الإرادة
(١) الإرادة هي الانتباه إلى موضوع يتَّصف بخصائص معينة.
(٢) ليس هناك ملكة تُسمَّى ﺑ «الإرادة»، ولكن هناك أمثلة للإرادة فحسب.
(٣) الانتباه سابق على الإرادة. وجهة نظر «برادلي» التي تقول العكس. (٤-٦) نقد وجهة نظر «برادلي».
(٤) من أين يأتي الانتباه حين يُصاحِب الإرادة دون أن يكون هو نفسه مرادًا مباشرًا؟
(٥) لا يتضح ما إذا كان «برادلي» يعتقد أنَّ الانتباه مُصاحب ضروري للإرادة أم أنَّ الإرادة يُمكن أن توجد بدونه.
(٦) التناقض في قوله إنَّ الانتباه يُصبِح الموضوع المباشر للإرادة حين تكون العقبة في تحقیق فكرتي هي شرود الذهن.
(٧) كيف نُفسِّر الحالات التي أشعر فيها أنَّ الانتباه هو الموضوع المباشرة لإرادتي.
(٨) جميع الأمثلة الممكنة للأفعال الإرادية تعتمد على الانتباه إلى فكرة لها خصائص معينة.
- (أ)
إذا كانت الفكرة التي أنتبه إليها هي فكرة تغيير الوجود.
- (ب)
وإذا كان التغيُّر لا بد أن يحدث بناءً على الفكرة.
- (جـ)
وبوساطة هذه الفكرة.
- (د)
ويشترط أن يُحقِّق الفاعل نفسه حين يُحقِّق الفكرة (١٠-١٤) مناقشة هذه النقاط:
(١٠) لا بد أن يكون هناك وجود ذو طبيعة معيَّنة داخلية أم خارجية. تغير هذا الوجود لا بد أن يبدأ الآن.
(١١) لا بدَّ أن يكون هناك صراع بين فكرتي عن التغير وبين طبيعة الوجود. لا بد أن يكون التغير في نطاق قدرة الفاعل.
(١٢) لا بدَّ أن يحدث التغير طبقًا لمضمون الفكرة — السماح بالزيادة الضرورية في التغير.
(١٤) الفاعل يُحقِّق نفسه في حالة الإرادة، لأنَّه يتَّحد مع فكرة التغير، ما المقصود بهذا الاتحاد؟
(١٥) أنا أختار فكرة التغير لأنَّها تُناسب حياتي ككل. هل هناك نظام مثالي؟
(١٦) الأخلاق هي العمل تحت سلطان العقل.
(١٧) الهوَّة بين فكرتي عن التغير وبين الوجود الواقعي يختلف مداها؛ فكلما اتَّسعت ازداد الجهد الذي يُبذَل في الفعل الإرادي.
(١٨) الفرق بين الإرادة والتفكير.
(١) حاولت في الفصول السابقة أن أُبيِّن أنَّ كل واقعة سيكولوجية تعتمد على الانتباه إلى شيء ما، والانتباه هو الجانب الذاتي، وما ننتبه إليه هو الجانب الموضوعي، ومن الجانبين معًا — الذاتي والموضوعي — تتألَّف الذات. والأفعال السيكولوجية كلها ليست إلَّا تنوعًا للجانب الموضوعي من الانتباه، فليس هناك سوى فعل أساسي واحد هو الانتباه ثم موضوعات متعددة ننتبه إليها في أوقات مختلِفة: ففي الإدراك الحسي ننتبه إلى موضوع يتسم بخصائص معينة وهكذا … وسوف أُحاول في هذا الفصل أن أعرض للخصائص النوعية التي تُميِّز الموضوع الذي ننتبه إليه في حالة الإرادة.
وعلى ذلك فإنَّ «برادلي» يرى أنَّ هناك نوعين من الحالات:
(٤) (أ) فهو لم يُفسِّر لنا كيف ينشأ الانتباه في الحالات التي يوجد فيها وجودًا عرضيًّا، أعني الحالات التي لا يكون فيها هو نفسه مرادًا بطريقة مباشرة، الحالات التي «قد أكون فيها — بغير شك — منتبهًا، ومع ذلك لا أشعر على الإطلاق بأي ميل إلى الشروط ذهنيًّا عن هدفي، وقد لا أنتبه انتباهًا مرادًا بطريقة مباشرة.» وحتى أُوضِّح اعتراضي هذا سوف أستخدم الرموز الآتية: افرض أنَّ (أ) تُمثِّل الإرادة، و(ب) تُمثِّل الانتباه و(ﺟ) تُمثِّل الموضوع المراد، عندئذ في الحالات التي يكون فيها الانتباه مُصاحبًا فحسب لممارسة الإرادة، دون أن يكون هو نفسه مرادًا، فسوف تكون الصيغة على النحو التالي:
أ - ﺟ (ب). وهي تقرأ هكذا: الإرادة (أ) مُوجَّهة إلى غرض معين (ﺟ)، والانتباه (ب) متضمَّن بطريقة ما في الموقف. أمَّا في الحالة التي يكون فيها الانتباه نفسه مرادًا فسوف تكون الصيغة على النحو التالي: أ - ب ﺟ فنقول عندئذ إنَّ الانتباه تشتمل عليه صراحةً فكرة الغاية أو الهدف.
