيبرس الجاشنكير في أمر اليهود والنصارى، وأنهم عندهم في غاية الذلة والهوان،
وأنهم
لا يمكن أحد منهم من ركوب الخيل ولا الاستخدام في الجهات الديوانية، وأنكر حال نصارى
الديار
المصرية ويهودها بسبب لبسهم أفخر الملابس وركوبهم الخيل والبغال واستخدامهم من أجل المناصب
وتحكيمهم في رقاب المسلمين، وذكر أن عهد ذمتهم انقضى من سنة ٦٠٠ الهجرية النبوية،
٩ فأثر كلامه عند أهل الدولة ولا سيما الأمير بيبرس الجاشنكير، فأمر بجمع النصارى
واليهود، ورسم ألا يستخدم أحد منهم في الجهات السلطانية ولا عند الأمراء، وأن تغير عمائمهم
فيلبس النصارى العمائم الزرق وتشد في أوساطهم الزنانير، ويلبس اليهود العمائم الصفر والتزام
العهد العمري.».
١٠
ويذكر الرواة المسلمون أن كنائس القاهرة أقفلت مدة أيام، ويقول أبو الفضائل: إن هذه
الكنائس ظلت مغلقة لمدة قصيرة، وإن الأديرة الموجودة في الضواحي وغيرها لم تُمس بسوء،
فضلًا
عن كنائس الأقاليم،
١١ ولكن إذا انتقلنا إلى الإسكندرية، وجدنا أن حين وصول الأوامر إليها، بوشر في
هدم الكنائس ومنازل النصارى.
وفي عام ٧٠٢ﻫ «١٣٠٣م» ألغى الملك محمد بن قلاوون والأمير بيبرس الجاشنكير عيد الشهيد،
وقد
سبق التكلم عن هذا العيد في عهد الفاطميين، وها هو ذا ابن إياس يقدم لنا تفاصيل جديدة
عنه،
في الثامن من شهر بشنس «١٥ مايو» من كل عام، كان الأقباط يخرجون من صندوق مودع في كنيسة
شبرى أصبع أحد الشهداء ويغطسونه في النيل، وكان النصارى يحتفلون في هذه المناسبة احتفالًا
عظيمًا فيتوجهون من كل جهة لزيارة كنيسة شبرى، وكان يشترك في هذا الاحتفال عدد كبير من
الراقصين والراقصات، فكان يجتمع في هذا المكان خلق عظيم فيصرفون أموالًا طائلة على الملاهي،
ويرتكبون أعمال السوء ويشربون الخمر حتى يسكروا، وكان يذهب عدد كبير من الناس ضحايا لأعمال
القتل والاغتيال؛ إذ لا يوجد هناك حاكم ولا شرطة لمنع هذه الجرائم.
وقد سبق القول: إن سكان القاهرة كانوا يشتركون في هذا العيد منذ أمد بعيد ويقال:
إن في
أيام العيد الثلاثة كان يباع في شبرى من النبيذ ما يزيد عن ألف دينار «وكان اعتماد فلاحي
شبرى دائمًا في وفاء الخراج على ما يبيعونه من الخمر في عيد الشهيد، فعشق ذلك على أقباط
مصر
كلهم، وكان منهم رجل يعرف بالتاج بن سعيد الدولة يعاني الكتابة، وهو يومئذ في خدمة الأمير
بيبرس، وقد احتوى على عقله واستولى على جميع أموره، كما هي عادة ملوك مصر وأمرائها من
الأتراك الانقياد لكُتابهم من القبط،
١٢ وما زال الأقباط بالتاج إلى أن تحدث مع مخدومه الأمير بيبرس في ذلك وخيل له من
تلف مال الخراج إذا أبطل هذا العيد، فإن أكثر خراج شبرى إنما يحصل من ذلك.
ومن ذلك الوقت استمر هذا العيد منقطعًا حتى سنة ٧٣٨؛ إذ وقع فيها حادث غريب كان سببًا
في
إعادة الاحتفال بعيد الشهيد من جديد، ذلك «أن الأمير يلبغا اليحياوي والأمير ألطبغا
المارديني طلبا من السلطان أن يخرجا إلى الصيد ويغيبا مدة، فلم تطب نفسه بذلك لشدة غرامه
بهما، وتهتكه في محبتهما، وأراد صرفهما عن السفر فقال لهما: «نحن نعيد عمل عيد الشهيد
فيكون
تفرجكما عليه أنزه من خروجكما إلى الصيد.».
ولكن في ٧٥٥ﻫ
١٣ «تحرك المسلمون على النصارى … وهدمت كنيسة النصارى «بشبرى» وأخذ منها أصبع
الشهيد في صندوق، وأحضر إلى الملك الصالح وأحرق بين يديه في الميدان من قلعة الجبل، وذرى
رماده في البحر حتى يأخذه النصارى، فبطل عيد الشهيد من يومئذ.».
