الفصل التاسع
القبطي في خدمة البكوات المماليك
حالته قبيل الحملة الفرنسية
دخل السلطان سليم الأول مصر عام ٩٢٣ﻫ (١٥١٧م) بعد أن تغلب على قوات طومان باي، ويصف
ابن
إياس هذا الفتح وصفًا شائقًا ومفصلًا، ولكنه لم يذكر الأقباط في هذه المناسبة إلا مرة
واحدة
في مجرى حديثه عن انتقال بعض الصناع، الذين انتقاهم السلطان للسفر إلى الآستانة، ويقول
ابن
إياس: إن الفاتح أخذ جماعة من طائفة اليهود والسامرية والنصارى ويذكر لنا أسماءهم، ومن
بينهم شيخ الملكيين الإسكندري.
١
وبعد مضي أربع سنوات يروي لنا المصدر نفسه حادثًا يبرهن على أن العدالة في مصر لم
تفقد
سيرها العادي تحت الحكم العثماني، ذلك أنه لما انتصر السلطان سليم على الإفرنج ووردت
البشائر بذلك، أقيمت معالم الزينة في القاهرة سبعة أيام متوالية، وحدث أن «أتى إلى بيت
القاضي بشر ثلاثة مباشرين من النصارى ليتفرجوا على الزينة، فسكروا هناك سكرًا فاحشًا
وتجاهروا بالمعاصي حتى خرجوا عن الحد، فأرسل القاضي بشر ينهاهم عن ذلك فما سمعوا له كلامًا
وتزايد منهم الحال، فجاء بنفسه وأغلظ عليهم في القول وسبهم فسبوه وأفحشوا في السب له
وسبوا
دين الإسلام على ما قيل، فأرسل القاضي بشر من قبض عليهم وتوجه بهم إلى المدرسة الصالحية
وحضر قضاة القضاة الأربعة، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة قبل الصلاة، فلما حضر قاضي المالكي
محي الدين الدميري، قامت عنده البينة بما وقع من النصارى في حق القاضي بشر الحنفي، فتوقف
القاضي المالكي في قتل النصارى، ثم قال: «يجب عليهم الحد والتعذير، فإنهم كانوا سكارى.»
وكذلك قال بقية القضاة، فلما سمع القاضي بشر بذلك … كبر على القضاة وأغلظ في القول على
قاضي
القضاة المالكي واجتمع بالمدرسة الصالحية الجم الكثير من العوام، فهمُّوا بأن يرجموا
القضاة
في ذلك اليوم … ثم إن بعض الانكشارية قبض على النصارى وأخرجهم من المدرسة الصالحية فلما
خرجوا بهم، قطعوهم بالأطبار قطعًا قطعًا … فلما قطعت النصارى اجتمع السواد الأعظم من
العوام
بباب المدرسة الصالحية وأخذوا رمم النصارى وأطلقوا فيها النار، وأخذوا السقائف التي تقع
على
الدكاكين ووضعوها عليهم وأشعلوها بالنار، فاحترقوا وصاروا كالرماد.».
٢
وينقل إلينا ابن إياس حادثًا مماثلًا وقع عام ٩٢٨ﻫ «١٥٢١م» يبرهن على أن المباشرين
الأقباط لم يزالوا وقتئذ يتمتعون بنفوذ عظم، يمكنهم إذا ما دعت الضرورة أن يدافعوا عن
مصالح
أبناء دينهم، فقد حدث «أن جماعة من النصارى كانوا يسكرون في بيت عند جامع المقس، فلما
قوي
عليهم السكر، تزايد منهم الضجيج والتجاهر بالسكر، وكان في جامع المقس ابن الشيخ محمد
بن
عنان مقيمًا به، فثقل عليه أمرهم، فأرسل إليهم من ينهاهم عن ذلك، فأغلظ عليهم في القول
وقال
لهم: «أما تستحيون من الشيخ ابن عنان؟» فسبُّوا الشيخ ابن عنان سبًّا قبيحًا، فطلع الشيخ
إلى ملك الأمراء وشكا له من النصارى، فأمر ملك الأمراء بالقبض على النصارى، فهربوا وقبضوا
على واحد منهم، فرسم ملك الأمراء بحرقه، فلما رأى النصرانى عين الجد، أسلم خوفًا من الحرق
فألبسوه عمامة بيضاء، فلما جرى ذلك خاف بقية النصارى على أنفسهم واختفوا عند يونس
النصراني.»،
٣ الذي يقول عنه ابن إياس إن خاير بك «جعله متحدثًا على الدواوين وصار المسلمون
يقفون في خدمته ويخضعون له.».