والسؤال الآن هو: في الحالة السابقة التي يُوصف فيها الموقف بأنَّه أ - ﺟ «ب»، من أين يأتي الانتباه؟ لا يُمكِن أن يُقال: إنَّه جزء ضروري من الإرادة، إذ يُمكِن أن يكون هو نفسه مرادًا، ولا يُمكن أن يُقال: إنَّه شرط ضروري للموضوع المراد، لأنَّه — بناءً على رأي «برادلي» نفسه — يُمكِن تصوُّر الانتباه شاردًا عن الموضوع، بحيث يُمكن أن يعود إليه بواسطة الإرادة. وعلى ذلك ففي الحالة التي يكون فيها الانتباه نفسه ليس هو الموضوع المباشر للإرادة، أعني حين يوجد وجودًا عرضيًّا، فإنَّه لا يمكن أن يكون جزءًا ضروريًّا من أ (أعني من الإرادة)، ولا جزءًا ضروريًّا من ﺟ (أعني من الموضوع المراد). ومع ذلك كله فلا يزال برادلي يرى أنَّه من الضروري أن يكون الانتباه موجودًا ليُساهِم في عملية الإرادة! والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما السبب الذي يجعل الانتباه موجودًا في هذه الحالة؟ إنَّه إمَّا أن يكون موجودًا بسبب الإرادة على الإطلاق. فلو أنَّه كان موجودًا بسبب الإرادة بطريقة غير مباشرة، فلا بد أن يكون ناتجًا من الإرادة وموضوعها، غير أنَّنا لا يُمكن أن نتصوَّر كيف يُمكن أن يحدث ذلك. افرض مثلًا أنَّ موضوع إرادتي هو قراءة قصيدة من القصائد وفهمها، إنَّ الإرادة والقصيدة قد استدعيا معًا الانتباه إلى القصيدة. وإذا لم يكن ذلك هو المعنى المقصود، فإنَّني لن أستطيع أن أفهم كيف يُمكن للانتباه أن يكون موجودًا بطريقة أخرى بسبب الإرادة وبشكل غير مباشر. لكن إذا لم يكن للانتباه صلة بالإرادة على الإطلاق، فلا يُمكن أن يُقال عنه إنَّه بعد الإرادة، ولا يمكن على الإطلاق أن نتصوَّر أنَّه يطيع اتجاهات الإرادة.
(٥) (ب) لا يتضح ما إذا كان «برادلي» يعتقد أنَّ الانتباه مُصاحب ضروري للإرادة، أم إنَّ الإرادة يُمكن أن تُوجد بدون الانتباه. فكلامه يدل — من ناحية — على أنَّ الانتباه لا بد أن يتبع كل حالة من حالات الإرادة، لكنَّه يكون أحيانًا مرادًا بطريقة مباشرة، وأحيانًا أخرى يكون مرادًا بطريقة غير مباشرة. وكلامه يدلُّ من ناحية أخرى على أنَّه يتصوَّر حالات تكون فيها الإرادة موجودة مع غايتها لكن بدون انتباه، وذلك حين يقول: إنَّ شرود الذهن، أعني عدم الانتباه إلى الموضوع المراد، قد يعوق أو يعرقل تحقيق فكرتي. وذلك يعني بعبارة أخرى أنَّه قد يكون لديَّ إرادة الوصول إلى غاية معينة، فكرتها موجودة في ذهني، غير أنَّ عدم الانتباه إلى هذه الغاية يعوق أو يعرقل عملية الوصول إليها.
(٦) ومن ناحية أخرى فإنَّ قول «برادلي»: إنَّ الانتباه قد يكون هو الموضوع المباشر للإرادة «حين ندرك أنَّ الإعاقة أو العقبة أمام تحقيق فكرتي تعتمد بطريقة ما على فشلي وشرود ذهني» — هذا القول يبدو أنَّه يحتوي على تناقض ذاتي؛ لأنَّه يعني ببساطة أنَّني أدرك أنَّ هدفي لم يتحقَّق لأنَّني كنت شارد الذهن، وهكذا أعود فأجعل انتباهي موضوعًا مباشرًا للإرادة، غير أنَّ «الإدراك» لا يكون ممكنًا بدون الانتباه إلى الموقف المدرَك، وعلى ذلك فيُمكن أن تُصاغ وجهة نظر «برادلي» على النحو التالي: حين أجد، من خلال الانتباه، أنَّ انتباهي ليس موجهًا الوجهة الصحيحة، فإنَّني أقوم بتصحيحه بإرادتي. والقول بأنَّ الانتباه يكتشف أنَّه هو نفسه قد ضلَّ، ليس إلَّا خلفًا واضحًا.
