الفصل الخامس
المذهب الجبري: السببيَّة
(١) رأي الفيلسوف الجبري في فكرة السببية (٢-١٠) حجج الفيلسوف
الجبري:
(٢) قوانين الطبيعة لا تلين، والسلوك البشري — في الغالب — يُماثل
الطبيعة.
(٣) لو كان هناك لون من اللاحتمية فهو يرجع إلى الجهل.
(٤) الأفعال الإرادية كما نراها عند الآخرين يُمكن تفسيرها.
(٥) التاريخ ليس حركة عشوائية.
(٦) نحن نفترض في حياتنا اليومية اطراد السلوك البشري.
(٧) البناء الاجتماعي يفترض مقدمًا درجة من الاطراد: «الشخصيات» في
الحياة وفي النقد الأدبي يُفترض فيها باستمرار الاطِّراد أو الانتظام
قليلًا أو كثيرًا.
(٨) إذا كنتُ أشعر بقدرتي على أن أفعل كما أرغب، فهل أرغب كما
أرغب؟
(٩) إنَّنا لا نرغب في الشيء لأنَّه يسرنا، لكنَّه يسرنا لأنَّنا
نرغب فيه.
(١٠) حجة مستمدة من المسئولية الأخلاقية، ويُقال إنَّها في صالح
المذهب الجبري.
(١١) حجج الفيلسوف الجبري تتلخَّص في أربع نقاط:
(أ) السببية تسود الطبيعة وتتحكَّم فيها.
(ب) الأحداث الذهنية لا تتدخَّل في السلسلة السببية.
(ﺟ) السلوك البشري مطرد.
(د) حجة مستمدة من المسئولية الخلقية.
(١٢، ١٣) مناقشة «أ» لمبدأ السببية.
(١٤) مبدأ السببية ليس إلَّا مُسلَّمة.
(١٥) العلماء يرغبون في التخلُّص منه.
(١٦) التتابع المنظم الذي نلاحظه تجريبيًّا يحل محل السببية.
(١٧) تقديم مثل للإرادة لكي نرى ما إذا كان يُمكن أن تنطبق عليه فكرة
التتابع أو فكرة «العلاقات ذاتها».
(١٨) التتابع ليس واضحًا ولا مفهومًا في حالة الإرادة.
(١٩) لا بد لنا من التعرُّف على الترابط الغائي — تقسيم «كانط»
للسببية إلى سببية ظاهرة وسببية نيومائية.
(٢٠) مناقشة لإمكان تطبيق المعادلات الدالية على الموجودات البشرية.
مثل هذه المعادلات لا تعمل إلَّا إذا أمكن رد جميع الحوادث في حياة
الإنسان إلى كميات أو إذا ارتبطت هذه الحوادث بكميات.
(٢١) أربعة أنواع من المقدار؛ المقدار التعدادي والمقدار الامتدادي
يدرسان كميات، أما المقدار الاختلافي، والمقدار الكثافي، فيدرسان
الكيفيات. الكيفيات التي يُمكن قياسها في المقدار الاختلافي يمكن أن
ترتبط بكميات، لكن المقادير الكثافية لا يُمكن أن ترتبط ارتباطًا ذا
معنى بالأعداد أو الأرقام. وبالتالي فهي لا يُمكِن أن تكون مكونات
لمعادلة.
(٢٢) مناقشة المشكلة من حيث ارتباطها بالإحساسات.
(٢٣) مناقشة المشكلة من حيث ارتباطها بالوجدانات.
(٢٤) مناقشة المشكلة من حيث ارتباطها بالانتباه النشط.
(٢٥) النتيجة هي أنَّ المعادلة الدالية كالمعادلة الآتية:
م ل = د «م١،
ل١، م٢ …
م، ل ن، ل» لا يمكن أن تنطبق على الموجودات البشرية.
(٢٦) مناقشة «ب» القول بأنَّ الحوادث الذهنية لا تتدخَّل في السلسلة
السببية.
(٢٧) مناقشة «ج» القول بأنَّ السلوك البشري مطَّرد. الفعل الإرادي
فعل فريد في نوعه unique.
(٢٨) الشخصية لا يُمكن أبدًا تحديدها تحديدًا مطلقًا. وتحديدها
النِّسبي هو — على أيَّة حال — من صُنع الفاعل.
(٢٩) مناقشة «د» القول بأنَّ الحرية — لا الجبرية — هي التي تتناقض
مع المسئولية الخلقية.
(٣٠) الأخلاق ليست علاقة اجتماعية فحسب — الفرد الحي بمعزل عن
المجتمع مسئول أمام نفسه.