٤
غير أن الحادث التاريخي البارز في العصر العثماني، هو بدون شك محاولة اليعاقبة اعتناق
المذهب الكاثوليكي.
أظهرت الكنيسة الكاثوليكية، منذ الفتح العربي، عدم اهتمامها ظاهريًّا بعلاج انشقاق
الأقباط عنها لعجزها عن القيام بهذه المهمة إلا أنها في الواقع لم ينقطع اهتمامها بمصير
اليعاقبة في مصر.
وقد قامت محاولة لمصالحة الأقباط اليعاقبة والكاثوليك في عهد البطريرك كيرلس الثالث؛
أي:
في خلال العصر الأيوبي، ولكنها باءت بالفشل.
وفي عام ١٤٣٩، في مجمع «فلورنسا» حيث اتحد البيزنطيون واللاتين مرة أخرى بعد انشقاقهم،
أرادت الكنيسة المصرية أن تكون ممثلة في هذا المجتمع.
٥
وبعد مضي قرن من الزمن؛ أي: في عام ١٥٦٠م، قدم روما قسيسان قبطيان يحملان عريضة تشهد
برغبة رؤسائها والشعب القبطي بأسره في العودة إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية والخضوع
لسلطة
البابا نائب المسيح، فأجاب البابا بيوس الرابع إلى هذا الطلب وأمر قسيسين يسوعيين «كريستوفر
دي رودريكس» و«جان باتيست اليانو» بالسفر إلى مصر والتحدث إلى البطريرك القبطي والتأكد
من
نياته، فسافر اليسوعيان وجرت محادثات بينهما وبين عضوين من الطائفة القبطية عينهما البطريرك
جبرائيل للقيام بهذه المهمة، ولكنهما لم يصلا إلى ما كان يرجوان في الوصول إليه؛ إذ اعترف
محدثاهما القبطيان بأن الأقباط لقبوا حقًّا البابا في الكتاب المرسل إليه بقلب «أب الآباء»
و«راعي الرعاة» و«رئيس جميع الكنائس» إلا أن هذه الألقاب لم يُقصد منها إلا الإكرام،
وقد
جرت العادة أن تحرر الخطابات إلى الأصدقاء بهذا الأسلوب، ثم أضافا إلى ما تقدم أن كل
بطريرك
له السلطة التامة على كنيسته وذلك منذ مجمع كالسيدونيا ويتعين عدة بطاركة مستقلين عن
بعضهم
بعضًا.
٦
وبعد مضي عشرين سنة على هذه المحاولة؛ أي: في عام ١٥٨٢م، عاود اليعاقبة مسعاهم لدى
الكرسي
الرسولي، وطلبوا إيفاد الأب جان باتيست اليانو إلى مصر «وكان آنئذ في سوريا» ليتحقق بنفسه
من صادق نياتهم وليعطوه البرهان الملموس على إيمانهم وخضوعهم.
