الفصل الثاني
النشاط الذاتي١
(١) حين ينتبه الكائن الحي فإنَّه يفعل.
(٢) التفكير صورة من صور الفعل.
(٣) طبيعة الفعل يجب أن تُدرس بوساطة الفلسفة.
(٤) كلمة «الفعل» كلمة مزدوجة الدلالة فهي قد تعني:
(أ) الفعل في حالة الأداء.
أو (ب) الفعل وقد انتهى.
(٥) الفعل في حالة الأداء هو وحده الذي نستطيع أن نخبره.
(٦) رأي «يوونج» في أنَّ الفعل — كغيره من عمليات الطبيعة — هو تتابع
أحداث.
(٦، ٧) نقد هذا الرأي.
(٨) الصلة في الفعل بين الحدث السيكولوجي والتغير الطبيعي لا يمكن أن
يكون مجرد تتابع.
(٩) يُسلِّم الكاتب بأنَّ الحدث السيكولوجي يستلزم فاعلًا، لكن فكرة
الفاعل تتضمَّن فكرة الفعل المطلوب تفسيرها.
(١٠) يرى الكاتب أنَّ العملية لكي تكون فعلًا، فإنَّ التغير لا بد أن
يرغبه الفاعل، غير أنَّ رغبة الفاعل تجعل الموقف مختلفًا أتم الاختلاف
عن العمليات الطبيعية.
(١١) لو كان الفعل عبارة عن سلسلة من الحوادث تَرتبط ارتباطًا
سببيًّا فلا يمكن أن نُعيِّن حدًّا ينتهي عنده الفعل.
(١٢) الفعل في حالة الأداء acting،
لا يُمكن لنا ملاحظته، وهو لا يُمكن أن يعتمد على علاقة التتابع
فحسب.
(١٣) الأفعال تختلف عن الحوادث.
(١٤) لا يُمكِن التفرقة بين الأفعال والحوادث عن طريق الملاحظة
الخارجية وحدها. بل إنَّ التفرقة لا تتمُّ إلَّا عن طريق خبرتنا بالفعل
في حالة الأداء.
(١٥) لو أنَّنا تعرفنا على التغير على أنَّه فعل كان في ذلك تفسير
له، أمَّا لو أدركناه على أنَّه حادثة فإنَّه يحتاج إلى شيء آخر
يُفسِّر حدوثه.
(١٦) تقديم السببية لتفسير وقوع الحوادث.
(١٧) غير أنَّ فكرة السبب بوصفه «مصدرًا» للتغير لا يكون هو نفسه
فاعلًا. «هذه الفكرة» تناقض ذاتي.
(١٨) لا يُمكن تفنيد الجبرية طالما أنَّ التغيرات التي نبحثها لا
تشملني بوصفي فاعلًا.
(١٩) الفاعل السيكوفيزيقي هو نفسه سبب كافٍ للتغير.
(٢٠) رأي برادلي القائل بأنَّ فكرة النشاط تناقض ذاتي.
(٢١) نقد رأي برادلي.
(٢٢) وضع مشكلتنا: هل الفاعل بوصفه انتباهًا يكون منتهيًا أم
مبتدئًا؟
(٢٣) بخصوص الدليل الإيجابي القائل بأنَّه يُشارك في التغير، فإنَّنا
نلجأ إلى التجربة، أمَّا فيما يتعلَّق بالدليل السَّلبي، فإنَّنا نبرهن
على تهافت نظرية الخصوم.
(٢٤) الخبرة هي المرجع الأخير. خبرة الانتباه يُمكِن تحليلها إلى
حدَّين بالإضافة إلى علاقة التكيف.
(٢٥) فكرة الحرية فكرة أصيلة، أمَّا فكرة الجبرية فهي مشتقة.
(٢٦) ليس في استطاعتنا أن نُجاوز خبرتنا.
(٢٧) هل يتناقض قانون بقاء الطاقة مع وجهة النظر التي نأخذ
بها؟
(٢٨) عرض القانون بصفة عامة في إيجاز شديد.
(٢٩-٣٣) عرض القانون مع إشارة خاصة لأفعال الإنسان.
(٣٤، ٣٥) ليس القانون فوق مستوى الشك.
(٣٦) خلق الإنسان للفعل لا يتعارض بالضرورة مع القانون.
(١) الذات «أو النفس» هي ثنائية الانتباه إلى موضوعٍ ما، أو هي
الفاعل السيكوفزيقي بمقدار ما ينتبه إلى شيء ما. غير أنَّ انتباه
الفاعل ليس مجرَّد حالة من حالات التقبُّل فحسب، بل هو فعل، والذات هي
أساسًا نزاعة وليست متأملة. فالفرد في حالة الانتباه يفعل، أعني أنَّه
يقوم بعمليتي انتقاء ورفض دون أن يَنطبِع انطباعًا سلبيًّا بالموضوع
الذي يوجد أمامه.
(٢) من المألوف عند الفلاسفة التفرقة بين الفعل والتفكير، وهم عادة
يُقيمون بينها تعارضًا بقولهم إنَّك إمَّا أن تفكر أو تفعل، أعني
إنَّنا حين نُفكِّر لا نفعل، وحين نفعل لا نُفكِّر. ومعنى ذلك أنَّهم
يقصرون الفعل على الحالات التي نتعامل فيها مع الأشياء المادية وحدها،
أعني الحالات التي تحدث فيها تغيرًا في العالم المادي، أمَّا حين
نُفكِّر فهم ينظرون إلى هذه الحالة على أنَّ المرء يتعامل فيها مع
أفكاره الخاصة وحدها. «الفعل
actio هو
… واحد من لونين من نشاط الذات، وهو يتعارض مع التفكير
Cogitatio في اتجاه مقصده. فالذات
تظهر في حالة الفعل بوصفها فاعلًا يسعى إلى إحداث تغيرات في العالم.
أمَّا في حالة التفكير فهي تظهر بوصفها عارفة
Knower تسعى إلى إحداث تغيرات في
وعينا بالعالم.»
٢
غير أنَّنا نُريد أن نفهم الفعل على أنَّه فعل باستمرار، سواء أكان
يسعى إلى إحداث تغيرات في العالم المادي، أم إلى إحداث تغيرات في وعينا
بهذا العالم، فالفرد يفعل كلَّما انتبه، وهو يفعل ذلك باستمرار، كائنًا
ما كان موضوع انتباهه. أمَّا القول بأنَّه من الصعب — إن لم يكن من
المستحيل — أن نُفكِّر ونتحرَّك في وقتٍ واحدٍ ما لم يكن آليًّا
automatic فإنَّه يَكشف لنا — لا
أنَّ التفكير والحركة يحتاجان لإتمامهما إلى صورتين مختلفتين من الفعل
— بل إنَّ فعل الفاعل واحد، وهو نفسه باستمرار يوجهه أحيانًا نحو
الأفكار، ويُوجهه أحيانًا أخرى نحو الحركة. فلو أنَّني انتبهت إلى
الأفكار؛ فإنَّ الحركة تتوقَّف ما لم تكن آلية، وإذا ما انتبهت إلى
الحركة؛ فإنَّ التفكير يتوقَّف ما لم يكن سلسلة من تداعي
الأفكار.
وعلى ذلك فالتفكير لون من ألوان الفعل، وهو ليس شيئًا يتعارض مع
الفعل، إن ما يمكن أن نقابل بينه وبين التفكير هو الحركة الجسمية؛
لأنَّ كليهما يحتاج لإتمامه إلى فاعل قادر على الانتباه والانتقاء، ومن
ثمَّ فمن الخطأ أن نَقصر الفعل على إحداث تغييرات في العالم الخارجي؛
لأنَّ الفعل فعل، سواء أكانت التغيرات الناتجة عنه تغيرات تحدث في
العالم الخارجي أم في عالم الأفكار. وليس ثمَّة ما يُبرِّر إطلاق اسم
الفعل على التغيرات التي أُحدِثها حين أصفع شخصًا ما، بينما نُنْكِر
إطلاق مثل هذا الاسم على التغيرات التي تحدث حين أراجع أفكاري وأنا
غاضب. والحق أنَّ الأفكار والحركات تتداخَل تداخلًا شديدًا في بعض
الأحيان، حتى إنَّه يكاد يكون من غير الممكن أن ننسب كُلًّا منهما إلى
مقولة مختلفة من مقولات النشاط. خذ مثلًا موقف أحد العلماء وهو يقوم
بإجراء بعض التجارب العلمية في معمله، أو انظر إلى نفسك حين تُحاول أن
تربط عقدة: سوف نجد هنا أنَّ الموضوع الذي ننتبه إليه عبارة عن أفكار
تعقبها حركة الجسم، لكنهما يرتبطان ارتباطًا وثيقًا، حتى إنَّك لتجد
أنَّه من المُمكن أن نقول إنَّ مثل هذا الشخص يُفكِّر ويتحرَّك في وقت
واحد. إنَّه لافتعال كاذب أن نفصل بين الفعل والتفكير: «فالفصل بينهما
على أساس أنَّ أحدهما «فعل» والآخر «فكر»، أو أنَّ أحدهما «مادي»
والآخر «ذهني» هو فصل مفتعل كاذب؛ لأنَّهما يخصان فردًا واحدًا
متكاملًا، هو الفرد السيكوفيزيقي بأكمله.»