١٤
كان عام ٧٢٠ﻫ «١٣٢٠م» خرابًا على الأقباط، ولم يعرف ما حدث بالضبط ولكن، بمجرد إشارة،
اعتدى الشعب على الأقباط في جميع أنحاء البلاد مما يجعلنا نعتقد أن هذه الحركة قد دُبرت
منذ
أمد بعيد، ولم يدرك محمد بن قلاوون في بادئ الأمر خطورة هذه الحركة التي كانت تُدبر في
الخفا، ولما طغت عليه، اضطر مرغمًا أن يساير الجماهير، ويقوم هو أيضًا باضطهاد النصارى،
ويذكر المقريزي
١٥ هذه الاضطهادات بتفاصيلها، قال: «إن الملك الناصر محمد بن قلاوون، لما أنشأ
ميدان المهاري لقناطر السباع في سنة عشرين وسبعمائة، قصد بناء زريبة على النيل الأعظم
بجوار
الجامع الطيبرسي، فأمر بنقل كوم تراب كان هناك وحفر ما تحته من الطين لأجل بناء الزريبة،
وأجرى الماء إلى مكان الحفر، فصار يعرف إلى اليوم بالبركة الناصرية، وكان الشروع في حفر
هذه
البركة من آخر شهر ربيع الأول ٧٢١ﻫ، فلما انتهى الحفر إلى جانب كنيسة الزهري، وكان بها
كثير
من النصارى لا يزالون فيها وبجانبها أيضًا عدة كنائس في الموضع الذي يعرف اليوم بحكر
اقبغا،
أخذ الفعلة في الحفر حول كنيسة الزهري حتى بقيت قائمة في وسط الموضع، الذي عينه السلطان
ليحفر، وهو اليوم بركة الناصرية، وزاد الحفر حتى تعلقت الكنيسة، وكان القصد من ذلك أن
تسقط
من غير قصد لخرابها، وصارت العامة من غلمان الأمراء العاملين في الحفر وغيرهم في كل وقت
يصرخون على الأمراء في طلب هدمها وهم يتغافلون عنهم إلى أن كان يوم الجمعة التاسع من
شهر
ربيع الآخر من هذه السنة وقت اشتغال الناس بصلاة الجمعة والعمل من الحفر بطال، فتجمع
عدة من
غوغاء العامة بغير مرسوم السلطان وقالوا بصوت عالٍ مرتفع: «الله أكبر»، ووضعوا أيديهم
بالمساحي ونحوها في كنيسة الزهري وهدموها حتى بقيت كومًا، وقتلوا من كان فيها من النصارى
وأخذوا جميع ما كان فيها، وهدموا كنيسة «بومينا» التي كانت بالحمراء، وكانت معظمة عند
النصارى من قديم الزمان، وبها عدد من النصارى قد انقطعوا فيها، ويحمل إليهم نصارى مصر
سائر
ما يحتاج إليه الشعب ويبعث إليها بالنذور الجليلة والصدقات الكثيرة، فوجد فيها مال كثير
ما
بين نقد ومصاغ وغيره، وتسلق العامة إلى أعلاها وفتحوا أبوابها وأخذوا منها مالًا وقماشًا
وجرار خمر فكان أمرًا مهولًا، ثم مضوا من كنيسة الحمراء بعدما هدموها إلى كنيستين بجوار
السبع سقايات، تعرف إحداهما بكنيسة البنات كان يسكنها بنات النصارى وعدد من الرهبان،
فكسروا
أبواب الكنيستين وسبوا البنات وكنَّ زيادة على ستين بنتًا، وأخذوا ما عليهن من الثياب
ونهبوا سائر ما ظفروا به وحرقوا وهدموا تلك الكنائس كلها، هذا والناس في صلاة الجمعة،
فعندما خرج الناس من الجوامع شاهدوا هولًا كبيرًا من كثرة الغبار ودخان الحريق ومرج الناس
وشدة حركاتهم ومعهم ما نهبوه، فما شبه الناس الحال لهوله إلا بيوم القيامة، وانتشر الخبر
وطار إلى الرميلة تحت قلعة الجبل، فسمع السلطان ضجة عظيمة ورجة منكرة أفزعته، فبعث لكشف
الخبر، فلما بلغه ما وقع انزعج انزعاجًا عظيمًا، وغضب من تجرأ العامة وإقدامهم على ذلك
بغير
أمره، وأمر الأمير أيدغمش أمير آخور أن يركب بجماعة الأوشاقية ويتدارك هذا الخلل، ويقبض
على
من فعله، فأخذ أيدغمش يتهيأ للركوب، وإذا بخبر قد ورد من القاهرة أن العامة ثارت في القاهرة