(٣١) الواجب يعمل من أجل ذاته.
(٣٢) رأي الفيلسوف الجبري في كلمتي «ينبغي» و«يستطيع».
(١) وصلنا الآن إلى الزعم الثاني للفيلسوف الجبري، وهو القول بسيادة
مبدأ السببية في الطبيعة. والواقع أنَّ المذهب الجبري يأخذ القول بأنَّ
الشيء لا يُمكن أن يبدأ في الوجود إلَّا لسبب أحدثه — على أنَّه بديهية
مُسلَّم بها. ولقد أخذ لابلاس
Laplace
بمثل هذا الموقف وانتهى إلى القول: «بأنَّنا ينبغي علينا أن ننظر إلى
حالة الكون الحاضرة على أنَّها نتيجة لحالة متقدمة سبقتها، وعلى أنَّها
سبب لحالة قادمة ستتلوها. ولو أنَّه أتيح لعقل ما في لحظة من اللحظات
أن يتعرَّف على سائر القوى المنتشرة في الطبيعة، وموقف كل موجود من
الموجودات التي تتركَّب منها، وإذا كان هذا الفعل فضلًا عن ذلك من
السعة، بحيث يستطيع أن يُخضع هذه الوقائع للتحليل، فإنَّه لا بد أن
يكون قادرًا على التعبير في صيغة واحدة عن حركات أضخم الأجسام في
الكون، وأضأل ذرة فيه. وعندئذٍ لن يكون ثمة شيء مجهول لديه، بل سيكون
المستقبل — كالماضي سواء بسواء — حاضرًا أمام عينيه.»
١
يقول «جیفونز
Jevons» مدعمًا هذه
الوجهة من النظر: «إنَّنا يُمكن أن نقبل بأمان تام — كافتراض عِلمي
مُقنع — النظرية التي قدَّمها لابلاس ببراعة، والتي تقول إنَّ المعرفة
الكاملة للكون — كما هو موجود في أيَّة لحظة معيَّنة — لا بد أن
تُعطينا معرفة كاملة عمَّا سوف يحدث من الآن فصاعدًا، وإلى الأبد. إنَّ
الاستدلال العِلمي يُعد مستحيلًا ما لم ننظر إلى الحاضر على أنَّه
حصيلة الماضي، وسبب لما سيأتي. فليس ثمة شيء مجهول لدى العقل الكامل.»
٢
ودعاة هذه النظرية قد يعتدلون في بعض الأحيان فيقنعون بأن يقصروا
مجال نظريتهم على العالم المادي فحسب، لكنَّهم في أحيان أخرى يبلغ بهم
الحماس حدًّا لا يجعلهم يقنعون بحصر أنفسهم في جانب واحد من جوانب
الكون، يقول «هكسلي»: «إنَّ مَنْ له أدنى دراية بتاريخ العلم سوف
يُسلِّم بأنَّ تقدم العلم في جميع العصور، كان يعني — وهو الآن يعني
أكثر من أي وقت مضى — توسيع نطاق ما نُسمِّيه بالمادة والسببية
Causation وما صاحبهما من استبعاد
تدريجي لما نُسمِّيه بالروح والتلقائية من جميع مجالات الفِكر البشري …
وكما أنَّ من المؤكد أنَّ كل مستقبل يخرج من جوف الحاضر والماضي، فكذلك
سوف يمد الفسيولوجيا في المستقبل نطاق المادة والقانون تدريجيًّا حتى
يُصبح متساويًا في الامتداد مع المعرفة والوجدان والفعل.»
٣ ويقول المؤلف نفسه أيضًا: «إنَّنا … لسنا سوى حلقات في
سلسلة عظيمة من الأسباب والنتائج تؤلِّف — في اتصال لا ينقطع — ما هو
كائن، وما قد كان، وما سيكون — أعني جملة الوجود ومجموعه.»
٤
وليس معنى ذلك أنَّ الجبريين لا يُنكرون بالضرورة وجود الذهن ولا
يعترفون بشيء خلاف المادة، فهم في حقيقة الأمر قد يقرون وجود الذهن
وجودًا حقيقيًّا، لكنَّهم في هذه الحالة يُصرُّون على القول بأنَّ
الحالات النفسية لا بدَّ أن تكون دائمًا، وبصفة شاملة محتومة وفق
الحالات العصبية، لا بل محتومة بتلك الحالات العصبية، والعكس هنا غير
صحيح؛ إذ تستحيل في أيَّة حالة من الحالات أن تكون الحالة النفسية هي
الحاتمة، والحالة العصبية هي المحتومة لها.