٣
(٣) الإدراك الحسي إذن فعل ينتج عنه مدرك حسي، والتفكير فعل ينتج عنه
فكرة، والتذكرة فعل ينتج عنه فكرة نتذكرها، والإرادة فعل ينتج عنها
التغيُّر المراد … إلخ … إلخ، والفرد في جميع هذه الحالات يعمل شيئًا،
فهو ينتبه وينتقي، ونتيجة ذلك إنَّما تكون عملًا من الأعمال التامة
a deed. ولن نملَّ مما سبق أن
ذكرناه، وهو أنَّ الإدراك الحسي والتفكير، والتذكر، والإرادة — هل كلها
حالات أو أمثلة للانتباه إلى موضوع معيَّن، هذا الموضوع في كل حالة من
هذه الحالات يتَّسم بمجموعة من الخصائص المعينة: والفكرة هي نتيجة
التفكير، والفعل المراد هو نتيجة الإرادة — وهذه كلها هي — في نفس
الوقت — نتائج للعقل الأساسي للذات، أعني لفعل الانتباه. ومن هنا فإذا
ما تساءلنا عن طبيعة فعل الانتباه، كان معنى ذلك أنَّنا نتساءل عن
طبيعة: فعل الإدراك الحسي، والتفكير والإرادة … إلخ. والحق أنَّ
الفلسفة النظرية والفلسفة العمَلية لن تقفا على أرض صلبة، اللهم إلَّا
إذا ناقشت وفحصت وحلَّلت تحليلًا تامًّا وكاملًا: طبيعة الفعل. «إنَّ
إحدى المنجزات العظيمة التي قام بها «كانط»، والتي رفعته درجة عالية في
تاريخ الفلسفة، هي أنَّه قد تحقَّق بشكلٍ تام، أكثر مما فعل أي فيلسوف
آخر … من أنَّ «المنطق وهو يَبحث في الفِكر محدود بنتائج التفكير»،
وأنَّنا في حاجة ماسة لإثارة التساؤل حول صور نشاط التفكير. ولقد طبعته
تلقائية الذهن في بحثه عن المعرفة — منذ ذلك الوقت — المشكلة الرئيسية
في الفلسفة الحديثة، حتى إنَّ الفيلسوف الذي يسعى إلى العودة إلى
الافتراضات الدجماطيقية القديمة، متغاضيًا عن المشكلة التي أثارتها
معرفتنا للذهن من أنَّه يقوم بدور ما في تكوين المعرفة، وأنَّه ليس
مجرد مستقبل فحسب — مثل هذا الفيلسوف لا بد أن نعتبره ساذجًا …»
(٤) في دراستنا لطبيعة الفعل، علينا أن نُلاحظ، أولًا وقبل كل شيء،
أنَّ هذه الكلمة — أعني كلمة الفعل — مزدوجة الدلالة، ونحن نستخدمها
بهذا الازدواج نفسه. إذ ترانا أحيانًا نستخدمها لنعني العمل في حالة
الأداء the doing، بينما نستخدمها —
أحيانًا أخرى — لنعني بها العمل وقد انتهى، أو محصلة هذا العمل ونتيجته
the deed، ومن ثم كان من الأفضل
إذا ما تحدَّثنا عن الحالة الأولى أن نُسمِّيها الفعل في حالة الأداء
acting «بدلًا من العمل»، وإذا
تحدَّثنا عن الحالة الثانية أن نُسمِّيها «الفعل وقد تمَّ
act» فما المقصود بالفعل في حالة
الأداء، والفعل وقد تمَّ …
(٥) الفعل في حالة الأداء
acting
«وهو العمل في حالة الأداء أيضًا
doing» هو إحداث تغير في الوجود
الداخلي، أعني داخل الإنسان، أو الوجود الخارجي، أعني في العالم. إنَّه
إحداث مظاهر مختلفة، هي التي نُطلق عليها اسم الأفعال التامة
acts، أو الأعمال المنتهية
deeds «إنَّه الجانب الذاتي الذي
لا نستطيع ملاحظته في العملية التي تكون فيها الأفعال التي نلاحظها هي
التعبير الموضوعي عنه …»
٤ وبعبارة أوضح: العمل له طرفان: طرف داخل الفاعل نفسه، وهو
ما نُسمِّيه بالعمل في حالة الأداء، وطرف خارج هذا الفاعل، هو ما
نُسمِّيه نتيجة العمل أو محصلته. ونحن نُسلِّم بأنَّ هذه الإجابة ليست
إجابة شافية مقنعة لسؤالنا: ما المقصود بالعمل في حالة الأداء
doing؟ وقد يقول قائل: إنَّ السؤال
نفسه مستحيل، طالما أنَّ العمل في حالة الأداء، أو الفعل في حالة
الأداء، ليس إلَّا شيئًا داخل الفاعل نفسه؛ ومن ثمَّ لا يستطيع أحد أن
يخبره سوى الفاعل ذاته. فإذا أنت قطعت برتقالة نصفين، فلن يستطيع أحد
أن يرى بداية هذا الفعل أو الطرف الداخلي منه الذي يقع داخل الفعل
نفسه. إنَّ كل ما يستطيع المُشاهد الخارجي ملاحظته هو البرتقالة وقد
شُطرت شطرين، أعني نتيجة الفعل، أو محصلته، أو الفعل وقد تمَّ. وقد
يُقال إنَّه لو صح ذلك، فلن يكون في قدرتنا أن نُقدِّم تحليلًا كاملًا
لما نقوم به فعلًا حين ننتبه أثناء الإدراك الحسي، أو أثناء التفكير،
أو الإرادة، طالَما أنَّ ذلك جانب داخلي، ولن نستطيع أن نفعل شيئًا سوى
أن نُحيل كل فرد إلى خبرته الخاصة، لكي «يخبر» ما يحدث بالفعل أثناء
عملية الانتباه.
الفعل — كما سبق أن ذكرنا — يَتكوَّن من عنصرين أو طرفين، هما العمل
في حالة الأداء من ناحية، ونتيجة هذا العمل أو محصلته من ناحية أخرى،
والواقع أنَّنا لا نستطيع أن نكون على وعي مباشرة إلَّا بالعنصر الأول
فقط، أمَّا العنصر الثاني فيمكن أن نعيه من الناحية الحسِّية، إذا كان
ما نقوم به عملًا جسميًّا: «على أنَّ العنصر الثاني قد ينسلخ أحيانًا —
كما يحدث في حالات المرض والإصابة — وذلك هو غاية ما نصل إليه في
تحليلنا للمركز الثاني، الذي هو فعل نؤديه عن وعي بما نفعل، فانظر إلى
ما يحدث حين يفقد عضو في جسدنا قدرته على الإحساس، مع احتفاظه بقدرته
على الحركة، فعندئذٍ لا يحسُّ الإنسان المصاب بمثل هذا العضو، ولا يدري
أين يكون من جسده إلَّا إذا رآه، فقد يُصاب الإنسان أثناء نومه بخدر في
ذراعه، فتراه حينئذٍ لا يُدرك وجود الذراع إدراكًا حسيًّا، وإن يكن
يستطيع تحريكه عن وعي بحركته، وفي أمثال هذه الحالات، تظلُّ الأنا
واعية بنفسها عن طريق أدائها لفعل ما، ومعنى ذلك أنَّ البقية الباقية
من الوعي في مثل هذه الظروف التي نفقد فيها إدراكنا الحسي بعضو من
أعضاء الجسد، لا يكون الحس هو طريقنا إليها، بل الطريق هو وعي الأنا
بنفسها وعيًا مباشرًا بما تنشط به من فعل.»
٥ وهذا الوعي المباشر بأنفسنا في حالة الفعل هو — فيما يبدو
— الطريق الوحيد المُمكن للتعرُّف على الفعل من ناحيته الذاتية، أعني
التعرُّف على الفعل في جانبه الداخلي من حيث هو فعل في حالة الأداء
يتميَّز عن الفعل التام، أو عن نتيجة هذا الفعل ومحصلته.
(٦) غير أنَّ أ. س. يوونج
A. C.
Ewing، يرى رأيًا مخالفًا
٦ فهو يُريد منَّا أن ننظر إلى عملية الفعل في حالة الأداء
«أي الجانب الداخلي من الفعل» بنفس الطريقة التي ننظر بها إلى العمليات
التي نُشاهدها في العالم الطبيعي الخارجي. وهو يرى أنَّ الفعل في أي من
الحالتين «الداخلية أو الخارجية» هو مجموعة من الحوادث التي ترتبط
ارتباطًا سببيًّا. والصلة الضرورية بين الحوادث في عملية «الفعل في
حالة الأداء هي نفسها الصلة الضرورية الموجودة في تدفق الفيضان، وإن
كانت عملية الفعل في حالة الأداء، التي ننسبها إلى فاعل، تختلف عن هذه
العملية الطبيعية، فهي لا تختلف عنها إلَّا في أنَّ طبيعة حوادثها
مُختلفة. وهو ينتهي من تحليله للفعل إلى أنَّ للفعل خمس خصائص:
-
(١)
لا بدَّ أن يتضمن حادثًا سيكولوجيًّا وحادثًا
فسيولوجيًّا.
-
(٢)
الحادث السيكولوجي لا بدَّ أن يكون جانبًا من السبب للحادث
الآخر.
-
(٣)
يجب ألَّا تعتبر الحادث السيكولوجي حادثًا منفصلًا، بل لا بد أن
يعزى إلى الفاعل نفسه.
-
(٤)
لا بد أن يكون الفاعل على وعي بما يعمل.
-
(٥)
لا بد أن يكون الحادث الطبيعي «أو الفيزيائي» تغيرًا في جسم
الفاعل، شريطة ألَّا يُنظر إليه في ذاته per
se ما لم يكن الفاعل في حالة الفعل لا يُفكِّر
إلَّا في راحة جسمه هو، بل ينظر إليه من حيث علاقته ببيئته، أو بجانب
من بيئته الخاصة، التي كان الفاعل يُفكِّر فيها، والتي يُريد أن
يُغيِّرها بفعله.
(٧) ويمكن أن تظهر عدة اعتراضات على هذا الرأي الذي يأخذ به «يوونج»
على النحو التالي:
أولًا: أنَّ الرابطة السببية التي يُقال إنَّها موجودة بين الحوادث
التي تتكوَّن منها عملية من العمليات يمكن أن تُفهم بمعانٍ شتى، فإذا
ما كنَّا نتحدَّث عن العمليات التي تحدث في العالم الطبيعي، فإنَّ هذه
الرابطة قد تُفهم على أنَّها تعني سياقًا أو تتابعًا منظمًا للحوادث
التي تقع في هذا العالم. غير أنَّ «يوونج» قد أوضح لنا أنَّ هذا اللون
من الرابطة السببية ليس هو ما يعنيه بقوله إنَّ هناك رابطة بين الحوادث
التي يتكوَّن منها الفعل. وهو يقول في هذا المعنى: «يبدو لي أنَّ
السببية ليسَت حالة يتكرَّر فيها فحسب التتابع أو التلازم في الوقوع،
لكنها تتضمَّن رابطة أعمق بين السبب والنتيجة — وأعتقد أنَّه من الواضح
بصفة خاصة أنَّ تحليل النظام في العلاقة لا يصلح في حالة الفعل …
فالتغير الموضوعي «أي الذي يُحدثه الفعل في العالم الخارجي» لا يعقب
الجانب الذهني فحسب، لكنَّه يتَّحد معه أيضًا، بالمعنى الذي لا يُمكن
فيه رد هذا التغيُّر إلى سياق أو تتابع منظم.»