وأمر البابا الأب اليانو بالسفر إلى القاهرة حيث اجتمع بالطائفة القبطية بحضور البطريرك
وكاد يتم الاتفاق، إلا أن البطريرك تُوفي فجأة، ويدعي الكاثوليك أنه مات مسمومًا، وعلى
أي
حال، فإن المجلس انفض بعد وفاة البطريرك، وأُلقي القبض على مندوب البابا باعتباره جاسوسًا
أجنبيًّا، واضطر البابا إلى دفع فدية قدرها خمسة آلاف دينار لإطلاق سراح ممثله وتمكينه
من
العودة إلى بلاده.
وأعيد النظر في هذه المسألة مرة أخرى عام ١٥٩٧م؛ إذ أوفد البطريرك جبرائيل الثامن
مبعوثين
يحملان إقرارًا بالإيمان وعليه توقيعه، وذكر في هذا الإقرار أنه يؤمن إيمانًا ثابتًا
بقوانين مجمع نيڨيا وبقانون مجمع القسطنطينية، ويعترف بأن أحدًا من الذين خارج الكنيسة
الكاثوليكية لن يستطيع أن ينال الحياة الأبدية، غير أن هذا التصريح لم يذكر القرارات
التي
اتُخذت في مجمع كالسيدونيا، ولم يكن في استطاعة البابا أن يحصل على كل شيء دفعة واحدة،
فقرر
السكوت عن هذه المسألة.
وبينما كان المندوبان القبطيان في روما، أرسل لهما البطريرك التعليمات الآتية: «لا
تدعوا
أحدًا يخدمكم من المتراجمين «كذا» إلا من تراجمين كتاب جبل لبنان الذين هم المارونيون
فإنهم
من أقاربنا وعارفين بلساننا وأصحابنا، ثم إنكم تقبلوا لنا أيادي السيد البابا وتسألوا
من
تفضلاته وإحسانه بأن ينعم علينا ويتصدق في كل سنة بترتيب جامكية «عطية» فإننا في غاية
الضيق
والشدة، وما تحتاجه كنائسنا وأديرتنا والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والذين بالسجون
والحديد لسبب الجوالي وغيرهم … وأنتم يا أولادي تعرفوا ذلك أكثر مني ومن عملكم تعرفوا
السيد
البابا عن ذلك، فإن السيد المسيح أعطاه السلطة على سائر المسيحيين وأبوهم وأبونا نحن
أيضًا،
وحيث ما هو أبونا، فيساعدنا في ضيقنا الذي نحن فيه.».
وقد أرسل البابا مشكورًا بعض المساعدات.
٧
وتكشف لنا هذه الوثيقة عن بعض ما كان يهدف إليه الأقباط كان للمسألة المالية علاقة
وثيقة
بالمسائل الدينية، وربما كان الأقباط يؤملون أيضًا أن تتدخل أوروبا الناهضة لمصلحتهم،
كما
تدخلت لمصلحة الملكيين إذا انضموا إلى صفوف الكاثوليك، ولكن ليست هناك أية وثيقة معروفة
تسمح لنا أن نؤيد هذه النظرية.
وقد دام الاتحاد مع روما قرنًا ونصف قرن، ويدعي «رينودو» أن هذا الاتحاد قد زال؛
لأن
الكنيسة القبطية كانت في حاجة إلى اكتساب تأييد الباشوات الأتراك.
٨
وإذا تركنا جانبًا هذا الحادث، نلاحظ أنه لم يحدث في تاريخ الأقباط في القرنين السابع
عشر
والثامن عشر ما يسترعي النظر، ما عدا الغرامات التي كانت تُفرض عفوًا على الأقباط والكنائس
التي كانت تغلق إلى أن يسدد دافعوا الضرائب ما عليهم.