«قد يفترض … أنَّ التغيرات الدقيقة جدًّا في المخ هي سبب جميع حالات
الشعور عند الحيوان، فهل هناك أدنى دليل على أنَّ حالات الشعور هذه
يُمكن على العكس أن تُسبِّب التغيرات الدقيقة جدًّا التي تؤدي إلى
الحركة العضلية؟ إنَّني لا أرى مثل هذا الدليل، ومن المؤكَّد تمامًا
أنَّ الحجة التي تنطبق — على قدر حكمي — على الحيوان، يُصبح انطباقها
كذلك على الناس. ومن ثمَّ فإنَّ جميع حالات الشعور عندنا — كما هي عند
الحيوان — قد سبَّبتها مباشرة التغيرات الدقيقة جدًّا في المخ … ويبدو
لي أنَّه لا يوجد برهان عند الإنسان — ولا عند الحيوان — على أنَّ
الحيوان — على أنَّ أية حالة من حالات الشعور هي سبب التغير في حركة
مادة الكائن الحي.»
٥
وبالتالي فإنَّ أيَّة حالة معينة في المخ — تبعًا لافتراض «مذهب
الظاهرة المصاحبة» هذا — يقابلها باستمرار كمصاحب لها، حالة معينة من
حالات الذهن. ويُمكن أن نُلخِّص النقاط الأساسية في هذه النظرية في
ثلاثة: هناك أولًا سلسلة من التغيرات الفيزيائية أو عمليات المخ. ثم
هناك ثانيًا سلسلة مصاحبة لها من التغيرات أو العمَليات النفسية، تحدث
معها في آنٍ واحد، وهنالك بعد ذلك العلاقة بين السلسلتين، وهي علاقة
يزعم لها أنَّها علاقة المصاحبة في الحدوث، مع انفراد كل من الفعلين
بخط مُستقِل في مساره «علينا أن نتأمَّل موسيقارًا غير مرئي، يعزف قطعة
موسيقية من وراء الستار «أو خلف الكواليس»، بينما الممثل يلمس أصابع
البيانو دون أن يُحْدِث صوتًا: إنَّنا ينبغي علينا أن نفترض أنَّ
الشعور إنَّما يأتي من منطقة مجهولة، وإنَّه يفرض على تذبذبات الجزئيات
تمامًا كما يفرض اللحن على حركات الممثل الإيقاعية.»
٦
وعلى ذلك فلو صحَّ وكانت كل حالة معينة من حالات المخ يُقابلها حالة
معينة من حالات الذهن، فإنَّه من الصحيح أيضًا أنَّ كل حالة معينة من
حالات مخ معين يقابلها حالة معينة للكون المادي كله. ومن هنا فإنَّ
العوامل المُتحكِّمة بالمثل في المخ، بوصفه جزءًا من الكون يتبع ذلك أن
تتحكَّم فيما يُسمَّى بالحالات الذهنية التي هي مصاحبات ضرورية لحالات
المخ.
«إنَّه لمن الصحيح — كما لاحظ مستر رسل
Russell — أنَّ التقابل بين الذهن والمخ قد لا يكون
علاقة واحد بواحد، لكنَّه قد يكون علاقة كثير بواحد، أو واحد بكثير،
إلَّا أنَّ الكون لا بد أن يظل في هذه الحالة حتميًّا «رغم أنَّ
محتماته قد تكون أكثر تعقيدًا من ذلك» بشرط أن يكون نطاق التقابل في
الجانب المتعدد حتميًّا.»
٧
وأنا هنا معنيٌّ أساسًا بالسلوك البشري بصفة عامة، والإرادة البشرية
على وجه الخصوص، وقد لا يُستثنى السلوك البشري — في بعض الأحيان — من
التحديد السببي. يقول هكسلي: «إنَّني أعتقد أنَّه يُمكن البرهنة على
استحالة إثبات التلقائية الحقيقية لأي فعل، ذلك لأنَّ الفعل التلقائي
في الحقيقة هو فعل — حسب الافتراض نفسه — ليس له سبب. ومحاولة البرهنة
على مثل هذا الجانب السلبي في مواجهة المادة هي محاولة عابثة ممتنعة
Absurd»
٨ ويؤكد لنا هكسلي أنَّ أفعالنا الإرادية محددة تحديدًا
سببيًّا في أي شيء آخر، وإنَّ «الإرادات» تصاحب ببساطة سلسلة الأسباب،
لكنَّها لا تتدخَّل فيها على الإطلاق.