٧
لكن إذا كانت الرابطة السببية
التي يُقال إنَّها موجودة بين الحدث الذي يُمثِّل الجانب الذهني والحدث
الذي يُمثِّل التغير الموضوعي، ليسَت مجرَّد تتابع مُنظَّم، فإنَّ
البديل الباقي في هذه الحالة هو أن يكون الحدث الأخير مُعتمدًا في
وجوده على الحدث الأول. وهذا الاعتماد قد يعني أنَّ تعاقُب الحدث
الأخير للحدث الأول إمَّا أن يكون تحليليًّا أو تركيبيًّا. ولو أنَّنا
برهنَّا على أنَّه ضرورة تحليلية فلن يكون هناك فاعل في هذه الحالة. إذ
لن يكون الحدث الثاني إلَّا نتيجة منطقية مُترتبة على طبيعة الحدث
الأول. لكن من المستحيل منطقيًّا أن نفترض أنَّ التغيُّر الموضوعي
المُعيَّن الذي يحدث في العالم الخارجي ليس إلَّا جزءًا من الجانب
الذِّهني الذي هو بدوره فكرة من الأفكار. وقد يُقال: إنَّ الحركة
الجسمية التي نُشاهدها متلازمة الوقوع مع فكرة من الأفكار، أو إنَّها
تابعها المنظم، لكن لا نستطيع أن نتصوَّرها جزءًا من الفكرة. وبالتالي
فإنَّ التغيُّر الموضوعي لا بد أن يعقب الحدث الذهني من الناحية
التركيبية، وهذا هو الاحتمال الثاني، وهو يعني أنَّ الرابطة بين
الحادثتَين ليست رابطة مطلقة، لكنَّا نستطيع عن طريق الخبرة وحدها أن
نعرف أنَّ إحداهما تعقب الأخرى: وهنا يُمكن أن نتساءل؟ خبرة من؟
ونُجيب: خبرة الفاعل بالطبع، ومن ثم يكون الموقف على النحو
التالي:
(١) لدينا جانب ذهني من ناحية، وتغيُّر موضوعي من ناحية أخرى.
(٢) التغيُّر الموضوعي يعتمد في وجوده على الجانب الذهني.
(٣) الجانب الذهني قد يعقبه — وقد لا يعقبه — تغير موضوعي.
(٤) الفاعل هو وحده الذي يستطيع أن يخبر النتيجة.
لكن إذا كان وضع المشكلة هو على هذا النحو: فأين هي أوجه التشابه
التي تبقى بعد ذلك، بين الفعل الذي يُحدِثه فاعل، وبين العمَلية التي
تحدث في الطبيعة؟ ما هي أوجه الشبه بين الفعل الذي أقوم به بوصفي
موجودًا بشريًّا وبين العملية الطبيعية التي تقع في العالم الخارجي؟
الحق أنَّ الفعل الذي يقوم به الفاعل السيكوفيزيقي يَتميَّز بخصائص
معينة تجعله فريدًا في نوعه من ناحية، وتُباعِد بينه وبين العمليات
التي تحدث في الطبيعة تباعدًا تامًّا … من ناحية أخرى.
(٨) ثانيًا: يذهب «یوونج» إلى أنَّ الحدث السيكولوجي الذي يسبق
التغير الموضوعي ينبغي ألَّا يُنْظَر إليه على أنَّه مُستقل، بل لا بد
أن يصف فاعلًا أو أن يُعزى إلى فاعل ما، غير أنَّ فكرة الفاعل هذه
تتضمَّن كل ما يُحاول «یوونج» إنكاره. فهو يتساءل: «لماذا لا يكون كل
فعل مؤلفًا من حادثتين؛ واحدة في ذهن الفاعل، والثانية في العالم
الخارجي — بحيث تكون الأولى سببًا للثانية؟»
٨ وهذا حق، لكن إذا كان ذهن الفاعل — في حالة الفعل — يُحدِث
تغيرًا موضوعيًّا، فما الذي تبقَّى «ليوونج» بعد ذلك ليُنْكِره؟ الواقع
أنَّ الكاتب إذا ما انتهى إلى مثل هذا القول فإنَّه يسير — فيما أعتقد
— في دائرة مغلقة؛ ذلك لأنَّ النتيجة التي انتهى إليها هي بالضبط
المشكلة التي بدأ منها، أعني أنَّ تحديد المعنى الدقيق للعلاقة بين ذهن
الفاعل وبين التغيُّر الذي يحدث هو نفسه المشكلة.
(٩) ثالثًا: يعتقد «يوونج» أنَّه في حالة سلسلة الحوادث التي يتألَّف
منها الفعل — في مقابل عمليات العالم الطبيعي — «لا بدَّ للفاعل أن
يكون على وعي بما يعمل، وأن يعمل هذا الفعل لأنَّه يُريد أن يعمله.»
٩ وإذا تغاضينا عمَّا تشتمل عليه عبارته هذه من ألفاظ، مثل
«الفاعل» و«الوعي»، وهي ألفاظ تجعل الفعل يختلف أتم الاختلاف عن
العمليات الطبيعية، فإنَّنا نجده يُسلِّم بأنَّ الفاعل في حالة الفعل،
يفعل ما يفعل لأنَّه يريد أن يفعله. وهذا يعني بعبارة أخرى، أنَّ الفعل
لا يكون فعلًا ما لم يكن غرضيًّا، فالغرضية هي سمة السلوك البشري، وهي
نفسها الخاصية التي تُميِّز الفاعل عن الأجسام المادية، كما أنَّها
الخاصية التي تُميِّز الأفعال عن أحداث الطبيعة وعملياتها. ومن ثمَّ
فإنَّ الاعتراف بوجود مثل هذا الاختلاف الواضح بين الفعل وأحداث
الطبيعة، ثم الزعم — بعد ذلك — بأنَّ الفعل يُمكِن تحليله إلى حوادث
ترتبط فيما بينها ارتباطًا سببيًّا — هو تناقُض ذاتي صريح
وواضح.
(١٠) رابعًا: إذا كان الفعل سلسلة من الحوادث التي ترتبط فيما بينها
ارتباطًا سببيًّا: فعلى أي أساس يُمكن أن نُحدِّد نقطة النهاية في فعل
ما؟ إنَّ «يوونج» يرى أنَّ الفعل تُحدِّده أحداث في جسم الفاعل، لكنَّه
يُضيف في الحال أنَّ حركة الجسم لا بد أن ينظر إليها على أنَّها حركة
مُستقلة عن البيئة أو: الجانب الجزئي من البيئة، التي كان الفاعل
يُفكِّر فيه والذي يرغب في تغييره عن طريق الفعل.»
١٠ غير أنَّ ذلك يُظهرنا على أنَّه ليس ثمة طريقة نرسم بها
حدًّا للفعل كشيء متميز عن سلسلة الأحداث، التي لا حصر لها، والتي سوف
تتوالى يقينًا، اللهمَّ إلَّا بالإشارة إلى غرض الفاعل. وفكرة الغرَض —
مرة أخرى — تتضمَّن الفرق كله والاختلاف بأسره بين الفعل البشري على
نحو ما يقوم به الفاعل السيكوفيزيقي، وبين سلسلة الحوادث المتتالية
التي يعقب بعضها بعضًا كما هي الحال في حوادث الطبيعة، التي يُحاوِل
الكاتب أن يتمثَّلها.
(١١) الفرد في حالة الفعل يكون فاعلًا، أعني نشاطًا إيجابيًّا
فعالًا؛ ذلك لأنَّ الفعل إنَّما يعني إحداث تغيُّر في الوجود. والفعل
وقد انتهى، أعني الفعل وقد تمَّ
act
«العنصر الثاني من عناصر الفعل» هو التغير الذي يحدث. وهو نتيجة هذا
الفعل التي يستطيع المُلاحظ مشاهدتها، سواء عن طريق الملاحظة الخارجية،
إن كان هذا التغير هو حركة جسمية، أو عن طريق الاستبطان، إذا كان فكرة.
غير أنَّ الفعل في حالة الأداء
acting
«الطرف الأول، أو العنصر الأول من الفعل»، فهو جانب داخلي، لا يستطيع
أحد على الإطلاق ملاحظته، وإنَّما يُمكِن للفاعل نفسه أن يخبره حين
يكون في عملية الفعل، وأن يستنتجه حين يفحص الموقف فحصًا استرجاعيًّا،
أعني حين يسترجع ما حدث. وفكرة العمل في حالة الأداء نفسها تعني أنَّ
ما يتمُّ عمله يعتمد في وجوده على حالة العمل: «وينتج من ذلك أنَّ كل
تحليل لفعل يجعل من نشاط الذات — في حالة الفعل — ومن التغير في العالم
الخارجي حدثين يرتبط كل منهما بالآخر ارتباطًا «خارجيًّا» — سوف يُسيء
فهم طابع الفعل وخاصيته. وعلى سبيل المثال فإنَّ التحليل الذي يرى أنَّ
الفعل مركب من حادثتين إحداهما؛ حادثة ذهنية، والأخرى حادثة مادية، مع
علاقة قائمة بالفعل تربط بينهما — مثل هذا التحليل ليس تحليلًا ناقصًا
فحسب، لكنَّه يلغي الفعل إلغاءً تامًّا؛ لأنَّه يعني أنَّ في استطاعتنا
أن ننظر إلى نتيجة الفعل في استقلال كامل عن الفعل الذي تمَّت به هذه
النتيجة. وهو يعني أيضًا إمكان النظر إلى نتيجة الفعل، لا على أنَّها
فعل تم، بل على أنَّها حادث وقع مصادفة.»