وقد شعرت مصر بالهدوء الداخلي والعظمة في عهد علي بك، ثم عادت الفوضى إليها ثانية
وتعرض
الأقباط بطريقة غير مباشرة للاضطهاد، ذلك أنه لما قدم إلى مصر عام ١٢٠٠ﻫ «١٧٨٥م» القبطان
حسن باشا ليؤكد سيادة الباب العالي على مصر، أبى أن يغادر البلاد قبل أن يملأ جعبته الخاصة
بالنقود، فقام بعدة إجراءات تعسفية ضد النصارى تحقيقًا لمأربه، قال الجبرتي: «نودي على
طائفة النصارى بألا يركبوا الدواب وألا يستخدموا المسلمين وألا يشتروا الجواري والعبيد،
ومن
كان عنده شيء من ذلك باعه أو أعتقه، وأن يلزموا زيهم الأصلي من شد الزنار والزنوط، وأرسل
حسن باشا إلى القاضي، وأمره بالكشف عن جميع ما أوقفه المعلم إبراهيم الجوهري على الديور
والكنائس من أطيان ورزق أملاك، والمقصود من ذلك كله استجلاب الدراهم والمصالح، و«في اليوم
التالي» نودي على طائفة النصارى بالأمان وعدم التعرض لهم بالإيذاء وسببه تسلط العامة
والصغار عليهم.».
وبعد ذلك «نودي على النصارى واليهود بأن يغيروا أسماءهم التي على أسماء الأنبياء كإبراهيم
وموسى وعيسي ويوسف وإسحاق، وأن يحضروا جميع ما عندهم من الجواري والعبيد، وإن لم يفعلوا،
وقع التفتيش على ذلك في دورهم وأماكنهم، فصالحوا على ذلك بمال، فحصل العفو وأذنوا لهم
في أن
يبيعوا ما عندهم من الجواري والعبيد ويقبضوا أثمانها لأنفسهم ولا يستخدمون المسلمين،
فأخرجوا ما عندهم وباعوا بعضه وأودعوه عند معارفهم من المسلمين.».
وبعد يومين نودي على النصارى بإحضار ما عندهم من الجواري والعبيد ساعة تاريخه، ثم
نزلت
العساكر وهجمت على بيوت النصارى لإحضار ما فيها، فكان شيئًا كثيرًا، وأحضروهم إلى القبطان،
فأخرجوهم إلى المزاد وباعوهم واشترى غالبهم العسكر وصاروا يبيعونهم على الناس بالمرابحة،
وقرر على بيوت النصارى الذين خرجوا بصحبة الأمراء المصريين مبلغ دراهم مجموع متفرقها
خمسة
وسبعون ألف ريال، وأمر أيضًا بإحصاء بيوت جميع النصارى ودورهم وما هو في ملكهم وأن يُكتب
جميع ذلك في قوائم، ويقرر عليها أجرة مثلها في العام، وأن يكشف في السجل على ما هو جار
في
أملاكهم، ثم قرر أيضًا خمسمائة كيس، فوزعوها على أفرادهم، فحصل لفقرائهم الضرر الزائد،
وقرر
أيضًا على كل شخص دينارًا جزية، العال كالدون، وذلك خارج عن الجزية الديوانية
المقررة.
«وقبض قبطان باشا أيضًا على راهب من رهبان النصارى واستخلص منه صندوقًا من ودائع
النصارى،
وقبض القبطان على المعلم واصف وحبسه وضربه وطالبه بالأموال، وواصف هذا أحد الكتاب المباشرين
المشهورين، ويعرف الإيراد والمصاريف وعنده نسخ من دفاتر الروزنامه ويحفظ الكليات والجزئيات،
ولا يخفى عن ذهنه شيء من ذلك ويعرف التركي، وقبض على بعض نساء المعلم إبراهيم الجوهري
من
بيت حسن أغا كتخدا علي بك، أمين احتساب سابقًا، فأقرت على خبايا أخرجوا منها أمتعة وأواني
ذهب وفضة وسروجًا وغيرها.».
