مقدمة: بقلم المترجم
يكاد يُجمع الباحثون على أنَّ «حرية الإرادة» من أعقد الموضوعات التي درستها الفلسفة على الإطلاق، وأكثرها إثارةً للضجيج والجدل، منذ أقدَم العصور حتى عصرِنا الحاضر: من أفلاطون حتى سارتر.
فهو من بين الموضوعات القليلة التي اشتركت في دراستها علوم متعدِّدة؛ إذ يضرب بجذور عميقة في: الفلسفة، واللاهوت، والاجتماع والأخلاق، وعلم النفس والأنثروبولوجيا، والقانون والبيولوجيا … إلخ. بل إنَّ علماء الطبيعة أنفسهم دخلوا أطراف نزاع في هذه المشكلة. وربما لا يكون ذلك غريبًا في حدِّ ذاته طالما أنَّ الموضوع يتعلَّق بوجود الإنسان ذاته، وهو لغزٌ محيِّر، لكن الغريب حقًّا، أنَّه رغم تكاتُف هذه العلوم جميعًا في دراسة هذه المشكلة، فإنَّ الفشل في حلِّها كان عامًّا؛ إذ لا يزال يحتدم الجدل حولها حتى الآن، ولا يزال لها مكانها المرموق في الفلسفة المعاصرة.
كما أنَّ هذه المشكلة لا تزال، حتى يومنا هذا، تلعب دورًا بارزًا في فلسفة الدين، بل إنَّ بعض المذاهب اللاهوتية ينظر إلى حرية الإرادة على أنَّها دليل قويٌّ على وجود الله. فها هو ذا جانب «روحي» خالص لا يَخضع للطبيعة ولا للتفسير العلمي، أفلا يدلُّ ذلك على أنَّ الطبيعة ليست كلها «مادية»؟ ومعنى ذلك أنَّهم يتخذون من هذه المشكلة «الملغزة» التي «استعصى حلها» برهانًا «على وجود قوة روحية عليا هي الله». وهم من ناحية أخرى يهتمون بدراسة هذه المشكلة؛ لأنَّ تعاليم الدين لا تقوم لها قائمة إلَّا إذا كان الإنسان حرًّا، (رغم ما في ذلك من مفارقة)، أعني إلَّا إذا كان الإنسان قادرًا على عصيان هذه التعاليم وعلى أن يسلك ضدها، بل ضدَّ الله نفسه وضد رغباته؛ بحيث يُمكن بالتالي أن يكون مسئولًا عن أفعاله. ومع أنَّ علماء اللاهوت يعترفون صراحة أنَّها مشكلة عسيرة الحل حتى بالنسبة للدين نفسه، فإنَّهم يُصرُّون — مع ذلك — على حذفها من نطاق العلم، بحجة أنَّه ليس في مقدوره حلها.
والمذاهب الوجودية من كيركجور حتى سارتر تتخذ من هذه المشكلة محورًا لها. فالقول بأنَّ الوجود يسبق الماهية، يعني أنَّ الوجود هو القدرة على خلق هذه الماهية. ويهتم بالتيار الذي يُمثِّله سارتر اهتمامًا خاصًّا بهذه المشكلة؛ إذ يرى سارتر أنَّ الإنسان ليس حرًّا فحسب، لكنَّه الحرية ذاتها؛ فوجوده هو نفسه حرية، وهو يُقاس بمقدار ما يتمتَّع به من حرية: «لستُ السيد، ولست العبد، لكنِّي أنا الحرية التي أتمتَّع بها» … هكذا يقول «أورست» بطل مسرحية «الذباب»، فحياة الفرد وشخصيته تتوقَّف على القرارات التي يتَّخذها بمحض اختياره وكامل حريته.
من ذلك تتَّضح أهمية هذه المشكلة في الفكر المعاصِر، كما يتَّضح أيضًا أنَّ حلها لن يُفيد الفلسفة وحدها، لكنَّه سوف يُعطي دفعة قوية لكثير من العلوم. فلا شكَّ أنَّ حل مشكلة حرية الإرادة سوف يَنعكِس أثره على فهم الحرية البشرية بصفة عامة، طالما أنَّها تشمل — بالإضافة إلى الإرادة الفردية — مجموع العقل البشري مأخوذًا بمعناه الفردي والاجتماعي في آنٍ معًا. وإذا كانت مشكلة الحرية أكثر عمومية وشمولًا من مشكلة حرية الإرادة، فإنَّ الأخيرة تُمثِّل المركز والنواة للأولى، وإذا لم تُقدِّم — من ناحية أخرى — إجابة شافية لمُشكلة حرية الإرادة، فإنَّ التصوُّر العام للحرية سوف يظلُّ ناقصًا مَبتورًا.