١١ صحيح أنَّنا لا بدَّ أن نُحلِّل الفعل إلى جانبَين؛ أحدهما
داخل الفاعل نفسه، والثاني هو الحادثة الخارجية — أو الحادثة
الفيزيائية — التي أحدثها الفعل. لكنَّ المشكلة كلها، إنَّما تكمُن في
الانتقال من أحد هذَين الجانبَين إلى الجانب الآخر، المشكلة هي
الانتقال بين هذين الجانبين؛ ذلك لأنَّ الفعل في حالة الأداء «أو
الجانب الداخلي من الفعل» يَعتمِد على هذا الانتقال نفسه.
الفرد في حالة الانتباه يقوم بفعل ما، أعني أنَّه يعمل شيئًا ما،
وهذه الفكرة تؤدي بنا إلى النتيجة الآتية:
إنَّ الفرد يرتبط — على نحوٍ ما — بموضوع أو بفكرة، وتعتمد طبيعة
الانتباه على طبيعة هذه العلاقة نفسها. ونحن نعترف بعجزنا عن السير في
هذا التحليل أبعد من ذلك. وكل ما نستطيع أن نقول ونُؤكِّده بصدد هذه
العلاقة وهو أنَّها ليست مجرد سياق متتابع: «حين تكون فاعلًا … فإنَّ
ذلك یعني أنَّك «سببٌ حُر ولستَ سببًا طبيعيًّا»، أعني أنَّك لست
مجرَّد حدٍّ في سلسلة متتابعة لا يدركها إلَّا المُلاحظ وحده. لكنَّك
تكون عالمًا يُعيد تشكيل نفسه بفضل طبيعته وبفضل مضمونه، وأنت حين تفعل
ذلك فإنَّك تُوسِّع من نطاق حدودك، وتمتص وتطبع بطابعك شيئًا كان من
قبل غريبًا عنك.»
١٢
(١٢) ونعود الآن إلى الفعل وقد انتهى
act «الطرف الثاني الخارجي من
الفعل»، الذي هو نتيجة الفعل ومحصلة العمل أو موضوع الانتباه؛ لأنَّ
موضوع الانتباه هو عمل انتهى، أو فعل تمَّ في صورة فكرة أو حركة
متكاملة. وبين أن نُقابل في تمايز واضح بين الفعل وقد انتهى «أو نتيجة
الفعل» وبين الحادثة. فكلاهما معًا تغيُّرات تحدث في الوجود، ويُمكن
للمشاهدة ملاحظتها، لكن الفعل شيء عمل، في حين أنَّ الحادثة من حوادث
الطبيعة لا يُمكن تصوُّرها على هذا النحو، بل نتصوَّرها فحسب على
أنَّها شيء حدث. والتفرقة بين الفعل والحادثة التي تقع في العالم
الخارجي لا تكمن في أي اختلافات فيما نُلاحظه من تغيرات، وإنَّما تعتمد
على نوع الحدوث. وبعبارة أوضح: إنَّ التغير الذي نُلاحظه لا يمكن أن
نُطلق عليه اسم الفعل إلَّا إذا قصد إليه فاعل وأحدثه، أمَّا إذا
افترضنا أنَّ حدوثه لم يكن نتيجة قصد فاعل، أعني أنَّه يخلو من
الغرضية، فهو في هذه الحالة يُصبح حادثة وليس فعلًا، ويمكن أن ننظر إلى
وفاة شخص ما بطريقتين؛ أن ننظر إليها على أنَّها فعل، وأن ننظر إليها
على أنَّها حادثة. فهي فعل، إن كان الفعل قصد إليها، كما هي الحال
مثلًا في عملية الانتحار، وهي حادثة، إن وقعت من غير قصد، كما هي الحال
حين تدهمه سيارة في الطريق. ونحن نعرف أنَّ الإنسان في مرحلته الأولى
من التفكير — مرحلة التفكير البدائي — يميل إلى رد جميع أنواع التغيرات
التي يُشاهدُها إلى فاعل ما، فما يُشاهده من تغير في العالم الخارجي هو
أيضًا فعل قام به فاعل، سواء أكان هذا الفاعل بشرًا مثله، أم كان
إلهًا، أو ما شئت من قوى يتصوَّر أنَّها فوق البشر وفوق الطبيعة، وهكذا
يعتقد أنَّ كل تغير في الوجود عبارة عن فعل، ويستبعد إمكان وقوع حادثة
بغير فاعل قَصَدَ إخراجها إلى حيِّز الوجود.
(١٣) إنَّنا لا نستطيع — إذا فحصنا التغيرات التي يُمكن أن نُلاحظها
— أن نجد فرقًا بين الفعل والحادثة ما لم يظهر هذا الفارق عن طريق
الفاعل نفسه، الذي يخبر الفعل في الحالة التي يكون فيها التغير نتيجة
لفعل قام به. وإذا لم يكن ثمة فاعل يُخبرنا أنَّ التغير الثلاثي كان
نتيجة لفعله هو، فإنَّه من المستحيل أن نُقدِّم دليلًا حاسمًا يقطع
بأنَّ التغير المُشار إليه هو فعل وليس حادثة. غير أنَّنا غالبًا ما
نعتمد على خبرتنا الخاصة في الحكم بأنَّ التغيرات الفلانية التي حدثت
في العالم الطبيعي قد تضمَّنت فعلًا مشابهًا لفعلنا، هو الذي أخرجها
إلى حيِّز الوجود، فأنا أستطيع أن أقول — وأنا على يقينٍ تقريبًا من
صدق قولي — إنَّ الكتابة الموجودة أمامي الآن على الورق هي فعل لفاعل
ما؛ لأنَّني قد خبرت بالفعل مثل هذا العمل. لكنَّني لا أستطيع مطلقًا
أن أكون على مثل هذا اليقين، حين أحكم بأنَّ التغيُّر الفلاني هو حادثة
وليس فعلًا أحدثه فاعل؛ لأنَّ اعتمادي على خبرتي في مثل هذه الحالات لن
يكون سوى اعتماد سلبي، بحيث تكون حُجتي على النحو التالي: إنَّ ذلك
التغير لا يمكن أن يكون فعلًا أحدثه فاعل، لأنَّني في خبرتي الشخصية لم
يحدث لي قط أن قمت به، كلَّا، ولم أر شخصًا آخر يُحدِث مثل هذا التغير،
صحيح أنَّ في استطاعتي أن أقطع في يقين بأنَّ التغيرات ليست أفعالًا
أحدثتها موجودات بشرية، مثل الكسوف الذي يحدث للشمس أو الشُّهُب التي
تنقضُّ من السماء، غير أنَّ ذلك لا يجعلنا ننتهي إلى القول — في حسم
قاطع — إنَّها ليست فعلًا لفاعل أعلى من الإنسان. ومهما يكن من شيء
فإنَّ مرجعنا باستمرار هو خبرتنا الخاصة بالفعل — سواء أكانت خبرة
مباشرة أم غير مباشرة — حين نحكم على بعض التغيرات في العالم الطبيعي
بأنَّها فعل وليست حادثة.
(١٤) ومن المهم أن نلاحظ أنَّنا حين نقول عن بعض التغيُّرات التي
نلاحظها إنَّها فعل، فإنَّ ذلك يعني بالتالي تفسيرًا لها، لكن إذا قلنا
إنَّها حادثة، فإنَّ ذلك يعني إمَّا أنَّها لا يُمكن تفسيرها، أو
أنَّها تحتاج إلى تفسير أبعد «إنَّ ميل الجنس البشري، بصفة عامة، هو
ألَّا يقنع ولا يَكتفي بأن يعرف أنَّ واقعة من الوقائع هي بشكل دائم
مُقدِّمة يعقبها واقعة أخرى تكون نتيجة لها، لكنَّه يسعى إلى البحث عن
شيء آخر، عساه أن يُفسِّر له وضعهما هذا.»
١٣ ويقول «مل» معلقًا على أحد النُّقَّاد الذين يذهبون إلى
أنَّ الإغريق أرادوا أن يعرفوا السبب في أنَّ مُقدِّمة فيزيائية معينة
لا بد أن ينتج عنها نتيجة خاصة — فيقول: «لم يكن الإغريق وحدهم هم
الذين بحثوا عن مثل هذه المبرِّرات، فمن بين الفلاسفة المُحدَثين نجد
ليبنتز يضع مبدأ اعتبره بديهية يقول: إنَّ جميع الأسباب الفيزيائية،
بغير استثناء، لا بد أن تحوي في طبيعتها الخاصة شيئًا يجعل من الواضح
جدًّا أنَّها لا بد أن تكون قادرة على إحداث النتائج التي تُحدِثها.»
١٤
(١٥) والقول بأنَّ وقوع حادثة من الحوادث لا يُفسِّر نفسه بنفسه،
وإنَّما يحتاج إلى شيء آخر يُفسِّره، هو الذي أدَّى إلى ظهور فكرة
السببية، ويمكن أن نُصوِّر الطريقة التي ظهرت بها هذه الفكرة على النحو
التالي: إذا لم يكن هذا التغير الذي حدث فعلًا لفاعل، فإنَّنا لا بد في
هذه الحالة أن نبحث عن مصدر آخر له: «والاسم الذي أطلق في الفكر الحديث
على هذا المصدر البديل للتغير هو كلمة «السبب»، وفكرة السبب هي فكرة
مصدر آخر للتغير غير الفاعل، وهو مصدر لا يتضمَّن قصدًا. ومعرفة الفرق
بين الفاعل والحادثة — يُظهرنا على أنَّ القضية القائلة بأنَّ: «لكل
حادثٍ سببًا» تَتناقض تناقضًا صارخًا مع القضية التي تقول: «ليس ثمة
سببٌ للفعل». والواقع أنَّه إذا كان «كل فعل ليس حادثة»، و«كل حادثة
ليست فعلًا» قضايا صادقة، وإذا كانت كلمة السبب تعني مصدرًا للتغيُّر
غير الفاعل، فإنَّ هاتين القضيتين في هذه الحالة تتضمَّن كل منهما
الأخرى، ويَنتج من ذلك أنَّه ليس ثمة تناقض قاطع حين نتحدَّث عن سبب
للفعل؛ لأنَّنا حين نفعل ذلك، فإنَّنا نعني أنَّ ما نتحدَّث عنه ليس
فعلًا
action.