(٧) ومن هنا فإنَّ القول بأسبقية الإرادة على الانتباه قول لا يمكن الدفاع عنه، ولهذا فأنا أعتقد أنَّ الصيغة لا بدَّ أن تكون باستمرار على النحو التالي: ب – ﺟ، بحيث تُمثِّل «ب» — كما سبق أن قلنا — الانتباه، كما تُمثِّل «ﺟ» موضوع الانتباه. ويُقال عن «أ» التي تُمثِّل الإرادة: إنَّها توجد حين تكون هناك خصائص معينة تتصف بها «ب»، أعني موضوع الانتباه، وهي خصائص سوف نبحثها بعد قليل.
والقول بأنَّ الانتباه يسبق الإرادة يُعفينا من الربط غير الضروري بين الانتباه والوعي؛ فقد يكون الانتباه شعوريًّا في حالتي الإرادة والتفكير، وقد يكون لا شعوريًّا في حالة النزوع البسيط. وحتى في حالتي الإرادة والتفكير اللتين يكون فيهما الانتباه شعوريًّا، فإنَّني قد أشعر بالعمل الرئيسي الذي أقوم به، في الوقت الذي تحدُث فيه أشياء أخرى كثيرة بطريقة لا شُعورية. فأنا الآن مثلًا أشعر بأنَّني أكتب، لكنِّي لا أستطيع أن أشعر بمئات الآلاف من الألياف العصبية والعضَلية التي تتكامل معًا وتُركِّز نفسها في فعل الكتابة. ومن ناحية أخرى، فليس كل فرد عُضوي يستطيع أن يشعر تمامًا بالعمل الرئيسي الذي يقوم به في وقت معين: ويبدو أنَّ تقسيم «ليبنتز» للجواهر العضوية إلى جواهر لا واعية وجواهر واعية، وجواهر واعية بذاتها — تقسيم صحيح؛ فالنبات — مثلًا — يعمل ككلٍّ عُضوي، لكنَّه يعمل بطريقة لا شعورية، أمَّا الكائنات الحية، فيُمكِن أن يُقسَّم نشاطها إلى ثلاثة مجالات: مجال النشاط اللاشعوري، كنشاط العقل الفسيولوجي، ومجال الوعي الغامِض، كوعينا بضوضاء الطريق، أو أثر الضغط على جلدنا في الوقت الذي ننظر فيه بانتباه إلى موضوع معين. وأخيرًا مجال الوعي الواضح، وهذا المجال الأخير هو ما يُسمَّى عادة بالانتباه. لكن تبعًا للنظرية التي نأخذ بها، فإنَّ هذه التقسيمات الثلاثة تحتاج كلها إلى الانتباه من جانب الفرد، أعني الانتباه إلى الموقف الحاضر، حتى يستطيع أن يعمل وفقًا لما يبدو له أنَّه نافع لحياته وسعادته.
غير أنَّنا يجب علينا أولًا أن نُفسِّر تلك الحالات التي نشعر فيها أنَّ الانتباه نفسه مراد، وأنا أعتقد أنَّ ما يُضلِّلنا في مثل هذا الشعور، هو أنَّنا بدلًا من أن ننتبه إلى «ﺟ» ننتبه إلى موضوع آخر «ء» مثلًا حين نشعر أنَّ هذا الموضوع الأخير أكثر نفعًا لنا في هذه اللحظة نفسها من الموضوع السابق. عندئذ تُشكِّل الرغبة في العودة إلى الموضوع السابق «ﺟ» جانبًا من المركب الموضوعي، أعني أنَّ محتوى انتباهي سيكون عندئذ مركبًا يشمل «ء + رغبة في العودة إلى ﺟ». وهذه الحالة قد يعقبها عودة فعلية إلى «ﺟ» فينشأ موقف أتوهَّم فيه أنَّ رغبتي قد أدَّت إلى تغيير اتجاه انتباهي، في حين أنَّ رغبتي نفسها ليست إلَّا جانبًا من موضوع الانتباه، ومن هنا فإنَّ كل ما حدث هو تغير لاتجاه الانتباه لخدمة نفعي الخاص أو مصلحتي الخاصة.
(٩) لكن ذلك كله ليس إلَّا تعميمًا يحتاج إلى تخفيض وتحديد؛ فإذا كان الموقف الإرادي عبارة عن فعل من أفعال الانتباه إلى موضوع يتسم بخصائص معينة، فما هي تلك الخصائص التي تطبع بطابعها موضوع الانتباه حين يكون الموقف السيكولوجي إراديًّا؟ لا بدَّ أن نقول بادئ ذي بدء: إنَّ الفكرة التي تكون موضوع الانتباه في حالة الإرادة هي بصفة عامة فكرة التغير، أعني فكرة شيء يَختلف عمَّا هو موجود بالفعل. وإذا ما حلَّلنا هذه الفكرة لوجدنا أنَّها تتألَّف من العناصر الآتية:
(١) أن يكون هناك وجود له طبيعة معينة.