(٢) ويدعم الجبريون وجهة نظرهم بأدلة تجريبية لا بد أن نُسلِّم أنَّ
بعضها لا يُمكن رفضه بسهولة، وما يُعطي لحُجَجِهم وزنًا هو أنَّك تجد
من بينهم مفكرين ممتازين وعلماء لامعين. والحتمية الصارمة هي دائمًا
عندهم فوق كل مظنة للشك، خصوصًا فيما يتعلَّق بالطبيعة، وهم غالبًا ما
يعقدون مماثلة بين السلوك البشري والطبيعة.
(٣) وإذا كان يبدو في بعض الأحيان أنَّ هناك لونًا من اللاحتمية
بالنسبة لحوادث معينه تقع للأذهان البشرية، لا سيما في بعض قراراتها
الإرادية، فليس ذلك في رأيهم إلَّا مظهرًا من مظاهر جهلنا بالعوامل
الدقيقة المُتحكِّمة في هذه القرارات، لكنَّه لا یعني قط انعدام هذه
العوامل، وهناك مبرر قوي للاعتقاد بأنَّه ليست كل الحوادث الذِّهنية
يُمكن أن تخضع للاستبطان أو التأمُّل الباطني، وبالتالي فلو كانت بعض
هذه الحوادث الذهنية هي السبب — كليًّا أو جزئيًّا — لظاهرة ذهنية
معيَّنة، فإنَّ هذه الحوادث لا بدَّ أن تكون مجهولة لنا، كما أنَّه لا
يُمكن اكتشافها عن طريق الاستبطان.
وغالبا ما يُقال إنَّ بواعثنا هي التي تتحكَّم في اختياراتنا، وعلى
ذلك فلو أنَّك عرفت البواعث الموجودة في اختيار أحد الناس و«القوة»
النسبية لكل باعث من البواعث، فإنَّ الفيلسوف الجبري يعتقد أنَّ اختيار
الإنسان يُرد إلى مسألة رياضية بحتة، هي حل معادلة أو مجموعة من
المعادلات، فهو لا يعني سوى نقص عارض، يرجع إلى الرحلة الراهنة التي
وصلت إليها معرفتنا حتى الآن.
(٤) والأفعال الإرادية التي نراها عند غيرنا من الناس يُمكن تفسيرها،
فنحن نميل عادة إلى البحث عن هذا السبب أو ذاك لتفسير سلوك الآخرين.
ونحن نعتقد في إمكان التنبؤ بنوع الفعل، فإذا فشلنا فإنَّنا نعزو مثل
هذا الفشل إلى التحليل الناقص، لا إلى القول بأنَّ السلوك البشري لا
علاقة له بالتحديد السببي. وحتى أفعالنا الإرادية التي نشعر لحظة
إنجازها بأنَّنا أحرار في تحديدها، تبدو لنا — إذا فحصناها فحصًا
تراجعيًّا — حلقات ضرورية في سلسلة منطقية من الحوادث.
(٥) لا يعتقد أحد على الإطلاق — في تفسير عملية التاريخ، أو في
محاولة تنسيق فئة معينة من الظواهر الاجتماعية — أنَّ الظواهر
الاجتماعية عبارة عن «عماء مطلق» “Absolute
Chaos” إنَّنا قد نُفسِّر هذه الظواهر عن طريق
نظرية خاطئة، فقد نعتقد — مثلًا — أنَّ الجنس البشري محكوم — آليًّا —
بالظروف الاقتصادية، أو محكوم — غائيًّا — ببلوغ مثل أعلى. وقد نكتشف
غلطة في النظرية التي نأخذ بها، لكنَّنا نعلم علم اليقين في هذه الحالة
أنَّ علينا أن نبحث عن نظرية أخرى لكي نُفسِّر بها الوقائع، وبهذا
ترانا نستبعد تمامًا احتمال أن تكون مثل هذه الظواهر غير قابلة
للتفسير، أو أنَّها لا تخضع لنسق منتظم.
(٦) ونحن نفترض اطراد السلوك البشري في حياتنا اليومية: «وهكذا ترانا
نعتمد على الآثار الرادعة للعقوبة، أو الأثر المقنع للإعلان … إلخ … من
ناحية أخرى فنحن على قدر معرفتنا الحقيقية بأعدائنا نظن في أنفسنا
القدرة على مواجهة سلوكهم في المواقف التي لم تظهر بعد.»