١٥
(١٦) ومن الجدير بالذكر أنَّ فكرة السببية — كما شرحناها فيما سبق —
فكرة تُناقض نفسها بنفسها، ويبدو أنَّ هذا هو السبب في أنَّ العالم
يحاول الآن أن يتخلَّص منها تمامًا، وأن يُحلَّ محلها فكرة القانون،
على اعتبار أنَّ القانون ليس إلَّا وصفًا لتتابع منظم للحوادث كما
نُلاحظها. وذلك لأنَّ الفكرة التي تقول إنَّ للحادثة سببًا هو الذي
أحدثها هي: «محاولة للتفكير في الحادثة بطريقة مُماثلة للتفكير في
الفعل، بينما نُحاول في نفس الوقت أن نُنكِر أنَّه يُمكِن ردُّها إلى
فاعل، فالسبب هو المسئول عن وقوع الحادثة، وهو في نفس الوقت شيء غير
الفاعل، وبالتالي لا يُمكِن أن يكون مسئولًا عن شيء، ولا يُمكن أن
يُحْدِث شيئًا. وهكذا نجد أنَّ السبب هو — في آنٍ معًا — فاعِل وغير فاعل.»
١٦
(١٧) والتَّفرقة بين الأفعال والحوادث لها أهميتها البالغة بالنسبة
للمذهب الجبري؛ إذ من المستحيل — كما لاحظنا من قبل — أن نُفرِّق عن
طريق المُلاحظة الخارجية، بما هي كذلك، بين التغيُّر الذي نعتبره
فعلًا، والتغير الذي نعتبره حادثة. فليس ثمة شيء يُمكن ملاحظته في
التغير، بحيث يجعلنا ننسبه تمامًا إلى فعل فاعل. وهذه الحقيقة تجعل من
المُمكن للفيلسوف الجبري أن يزعم أنَّ جميع التغيرات ليست إلَّا سلسلة
من الحوادث التي تتشكَّل منها قوانين الطبيعة عن طريق الملاحظة
التجريبية لانتظام تتابعها. ومثل هذا الزعم لا يُمكن تفنيده من الناحية
المنطقية، طالما أنَّ التغيرات التي نبحثها لا تشملني بوصفي فاعلًا،
فأنا بوصفي فاعلًا أكون على يقينٍ تام من أنَّ نتائج نشاطي الخاص ليست
مجرد حوادث. «وهذا لا يعني سوى القول بأنَّه من المُمكن قبول موقف
الفيلسوف الجبري دون أن يكون من المُمكن تفنيده من الناحية المنطقية،
اللهمَّ إلَّا في نقطة واحدة — وهي النقطة التي يَشملني فيها تقرير
المذهب الجبري بوصفي فاعلًا لفعل. فعند هذه النقطة يكون تقرير المذهب
الجبري ليس تقريرًا على الإطلاق، طالما أنَّ الجبرية هي إلغاءٌ
للقَصدية، والتقرير غير القصدي ليس إلَّا لغوًا.»
١٧
(١٨) الذات هي الفاعل السيكوفيزيقي بمِقدار ما ينتبه إلى شيء ما، فهو
حين ينتبه يفعل، ونشاطه نفسه يعني أنَّه سبب كافٍ لما ينتج عن فعله:
«يُقال عن السبب أنَّه «كافٍ» للنتيجة، إذا كان من المُمكن إدراكه
بوضوح وتميز بوصفه سببًا لهذه النتيجة وحدها: ويقال عن السبب إنَّه
«غير كافٍ» أو «ناقص» بالنسبة للنتيجة التي لا يُمكن أن تُفْهَم من
خلاله هو وحده فحسب. وبالتالي فإذا ما وقع حادث لذهننا أو جسمنا
واستطعنا أن نفهم في وضوح وتميُّز أنَّه نتيجة لطبيعتنا الجوهرية
وحدها، فإنَّنا نكون في هذه الحالة سببه «الكافي».
ومن ثمَّ فإنَّنا نقول إنَّنا «نفعل» حين يكون الحادث نتيجة ضرورية
لنشاطنا وطاقتنا … أعني حين نكون نحن الذين خلقنا هذا الحدث.»
١٨
(١٩) ويعتقد «برادلي» أنَّ هذا النشاط هو ظاهر فحسب، وليس حقيقيًّا؛
لأنَّ فكرته تؤدِّي إلى نتائج مُتناقضة. ويذهب إلى أنَّ النشاط يعني
أنَّ التغيُّر الذي يظهر فيه هو — في آنٍ معًا — له سبب وليس له سبب.
وهو لكي يبين لنا أنَّ التغيُّر الذي يتضمَّنه النشاط لا بد أن يكون قد
سبَّبه شيء آخر غير الشيء النشط نفسه. يقول: «النشاط يعني تغيُّر شيء
ما إلى شيء آخر مختلف عنه. وهذا واضح فيما أعتقد، لكن النشاط ليس
مجرَّد تغيُّر أو تبدل بلا سبب. والواقع … أنَّ ذلك لا يُمكن لنا أن
نتصوَّره؛ لأن «أ ب» لكي تصبح «أ ﺟ»، فلا بد أن يكون هناك شيء آخر إلى
جانب «أ ب»، وإلَّا فسوف نكون أمام تناقُض ذاتي صريح. وهكذا فإنَّ
انتقال النشاط يتضمن باستمرار سببًا ما.»
١٩
لكنه يستمرُّ في حديثه ليُبيِّن لنا أنَّ التغيُّر الذي يتضمَّنه
النشاط لا بد من ناحية أخرى، ألَّا يكون قد سبَّبه شيء آخر غير طبيعة
الشيء النشط نفسه. وهو يقول في هذا المعنى: «النشاط هو تغيُّر له سبب،
لكنَّه لا بد أن يكون أيضًا أكثر من ذلك؛ لأنَّ الشيء المعيَّن إذا ما
غيَّره شيء آخر، فإنَّه لا يُقال عنه عادة إنَّه نَشِط فعَّال
active، بل يُقال على العكس إنَّه
سلبي أو متقلب
passive، أمَّا النشاط
فهو يبدو بالأحرى تغيرًا يشتمل في ذاته على السبب
self-Caused، فالانتقال الذي يبدأ
بالشيء نفسه ويظهر من الشيء نفسه، هو العملية التي نشعر فيها أنَّ هذا
الشيء نشط فعال، والنتيجة لا بدَّ بالطبع أن تُعزى إلى الشيء على
أنَّها صفة له؛ إذ يَنبغي أن يُنظر إليها، لا على أنَّها تَنتمي إلى
الشيء فحسب، بل على أنَّها بدأت وخرجت منه، والشيء حين يُحقِّق طبيعته
الخاصة يُسمَّى شيئًا نشطًا فعالًا.»
٢٠
(٢٠) وعبارة «برادلي» الأولى هي ما يُهمنا هنا؛ ذلك لأنَّ الزعم
بأنَّ التغير الذي يتضمَّنه النشاط يحتاج إلى شيء آخر غير الشيء النشط،
يعني إنكار كل معنى لكلمة النشاط. فلماذا تصف «الشيء» بصفة «النشاط»
إذا لم يكن في نيتك أن تَنسب لهذه الصفة أي معنى؟ إنَّه لو صحَّت
التفرقة — التي سبق أن ذكرناها — بين الفعل والحادثة، ولو أنَّنا وضعنا
في ذهننا هذه التفرقة، فإنَّنا لن تُضلِّلنا بعد ذلك عبارة «برادلي»
التي تقول: «إنَّ «أ ب» لكي تُصبح «ب ﺟ»، فإنَّه لا بد أن يكون هناك
شيء آخر إلى جانب «أ ب».» فهذه العبارة صحيحة إذا ما طُبِّقت على
الحوادث، لكنَّها كاذبة إذا ما طُبِّقت على الأفعال. فهذا الكرسي
الموجود في الجانب الأيسر من الغرفة لكي يُصبح في الجانب الأيمن منها،
فلا بد أن يكون هناك شيء آخر إلى جانب الكرسي هو الذي ينقله من هنا إلى
هناك، لكن الإنسان الذي يوجد في الجانب الأيسر من الغرفة ويُريد أن
ينتقل إلى الجانب الأيمن منها لا يحتاج إلى شيء آخر بجانبه. فحركة
الكرسي حادثة تتطلَّب شيئًا آخر يُفسِّرها، فيما حركة الإنسان — لو
أنَّه كان فاعلًا لهذه الحركة — تُفسِّر نفسَها بنفسِها، ولا تحتاج إلى
شيء آخر يُفسِّرها، بمجرَّد ما نعرف أنَّها نتيجة لعمل الإنسان أو فعله
أو أنَّها الموضوع الذي اختاره لحظة انتباهه.