(٢) أن تكون هناك فكرة عن تغير يُراد إحداثه في هذا الوجود.
(٣) أن يتم إحداث التغيُّر بالفعل طبقًا لمضمون الفكرة.
(٤) أن يتمَّ التغير بفضل نشاط الفرد المُنْتَبِه إلى الفكرة التي تتحدث عنها دون مساعدة العوامل الخارجية.
(١٠) (١) الخاصية الأولى للموقف الإرادي هي أن يكون هناك وجود له طبيعة معينة، وجود «أُرِيدَ» له أن يتغيَّر طبقًا لمضمون الفكرة التي أنتبه إليها. وقد يكون هذا الوجود المطلوب تغييره وجودًا داخليًّا أو خارجيًّا: وهو حين يكون خارجيًّا فإنَّه يعني جانبًا من الواقع موجودًا في زمان معين ومكان محدَّد، وهو إمَّا أن يكون «هنا» و«الآن» أو امتدادًا لهما. وهو حين يكون داخليًّا فإنَّه يعني واقعة سيكولوجية معينة موجودة الآن أو امتدادًا لها.
وعلى ذلك فالتغيُّر المطلوب لا بدَّ أن يكون أولًا: شيئًا ممكنًا، ولا بد ثانيًا: أن يكون مِمَّا نستطيع بقدرتنا الخاصة تحقيقه. لكن قد يُعتَرَض على ذلك بأنَّنا قد لا نحتاج في بعض المواقف الإرادية إلى تغيير الوجود؛ لأنَّ الوجود الحاضر المستمر قد يكون هو نفسه أن يستمر على هذا النحو، وبالتالي فلن يكون هناك تغيير مع أنَّ هناك إرادة. لكن ذلك خطأ، لأنَّ الحاضر لو كان سيستمرُّ من تلقاء نفسه فلن يكون للإرادة معنى — وبالتالي فلو أنَّني قلت: «إني أريد» هذا الحاضر المستمر نفسه، فلن يكون لهذا القول معنى، ما لم يكن يعني أنه بدون فعل الإرادة فإنَّ هذا الوجود الحاضر سوف ينتقل إلى وجه آخر مخالف لما هو عليه، وإذا كان ذلك كذلك فإنَّني في منعي تغيير الحاضر أكون قد تسببت في تغيير ما.
(١٢) (۳) لا يكفي للموقف الإرادي أن تكون عندي فكرة عن تغيير ما، ولا يكفي أن يحدث هذا التغيُّر في الموجود، وإنَّما لا بد أن يحدث التغير كما هو موصوف في مضمون الفكرة. ويجمل بنا هنا أن نَلفت النظر إلى أنَّ فكرة التغير أو التغير ذاته، نادرًا ما يتَّحدان، هذا إذا اتحدا على الإطلاق؛ فالتغيُّر عادة يتضمَّن شيئًا أكثر بكثير من فكرته. والواقع أنَّ التغير مُعقَّد للغاية لدرجة يصعب معها تحديد ما يشمله تحديدًا دقيقًا. فلو أنَّني أردت أن أذهب إلى المكتبة لكي أقرأ فيها كتابًا، فمن الواضح أنَّ الفعل الذي سأقوم به سوف يشتمل على عدد غير معيَّن من الحركات التي لم أكن أقصدها بطريقة مباشرة. وعلى ذلك فنحن حين نقول إنَّ التغيُّر لا بدَّ أن يحدث كما هو موصوف في مضمون الفِكرة، فإنَّنا مع ذلك نسمح بزيادة كبيرة تُعرف بالتَّداعي اللازم لمضمون الفكرة، ومثل هذه الزيادة لا بدَّ أن يُنظر إليها على أنَّها مرادة هي الأخرى، إذ على الرغم من أنَّها ليسَت جزءًا جوهريًّا من الفكرة، فإنَّها لا تكون مُرادة: افرض — مثلًا — أنَّ صيادًا أراد أن يَصطاد بعض الطيور، لكنَّه حين أطلق الرصاص قتل شخصًا تصادف مرورُه لحظة إطلاق النار، إنَّ هذه الواقعة الأخيرة، لا هي التغيُّر المقصود، ولا هي تداعيه اللازم؛ ومن ثم فهي لا يُمكن أن تكون مرادة.