٩
ويقول بيلي
Bailey بحماس موجهًا
حديثه إلى أولئك الذين يشكُّون في اطِّراد السلوك البشري: «إنَّه لمن
الغريب حقًّا أنَّ الصلة بين البواعث والأفعال لم يُناقشها أحد قط من
الناحية النظرية، في حين أنَّ كل موجود بشري يَعتمِد في كل يوم من أيام
وجوده — عمليًّا — على هذه الحقيقة. في حين أنَّ الناس يجازفون على
الدوام باللذة أو الثروة أو السمعة أو الصيت، أو حتى بحياتهم نفسها من
أجل المبدأ الذي يرفضونه من الناحية النظرية … وهو يعتمد على المبدأ
الذي يرفضونه من الناحية النظرية … إنَّ الاقتصاد السياسي هو إلى حدٍّ
كبير بحث في عمل البواعث، وهو يعتمد على المبدأ القائل بأنَّ الإرادات
البشرية تخضع لتأثير أسباب محددة دقيقة يُمكن التحقُّق منها.»
١٠
(٧) والواقع أنَّ أساس البناء الاجتماعي نفسه يفترض مقدمًا على الأقل
درجة من اطراد السلوك البشري، وإمكان محاسبة الناس عليه: منذ أن عاش
الناس في مجتمع وهم يعتادون التنبؤ بسلوك بعضهم البعض، معتمدين في ذلك
على الماضي. والطابع أو الخلق الذي يثبت لفرد من الناس، بحيث يشمل
حياته الناضجة بأسرها، لا يُمكن أن تقوم له قائمة، اللهم إلَّا على
أساس مبدأ الاطراد. فنحن حين نتحدَّث عن أرسيتديز
Aristides١١ ونقول عنه إنَّه عادل، وعن سقراط ونقول عنه إنَّه بطل
أخلاقي، وعن نيرون
Nero١٢ ونقول عنه إنَّه كان وحشًا كاسرًا في قسوته، وعن
قيصر نيقولا
Czar Nicolas … ونقول
عنه إنَّه كانت لديه شهوة للاستيلاء على مزيد من الأرض
grasping of territory فإنَّنا في
هذه الحالة نعتقد أنَّه من المُسلَّم به أنَّ هناك بواعث معينة تعمل
بشكل دائم وبانتظام، وتلك هي الحال نفسها حين نعزو صفات معينة إلى
أجسام مادية، فنقول: إنَّ الخبز مادة غذائية، وإنَّ الدخان يصعد إلى أعلى
١٣ … ونحن في ميدان النقد الأدبي لا نفترض مطلقًا أنَّ الكاتب
حر تمامًا في تحريك شخصياته كيفما يشاء، لكنَّه مُضطر أن يجعل شخصياته
تسلك في المواقف المختلفة بتلك الطريقة التي تلائم نماذج متعدِّدة بحيث
تكون لها طبيعة حقيقية. ولأنَّنا نُسلِّم بأنَّ الناس في حياتهم
العملية يظهرون في سلوكهم درجة معينة من الانتظام. ولو أنَّ كاتبًا سمح
لشخصية من شخصياته أن تتحرَّك بحرية لا اكتراث فيها، لاعتبرنا ذلك في
الحال علامة على النقص؛ لأنَّ الشخصية التي لا شكل لها ليست شخصية على
الإطلاق.
(٨) صحيح أنَّني حين أُقرِّر السير في خط معين من السلوك، أشعر أنَّ
في استطاعتي أن أعمل بطريقة مخالفة لو حلَا لي ذلك.
لكن هذه الجملة الشرطية المبدوءة بكلمة «لو» هي التي تُغيِّر الموقف
تغييرًا كاملًا، فهل «يحلو» لي ما يحلو، وفق مشيئتي وحدها، أم أنَّني
مُجبر على أن تحلو لي الأشياء على نحو مُحدَّد من السلوك؟
«ليس … واقعة أصيلة من وقائع الخبرة أنَّني أشعر أنَّ في استطاعتي
خرق جميع العادات التي سرت عليها في حياتي، وأن أرتكب جميع ألوان
الجرائم، وأنَّ في استطاعتي أن أكره وأُهمل تمامًا الاهتمامات التي
ينبغي عليَّ أن أُكرِّس نفسي لها. أستطيع أن أفعل ذلك كله لو شئت
If I please، لكن قبل استطاعتي أن
أشأ
please، فإنَّني ينبغي عليَّ أن
أُصبح إنسانًا آخر؛ إذ من الخلف الواضح أن أقول — وأنا على نحو ما أنا
عليه الآن — إنَّ في استطاعتي أن أُعبِّر في سلوكي عن الأغراض التي
تكوِّن فرديتي أو أن أُعبِّر عن أضدادها على حد سواء.»