(٢١) مشكلتنا الرئيسية هي ذي: افرض أنَّنا كتبْنا مُجملًا مختصرًا
للذات على النحو التالي «أ – ب» بحيث تكون «أ» هي الفاعل المُنتبِه
و«ب» هي الموضوع الذي يُنتَبه إليه. فالسؤال الآن هو: ما الذي يجعل
الفاعل يلتقط «ب» لتكون موضوعًا لانتباهه في لحظة معيَّنة ويَستثني
موضوعات أخرى ممكنة، مثل «ﺟ، س، د» … إلخ؟ هل الفرد حين يَنتبه يكون
مبتدئًا أم منتهيًا؟ أعني هل يكون محصلًا أم مبدعًا؟ أهو نتيجة لظروف
سابقة أم أنَّه سبب فحسب؟ هل لا بد للخلية أو الخلايا العصبية التي
تمدُّ حركات العين بالطاقة العصبية لكي تنظر مثلًا إلى موضوع معين — هل
لا بد أن يُثيرَها بالضرورة مقدم فيزيائي، وهذا المقدم يثيره شيء آخر …
وهكذا حتى نصل — نصل إلى أين؟ أم هل يُمكن لهذه الإثارة أن تبدأ دون أن
يسبقها بالضرورة مقدم فيزيائي، أعني أن تبدأ مع شروع التكوين الطبيعي
للفاعِل السيكوفيزيقي في الانتباه؟ وبعبارة أخرى، لو أنَّنا أخذنا حاسة
الإبصار مرة ثانية: فهل نحن نَنتبه إلى هذا الموضوع أو ذاك لأنَّ
عيوننا قد تحوَّلت، أردنا أو لم نُرد، نحوه، أم أنَّ عيوننا تتحوَّل
نحو الموضوع المُعيَّن لأنَّنا نُقرِّر أن ننتبه إليه؟
الرأي الذي نُدافع عنه هو أنَّ الفرد في حالة الانتباه مجبر ذاتيًّا،
أعني أنَّه محدد بذاته، فالفاعل في حالة الانتباه يكون نشطًا، أعني
أنَّه يكون سبب نفسه
self-caused؛ أي
إنَّه يحمل سببه في ذاته، فهو ينتقي بطريقة نشطة ما يبدو أنَّه يُساعد
على البقاء، أو ما يحفظ وجوده: «إنَّه في اللحظة التي يُفكِّر فيها
المرء في هذا الموضوع سرعان ما يتكشَّف له زيف الفكرة التي تجعل الخبرة
مساوية لمجرَّد ظهور نظام خارجي أمام الحواس، إنَّ هناك ملايين الأجزاء
من النظام الخارجي تظهر أمام حواسي، لكنَّها لم تدخل قطُّ في خبرتي:
لماذا؟ لأنَّها لا نفع فيها ولا غناء بالنسبة لي. إنَّ خبرتي هي ما
أوافق على الانتباه إليه. والأجزاء التي أُلاحظها أو ألتفت إليها هي
وحدها التي تُشكِّل ذهني، ومن ثم فالخبرة تُصبح عماءً مطبقًا دون النفع
الانتقائي. إنَّ النفع وحده هو الذي يُضفي خبرة وتأكيدًا وضوءًا
وظلًّا، ومقدمة ومؤخرة — هو الذي يُعطي للكلمة منظورًا واضحًا.»
٢١
ولقد لاحظ «سير تشارلز شرنجتون» كيف يشرع الفرد في القيام ببعض
الأعمال وكتب يقول:
٢٢ «تُستَمَد حركة الفرد من مصدرين: العالم الخارجي من حوله،
والعالم الداخلي الخاص به، وهو في كلتا الحالتين يستخدم نشاطه
الانتقائي، وهو نشاط يحكمه إلى حدٍّ ما الفعل العصبي، الذي ينشأ
تلقائيًّا داخل المراكز العصبية نفسها، ويُمكن أن يُنظر إليه على أنَّه
جهاز، يُحدث بفضل تنظيمه، عددًا من الأشياء، وهو يتركَّب على هذا النحو
الذي يجعل العالم الخارجي يستطيع أن يشدَّ زناد الحركة فيه. غير أنَّ
شروطه الداخلية تلعب دورًا في تلك الأشياء التي يستغلُّها في حدود
معينة وفي كيفية عملها، وهذه الشروط الداخلية قد تُبدع بدورها بعض
الأفعال.»
(٢٢) وكدليل على صحة هذا الرأي، نستطيع أن نلجأ من الناحية الإيجابية
إلى الخبرة، أمَّا من الناحية السَّلبية فسوف نُحاول في الفصول القادمة
أن نُبيِّن أنَّ وجهة النظر البديلة، أعني المذهب الجبري هي وجهة نظر
بغير أساس.
(٢٣) الخبرة هي مرجعي النهائي للبرهنة الإيجابية، على أنَّني في حالة
الانتباه لا أسلُك في فعلي بسبب عوامل خارجية؛ ذلك لأنَّني حين أنتبه
أكون شيئًا، ولا أكون ممتلكًا لشيء ما، أعني أنَّني أنتقي، وأقبل
بديلًا من البدائل الموجودة أمامي، فأختاره وأجعله مِلكًا لي، وأُوحِّد
بينه وبين ذاتي، وذلك هو الجبر الذاتي، أو التحديد الذاتي، الذي يصنع
فيه المرء ذاته ويجعلها على ما هي عليه.
ونحن لدينا في خبرتنا هذه بالفعل، في حالة الأداء، المثل العيني
الوحيد للفاعلية الحرة، لكنَّا حين نُحلِّل هذا الموقف بعد ذلك، ترانا
نقسمه إلى عاملين ثم علاقة بينهما. أمَّا العلاقة فهي علاقة الاختيار،
وبالتالي فنحن نجرِّد من الخبرة العينية علاقة الاختيار، وبمجرد ما
يتمُّ تجريد مثل هذه العلاقة يكون في استطاعتنا أن نُطبِّقها على أي
عاملين آخرين. وهكذا نستطيع أن نُفسِّر بعض مظاهر التغير في العالم
الخارجي بأنَّها أفعال قام بها أشخاص آخرون. وبهذه الطريقة نفسها أيضًا
نستطيع أن نرى الغرضية في العمليات البيولوجية في النبات، وفي السلوك
الغريزي عند الحيوانات، ولا شك أنَّنا في جميع هذه الحالات عرضة لتفسير
الوقائع تفسيرًا خاطئًا، بحيث نُطلق اسم الأفعال الغرضية على أمور هي
في الحقيقة مجرَّد حوادث، لكن حتى لو كان ذلك صحيحًا فإنَّه لا يَنفي
القول بأنَّنا نُجرِّد علاقة معينة — هي علاقة الاختيار أو الانتقاء —
من خبرتنا الخاصة ونُطبِّقها — إن صوابًا أو خطأً — على موضوعات أخرى.
والواقع أنَّك كلَّما أكَّدت بإصرار أنَّ كل ما يقع في الوجود ليس
إلَّا مجموعة من الحوادث، وأنَّ إطلاق كلمة الفعل على أي منها ليس
إلَّا عملية يقوم بها خيالنا — فإنَّك تبرهن — في الوقت ذاته، وعلى نحو
قاطع — أنَّني أدرك الفعل في خبرتي الخاصة، وإلَّا فمن أين جاءت علاقة
الاختيار المجردة هذه؟ إنَّ هذه الفكرة لا توجد في العالم الخارجي
بناءً على افتراضك نفسه، لكنَّها موجودة عندي فمن أين جاءت؟ لا بد —
بالتالي — أن أكون قد جرَّدتها من خبرتي الخاصة حين اخترت شيئًا معينًا
ليكون موضوعًا لانتباهي.
(٢٤) بالتالي فإنَّ فكرة الحرية بالمعنى الذي تُفهم به في نظرية
الجبر الذاتي على أنَّها تظهر في فعل الفاعل حين ينتبه ويختار موضوعه —
هذه الفكرة مُستمدَّة مباشرة من خبرتي العينية، كما أنَّ فكرة الضرورة
— من ناحية أخرى — مُستمدَّة من الفكرة الأصلية عن الحرية. وفكرة
القانون التي هي أساس العلم — وبالتالي أساس المذهب الجبري — ليست
إلَّا تصفية وتنقية للوقائع العينية الموجودة في خبرتي الخاصة.
فالقانون العلمي، هو شيء لا نستطيع بالفعل أن نخبر المثل الدقيق الذي
يقدمه؛ لأنَّ ما نخبره باستمرار، وهو واقعة فردية عينية، وليست
القوانين إلَّا تجريدات من أمثال هذه الوقائع الفردية العينية، والواقع
أنَّه في الاختلاف بين وجهات النظر حول العلاقة بين الوقائع العينية
والقوانين المجرَّدة يكمن الفرق بين المذهب الآلي والمذهب الديناميكي،
«كلَّما نظر صاحب النزعة الديناميكية إلى أعلى، اعتقد أنَّه يُدرك
وقائع تفلت من قبضة القانون، وهكذا يضع الواقع على أنَّها الحقيقة
المطلقة، ويعتبر القانون مجرد تعبير رمزي — كَبُر أو صَغُر — عن هذه
الحقيقة. أمَّا النزعة الآلية فهي على العكس، تكتشف داخل الواقعة
الجزئية عددًا معينًا من القوانين التي تكون هذه الواقعة بالنسبة لها
مجرَّد نقطة التقاء ولا شيء غير ذلك، وعلى أساس هذا الفرض يُصبح
القانون هو الحقيقة الأصلية الأساسية.»