(١٣) (١٤) وفضلًا عن ذلك فإنَّ التغيُّر الذي يحدث طبقًا لمضمون الفكرة لا بد أن يكون نهاية لعمَلية كانت بذاتها فكرة التغير الموجودة في الانتباه. وهذا التغير لا يكون إرادة إلَّا حين يَتحقَّق بنشاط الفرد المنتبِه، بحيث يكون الفرد إيجابيًّا، أعني سببًا كافيًا لإحداث العمَلية، وعلى ذلك فإنَّنا في حالة إحداث تغيُّر مُعيَّن يكون لدينا من ناحية: فرد مُنتبِه إلى فكرة تغير، ويكون لدينا من ناحية أخرى: تحقَّق هذا التغيُّر نفسه، والانتقال بين هذين الجانبين هو الذي يكون الفعل، وهذا الانتقال نفسه هو الذي سبق أن اعترفنا بفشلنا في تحليله، لكن من الواضِح تمامًا أنَّه ليس مجرَّد تلاحُق سببي.
افرض أنَّ لديَّ فكرة عن شخص، نسيت اسمه، لكنِّي أريد أن أتذكَّره، إنَّني في هذه الحالة لديَّ فكرة الشيء المطلوب، لكن ليس لديَّ وجوده، فحالتي الجسمية الراهنة تُخالف المضمون المطلوب، ولإحداث النتيجة التي أريدها فإنَّني أقلب هذه الفكرة الموجودة في ذهني، بحيث تستدعي الأوضاع التي ترتبط بها شيئًا فشيئًا، حتى يحضر الاسم الذي كنت أبحث عنه، وهذه النتيجة وصلَت إليها عن طريق الفكرة الأولى الأصلية التي كانت بدايةً لعملية نهايتها النتيجة المطلوبة. وهذه العملية أحداثها الفرد المُنتبِه إلى فكرة أصلية، لكن لو أنَّ الاسم عرض لذهني دون أن يكون مطلوبًا، فلن يكون هناك إرادة في هذه الحالة لأنَّه ليست هناك فكرة تحقَّقت عند وقوع الاسم؛ ومن ثمَّ فإنَّ ورود الاسم إلى ذهني سوف يكون حادثة وليس فعلًا إراديًّا، سيكون حادثةً دون فاعل أحدثها. ولنُكرِّر ما سبق أن قلناه من أنَّه في حالة الإرادة لا بدَّ أن يكون هناك شيء مطلوب، بحيث يكون الحصول عليه مؤديًا إلى تغير في تسلسل الظواهر، وبحيث يكون ظهوره إلى الواقع نتيجة للفكرة نفسها التي كانت موضوعًا لانتباه الفرد، الذي كان لهذا السبب فردًا نشطًا وفعالًا. ومن ثمَّ فإنَّ تداعي الأفكار لا يكون إرادة، ما لم تكن نهاية السلسلة تَعتمِد على وجود فعلي كان مقصودًا في بدايتها، وما لم تبدأ العملية من الفكرة الأصلية.
لكن قد يُقال: افرض أنَّ فكرة التثاؤب جعلتني أتثاءب؛ ألا تكون تلك حالة من حالات الإرادة؟ والإجابة هي أنَّ هذا الفعل يكون إراديًّا — يقينًا — إذا ما انتبهت إلى فكرة التثاؤب لكي أتثاءب فعلًا، ففي هذه الحالة سيكون تثاؤبي مرارًا، لكن لو تصادَف أن وردت الفكرة على خاطري، ثم أعقبتها حركات معينة بلا هدف مقصود مني، فلا تكون في هذه الحالة إرادة.
لكن قد يحدث أن تكون فكرة الوجود القائم، وفكرة الوجود المتغيِّر، كلتاهما معًا موضوعًا لاانتباهي في آنٍ واحد. فقد يكون الموضوع المثالي الذي أنتبه إليه مُركَّبًا من أفكار منوعة — أو حتى متضادة — تتَّحد كلها في لحظة من لحظات الانتباه؛ لأنَّها كلها أجزاء يتألَّف منها الموضوع الذي أنتبه إليه في هذه اللحظة، إذ يُمكِن أن يكون الجانب الموضوعي عندي في لحظة معينة هو فكرة الأوضاع القائمة مع فكرة تغيُّرها في آنٍ معًا. ومع أنَّ الفكرتين تُمثِّلان معًا الموضوع، لا الذات. إلَّا أنَّ فكرة الوجود — مع ذلك — تبدو موضوعية من مسافة أبعد، لو أنَّ فكرة التغيُّر كانت تتلاءم أفضل مع شخصيتي. ولو صحَّ ذلك فإنَّ الراحة التي أشعر بها مع فكرة التغيُّر ومعارضة هذه الفكرة للوجود القائم لن تكون وقائع سيكولوجية يمكن الفصل بينها، لكنهما سيكونان وجهين لا ينفصلان لواقعة واحدة بعينها، وحين أختار أحدهما أدخل — في الحال — في صراع مع الوجه الآخر.