١٤ والواقع «أنَّنا حين نتأمَّل أنفسنا مفترضين أنَّنا قد
سلكنا على نحو آخر غير السلوك الذي سِرنا عليه، فإنَّنا نفترض دائمًا
اختلاف المقدمات. فنتصوَّر مثلًا أنَّنا عرفنا شيئًا لم نكن نعرفه، أو
أنَّنا لا نعرف شيئًا كنا نعرفه.»
١٥
(٩) إنَّنا لا نرغب في الشيء لأنَّه يسرنا. بل على العكس، إنَّه
يسرنا لأنَّنا نرغب فيه، والرغبات تتحكَّم فيها عوامل معينة، والناس
يعتقدون عادة أن أفعالهم الإرادية حرة لأنَّهم يشعرون برغباتهم، لكنهم
لا يشعرون بجميع العوامل التي تتحكَّم في هذه الرغبات: «تخيَّل — إنِ
استطعت — أنَّ حجرًا في حركته المتصلة كان يعي — في حدود قدرته —
بمحاولته البقاء في حالة الحركة. إنَّ هذا الحجر طالما أنَّه يشعر
بحركته الخاصة، ويهتمُّ بها اهتمامًا عميقًا سوف يعتقد أنَّه حرٌّ حرية
كاملة، وسوف يواصل حركته لا لشيء إلَّا لأنَّه يُريد ذلك. وتلك هي
الحال نفسها مع حرية الإرادة البشرية التي يُباهي كل فرد بامتلاكها،
والتي لا تتألَّف إلَّا مِمَّا يأتي: إنَّ الناس يشعرون برغباتهم
ويجهلون الأسباب التي تتحكَّم في هذه الرغبات.»
١٦
(١٠) وهناك جانب نقد آخر مُستمَد من الأخلاق، كثيرًا ما يوجَّه إلى
المذهب الجبري وهو: أنَّ إنكاره حرية الإرادة يجعل المسئولية الأخلاقية
بلا معنى، ويحرم فكرة الثواب والعقاب من كل مبرر منطقي. فإذا لم يكن لي
حيلة فيما فعلت فسوف يَتنافى مع العقل أن أكون مسئولًا عنه، ومن ثم فلن
يكون هناك مجال للوم أو ثناء.
إنَّني أدعوك يا من نكرا
بشباك الغيِّ منهاج الورى
عتبًا، تُغري بنا ما قدرَا
من شرور بقضاء حتمًا
ثم تعزو الإثم جورًا للأنام
١٧
لكن «لو ذهب دعاة الحرية إلى القول بأنَّ مشاعرنا وأحكامنا الخلقية
تتضمَّن تصوُّر الفاعل «الحر» طالما أنَّه من غير المعقول أن نستهجن
الأذى الإرادي بعد ذلك أكثر مِمَّا نستهجن الأذى اللاإرادي لو كان
الاثنان معًا على حد سواء آثارًا ناتجة عن قوى الطبيعة المعقدة، فإنَّ
الفيلسوف الجبري يرد بقوله: إنَّ المعقولية تعتمد على نتيجة الاستهجان
التي تميل — كما هو واضح — إلى منع لون معين من الفعل دون غيره، وهو
يرد الحجة قائلًا: كلَّا، إنَّ السخط لا يكون معقولًا إلَّا على افتراض
أنَّ أفعال الإنسان تحكمها البواعث التي من بينها الخوف من سخط الآخرين.»
١٨ إن فكرة الثواب والعقاب الأخلاقي لا يكون لها مُبرِّر
أخلاقي إلَّا إذا ساهمت في تعديل خُلق الفرد بتلك الطريقة التي تجعله
يستجيب بطريقة مناسبة للظروف المقبلة، لكن إذا كان خُلق الفرد لا يُمكن
تعديله بهذا الشكل، لو أنَّه كان كما يفترض دعاة الحرية لا يُمكن
مطلقًا حسابه أو التنبؤ به أو بعبارة أخرى: «لو كانت أفعال الإنسان
الإرادية لا تحكمها أساسًا الظروف التي يشملها نظام تكوينه الذهني،
فإنَّ أساس عقابه لن يكون في هذه الحالة إلَّا انفعال استياء أو
انتقام. لأنَّه لو كانت مسائل الصراع الأخلاقي تتحكَّم فيها — لا ظروف
طبيعتنا الخاصة — بل بعض البدايات الجديدة … فإنَّه من الواضح — في هذه
الحالة — أنَّنا لا نستحق لا لومًا ولا ثناءً، ولا عقابًا ولا ثوابًا،
ومن العبث أن نُحاول تعديل منشأة هذه الصراعات بأن نُعدِّل من طبيعتنا
عن طريق هذه المؤثرات.»