٢٣
إنَّ وقائع الخبرة الفردية
والعينية هي الحقيقة، أمَّا القوانين فهي تجريدات. ولا يُمكن مطلقًا أن
تكون التجريدات في اتِّفاق كامل مع وقائع الخبرة الجزئية، فهي يُمكِن
فحسب أن تتفق معها اتفاقًا كبيرًا أو صغيرًا، لا اتفاقًا كاملًا،
والقوانين من هذه الزاوية تُشبه الأشكال الهندسية، التي يُزيل الفكر ما
فيها من نقائص كانت موجودة في الجزئيات العينية للخبرة، فنحن لا نستطيع
على الإطلاق أن نخبر الخط المستقيم استقامة مطلقة، أو الدائرة الكاملة
الاستدارة، ومع ذلك فنحن نُكوِّن هذه الأشكال تكوينًا فكريًّا مثاليًّا
على أساس الوقائع العينية. وتلك هي الحال نفسها مع قوانين الطبيعة،
فنحن لم نُلاحظها أبدًا تتحقَّق في كمال مطلق، لكنَّا نستطيع فحسب أن
نُزيل بالفكر النقائص الموجودة في ملاحظاتنا الجزئية، ومن ثمَّ فقوانين
الطبيعة التي هي حجر الزاوية في بناء المذهب الجبري ليست إلَّا تجريدات
من خبرتنا، التي هي وحدها الحقيقية. وفي استطاعتك أن تنظر إلى الطبيعة
على أنَّها جهاز يُنظِّمه قوانين لا ترحم. لكنَّك قبل أن تفعل ذلك عليك
أن تُسلِّم أولًا بأنَّ مثل هذا التصوُّر مُستمَدٌّ من شيء آخر، وأنَّ
خبرتك بالوقائع العينية هي الأصل الذي اشتقَّ منه، وطالما أنَّ خبرتك
هي في النهاية خبرة بفعل ما، أعني خبرةً بالانتباه والانتقاء، فإنَّها
بالتالي خبرة بالجبر الذاتي أو التحديد الذاتي. ولا شك أنَّ تصوُّر
الحرية، بالمعنى الذي نفهم به هذه الكلمة في نظرية الجبر الذاتي، هو
تصوُّر مسبق قطعًا، تصوُّر الضرورة، فالأول يدرك مباشرة عن طريق
الخبرة، بينما الثاني جاء نتيجة تصفية بعدية. «لو أنَّنا تساءلنا لماذا
يُضفي أحد الفريقين «أصحاب النزعة الديناميكية»، حقيقة عُليا على
الواقعة، بينما يُضفي الفريق الآخر «دعاة النزعة الآلية» مثل هذه
الحقيقة على القانون، لوجدنا أنَّ النزعة الآلية والنزعة الديناميكية
تأخذ كل منهما كلمة البساطة بمعنيَين مختلفين أتم الاختلاف. أمَّا
الفريق الأول فيرى أنَّ المبدأ يكون بسيطًا لو أمكن لنا أن نرى نتائجه
وأن نحسب آثاره، وهكذا — حسب هذا التعريف نفسه — تكون فكرة المقصود
الذاتي أكثر بساطة من فكرة الحرية، ويكون التجانس أكثر بساطة من
اللاتجانس، ويكون المجرَّد أكثر بساطة من العيني. غير أنَّ النزعة
الديناميكية لا تسعى إلى وضع الأفكار في أنسب النظُم وأكثرها ملاءمة
للعثور على الخيط الحقيقي الذي يربط بينها … ومن هذه الوجهة من النظر
تُصبِح فكرة التلقائية بلا نزاع أبسط من فكرة القصور الذاتي، طالما
أنَّ الثانية لا يُمكن أن تُفهم وأن تُحدَّد إلَّا عن طريق الأولى، في
حين أنَّ الفكرة الأولى تكتفي بذاتها.»
٢٤
(٢٥) لا نستطيع أن نُجاوز القول
بأنَّ خبرتنا، كما نُدركها إدراكًا مباشرًا، وكما نُحلِّلها عن طريق
الاسترجاع، تُظهرنا على أنَّنا في حالة الانتباه نكون مجبرين ذاتيًّا
في اختيار موضوع الانتباه، كلَّا، وليس ثمة إمكان لوجود معرفة — أية
معرفة — بمعزل عن خبرتنا الخاصة؛ لأنَّ الخبرة هي مرجعنا النهائي،
والعالم هو عالم بالنسبة لنا، ومهما حاولنا أن نقول عكس ذلك فإنَّنا
مُقيَّدون في النهاية بما صادفناه في خبرتنا. يقول وايتهد: «معطياتنا
هي العالم بالفعل، بما في ذلك أنفسنا نحن، وهذا العالم الفعلي ينتشر
أمامنا للملاحظة في شكل موضوعات لخبرتنا المباشرة، وتوضيح هذه الخبرة
المباشرة هو المبرر الوحيد لأيِّ تفكير، ونقطة البداية أمام الفكر هي
الملاحَظة التحليلية لمكونات الخبرة.»
٢٥ وكتب «أفلنج
Aveling»
٢٦ في هذا المعنى يقول: يُمكِن أن نضع مبدأً عامًّا لا يسمح
بأي استثناء مهما كان نوعه، هذا المبدأ هو: جميع معطيات الاعتقاد — حتى
تلك المعطيات التي بلغت حدًّا كبيرًا من الإتقان والإحكام في طابعها
العِلمي أو الفلسفي — تستمدُّها مباشرة من خبرتنا التجريبية المباشرة،
أو هي على الأقل تَرتبط بهذه الخبرة بطريقة محدَّدة تمامًا بحيث يُمكن
التأكُّد منها.»
٢٧
(٢٦) غير أنَّنا حين نقول إنَّ الفرد في حالة الانتباه يكون نشطًا
فعالًا دون أن يكون لنشاطه سبب خارجي، لكنَّه محدَّد بذاته في إحداث
حركات جسمه هو — ألا نكون بذلك قد اعتدينا على الأرض المقدَّسة لقانون
بقاء الطاقة؟ إنَّ في استطاعة أحد علماء الطبيعة أن يُثير الاعتراض
الآتي: إنَّ إحداث حركة في الجزئيات المادية للجسم يعني أنَّ النشاط
الذاتي المزعوم قد أضاف قدرًا جديدًا من الطاقة الحركية
Kinetic energy دون أن يَختفي قدر
مساوٍ لهذه الإضافة من صورة أخرى من صور الطاقة، وهذا تحطيم واضح لواحد
من أعظم القوانين المُعترف بها في علم الطبيعة، وهو قانون بقاء الطاقة،
الذي يَذهب إلى أنَّ الطاقة لا تزيد ولا تنقص، بل تتحوَّل فقط إلى صور
مختلفة.
(٢٧) ويمكن أن نشرح قانون بقاء الطاقة في إيجاز شديد على النحو
التالي:
إذا ما درسنا الطُّرق التي تُؤثِّر بها المادة في حواسنا لوجدنا أنَّ
هناك حالات متعددة للمادة يُمكن قياسها، هي التي نُسمِّيها بصورة
الطاقة. وهكذا نجد لدينا: طاقة الحركة، وطاقة الوضع، والحرارة، والضوء
… إلخ، ونحن نُلاحظ أنَّه في حالة اختفاء إحدى هذه الصور تظهر بدلًا
منها صورة أخرى، وفي كل حالة من هذه الحالات هناك مُعدل ثابت لتحوُّل
صورة من الصور إلى صورة أخرى. فلو أنَّنا استخدمنا الطاقة الكيميائية
لتوليد الحرارة، فإنَّ عدد الوحدات الحرارية التي نحصل عليها من كل
وحدة من وحدات الطاقة الكيميائية الضائعة يظل ثابتًا. ولو أنَّنا
لاحظنا كل التحوُّلات التي تطرأ على أي مجموعة من مجموعات الطاقة،
لوجدنا أنَّ المجموع الكلي للوحدات الذي نحسبه بمصطلحات إحدى هذه الصور
— يظلُّ ثابتًا باستمرار. ويُمكن أن نُوضِّح ذلك بهذا المثال الآتي:
افرض أنَّ شخصًا يملك مبلغًا معيَّنًا من المال، وأنَّه أحيانًا يستبدل
القروش بالشِّلنات، وأحيانًا أخرى يستبدل العملة الفضية بعملة ورقية …
إلخ، لكن المبلغ يظلُّ مع ذلك ثابتًا، فالمجموع الكلي يبقى كما هو،
سواء أكان محسوبًا بالشلنات أم بغيرها، وعلى الرغم من أنَّ المبلغ كله
كان في لحظة من اللحظات مجموعة من القروش، وفي لحظة أخرى كان كله فضة،
وفي لحظة ثالثة كان كله أوراقًا مالية، أو كان في لحظة رابعة خليطًا من
ذلك كله — فإنَّ المجموع الكلي للمبلغ يظلُّ واحدًا في جميع هذه
الحالات.
(٢٨) وعلى ذلك في استطاعة عالم الطبيعة أن يقول إنَّ الأعصاب أجسام
مادية، مثلها مثل الحجارة سواء بسواء، وانتقال التيارات العصبية هي
نفسها عملية فسيو-كيمائية، تُشبه تمامًا عملية احتراق الشَّمعة، ولا بد
من تفسيرها تفسيرًا ماديًّا. ولو أنَّنا افترضنا أن شيئًا ما يحدث في
حالة الانتباه داخل لحاء المخ؛ حيث لا يُمكن أن يحدث بنفس الطريقة في
حالة أخرى، بوصفه محصلة لظروف مادية خالصة، فإنَّنا بذلك نُحطِّم
الاتصال، الذي لا يتحطم، للتفسير الفيزيائي، فالطاقة الموجودة في
العالم المادي لا تَفنى ولا تخلق، بل يُعاد توزيعها فحسب، وبالتالي فلا
يُمكن أن يكون صحيحًا ما نقول من أنَّ النشاط الذاتي يُحدِث حركة —
لأنَّه بذلك لا بد أن يَزيد أو يُنْقِص من كمية الطاقة الموجودة في
العالم المادي — وبالتالي يُحطِّم قانون بقاء الطاقة.
(٢٩) وردًّا على هذا الاعتراض، سوف أُجيب بادئ ذي بدء، بالشك في
الشمول المزعوم لهذا القانون، وسوف أحاول — ثانيًا — أن أُبيِّن أنَّ
نشاط الانتباه لا يتعارض بالضرورة مع هذا القانون.
(٣٠) هناك واقعة تُعارض الزعم القائل بأنَّ الطاقة لا بد أن يُقابلها
قدر من العمل مساوٍ لها تمامًا، وهي أنَّ بعض الطاقة الحرارية يَتبدَّد
دون أن يُحْدِث أي قدر من العمل مساوٍ له، وطالما أنَّنا لا نعرف شيئًا
عن الطريقة التي تعود بها هذه الطاقة المُبدَّدة إلى مصدرها الأصلي،
ألا يُمكن أن تكون الطاقة المتاحة لنا مُستمَدَّة من مصدر خفي، لا يمكن
فيزيقيًّا أن تُردَّ إليه؟
(٣١) وهذا السؤال يُبْرِز أمامنا فكرة إمكان الرد
reversibility، أو إمكان التحوُّل،
وهي الفكرة التي تزعمها النظرة الآلية، ويدعمها قانون بقاء الطاقة. فهم
يزعمون أنَّ أيًّا ما كان التغيُّر الذي يحدث في العالم فإنَّ من
الممكن أن يعود كل شيء من جديد إلى وضعه السابق، لكن الوقائع تظهرنا
على أنَّ هذه النظرية المزعومة لا تستطيع — على الأقل — أن تجد لها
تطبيقات في مجالات معينة. «إنَّ لا معقولية الرد «أو التحوُّل إلى
الوضع السابق» واضحة في العمليات العضوية، فليس من المعقول أن تتقلَّص
الشجرة وتعود القهقرى إلى البذور، ولا أن تَبدأ الحياة مع جثة الإنسان
وتنتهي بالميلاد، ولا تعود سلسلة الأنساب إلى الوراء.»