ومعقولية النسق «أو النظام» الذي يسير عليه السلوك لا بد أن تدوم دوام قوانين المنطق، وإذا ما سار الفاعل وفقًا لنسق آخر غير النسق العقلي، فإنَّ هذا النسق الجديد لا بد أن يكون وجهًا مؤقتًا للذات، إذ يُمكن أن تستبدل بالنظام العقلي أي نظام آخر في اللحظة التي يُغيِّر فيها الفاعل وجهة نظره. وحين نقول إنَّ فعلًا من الأفعال، أو إنَّ النسق كله ليس إلَّا نسقًا مؤقتًا، فإنَّ ذلك يدل على أنَّ هذا النسق ليس هو الكل المتكامل المثالي الذي ينبغي أن تتَّفق معه الأفعال الإرادية، وقد لا يكون في وسع المرء أن يسلك باستمرار سلوكًا عقليًّا طوال حياته، ومع ذلك يظلُّ الاتِّساق العقلي هو المقياس. وكلَّما اقترب هذا السلوك من هذا المقياس ارتفع من وجهة النظر الأخلاقية؛ لأنَّ الفاعل حين يسلك سلوكًا عقليًّا يُعبِّر عن طبيعته الحقيقية، لأنَّ احترام المرء لطبيعته هو السبب أو المبرر، وإذا كان من المشروع أن نسأل: لماذا ينبغي علينا أن نطيع الله أو الدولة، فإنَّه لا معنى لسؤالنا عن السبب الذي من أجله يجب أن نُحقِّق طبيعتنا.
(١٦) على الرغم — إذن — من تعدد الأنظمة المختلفة للحياة، فإنَّ هناك نظامًا مثاليًّا يُمكن أن يتحقَّق عن طريق الذات المثالية «وهي الذات العاقلة»، فالأخلاق تعني السلوك تحت سيطرة العقل، والفاعل بهذا السلوك يُحقِّق ذاته الحق. وليس معنى ذلك أنَّ كل فعل إرادي لا بدَّ أن يكون فعلًا أخلاقيًّا؛ لأنَّ الفعل الإرادي ليس إلَّا تحققًا لذات الفاعل فحسب. لكن هناك بالطبع فارقًا كبيرًا بين الفاعل الذي يُحقِّق ذاته فقط، وبين الفاعل الذي يُحقِّق ذاته المثالية. والمقصود بالذات التالية هنا هو الذات العاملة، فكلَّما سار المرء في أفعاله وفقًا للعقل، سما من الناحية الأخلاقية. لكن المرء يستطيع أن يسلك سلوكًا إراديًّا، حتى ولو كان هذا السلوك منافيًا لمطالب العقل «وبالتالي منافيًا لمبادئ الأخلاق»، وهو في هذه الحالة إنَّما يُعبِّر عن نفسه لحظة حدوث الفعل، لكنَّه لا يُعبِّر عن ذاته العليا. والتغير الذي يُحدِثه سلوك ذلك الشخص قد يكون تغيرًا إلى أسوأ لا إلى أحسن، ولكنَّه يظل — مع ذلك — فعلًا من أفعال الإرادة.
ويُمكن أن نُوضِّح ما يَعنيه «روس» بقولنا: إنَّ الجيش القوي يظلُّ قويًّا، صادفته مقاومة أم لم تُصادفه؛ فالمقاومة — إن وُجِدت — لا تخدم إلَّا في إظهار مدى قوته، لكنَّا إذا تساءلنا هل يستحقُّ الجيش الثناء سواء برهن على قوته في لهيب المعركة أم لا؟ فأنا أميل إلى رأي مخالف، إذ يَصعُب عليَّ جدًّا أن أفهم كيف يُمكن أن تظلَّ القيمة الأخلاقية باقية كما هي سواء كانت المقاومة ضعيفة أم قوية. وإذا سلَّمنا بأنَّ السلوك الخيِّر يظل خيرًا، فهل تظل القيمة الأخلاقية التي تُعزى إلى هذا السلوك في الظروف المختلفة هي هي؟ هل نُبدي نفس الإعجاب للرجل الفاضل الذي يعيش وسط إغراءات الغواية، ولكنَّه مع ذلك يسلك سلوكًا فاضلًا، والرجل الذي يسلك سلوكًا فاضلًا دون أن تكون حوله غواية ولا إغراء يشدانه إلى الاتجاه الخاطئ؟
في اعتقادي أنَّه كلما أصبح الفعل الأخلاقي سهلًا عن طريق العادة، ظلَّت سلامته الأخلاقية تامة غير منقوصة، لكن قيمته الأخلاقية تَتناقص بالتدريج مع تناقص الجهد المطلوب، أعني في الحالات التي نحكم فيها على هذا الفعل بأنَّه أصبح سلوكًا معتادًا. لكن لماذا ينبغي علينا أن نفعل ذلك؟ لأنَّنا نعتبر سلوكًا خيِّرًا بناءً على الجهد الأخلاقي الذي يُبذل في هذا السلوك قبل أن يتحوَّل إلى عادة سهلة ميسورة، فإذا ما تكرَّر نفس هذا السلوك الخيِّر في نفس الظروف، فليس ثمة ما يدعونا إلى أن نعكس حكمنا الأخلاقي.