وخربت كنيسة بحارة الروم وكنيسة بحارة زويلة، وجاء الخبر من مدينة مصر أيضًا بأن العامة
قامت بمصر في جمع كثير جدًّا وزحفت إلى كنيسة المعلقة بقصر الشمع، فأغلقها النصارى وهم
محصورون بها وهي على أن تُؤخذ، فتزايد غضب السلطان وهمَّ أن يركب بنفسه ويبطش بالعامة،
ثم
تأخر لما راجعه الأمير أيدغمش ونزل من القلعة في أربعة من الأمراء إلى مصر، وركب الأمير
بيبرس الحاجب والأمير ألماس الحاجب إلى موضع الحفر، وركب الأمير طينال إلى القاهرة، وكل
منهم في عدة وافرة، وقد أمر السلطان بقتل من قدروا عليه من العامة بحيث لا يعفو عن أحد،
فقامت القاهرة ومصر على ساق وفرت النهابة فلم يظفر الأمراء منهم إلا بمن عجز عن الحركة
بما
غلبه من السكر بالخمر الذي نهبه من الكنائس، ولحق الأمير أيدغمش بمصر وقد ركب الوالي
إلى
المعلقة قبل وصوله ليخرج من زقاق المعلقة من حضر للنهب فأخذه الرجم حتى مرّ منهم، ولم
يبقَ
إلا أن يحرق باب الكنيسة، فجرد أيدغمش ومن معه السيوف يريدون الفتك بالعامة فوجدوا عالمًا
لا يقع عليه حصر، وخاف سوء العاقبة فأمسك عن القتل وأمر أصحابه، بإرجاف العامة من غير
إراقة
دم، ونادى مناديه من وقف حُلَّ دمه، ففرّ سائر من اجتمع من العامة وتفرقوا، وصار أيدغمش
واقفًا إلى أن أذن العصر خوفًا من عود العامة، ثم مضى وألزم والي مصر أن يبيت بأعوانه
هناك
وترك معه خمسين من الأوشاقية، وأما الأمير ألماس، فإنه وصل إلى كنائس الحمراء وكنائس
الزهري
ليتداركها، فإذا بها قد بقيت كيمانًا ليس بها جدار قائم، فعاد وعاد الأمراء فردوا الخبر
على
السلطان وهو لا يزداد إلا حنقًا، فما زالوا به حتى سكن غضبه.
وكان الأمر في هدم هذه الكنائس عجبًا من العجب وهو أن الناس لما كانوا في صلاة الجمعة
من
هذا اليوم بجامع قلعة الجبل، فعندما فرغوا من الصلاة قام رجل موله وهو يصيح من وسط الجامع:
«اهدموا الكنيسة التي في القلعة، اهدموها.»، وأكثر من الصياح المزعج حتى خرج عن الحد
ثم
اضطرب، فتعجب السلطان والأمراء من قوله ورسم لنقيب الجيوش والحاجب بالفحص عن ذلك، فمضيا
من
الجامع إلى خرائب التتر من القلعة، فإذا فيها كنيسة قد بُنيت فهدموها، ولم يفرغوا من
هدمها
حتى وصل الخبر بواقعة كنائس الحمراء والقاهرة، فكثر تعجب السلطان من شأن ذلك الفقير وطُلب،
فلم يوقف له على خبر، واتفق أيضًا بالجامع الأزهر أن الناس لما اجتمعوا في هذا اليوم
لصلاة
الجمعة، أخذ شخصًا من الفقراء مثل الرعدة، ثم قام بعد ما أذن قبل أن يخرج الخطيب وقال:
«اهدموا كنائس الطغيان والكفرة، نعم الله أكبر وفتح لله ونصر.» وصار يزعج نفسه ويصرخ
من
الأساس إلى الأساس، فحدق الناس بالنظر إليه ولم يدروا ما خبره وافترقوا في أمره، فقائل:
هذا
مجنون، وقائل: هذه إشارة لشيء، فلما خرج الخطيب، أمسك عن الصياح وطُلب بعد انقضاء الصلاة،
فلم يوجد، وخرج الناس إلى باب الجامع فرأوا النهابة ومعهم أخشاب الكنائس وثياب النصارى
وغير
ذلك من النهوب، فسألوا عن الخبر فقيل: قد نادى السلطان بخرائب الكنائس، فظن الناس الأمر
كما
قيل حتى تبين بعد قليل أن هذا الأمر إنما كان من غير أمر السلطان، وكان الذي هُدم في
هذا
اليوم من الكنائس بالقاهرة كنيسة بحارة الروم وكنيسة بالبندقانيين وكنيستين بحارة
زويلة.