٩
وبعد سفر القبطان باشا واقتسام البكوين عبدي بك وإسماعيل بك السلطة، تعرض الأقباط
للاضطهاد مرة أخرى، ويروي الجبرتي أن «حضر عبدي باشا وإسماعيل بك إلى بيت الشيخ البكري
باستدعاء بسبب المولد النبوي، فلما استقر بهم الجلوس، التفت الباشا إلى جهة حارة النصارى
وسأل عنها فقيل له: إنها بيوت النصارى، فأمر بهدمها وبالمناداة عليهم من ركوب الحمير،
فسعوا
في المصالحة وتمت على خمسة وثلاثين ألف ريال، منها على الشوام سبعة عشر ألف وباقيها على
الكتبة.».
١٠
وبالرغم من هذا كله، لم يتوانَ الأب «برنا» اليسوعي من الكتابة إلى الأب «فليريو»
عام
١٧١١م يقول: «مصر هي البلد الوحيد في الإمبراطورية الإسلامية، الذي تقام فيه شعائر الدين
المسيحي بحرية أكثر من أي بلد آخر، ولهذا السبب فإن عددًا كبيرًا من نصارى البلاد الأخرى
يلجئون إليها.» فيجدر بنا إذًا إعادة النظر في حالة الأقباط في مصر قبيل قدوم الحملة
الفرنسية.
(١) الأقباط قبيل الحملة الفرنسية
كان من شأن القرن التاسع عشر حدوث تطورات ذات شأن في مصر، فما كان استعداد الأقباط
لتلقي هذه التطورات؟ وما كانت أهميتهم من حيث العدد؟ وما حالتهم المعنوية؟ يمكننا أن
نجيب جزئيًّا على هذه الأسئلة بعد الاطلاع على روايات الرحالة أو مذكرات القناصل التي
نُشرت حتى الآن.
ترك الأقباط بصفة عامة أثرًا سيئًا في نفوس الأجانب، وكان نفوذهم قد اضمحل وعددهم
نقص، ولم يكن لهم أثر إلا في القاهرة والإسكندرية؛ حيث كانوا يحترفون الصناعة
والحسابات، وفي الصعيد حول مدينة أسيوط وإلى جنوبها في اتجاه أسوان، ففي هذه المناطق
البعيدة عن العاصمة كان الشعور أقل عنفًا، فكان الأقباط يعيشون في أمن نسبي.
١١
ولم يكن في مصر، في مطلع القرن التاسع عشر، سوى مائة وخمسين ألف قبطي على ثلاثة
ملايين من السكان، وكان يقطن القاهرة وحدها عشرة آلاف قبطي، وتذكر إحصائية مسيحية أن
ستمائة ألف شخص كانوا يدفعون رسمًا للبطريرك عند الفتح الإسلامي، وأن هذا العدد نقص إلى
عشرة آلاف وخمسة عشر ألف شخص عندما كان الأب «فانسليب» في زيارة مصر عام ١٦٧١م
١٢ ومن جهة أخرى، يذكر الرحالة «نيبوهر» عام ١٧٦٠ أنه لم يكن يوجد في مصر إلا
اثنا عشر مطرانًا معظمهم في الوجه القبلي، بينما كان عددهم عند الفتح الإسلامي
سبعين.
١٣
وكان عدد الرهبان صغيرًا جدًّا، وهم موزعون بين أربعة أو خمسة أديرة مثل دير القديس
مكاريوس ودير القديس أنطونيوس … وهي كلها في حالة يرثى لها، وكان القساوسة — وكلهم
متزوجون — يهتمون بحاجاتهم المادية أكثر من اهتمامهم برغبتهم وبواجباتهم الدينية، لقد
استبد بهم الجهل إلى حد كان يصعب معه انتخاب بطريرك من بينهم،
١٤ ولكننا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر عليهم بخاصة على الرهبان منهم، شيئًا من
التقوى، غير أنهم كانوا يعتقدون أن الدين ما هو إلا مجرد تلاوة الصلوات وملاحظة أيام
الصوم المتعددة.