•••
غير أنَّ الدراسة البيولوجية للإنسان — شأنها شأن الدراسات العلمية الأخرى — كانت، ولا تزال، تؤيد المذهب الجبري، وتدعم التفسير الحتمي للسلوك البشري، ولا يعني ذلك أنَّ سلوك الإنسان محدود سلفًا بما ستزوِّده به «الجينات» «المورثات» من خصائص، لكنَّه حتمي، بمعنى أنَّ ما سوف يكون عليه هو نتيجة مُركب كوَّنته هذه الوراثة الأولى مع البيئة التي يتطوَّر فيها.
•••
وإذا كانت الدراسات العِلمية قد أدَّت إلى تدعيم المذهب الجبري بهذا الشَّكل القوي الذي وصل إلى حدِّ الشطط في بعض الأحيان، فإنَّ حرية الإرادة لم تعدم أنصارًا يقفون بجانبها ويدافعون عنها ويصلون في هذا الدفاع إلى حد الشطط أيضًا!
فمذهب اللاجبرية الخالصة على الطرف المقابل يذهب إلى أنَّ الفعل البشري حر حرية مطلقة، فهو بغير سبب وبلا مقدمات على الإطلاق! وبناءً على رأي هذا المذهب فإنَّ الإنسان يُمكن أن يفعل الفعل «أ» في أيَّة لحظة دون أن يكون هناك ارتباط على الإطلاق بين الحاضر من ناحية أو بين الماضي والمستقبل من ناحية أخرى. والواقع أنَّ هذا المذهب يَنتهي إلى نتائج غريبة، فهو يرى أنَّ الفاعل حين يسلك سلوكًا معينًا فإنَّه لا يكون مُقيَّدًا في فعله هذا بأي شيء، داخليًّا أو خارجيًّا؛ فهو لا يسلك سلوكه هذا لأنَّه يُحقِّق أعلى رغبة من رغباته، ولا لأنَّه يجلب أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، ولا لأنَّه صادر عن سلطة الواجب الداخلية، وهو ليس مُقيَّدًا في فعله بتركيبه الجسمي أو العقلي، أو الوراثة أو البيئة التي نشأ فيها، إنَّه باختصار شديد يفعل بلا سبب. فليست هناك مقدمات من أي نوع تضطره أن يفعل ويستبعد البدائل الأخرى، فهو لا يَرتبِط بغاية تغريه بهذا السلوك، ولا بمقدمات تضطره إليه، إنَّ فعله هو ببساطة مجرد صدفة. ومثل هذه اللاجبرية الخالصة أو حرية اللامبالاة تعني العشوائية التي هي سلب للعقل والقانون، فكل شيء مُمكن ولا شيء مُستحيلًا، ولا شيء مؤكدًا من حياة الإنسان. فالرجل الفاضل قد يَنقلِب فجأةً إلى رجل سَيِّئ السلوك، ومن ثم فكل محاولات المُربي تُصبِح بغير جدوى!
ولا شيء يَهدِم المسئولية الخُلُقية كما تهدمها حرية اللامبالاة هذه؛ لأنَّ الفاعل حين يسلك سلوكًا معينًا فإنَّه يفعله كما قلنا بلا سببٍ وبلا هدف، ومن ثمَّ فهو غير مسئول عنه. والسلوك الذي أسلكُه في لحظة معيَّنة لا يَرتبط على الإطلاق بما حدث لي في الماضي؛ إذ لو كانت هناك رابطة بين الماضي والحاضر لكان معنى ذلك أنَّ الفعل — جزئيًّا أو كليًّا — يَرتبط بمقدمات معينة. لكن القول بأنَّني في كل لحظة شخص جدید تصدر عني أفعالي في استقلال كامل عن ماضيَّ، فهو يُؤدي إلى هدم الهوية، ويُعفيني بالتالي من المسئولية، والهوية لا تعني شيئًا سوى التشابه الذاتي. والشرط الأول لإمكان أن أكون مذنبًا أو غير مذنب، أعني أن أُصبح موضوعًا لحكم أخلاقي هو هذا التشابه الذاتي، أن أكون أنا نفسي باستمرار شخصًا واحدًا في هوية ذاتية مع نفسي. وهذا الشرط هو ما يُنكِره مذهب اللاجبرية الخالصة.