وفي يوم الأحد الثالث من يوم الجمعة الكائن فيه هدم كنائس القاهرة ومصر ورد الخبر
من
الأمير بدر الدين بيلبك المحسني والي الإسكندرية بأنه لما كان يوم الجمعة تاسع ربيع الآخر
بعد صلاة الجمعة، وقع في الناس هرج وخرجوا من الجامع وقد وقع الصياح «هدمت الكنائس»،
فركب
المملوك من فوره، فوجد الكنائس قد صارت كومًا وعدّتها أربع كنائس، وأن بطاقة وقعت من
والي
البحيرة بأن كنيستين في مدينة دمنهور هُدمتا والناس في صلاة الجمعة من هذا اليوم، فكثر
التعجب من ذلك إلى أن ورد في يوم الجمعة سادس عشر الخبر من مدينة قوص بأن الناس عندما
فرغوا
من صلاة الجمعة في اليوم التاسع من شهر ربيع الآخر قام رجل من الفقراء وقال: «يا فقراء،
أخرجوا إلى هدم الكنائس.»، وخرج في جمع من الناس فوجدوا الهدم قد وقع في الكنائس، فهدمت
ست
كنائس كانت بقوص وما حولها في ساعة واحدة، وتواتر الخبر من الوجه القبلي والوجه البحري
بكثرة ما هُدم في هذا اليوم وقت صلاة الجمعة وما بعدها من الكنائس والأديرة في جميع إقليم
مصر كله، ما بين قوص والإسكندرية ودمياط، فاشتد حنق السلطان على العامة، خوفًا من فساد
الحال، وأخذ الأمراء في تسكين غضبه وقالوا: «هذا الأمر ليس من قدرة البشر فعله، ولو أراد
السلطان وقوع ذلك على هذه الصورة لما قدر عليه وما هذا إلا بأمر الله سبحانه وبقدره لما
علم
من كثرة فساد النصارى وزيادة طغيانهم ليكون ما وقع نقمة وعذابًا لهم.»، هذا والعامة
بالقاهرة ومصر قد اشتد خوفهم من السلطان لما كان يبلغهم عنه من التهديد لهم بالقتل، ففرّ
عدد من الأوباش والغوغاء، وأخذ القاضي فخر الدين ناظر الجيش في ترجيع السلطان عن الفتك
بالعامة وأخذ كريم الدين الكبير، ناظر الخاص، يغريه بهم إلى أن أخرجه السلطان إلى
الإسكندرية بسبب تحصيل المال وكشف الكنائس التي خربت بها، فلم يمضِ سوي شهر من يوم هدم
الكنائس، حتى وقع الحريق بالقاهرة ومصر في عدة مواضع وحصل فيه من الشناعة أضعاف ما كان
من
هدم الكنائس، فوقع الحريق في ربع بخط الشوابيين من القاهرة في يوم السبت عاشر جمادى الأولى،
وسرت النار إلى ما حوله واستمرت إلى آخر يوم الأحد، فتلف في هذا الحريق شيء كثير، وعندما
أضفئ، وقع الحريق بحارة الديلم في زقاق العريسة بالقرب من دور كريم الدين ناظر الخاص
… وبلغ
ذلك السلطان فانزعج انزعاجًا عظيمًا لما كان هناك من الحواصل السلطانية وسير طائفة من
الأمراء لإطفائه، فجمعوا الناس لإ طفائه وتكاثروا عليه، وقد عظم الخطب من ليلة الاثنين
إلى
ليلة الثلاثاء، فتزايد الحال في اشتعال النار وعجز الأمراء والناس على إطفائها لكثرة
انتشارها في الأماكن وقوة الريح التي ألقت بإسقاف النخل وغرقت المراكب فلم يشك الناس
في
حريق القاهرة كلها، وصعدوا المآذن وبرز الفقراء وأهل الخير والصلاح وضجوا بالتكبير والدعاء
وجاءوا، وكثر صراخ الناس وبكاؤهم وصعد السلطان إلى أعلى القصر فلم يتمالك الوقوف من شدة
الريح … فما هو إلا أن كمل إطفاء الحريق ونقل الحواصل وإذا بالحريق قد وقع في ربع الظاهر
خارج باب زويلة، وكان يشتمل على مائة وعشرين بيتًا، وهب مع الحريق ريح قوية فركب الحاجب
والوالي لإطفائه، وهدموا عدة دور من حوله حتى انطفأ فوقع في ثاني يوم حريق بدار الأمير
سلار
في خط بين القصرين وحريق بحارة الروم وعدة مواضع حتى أنه لم يخلُ يوم من وقوع الحريق
في
موضع، فتنبه الناس لما نزل بهم وظنوا أنه من أفعال النصارى، وذلك أن النار كانت تُرى
في
منابر الجوامع وحيطان المساجد والمدارس فاستعدوا للحريق وتتبعوا الأحوال حتى وجدوا هذا
الحريق من نفط قد لف عليه خرق مبلولة بزيت وقطران.
فلما كان ليلة الجمعة النصف من جمادى، قُبض على راهبين عندما خرجا من المدرسة الكهارية
بعد العشاء الآخرة، فكان وقد اشتعلت النار في المدرسة ورائحة الكبريت في أيديهما، فحملا
إلى
الأمير علم الدين الخازن، والي القاهرة، فأعلم السلطان بذلك، فأمر بعقوبتهما، فما هو
إلا أن
نزل من القلعة وإذا بالعامة قد أمسكوا نصرانيًّا وُجد في جامع الظاهر ومعه خرق على هيئة
الكعكة في داخلها قطران ونفط، وقد ألقى منها واحدة بجانب المنبر وما زال واقفًا إلى أن
خرج
الدخان، فمشى يريد الخروج من الجامع، وكان قد فطن به شخص وتأمله من حيث لم يشعر به
النصراني، فقبض عليه وتكاثر الناس، فجروه إلى بيت الوالي وهو بهيئة المسلمين، فعوقب عند
الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، فاعترف بأن جماعة من النصارى قد اجتمعوا على عمل نفط
وتفريقه مع جماعة من أتباعهم، وأنه ممن أُعطي ذلك وأُمر بوضعه عند منبر جامع الظاهر،
ثم أمر
بالراهبين فعوقبا فاعترفا أنهما من سكان دير البغل، وأنهما هما اللذان أحرقا المواضع
التي
تقدم ذكرها بالقاهرة غيرة وحنقًا من المسلمين لما كان من هدمهم للكنائس، وأن طائفة النصارى
تجمعوا وأخرجوا من بينهم مالًا جزيلًا لعمل هذا النفط.