وإذا كان الأجانب يعتبرون الأقباط «قومًا جهلاء وغير متمدينين»
١٥ فعذرهم في ذلك أن مظهر النصارى الذي اتصف بالتواضع والفقر كان يوحي
بالاحتقار، أما المؤرخون المسلمون، فقد تجاهلوا في عصر المماليك هذه الأقلية التي لا
غنى لهم عنها مع ما تسبب لهم من مضايقات على الرغم من حالة الضعف التي وصلت
إليه.
ولم يعد القبطي إلا مباشرًا عرضة للاضطهادات وللإهانات، ويكتب «فانسليب» قائلًا:
«نقرر أنه لا توجد طائفة بمصر معرضة للاضطهاد كالأمة القبطية؛ ذلك لأنه لم يعد من بينهم
من يستطيع أن يكون موضع احترام الأتراك لعلمه، أو موضع خوفهم لسطوته، فكان الأتراك
يعتبرونهم حسالة العالم وأقل منزلة من اليهود، وقد كانوا يسيئون معاملتهم عند ما يحلو
لهم ذلك، ويغلقون لهم كنائسهم وأبواب منازلهم حين يروق لهم الأمر ولأتفه الأسباب
وأبعدها عن العدل لكي يغتصبوا منهم بعض المال.»
١٦
إلا أن الوظائف الإدارية التي كان المماليك يضطرون إلى إسنادها إلى الأقباط قد أعطت
لهؤلاء الأقباط فرصة الانتقام من الظلم، الذي كان ينزله عليهم أسيادهم وإعادة جمع
ثروتهم بسرعة، أضف إلى ذلك أن الاضمحلال الذي أصاب الأقباط حدث على دفعات، فقد بدأ قبل
دخول العرب؛ أي: في عهد الرومانيين والبيزنطيين، ومن هنا يتضح لنا أن الأقباط اعتادوا
على هذا اللون من الحياة منذ أمد بعيد وارتضوا لأنفسهم حياة متواضعة، فلم يُبدوا أية
شكوى لاعتقادهم أنهم الطبقة المفكرة التي لا يمكن للأمة أن تستغني عن معارفها وخبرتها
في الأعمال إذا أرادت أن تضمن حسن سير الإدارة في البلاد، وعلى أي حال، لم يكن المسلمون
أنفسهم بأحسن حال من الأقباط تحت حكم البكوات المماليك.
وأحسن برهان على تسليم الأقباط بالأمر الواقع، أنهم لم يفكروا أبدًا في الهجرة «إلا
في عصر الحاكم ومحمد بن قلاوون»، بل كانوا متعلقين ببلادهم تعلقًا شديدًا، وكتب القنصل
الفرنسي «دي ماييه» في هذا الصدد: «في شهر سبتمبر سنة ١٦٩٩، تلقيت أمرًا من ملك فرنسا
باختيار ثلاثة من أولاد الأقباط لإرسالهم إلى فرنسا وتربيتهم هناك على النحو الذي كان
يربى عليه أولاد بعض الأمم الشرقية، وحاول القساوسة عبثًا إقناع الموسرين لإرسال
أولادهم ولم يكونوا أكثر توفيقًا مع الأسر الفقيرة مهما كان عدد أولادها، وعمد بعض
الآباء والأمهات إلى سحب أولادهم من مدارس الإرساليات والتضحية بالمساعدات المالية التي
كانت تُعطى لهم على الرغم من شدة حاجتهم إليها، وذلك خوفًا من أن ينتزع أولادهم رغم
إرادتهم، مما يدل على إجلالهم لوطنهم وشدة تعلقهم به ويعلق «دي ماييه» على هذا الحادث
قائلًا: «يعتقد الأقباط أن بلادهم لا مثيل لها وهم في ذلك على حق، ومن يستطع أن يعيب
عليهم حبهم لبلد وصفها الأجانب بأنها الفردوس الأرضي؟».