٢٨ والواقع أنَّ إمكانية الرد هذه لا يُمكن — فيما يبدو — أن
تَنطبِق إلَّا على نظام يُمكن لأجزائه بعد أن تتحرَّك أن تعود إلى
أوضاعها السابقة، أعني نظامًا يُمكِن لأجزائه بعد أن تتحرَّك أن تعود
إلى أوضاعها السابقة، أعني نظامًا لا يلعب الزمان أي دور في ماهيته.
«لكن الأمر على خلاف ذلك تمامًا في مجال الحياة، فها هنا تبدو الديمومة
— يقينًا — وكأنَّما تقوم بدور السبب، ومن ثمَّ فإنَّ الفكرة القائلة
بالعودة بالأشياء إلى الوراء بعد انقضاء زمان معیَّن هي ضرب من
المستحيل، طالما أنَّ مثل هذه العودة إلى الوراء لا تحدث قط في حالة
الكائن الحي.»
٢٩ «وفي حين أنَّ النقطة المادية — كما يفهمها دعاة النزعة
الآلية — تظل في حاضر أبدي. فإنَّ الماضي قد يكون حقيقة بالنِّسبة
للأجسام المادية، وهو يقينًا حقيقة أكيدة بالنسبة للموجودات الواعية.
وإذا كان الماضي لا يُمثِّل أدنى كسب ولا أدنى خسارة، بالنسبة إلى أي
نظام نزعم له البقاء، فإنَّه قد يُمثِّل كسبًا بالنسبة إلى الكائن
الحي، وهو بدون شك كسب مُحقَّق للوجود الواعي. وإذا كان الأمر على هذا
النحو: أليس هناك الشيء الكثير مما يُمكن أن يُقال حول افتراض القوة
الواعية أو الإرادة الحرة، التي تخضع لفعل الزمان وتستغرق ديمومة، حتى
إنَّه ليُمكِن أن تُفلت من قانون بقاء الطاقة؟»
٣٠
(٣٢) إنَّ كل ما في استطاعة عالم الطبيعة أن يؤكِّده بواسطة قانون
بقاء الطاقة هو أنَّ القدر المعين الموجود من الطاقة في الصورة «أ»،
يُساوي القدر المعين الموجود من الطاقة في الصورة «ب». «غير أنَّ
التأكُّد من المتساويات الآلية للصور المختلفة من الطاقة، وتقرير
الثبات المطلق لهذه المتساويات كجزء من المُسلَّمة العامة التي تقول
إنَّ الطبيعة مطردة شيء، والزعم بأنَّ كمية الطاقة الموجودة في الكون
محدودة، ولأنَّها محدودة فهي لا تَزيد ولا تنقص تبعًا لقانون ما أو
لمبرِّر كافٍ شيء مختلف عنه أتمَّ الاختلاف … «إنَّ عالم الطبيعة لا
يعرف إلَّا أنَّ معدلات التحوُّل والتبدُّل ثابتة ومنتظمة داخل نطاق
الحدود الضيقة جدًّا لملاحظته، وهو حتى داخل هذه الحدود مُقيَّد تمامًا
بمعدل النتائج لعدد لا حصر له من العمليات الفردية».»
٣١
(٣٣) وفضلًا على ذلك كله، وبغض النظر عن مشكلة الصعوبة الكمية: فكيف
يستطيع العلم أن يتأكَّد من أنَّ صور الطاقة المعروفة هي وحدها الصور
المُمكنة فحسب؟ إنَّنا حين نقول: إنَّ «أ» يمكن أن تتحوَّل تمامًا إلى
«ب»، فإنَّنا لا نستبعد بذلك إمكان وجود صور أخرى من الطاقة تتوسط هذه
الدورة. وسواء أكانت كمية الطاقة الموجودة في الكون ثابتة كلها أم لا،
فسوف يبقى علينا أن نتأكَّد من أنَّ قائمة صور الطاقة التي نعرفها
قائمة شاملة تمامًا، قبل أن يحق لنا أن نرفض نظرية جديدة.
(٣٤) وإلى جانب ذلك كله: افرض أنَّنا سلَّمنا بأنَّ قانون بقاء
الطاقة صحيح وشامل، فهل لا بدَّ أن يكون هناك تعارض بين مثل هذا
القانون وبين النشاط الذاتي؟ يُمكن أن يُقال بادئ ذي بدء إنَّ قانون
بقاء الطاقة يختص فحسب بإعادة توزيع الطاقة داخل إطار النظام المادي،
لكنَّه يظلُّ صامتًا أمام الأحداث الأخرى التي يُقال إنَّها ليست
مادية. إنَّ ما يؤكِّده هذا القانون هو أنَّ الطاقة لا يُمكن أن تزيد
أو تنقص في أيَّة ظروف مادية، لكنَّه لا يُخبرنا ما الذي عساه أن يحدث
لو تدخَّل عامل غیر مادي ليلعب دورًا في هذه الأحداث.
(٣٥) ثانيًا — وربما كانت تلك نقطة أكثر أهمية — إنَّ من الممكن
تمامًا أن تكون فاعلية الذهن مجرد فاعلية موجهة، بحيث تقود إلى إعادة
توزيع الطاقة دون أن يكون لها أدنى أثر على كمية هذه الطاقة زيادة أو
نقصانًا. والحق أنَّ المرء ليغريه تمامًا أن يسوق اقتراحًا جريئًا
مؤداه أنَّ الحياة تَعتمِد على توجيه وضبط الطاقة دون أن تكون هي نفسها
إحدى صورها، ويمكن أن تكون لمجرَّد إعادة التنظيم نتائج مذهلة، فنحن
نجد فيما يُسمَّى بفعل الإنسان في الطبيعة أنَّ «خواص المادة هي التي
تعمل كل شيء بمجرَّد ما تُوضع الأشياء في وضعها الصحيح. وكل ما يفعله
الإنسان في المادة، بل كل ما يستطيع أن يفعله هو أن يقوم بهذا العمل،
أعني أن يضع الأشياء في وضعها الصحيح، بحيث يُمكن أن تُؤثِّر فيها
قواها الداخلية الخاصة، كما تُؤثِّر فيها تلك الأشياء الطبيعية الأخرى
الباقية. فالإنسان لا يفعل شيئًا سوى أن يُحرِّك شيئًا من شيء آخر أو
إلى شيء آخر. وأوامره كلها على قوى الطبيعة لا يُمكن أن تُقاس قوتها
بتلك القوة التي يحصل عليها هو نفسه حين يُنظِّم الأشياء في تلك
التركيبات والتفاعلات التي نشأت عنها القوى الطبيعية ذاتها، كما هي
الحال — مثلًا — حين يضع عود ثقاب مشتعلًا على وقود، أو حين يضع الماء
فوق مرجل من نار، بحيث يتولَّد عنها قوة البخار التمددية التي أدت بشكل
واسع إلى تحقيق الأغراض البشرية.»
٣٢
يقول: «ماكسويل
Maxwell» لو أنَّنا
افترضنا وجود عفريت من نوع خاص، بلغت ملكاته من الدقة حدًّا يُمكنه من
تتبع الجزئيات في مسارها، بحيث يكون قادرًا على أن يعمل ما يستحيل
علينا الآن عمله، فسوف نظل مع ذلك نتخيَّله محدودًا في صفاته مثلنا
تمامًا؛ لأنَّ «الجزئيات في إناء مملوء بالهواء وفى درجة حرارة مطردة
تتحرَّك بسرعات ليست مطردة على الإطلاق، رغم أنَّ أدنى سرعة لأي عدد
كبير منهم نختاره اختيارًا تعسفيًّا هي سرعة مطردة في الغالب تمامًا.
ودعنا الآن نفترض أنَّ مثل هذا الإناء يقسم قسمين هما: «أ، ب»، وأنَّ
أحد القسمين به ثقب صغير، وأنَّ هناك كائنًا يستطيع أن يرى الجزئيات
الفردية، يفتح هذا الثقب الصغير ويُغلقُه بحيث يَسمح فقط للجزئيات
السريعة بالعبور من «أ» إلى «ب»، والجزئيات البطيئة بالعبور من «ب» إلى
«أ». إنَّ مثل هذا الكائن سوف يستطيع على هذا النحو — دون أن يبذل أدنى
جهد — أن يرفع درجة حرارة «ب»، وأن يخفض درجة حرارة «أ».»
٣٣
غیر أنَّ ذلك ليس إلَّا تشبيهًا مجازيًّا يُمكن أن يُساء فهمُه، فأنا
لا أفترض وجود أي كائن متوسِّط يقوم بعمل التوزيع من أجل الفاعل
السيكوفيزيقي على النحو الذي اقترح فيه «ديكارت» وجود غدة صنوبرية تقوم
بوظيفة مماثلة.
٣٤ كلَّا، ولستُ أفترض وجود ذهن مستقل يعمل في البدن ويتفاعل
معه. فأنا أعتقد أنَّ هناك كائنًا واحدًا فحسب هو: الفاعل
السيكوفيزيقي، وواحديته هي اتحاده العضوي، أو هي وحدته العضوية، ومثل
هذا الفاعل له وظيفة تختص بطريقة عجيبة بالجسم الحي، وهذه الخاصية
العجيبة تعتمد أساسًا — كما قلنا — على انتباه الفرد إلى الوجود،
وانتقاء عناصر معيَّنة ورفض عناصر أخرى، والفرد في إحداثه لحركته يكون
نشطًا فعالًا محددًا بذاته فحسب، وكل أنشطة الفرد — أيًّا كان نوعها —
تفترض مقدمًا وظائف الانتقاء والاختيار المتضمَّنة في الانتباه.
بقي أن نعرف: متى يُعتبَر فعلًا من أفعال الانتباه إرادة، ومتى لا
يُعتبر كذلك.