واتفق وصول كريم الدين ناظر الخاص من الإسكندرية، فعرفه السلطان ما وقع من القبض على
النصارى، فقال: «النصارى لهم بطريرك يرجعون إليه ويعرف أحوالهم»، فرسم السلطان بطلب
البطريرك عند كريم الدين ليتحدث معه في أمر الحريق وما ذكره النصارى من قيامهم في ذلك،
فجاء
في حماية والي القاهرة في الليل خوفًا من العامة، فلما أن دخل بيت كريم الدين بحارة الديلم
وأحضر إليه الثلاثة النصارى من عند الوالي، قالوا لكريم الدين بحضرة الوالي والبطرك جميع
ما
اعترفوا به قبل ذلك، فبكى البطرك عندما سمع كلامهم وقال: «هؤلاء سفهاء النصارى قصدوا
مقابلة
سفهاء المسلمين على تخريبهم الكنائس»، وانصرف من عند كريم الدين مبجلًا مكرمًا فوجد كريم
الدين قد أقام له بغلة على بابه ليركبها فركبها وسار، فعظم ذلك على الناس وقاموا عليه
يدًا
واحدة، فلولا أن الوالي كان يسايره وإلا هلك، وأصبح كريم الدين يريد الركوب إلى القلعة
على
العادة، فلما خرج إلى الشارع صاحت به العامة: «ما يحل لك يا قاضي تحامي للنصارى وقد أحرقوا
بيوت المسلمين وتركبهم بعد هذا البغال»، فشق عليه ما سمع وعظمت نكايته واجتمع بالسلطان،
فأخذ يهون أمر النصارى الممسوكين ويذكر أنهم سفهاء وجهال، فرسم السلطان للوالي بتشديد
عقوبتهم، فنزل وعاقبهم عقوبة مؤلمة فاعترفوا بأن أربعة عشر راهبًا بدير البغل قد تحالفوا
على إحراق ديار المسلمين كلها وفيهم راهب يصنع النفط، وأنهم اقتسموا القاهرة ومصر فجعلوا
للقاهرة ثمانية ولمصر ستة، فكبس دير البغل وقبض على من فيه وأحرق من جماعته أربعة بشارع
صليبة جامع ابن طولون في يوم الجمعة، وقد اجتمع لمشاهدتهم عالم عظيم، فضرى من حينئذ جمهور
الناس على النصارى وفتكوا بهم وصاروا يسلبون ما عليهم من الثياب حتى فحش الأمر وتجاوزوا
فيهم المقدار، فغضب السلطان من ذلك وهمَّ أن يوقع بالعامة واتفق أنه ركب من القلعة يريد
الميدان الكبير في يوم السبت، فرأى من الناس أممًا عظيمة قد ملأت الطرقات وهم يصيحون:
«نصر
الله الإسلام، أنصر دين محمد بن عبد الله.».
… واتفق مع هذا مرور كريم الدين، وقد لبس التشريف من الميدان، فرجمه من هناك رجمًا
متتابعًا وصاحوا به: «كم تحامي النصارى، وتشد معهم.» ولعنوه وسبوه، فلم يجد بدًّا من
العود
إلى السلطان وهو بالميدان، وقد اشتد ضجيج العامة وصياحهم حتى سمعهم السلطان، فلما دخل
عليه
وأعلمه الخبر، امتلأ غضبًا واستشار الأمراء، وقال للأمير ألماس الحاجب: «امض ومعك أربعة
من
الأمراء وضع السيف في العامة في حين تخرج من باب الميدان إلى أن تصل إلى باب زويلة، واضرب
فيهم بالسيف من باب زويلة إلى باب النصر بحيث لا ترفع السيف عن أحد البتة.»، وقال لوالي
القاهرة: «اركب إلى باب اللوق وإلى باب البحر ولا تدع أحدًا حتى تقبض عليه وتطلع به إلى
القلعة، وحتى لم تحضر الذين رجموا وكيلي يعني كريم الدين، وإلا وحياة رأسي شنقتك عوضًا
عنهم.»، فما غربت الشمس حتى أحضر ممن أمسك من العامة نحو مائتي رجل، فعزل منهم طائفة
أمر
بشنقهم وجماعة رسم بتوسيطهم وجمع رسم بقطع أيديهم، فصاحوا بأجمعهم: «يا خولد ما يحلّ
لك ما
نحن الذين رجمنا.» … وما زالوا بالسلطان إلى أن قال للوالي: «أعزل منهم جماعة وأنصب الخشب
من باب زويلة إلى تحت القلعة بسوق الخيل وعلق هؤلاء بأيديهم.»، فلما أصبح يوم الأحد،
علق
الجميع من باب زويلة إلى سوق الخيل، وجلس السلطان في الشباك، وقد أحضر بين يديه جماعة
ممن
قبض عليهم الوالي، فقطع أيدي وأرجل ثلاثة منهم، والأمراء لا يقدرون على الكلام معه في
أمرهم
لشدة حنقه، فتقدم كريم الدين وكشف رأسه وقبَّل الأرض وهو يسأل العفو، فقبل سؤاله.