•••
لكن ألسْنا بذلك نصل إلى طريق مسدود؟ إذا كان المذهب الذي يُنادي بالحرية المطلقة يرى أنَّ الفعل البشريَّ حرٌّ حرية كاملة، متهافت إلى هذا الحد، ألا يعني ذلك أنَّنا نُفسح المجال من جديد للمذهب الجبري؟ لكن المذهب الجبري مرفوض هو الآخر: فكيف يُمكن أن نخرج من هذا المأزق؟ وهل يُوجد مذهب ثالث؟
يبدو أنَّ هذا الإشكال إنَّما ينشأ عن مفارقة غريبة نؤمن بها جميعًا، وهي أنَّ هناك مجموعتَين من المعتقَدات المتنافِرة — سواء أكان هذا التنافُر حقيقيًّا، أم ظاهريًّا — نؤمن بهما معًا ولا نَرضى التخلِّي عن أي منهما.
فنحن نعتقد من ناحية أنَّنا نستطيع أحيانًا أن نختار بين أن نَسلك على نحو معيَّن أو أن نسلك ضد هذا السلوك، وأنَّنا مسئولون في الحالتَين، وكذلك نعتقد أنَّ تبعة تلك الجوانب من تاريخنا التي لم تكن في حدود اختيارنا يستحيل أن تقع على عاتقنا.
لكنَّنا نؤمن من ناحية أخرى أنَّ الطبيعة مطَّردة، وأن كل ما يحدث ناتج عن مجموعة من العلل والظروف ويُمكن تفسيره بها. ونؤمن على الأخص بأنَّ أفعالنا إنَّما تصدُر عن طبيعتنا الموروثة بعد أن تقوم البيئة بتعديلها، لكن إذا كان كل ما يحدث يُحدِّده سياقه الخاص، فقد يبدو إذن أنَّ أفعالنا تتحدَّد بواسطة سياقها، وأنَّ اختياراتنا يُحدِّدها سياقها أيضًا، وقد يبدو — على الأخص — أنَّه إذا كانت أفعالنا تنشأ عن طبيعتنا الموروثة مع تعديل البيئة لها، فلسنا بمسئولين عن أفعالنا، كما أنَّنا لسْنا مسئولين عن طبيعتنا الموروثة وبيئتنا. وباختصار شديد نحن نَميل إلى الاعتقاد بأنَّ أفعالنا لا بدَّ أن يكون لها سبب، أو لا بدَّ أن تكون بغير سبب في وقت واحد!
لكن هل يُمكِن أن يكون هناك مثل هذا التفسير للفعل الحر؟ هل يجوز لنا أن نقول إنَّه من المُمكن أن تكون للإرادة سبب وأن يكون هذا السبب نفسه مع ذلك حرًّا؟ انظر أولًا إلى المثال الآتي:
وإذا عُدنا الآن إلى السؤال الذي سبق أن طرحناه: هل يُمكن للفعل الحر أن يُحدَّد تحديدًا سببيًّا وأن يظلَّ مع ذلك حرًّا؟ قلنا إنَّ هذا الموقف هو موقف «الجبر الذاتي»، أو المذهب الثالث بين الجبرية الخالصة أو اللاجبرية الخالصة، فسلوك الإنسان كما يُفسِّره هذا المذهب؛ مُحدَّد تحديدًا سببيًّا بقوى نابعة من طبيعته الخاصة، قوى داخل الإنسان نفسه أو هي الإنسان نفسه، وهنا لا تكون «الحرية» و«الجبرية» ضدَّين، وإنَّما تكون الحرية البشرية نوعًا من التحديد الذاتي، أو الجبر الداخلي، وهذا ما يُسمَّى بالجبر الذاتي.
وبهذا المعنى وحده نستطيع أن نقول إنَّ الإنسان مسئول عن أفعاله الإرادية. لأنَّ الأفعال الإرادية ترتبط ارتباطًا سببيًّا بمقدمات معينة تقوم في طبيعة تكوين الفاعل نفسه، ما دامت هذه الأفعال تُعبِّر عن طبيعة الفاعل، وتُحقِّق ذاته. وهي في نفس الوقت حرة، لأنَّها ليست نتاجًا ضروريًّا لشيء آخر خارج طبيعة الفاعل نفسه؛ فبمقدار ما يكون الفاعل مكتفيًا بذاته في تفسير الفاعل الإرادي فهو حر إلى هذا الحدِّ في هذا الفعل، وهو بإنجازه له على هذا النحو إنَّما يكون مُحدَّدًا بذاته أو مُجبَرًا ذاتيًّا.