ومن هنا كان الفعل الأخلاقي — فيما أعتقِد — أشبه ما يكون بالإنتاج الفني، أعني أنَّه لون من الخُلق الحقيقي الأصيل، يُعزى في هذه الحالة إلى الأفعال الأولى في السلسلة، بينما لا تكون الأفعال التالية سوى «تقليد» أو محاكاة. وإنَّه لمن الخطأ أن نعزو خصائص واحدة لجميع أفعال الفرد المتشابهة، على اعتبار أنَّها جميعًا لها بالضرورة هوية واحدة، في حين أنَّها في الواقع لا تتشابه إلَّا من حيث نتائجها فحسب، أمَّا النشاط الذي يُبذل فيها فهو مختلف أتمَّ الاختلاف، صحيح أنَّ الأفعال التالية لها نفس شكل الفعل الأول، لكنَّها تنقصها الماهية التي تجعلها فعلًا أخلاقيًّا حقيقيًّا، أعني ينقصها؛ ذلك الجهد الذي يُبقي المثل الأعلى في الانتباه ويطرد الرغبة. ومقارنة الرجل الفاضل الذي تقلُّ خيرية سلوكه شيئًا فشيئًا كلما أصبح هذا السلوك سلوكًا معتادًا — لا تُصبح بعد ذلك مفارقة. ولقد ظهرت هذه المفارقة أمام «روس»؛ لأنَّه عالج جميع الأفعال في سلسلة الفِعل الذي يتكرَّر معالجة واحدة، في حين أنَّنا ينبغي أن نَنظُر إلى كل فعل كشيء عيني يُدرَس ويُحكم عليه بذاته. وخيرية الرجل الفاضل لا تقل ولا تنقص إذا حكمنا عليه بأنَّه خَيِّر وفاضل بناءً على أفعاله الأولى، أعني تلك الأفعال التي كان فيها جهد وصراع.
(١٨) إذا نظرنا إلى الإرادة على أنَّها تحقق لفكرة الوجود المتغير — داخليًّا أو خارجيًّا — وهي الفكرة التي يُحقِّق الفاعل من خلالها ذاته المثالية، يُعبر بالتالي عن هذه الذات — أقول إنَّنا إذا نظرنا إلى الإرادة على هذا النحو لاتَّضح لنا — في الحال — الفرق بين الإرادة والفِكر. ففي الإرادة لا بد أن تخرج الفكرة من حدودها العقلية، بحيث تتحقَّق في الوجود، بينما نجد أنَّ الفكرة من حدودها العقلية بحيث تتحقَّق في الوجود، بينما نجد أنَّ الفكر، على الرغم من أنَّه يُطوِّر نفسه في سلسلة، فإنَّه مع ذلك قد لا يتحقَّق. ومن ناحية أخرى نجد أنَّ الفِكرة في حالة الإرادة لا بدَّ أن تحتوي على توقع للنتيجة، بينما نجد في حالة الفكر أنَّ النتيجة ليست مُتوقَّعة، وإذا أردنا أن نضرب مثلًا على ذلك، فلنأخذ «جمهورية أفلاطون»، لنجد أنَّها فكرة وليست إرادة. صحيح أنَّ الفكرة فيها تتطوَّر، لكنَّها لا تتحقَّق، وحتى لو أنَّها تحقَّقت عن طريق شخص ما، أو عن طريق «أفلاطون» نفسه، لما كانت إرادة أيضًا؛ لأنَّها لا تكون إرادة إلَّا إذا تحقَّقت الفكرة وجاء تحقُّقها هذا من داخل مضمونها نفسه، بحيث تُحقِّق وجودها الخاص.