وعندما قام السلطان من الشباك، وقع الصوت بالحريق في جهة جامع ابن طولون وفي قلعة
الجبل
وفي بيت الأمير ركن الدين الأحمدي، وفي صبيحة يوم هذا الحريق قبض على ثلاثة من النصارى
وجد
معهم فتائل النفط، فأُحضروا إلى السلطان واعترفوا بأن الحريق كان منهم فلما ركب السلطان
إلى
الميدان على عادته، وجد نحو عشرين ألف نفس من العامة قد صبغوا خرقًا بلون أزرق وعملوا
فيها
صلبانًا بيضاء، وعندما رأوا السلطان صاحوا بصوت عام واحد: «لا دين إلا دين الإسلام، نصر
الله دين محمد بن عبد الله، يا ملك الناصر يا سلطان الإسلام انصرنا على أهل الكفر ولا
تنصر
النصارى.»، فارتجت الدنيا من هول أصواتهم وأوقع الله الرعب في قلب السلطان وقلوب الأمراء،
وسار وهو في فكر زائد حتى نزل بالميدان وصراخ العامة لا يبطل، فرأى أن الرأي في استعمال
المداراة، وأمر الحاجب أن يخرج وينادي بين يديه من وجد نصرانيًّا فله ماله ودمه … فخرج
ونادى بذلك، فصاحب العامة وصرخت: «نصرك الله.»، وضجوا بالدعاء، وكان النصارى يلبسون العمائم
البيض، فنودي في القاهرة ومصر من وجد نصرانيًّا بعمامة بيضاء، حلّ له دمه وماله، ومن
وجد
نصرانيًّا راكبًا، حلّ له دمه وماله، ومنع الأمراء من استخدام النصارى وأخرجوا من ديوان
السلطان، وكتب لسائر الأعمال بصرف جميع المباشرين من النصارى، وكثر إيقاع المسلمين بالنصارى
حتى تركوا السعي في الطرقات وأسلم منهم جماعة كثيرة، وكان اليهود قد سكت عنهم في هذه
المدة،
فكان النصراني إذا أراد أن يخرج من منزله يستعير عمامة صفراء من أحد من اليهود ويلبسها
حتى
يسلم من العامة.
وأخيرًا نودي في الناس بالأمان وأنهم يتفرجون على عادتهم عند ركوب السلطان إلى الميدان؛
وذلك أنهم كانوا قد تخوفوا على أنفسهم لكثرة ما أوقعوا بالنصارى وزادوا في الخروج عند
الحد،
فاطمأنوا وخرجوا على العادة إلى جهة الميدان ودعوا للسلطان وصاروا يقولون: نصرك الله
يا
سلطان الأرض، اصطلحنا، اصطلحنا، وأعجب السلطان ذلك وتبسم من قولهم.
ويحصي المقريزي بعد ذلك الخسائر التي سببتها هذه الكارثة فيقول: إن عدد الكنائس التي
خربت
بمصر أربع وخمسون كنيسة فضلًا عن عدة أديرة هدمت عن آخرها، وقتل عدد كبير من الناس وحدثت
خسائر لا تحصى في الأموال.
نستخلص من هذه الحوادث بعض الاستنتاجات، فلسنا نعد في حاجة إلى الإشارة إلى موقف السلطان
محمد بن قلاوون، فقد كان يعطف على النصارى ويرغب في حمايتهم، ولكنه اضطر أخيرًا إلى مسايرة
الجماهير الخانقة، ولسنا في حاجة أيضًا إلى الإشادة إلى حكمة أولياء الأمور وكره الأعيان
من
المسلمين والأقباط لأعمال العنف.
ولا شك أن هذه الحركة قد دبرتها في الخفاء جمعيات لها صبغة دينية؛ لأنها كانت حانقة
على
استمرار نفوذ النصارى في البلاد، ومن ناحية أخرى، فإن الأعمال الانتقامية التي قام بها
الأقباط قد دبرتها سرًّا رءوس جامحة كانت تعتقد أنها بعملها هذا قد تستطيع أن تقنع الأغلبية
بالعودة إلى اعتدالهم في معاملتهم، ولكن استنكار البطريرك للأعمال الإرهابية كان دليلًا
على
أن هذه الأعمال غير مرغوبة لدى الأقباط عامة، وعلى أي حال، فإن تدخل السلطات أنقذت الأقباط
مرة أخرى من استفحال الكارثة.