١٩ والحُجة المستمَدة من المسئولية الخلقية تبدو من ثمَّ حجة
في صف الفيلسوف الجبري.
(١١) حاولت في الصفحات السابقة أن أسوق ما اعتقدت أنَّه شرح سليم
لوجهة نظر الفيلسوف الجبري فيما يتعلَّق بالحجة التي تعتمد على سيادة
السببية.
وهذه الحجة يُمكِن تلخيصُها في أربع نقاط أساسية:
- (أ)
ينظر إلى مبدأ السببية على أنَّه القاعدة العامة السائدة
في الطبقة، وهو أحيانًا يشمل السلوك البشري.
- (ب)
الحوادث الذِّهنية كالإرادة — مثلًا — لا تتدخَّل في
السلسلة الآلية، فهي ليست إلَّا ملازمات تصاحب الحوادث
المادية.
- (جـ)
السلوك البشري مطَّرد، وهذه واقعة يُمكن
ملاحظتها.
- (د)
يُنظر إلى الحجة المستمَدة من المسئولية الخلقية على
أنَّها حجة في صالح المذهب الجبري.
فلنناقش الآن هذه النقاط الأربع في شيء من التفصيل:
(١٢) (أ) يُمكن تعريف مبدأ السببية بأنَّه الافتراض السابق القائل
بأنَّ هناك تطابقًا للقانون في جميع الظواهر الطبيعية بحيث يعني
«القانون» أي تعميم «دقيق أو ترجیحي».
٢٠ ومن الواضح أنَّ مثل هذا التعميم هو نتيجة لشهادة التجربة.
ومن هنا فإنَّ الانتظام والاطراد في الطبيعة ليس رابطة ضرورية: «ليس
ثمة ضرورة منطقية في قانون الطبيعة، فهو بذاته ليس يقينًا من الناحية
الحدسية، كلَّا، ولا هو يُمكن استنباطه من مقدمات منطقية يمكن هي نفسها
أن تكون يقينية حدسًا؛ فالشك في هذا القانون أو إنكاره لا يستلزم
الوقوع في التناقض.»
٢١ والواقع أنَّ مبدأ السببية ليس إلَّا مُسلَّمة، وهو
مُسلَّمة مقيدة وضرورية لتقدم العلم، لكنَّك لا تستطيع أن تصفه وصفًا
مشروعًا أكثر من ذلك. فنحن نُعبِّر عن معرفتنا بعالم الواقع في قضايا
عامة هي التي نُسمِّيها بالقوانين العِلِّية، وهي لا يُمكن أن تكون
ممكنة إلَّا على افتراض أنَّ الحوادث تقع في اطراد دقيق. لكن علينا أن
نضع في أذهاننا أنَّ مبدأ السببية — وإن كان قد برهن على أنَّه مُفيد
من الناحية المنهجية — فإنَّه لا يبرهن على أنَّه صحيح من الناحية
الانطولوجية. كلَّا، ولا ينبغي أن نزعم أنَّه كلَّما زاد تطبيقنا لمبدأ
السببية في النظريات التي تُقال حول الكون، اقتربت هذه النظريات من
الحقيقة. ونحن نذكر ذلك هنا لكي نلفت النظر إلى واقعة أنَّ أولئك الذين
يأخذون بالنظرية الآلية، يعتمدون في الغالب على إمكان التطبيق الدقيق
لمبدأ السببية على العالم المادي.
إنَّ السببية هي اسم يُطلَق على الاطراد الذي نُلاحظه في تسلسل
الأحداث وتتابعها، ولو أنَّنا فهمنا من هذا اللفظ شيئًا أعمق من ذلك،
فإنَّنا في هذه الحالة نستخدمه ليُعبِّر عن مثلنا الأعلى أكثر مِمَّا
نستخدمه كتسجيل للواقع. إنَّه سوف يكون «اسمًا فارغًا يُخفي فحسب
مطلبًا لنا هو أنَّ تسلسل الحوادث وتتابعها سوف يظهر يومًا ما نوعًا
أعمق من الارتباط بين شيء وشيء آخر أكثر من مجرد التجاور الاعتباطي
الذي تبدو عليه الظواهر الآن.»
٢٢
(١٣) والواقع أنَّ لفظ السببية أُسيء استخدامه بكثرة، حتى إنَّ
العلماء قد قاموا أخيرًا بمحاولة جادة لحذفه تمامًا من مصطلحاتهم. يقول
أحد هؤلاء العلماء: «إنِّي لآمل أن يستغني العلم في المستقبل عن فكرة
السبب والنتيجة؛ لأنَّها فكرة غامضة.»