•••
تلك هي — بإيجاز شديد — النظرية التي يَعرضها علينا هذا البحث محاولًا أن يثبت أنَّ كُلًّا من المذهب الجبري، والمذهب اللاجبري، محقٌّ فيما يؤكده، مخطئ فيما يُنكره، على نحو ما سنرى في ثنايا الكتاب بالتفصيل.
ولو تأمَّلنا قليلًا هذه المرحلة لاتَّضح لنا أنَّ كراهية الدكتور زكي نجيب محمود للميتافيزيقا — وهي التي تطبَّع بطابعها مذهبُه النهائي — ليست إلَّا كراهية العاشق لمعبودته بعد أن يئس من طول الصد والهجران! فلقد حاول هذا المفكر الممتاز أن يصل إلى أغوار الميتافيزيقا فقام برحلة شاقة مضنية، رأى بعدَها أنَّ البئر لا تزال عميقة مظلمة، وأنَّ القرار لا يزال جد بعيد، فارتدَّ عنها وهو يقول: ليس الكلام عنها إلَّا همهمةً بغير معنى!
ترى كيف وقع هذا الانقلاب؟ وكيف عبرت السفينة بحر الظلمات الميتافيزيقي إلى برِّ الأمان في الوضعية المنطقية؟ أغلب الظن أنَّه تمَّ بتحوُّل رُوحي عنيف، والتحوُّل الرُّوحي — بصفة عامة — يعرفه كل مُفكِّر أصيل، وهو على درجات مُتفاوتة؛ فقد يكون بطيئًا متدرِّجًا كما هي الحال عند فيلسوف مثل هيجل، وقد يكون عنيفًا كما هي الحال عند أغسطين، بل قد يعجب منه المفكر ويدهش له وكأنَّه تمَّ رغمًا عنه! كما هي الحال — مثلًا — عند أحد علماء الطبيعة «متشنيكوف» الذي تحوَّل إلى عالِم أمراض، وكتب في مذكراته يصف هذا التحوُّل بقوله: «انقلبتُ إلى عالِم أمراض، وهو انقلاب لا يعدله إلَّا انقلاب زمَّار إلى عالِم فلك!» التحوُّلات الروحية معروفة إذن في تاريخ الفكر، وليس ثمَّة تناقُض بين أن يكون للمُفكِّر آراء معينة في صدر شبابه، وبين أن يعدل عنها حين يَكتمِل تفكيرُه وينضج، لكن المرحلة الأولى تبقى مع ذلك أساسية في فهمنا لتطوُّره الفكري، وتلك هي الحال نفسها مع أستاذنا الدكتور زكي نجيب محمود، الذي بدأ حياته الفكرية ميتافيزيقيًّا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ثم انتهى إلى عداء كامل لكل المشكلات الميتافيزيقية. والغريب أنَّه يُشبه في ذلك، الغالبية العظمى من فلاسفة هذا القرن، الذين بدءوا هيجليِّين، ثم انتهوا إلى عداء عنيف للفلسفة الهيجليَّة.
على أنَّك واجد بين المرحلتين خصائص مشتركة؛ ففيهما معًا ستجد الدكتور زكي نجیب محمود الذي يميل إلى الدقة وتحديد معاني الألفاظ، ويهتم اهتمامًا رئيسًا بالدور الذي تلعبه اللغة والمشكلات التي تنتج عن غموضها، كما أنَّك ستجدُ الاتجاه نحو المنطق، والميل إلى وضع الفكرة في رموز وصيغ منطقية خالصة، كما ستجد حاسة الكشف عن المغالطات المنطقية، وستجد أخيرًا العرض الواضح للأفكار وتسلسلها.
أودُّ أخيرًا أن أتوجَّه بخالص شكري إلى أستاذي الدكتور فؤاد زكريا، الذي تقبَّل بصدر رحب، أن ألجأ إليه بين الحين والآخر — أثناء ترجمة هذا الكتاب — كلَّما غمض عليَّ نصٌّ، أو غابت عني فكرة. ولا يفوتني كذلك أن أشكر للدكتور عزمي إسلام ملاحظاته القيِّمة التي أبداها حول ترجمة المُصطَلحات المنطقية بصفة خاصة.
وإني لأرجو أن أكون بنقلِ هذا الكتاب إلى اللغة العربية قد أدَّيت واجبًا نحو المكتبة الفلسفية العربية، حين ضممتُ إليها فكرًا عربيًّا أصيلًا، ظلَّ أكثر من خمسة وعشرين عامًا، بعيدًا عنها، حبيس لغة أجنبية.
والله نسأل أن يهدينا جميعًا سبيل الرشاد.