وفي عام ٧٢٨ «رفع النصارى قصة للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون يسألون الإذن
في إعادة
ما تهدم منها «أي: كنيسة الست بربارة»، فأذن لهم في ذلك، فعمروها أحسن ما كانت، فغضبت
طائفة
من المسلمين ورفعوا قصة للسلطان بأن النصارى أحدثوا بجانب هذه الكنيسة بناء لم يكن فيها،
فرسم للأمير علم الدين سنجر الخازن، والي القاهرة، بهدم ما جددوه، فركب وقد اجتمع الخلائق
فبادروا وهدموا الكنيسة كلها في أسرع وقت، وأقاموا في موضعها محرابًا أذنوا وصلوا وقرءوا
القرآن، كل ذلك بأيديهم، فلم تمكن معارضتهم خشية الفتنة، فاشتد الأمر على النصارى وشكوا
أمرهم للقاضي كريم الدين، ناظر الخاص، فقام وقعد غضبًا لدين أسلافه وما زال بالسلطان
حتى
رسم بهدم المحراب، فهدم وصار موضعه كوم تراب ومضى الحال على ذلك.».
١٦
وبعد سنين، اتهم أحد النصارى أنه حفيد رجل كان قد اعتنق الإسلام، فحكم القاضي على
هذا
النصراني بأن يدخل الإسلام، وألقاه في السجن ليجبره على ذلك … فذهب النصارى جميعًا لمقابلة
الحاكم وتمكنوا من إطلاق سراح الرجل في حلكة الليل، وفي اليوم التالي توجهت الجماهير
إلى
منزل القاضي … وكان الحاكم قد استدعاه ولامه لومًا شديدًا على ما اتخذه من إجراء غير
أن
الجماهير أيدت صراحة موقف القاضي، وأغلقت الحوانيت وأخذت تقذف الحاكم بالحجارة فاضطر
إلى
مغادرة المدينة، ثم توجهت الجماهير نحو الكنيسة التي بجوار هذه المنطقة فخربتها وأحرقت
الصلبان والصور التي بها، ونبشت القبور وأخرجت الجثث وألقتها في النيران، وبعد ذلك قررت
مهاجمة النصارى القاطنين في تلك المقاطعة، وفي هذا الأثناء، شكا الحاكم للقاضي من هذه
الإجراءات العنيفة التي اتُخذت ضد النصارى؛ إذ أشاعت الفوضى في البلاد وسببت للسلطان
خسارة
في فرع من فروع دخله يبلغ خمسمائة ألف درهم.
١٧
وفي سنة ٧٥٥ﻫ «١٣٥٤م»، «رفعت قوائم إلى الأمير صرغتمش من ديوان الأحباش فيها عدة
حصص
جارية على منافع الكنائس والديور، فكان قدر تلك الحصص خمسة وعشرين ألف فدان بيد النصارى،
فلما سمع الأمير صرغتمش بذلك، حنق وطلع إلى القلعة وشاور السلطان على ذلك، فرسم السلطان
بأن
يخرج ذلك من يد النصارى، وكتب بذلك مربعات وأنعم بها على الأمراء زيادة على إقطاعاتهم
… ثم
إن السلطان رسم بهدم الكنائس والديور.».
١٨
وهنا نتساءل، ما الحوادث التي أدت إلى اتخاذ هذه الإجراءات التعسفية ضد النصارى؟ لا
يذكر
لنا التاريخ عنها شيئًا، ويحتمل أن تكون الخزانة العامة في حاجة إلى المال، ويحتمل أيضًا
أن
السلطان أراد بذلك تهدئة خواطر المسلمين ومنع قيام حركة ثورية أخرى.
ويبدو أن عيل صبر النصارى من هذه الحال، فطرحوا جمودهم جانبًا، وهبوا يحاولون النيل
من
ممتلكات المسلمين وحرق مساجدهم على الأخص معرضين بذلك أنفسهم للاستشهاد، ويذكر لنا المقريزي
حالات بعض الذين وصل بهم اليأس إلى هذا الحد، ففي عام ٧٥٤ﻫ «١٣٥٣م» وقع حادث فردي مؤداه
أن
نصرانيًّا من مواليد مدينة الطور وكاتب في أحد الدواوين قصد القاهرة ووقف يخطب ضد الديانة
الإسلامية، فلما قُدم للتحقيق قال للقاضي: «إن هدفي الحصول على شرف الاستشهاد.»، وفي
عام
٧٩١ﻫ قدم القاهرة جماعة من الرجال والسيدات وأعلنوا على الملأ خروجهم عن الإسلام وعزمهم
على
العودة إلى حظيرة المسيحية، وقالوا: «لقد جئنا هنا لكي نغتفر الخطايا التي اقترفناها،
فنقدم
حياتنا على مذبح التضحية لننال نعم سيدنا المسيح.»، فقُطعت رءوسهم جميعًا، وفي عام ٧٩٥ﻫ
«١٣٩٢م» قام في القدس أربعة من الرهبان وتحدوا علانية فقهاء الإسلام وتكلموا عن الإسلام
بأسلوب ملؤه الاحتقار، فحُكم عليهم بالحرق أحياء.
١٩
غير أن هذه الحوادث التي تدل على استياء النصارى لم تتعدد، ولم يكن لها تأثير على
الشعب.