١٧
وإذا تركنا جانبًا المبالغ التي كانت تؤخذ عنوة من الأقباط، يجب أن نلاحظ أنهم كانوا
يعيشون منسيين، بل كانوا ينعمون بهدوء نسبي وخاصة في الأقاليم، نعم أن بعض الرحالة
يحدثوننا أحيانًا بشيء من السخط عن القيود المفروضة على النصارى فيما يختص بملابسهم،
كما يقولون أيضًا: إن ركوب الخيل كان محرمًا على غير المسلمين إلا أن هذه القوانين كانت
تطبق في المدن الكبرى دون سواها، أما فيما عدا ذلك، فلم يكن الإنسان يستطيع أن يميز بين
القبطي وغيره ويكتب «تيفينو» قائلًا: «لا يستطيع المسيحيون سواء كانوا من الإفرنج أو
غيرهم، أن يمتطوا الجياد في المدن، ولكنهم يستطيعون ذلك في الأرياف إذا
أرادوا.».
١٨
ولا ننسى أن الأقباط المتعلمين والمثقفين قد نالوا الحظوة لدى أسيادهم مثال ذلك أن
المعلم رزق، مباشر علي بك وكاتم أسراره، كان يتمتع بسلطة واسعة جدًّا، وهناك أيضًا
المعلم إبراهيم الجوهري الذي تُوفي عام ١٢٠٩ﻫ «١٧٩٧م» والذي ميزه الجبرتي عن غيره من
النصارى، فذكره ضمن وفياته، وهذا الحادث مما يلفت النظر؛ ذلك لأن المؤرخ المسلم لم يكن
يهتم عادة بوفاة النصراني مهما علت مرتبته، ونحن نورد هنا ما قاله الجبرتي في رثائه له:
«مات الذمي المعلم إبراهيم الجوهري، رئيس الكتبة الأقباط بمصر، وأدرك في هذه الدولة
بمصر من العظمة ونفاذ الكلمة وعظم الصيت والشهرة مع طول المدة بمصر ما لم يسبق لمثله
من
أبناء جنسه فيما نعلم، وأول ظهوره في أيام المعلم رزق كاتب علي بك الكبير، ولما مات علي
بك وترأس إبراهيم بك، قلده جميع الأمور، فكان هو المشار إليه في الكليات والجزئيات، حتى
دفاتر الروزنامه والميري وجميع الإيراد والمنصرف وجميع الكتبة والصيارفة من تحت يده
وإشارته، وكان من دهاقين العالم ودهاته، لا يغرب عن ذهنه شيء من دقائق الأمور ويداري
كل
إنسان بما يليق به من المداراة، ويحابي ويهادي ويواسي، ويفعل ما يوجب انجذاب القلوب
والمحبة ويهادي ويبعث الهدايا العظيمة والشموع إلى بيت الأمراء، وعند دخول رمضان يرسل
إلى غالب أرباب المظاهر ومن دونهم الشموع والهدايا والأرز والسكر والكساوي، وعمرت في
أيامه الكنائس وديور النصارى، وأوقف عليها الأوقاف الجليلة والأطيان، ورتب لها المرتبات
العظيمة والأرزاق وحزن إبراهيم بك لموته، وخرج في ذلك اليوم إلى قصر العيني حتى شاهد
جنازته وهم ذاهبون به إلى المقبرة.».
١٩
على أن المباشرين الأقباط في جملتهم لم يتمتعوا بالنفوذ الذي حازه الجوهري، وكانت
غايتهم الوحيدة جمع المال «وأصبحوا لا يهتمون بما يعلي من شأن وطنهم، بل كان يدفعهم
الحرص والبخل في كل أعمالهم وينأى بهم عن العلوم والفنون، فلم يعودوا يشعرون بأي ميل
إلى النبوغ فيها.».
٢٠
هوامش