وفضلًا عن ذلك فإنَّ الفكرة المُنتبَه إليها في حالة الإرادة، لا بد أن تكون فكرة تغير ينصب على الوجود، بينما الفكرة في حالة التفكير قد تكون انعكاسًا للوجود، كما هو بالفعل، أو كما ينبغي أن يكون. و«الحقيقة» هي الفهم العقلي لنظام الكون، بينما الفضيلة هي وضع الكون في نظام عقلي، والإرادة — بهذا المعنى — تعتمد على الفكر، فالفكر يكون المثَل الأعلى، والإرادة تُحقِّقه … فلا يُمكن أن يكون ثمة فعل من أفعال الإرادة بغير فكرة تسبقه؛ والأفكار بالطبع لها طبيعة الفكر. والنظرية التي تقول إنَّ المعرفة والإرادة شيء واحد، لا يُمكن أن تُفْهَم إلَّا مع بعض التحفظات؛ فأولًا: الإرادة تتضمَّن المعرفة، لكن المعرفة لا تتضمَّن الإرادة، بالمعنى الذي شرحْنا فيه كلمة الإرادة في هذا الفصل. صحيح أنَّ المعرفة تتضمَّن إثباتات، وكل إثبات فعل، لكن ليس كل فعل مثلًا للإرادة. لقد قلنا إنَّ الفعل هو الأساس في كل واقعة سيكولوجية، لأنَّ الانتباه صورة من صور الفعل، لكن الفعل لا يُصبِح فعلًا إراديًّا إلَّا إذا اتَّسم الموقف بالخصائص التي سبق أن ذكرناها. وأي موقف يُمكن معرفته معرفة جيدة إذا ما وجد الفِكر لا الإرادة. والعبقرية العقلية لا تتناقض مع انحطاط الحياة الأخلاقية، لكن العكس غير صحيح، أعني أنَّ الامتياز الأخلاقي العظيم يتضمَّن بالضرورة بصيرة عقلية عُليا. وكثيرًا ما يُقال — في معرض الاعتراض على ذلك — إنَّ القديس قد لا يكون ممتازًا من الناحية العقلية، فهو لا يَحتاج إلى عبقرية عالم الرياضة أو الفيلسوف، لكن ذلك لا يُبرهِن إلَّا على أنَّ الامتياز العمَلي في مجال معين، لا يتضمَّن بالضرورة القدرة العقلية اللازمة لمجال آخر. ولسنا نزعم أنَّ الخير العملي، أو السمو الخلقي، يتضمَّن القدرة الرياضية، وإنما نقول فحسب إنَّ الفضيلة تتضمَّن، في كل حالة من الحالات، درجة معينة من البصيرة لها طابع المعرفة، على الرغم من أنَّها؛ لا هي نظرية، ولا هي عِلمية، وما لم تكن الفضيلة محصلة هذه البصيرة، فسوف تكون أمرًا من أمور المصادفة والاتِّفاق، وسوف يكون من الممكن أن يرتكب الفاعل الشر بدلًا من أن يفعل الخير، دون أدنى فارق في موقفه الأخلاقي.
وهناك ثانيًا: قصور آخر في النظرية العقلية للإرادة؛ هو أنَّه حتى إذا كان الارتباط ضروريًّا بين المعرفة والإرادة، فإنَّ ذلك لا يعني أنَّهما متَّحدان في هوية واحدة: فالنزوع ليس هو المعرفة، على الرغم من أنَّهما قد يرتبطان برباط لا يتغيَّر، والعلاقة بين المعرفة والإرادة هي علاقة التواجُد معًا، لكنَّها ليست علاقة الهوية.
ومن ناحية أخرى، فإنَّني حين أُصدر حكمًا على قضية من القضايا، أظل محايدًا لكل من البديلين، ولأنَّ أحدهما لا يُعبِّر عن شخصيتي الفردية أكثر من الآخر، فالحقيقة هي وحدها التي تفرض نفسها عليَّ في هذه الحالة، بحيث لا يكون لي دخل حقيقي في الموضوع. قل لي ما هي الأفعال الإرادية التي حقَّقتها طوال حياتك، وأنا أستطيع — يقينًا — أن أقول لك أي نمط من الناس أنت. لكنَّك لو ذكرت لي ما أصدرته من أحكام طوال حياتك لكان من الصعب عليَّ أن أغوص في شخصيتك لكي أكشف عن الجوانب الخبيئة منها. ومن هنا فإنَّ حياة القديس تكشف عن الفرد أكثر مما تكشف عنه نظريات عالم الرياضة. ففي استطاعتك أن تعرف من خلال دراستك لنسق رياضي إلى أي حدٍّ أصاب عالم الرياضة أو أخطأ في هذا النسق، لكنَّك لن تستطيع أبدًا أن تعرف هل كان خيرًا أم شرًّا.
الإرادة هي إذن الانتباه إلى فكرة التغير حتى يظهر التغير المطلوب فعلًا إلى الوجود بنشاط الفاعل المنتبِه إلى الفكرة، وبشرط أن يشعر الفاعل أنَّ ذاته قد تحقَّقت في هذا الفعل: لكن ما الذي يجعل الفرد ينتبه إلى هذه الفكرة؟ لقد بيَّنا في الفصل السابق أنَّ الفاعل السيكوفيزيقي يكون نشطًا إيجابيًّا في حالة الانتباه، وهو حين يأخذ بهذه الفكرة أو تلك، إنَّما ينتقي ويختار، وهذا الاختيار تُحدِّده طبيعته الخاصة. والتمسْنا في الخبرة تأييدًا لهذه النظرية، وسوف نُقدِّم في الفصول الثلاثة القادمة مزيدًا من الدعم والتأييد، ونحاول أن نُبيِّن أنَّ النظرية المعارضة — وأعني بها المذهب الجبري — لا تقوم على أساس متين.