وفي عام ٧٨٧ﻫ «١٣٨٥م» «رسم السلطان الملك الظاهر برقوق بإبطال ما كان يعمل في يوم
النيروز، وأرسل الحجاب مع جماعة من المماليك السلطانية ووالي الشرطة، فطافوا في أماكن
المتفرجات وفي الطرقات، فمن وجدوه يفعل ذلك يضربونه بالمقارع، وصاروا يقطعون أيدي جماعة
ممن
كان يفعل ذلك، وقاموا في ذلك قيامًا عظيمًا حتى بطل ذلك من القاهرة وأشهروا النداء بمن
يفعل
ذلك بالشنق، فانكف الناس من يومئذ عن ذلك.».
٢٠
وفي عام ٨٠٣ﻫ «١٤٠٠م»، هدم الأمير يلبغا السالمي كنيسة للنصارى بجوار شبرا الخيمة،
وحطم
أكثر من أربعين ألف جرة نبيذ، وكان عازمًا على اضطهاد النصارى، ولكن حال سائر الأمراء
بينه
وبين تنفيذ أغراضه.
٢١
وفي عام ٨١٨ﻫ «١٤١٥م»، أراد الأمير سيف الدين أن يفرض غرامة على النصارى، ولكن السلطات
عارضت في ذلك، فما كان منه إلا أن توجه مغضبًا إلى الحي الذي كان يباع فيه النبيذ، وأمر
بإهراق عدة آلاف جرة منه، وأخذ من النصارى عنوة بعض المال.
٢٢
وفي عام ٨٢٢ﻫ «١٤١٩م»، أرغم النصارى واليهود على زم أكمامهم وتقصير عمائمهم بحيث
لا
تتجاوز سبعة أذرع طولًا، وطلب إليهم أيضًا أن يعلقوا جرسًا صغيرًا في عنقهم عند دخولهم
الحمام، وأمرت نساءهم بارتداء فساتين صفراء، وفي نفس السنة، أخذ على النصارى عدم مبالاتهم
بالقوانين الجديدة الخاصة بأزيائهم، وبعد نقاش طويل تقرر طردهم من الدواوين، وقد أُلقي
في
السجن كاتم أسرار الوزير النصراني أبو الفضائل، ثم جُلد بالسياط وطيف به شوارع القاهرة
يتبعه محتسب يصيح بأعلى صوته: «هكذا نعامل النصارى الذين يشتغلون وظيفة في دواوين
السلطان.»، فلم يجرؤ أحد من النصارى بعد ذلك على شغل أية وظيفة رسمية.
٢٣
ومنع النصارى فيما منعوا من ركوب البغال في مدينة القاهرة، أما في خارجها فقد صرح
لهم
بركوبها ولكن على طريقة النساء، مما اضطر بعضهم إلى اعتناق الإسلام هربًا من هذا الإذلال،
فانتقلوا من جحيم الذلة إلى نعيم الإجلال والإكرام، وقد امتطوا الجياد بدل البغال، وأخذوا
ينظرون إلى المسلمين شزرًا وينعمون برؤيتهم وهم يعملون على كسب رضائهم بالخضوع لهم والتشفع
عندهم.
٢٤
وفي عام ٨٤٦ﻫ «١٤٤٢م» «حصل على النصارى واليهود من الذل والخزي والإهانة والتغريم
ما يفوق
الوصف.»
٢٥ بسبب الترميمات التي قام بها الملكيون سرًّا في كنيستهم، ورسم السلطان بعقد
مجلس بحضرته بالقضاة الأربعة وغيرهم من مشايخ الإسلام وأركان الدولة من المباشرين وغيرهم،
وأحضرهم مؤنس بطريرك النصارى اليعاقبة، وفليوثاؤس بطريرك النصارى الملكيين، وعبد اللطيف،
من
طائفة اليهود الربائيين، وفرج الله، أحد مشايخ اليهود القرائيين، وإبراهيم، كبير طائفة
اليهود السامرة وسئلوا عن العهد المكتتب على أسلافهم، فلم يعرفوه، ودار الكلام في المجلس
فيما يؤمرون إلى أن اقتضت الآراء السعيدة تجديد العهد عليهم على وفق المنقول عن أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب.
وفي سنتي ٨٤٩ و٨٥٠ﻫ، هُدمت بضع كنائس وأُرسلت أنقاضها إلى السلطات المختصة، ويذكر
السخاوي
أنه لم يبقَ في عام ٨٥٢ﻫ كنيسة واحدة لم يلحق بها ضرر.
لقد ذكرنا الأحداث البارزة التي وقعت في هذا العصر، وهي تظهر لنا إلى أي حد وصل انحلال
الأمة القبطية، وكيف عمل المسلمون على ضعف النفوذ القبطي في البلاد، ومن جهة أخرى، نشاهد
شدة حرج السلاطين؛ إذ إنهم أبقوا على الدجاجة ذات البيض الذهبي «وفي الحقيقة كان إنتاج
هذه
الدجاجة ضعيفًا جدًّا» ولم يستغنوا عن خدمات الأقباط، فعملوا على الحد من غضب الجماهير
قدر
المستطاع.
هوامش