٢٣ يقول رسل في نفس المعنى: «أود … أن أؤكد أنَّ كلمة «السبب»
قد ارتبطت بشكل معقد بارتباطات سيئة الفهم مما جعل حذفها التام من
مُصطلحات الفلسفة أمرًا مرغوبًا فيه.»
٢٤ ويقول الكاتب نفسه: «إنَّ ما جعل علم الطبيعة يُقلع عن
البحث وراء الأسباب هو أنَّه لا وجود لمثل هذه الأمور في الواقع.»
٢٥
(١٤) لكن ما القانون أو القوانين، التي يُمكن أن توجد لتحل محل قانون
السببية المزعوم؟ طرح «برتراند رسل» هذا السؤال وحاول أن يُجيب عليه.
٢٦ ويمكن أن نُلخِّص إجابته على النحو التالي:
إنَّنا قد نُسلِّم بأنَّه من المُرجَّح استقرائيًّا — إذا ما لاحظنا
تتابعًا في عدد كبير جدًّا من الحالات دون أن نفشل مرة واحدة في ملاحظة
هذا التتابع — أن يتكرَّر هذا التتابع نفسه في حالات مُقبلة. وقد نقول
عندئذ — في مثل هذا التتابع الذي نُلاحظه بكثرة — إنَّ الحادثة السابقة
هي السبب، وإنَّ الحادثة التالية هي النتيجة. ومهما يكن من شيء فإنَّ
هناك اعتبارات مُتعدِّدة تجعل هذا التتابع الخاص مختلفًا أتمَّ
الاختلاف عن العلاقة التقليدية بين السبب والنتيجة:
(١) فالتتابع في الحالات التي لم نُلاحظها حتى الآن ليس أكثر من
ترجيح، بينما ترانا نفترض أنَّ العلاقة بين السبب والنتيجة هي علاقة
ضرورية.
(٢) لن يزعم أحد أنَّ كل مقدم يسبق الحادثة هو سببها بهذا المعنى.
لكنَّنا سوف نؤمن فحسب بالتتابع السببي حيثما وجدناه، دون أن نفترض
أنَّهما معًا «أي الحادثتين المُتتابعتين» توجدان باستمرار على هذا
النحو.
(٣) أي حالة من حالات التتابع الذي يَتكرَّر بشكل كافٍ سوف تكون حالة
سببية بالمعنى الذي ذكرناه، أعني أنَّنا لن نرفض القول بأنَّ الليل هو
سبب النهار.
(٤) مثل هذه القوانين الخاصة بالتتابع المُرجَّح رغم أنَّها مفيدة في
الحياة اليومية وفي طفرة العلم، تتجه إلى أن يحل محلها قوانين مختلفة
أتم الاختلاف بمجرد ما يصبح العلم ناجحًا. فقانون الجاذبية سوف يوضح ما
يحدث في أي علم مُتقِّدم ففي حركات الأجسام التي يجذب بعضها بعضًا لا
يوجد شيء اسمه سبب ولا شيء اسمه نتيجة، لكن هناك مجرد صيغة
فحسب.
ليس ثمة تساؤل حول تكرار القول بأنَّ «نفس» السبب يُحدِث نفس
«النتيجة»؛ فالقوانين العلمية لا تعتمد في دوامها على أي تشابه للأسباب
والنتائج لكنَّها تعتمد على تشابه العلاقات، وحتى عبارة «تشابه
العلاقات» عبارة مُبسَّطة للغاية، والقول ﺑ «تشابه المعادلات
التفاضلية» هي وحدها العبارة الصحيحة.
(١٥) والآن إذا ما كانت هناك مجموعة من الحوادث لا نلاحظ فيها نفس
التتابع يتكرر، أو لا يُمكن أن تصالح حولها معادلات تفاضلية، فإنَّنا
في هذه الحالة لا يكون لنا الحق في إدراج مثل هذه المجموعة تحت قانون
السببية بالمعنى الذي شرحناه آنفًا.
ولننظر الآن في الإرادة كما عرَّفناها في فصل سابق: الإرادة هي فعل
من أفعال الانتباه إلى فكرة تغيير الوجود حتى تتحقَّق هذه الفكرة
نفسها، بهذه الطريقة يُعبِّر الفاعل عن ذات نفسه، فافرض مثلًا أنَّني
أردت أن تكون الاشتراكية نظامًا للحكم في بلادي،
٢٧ إنَّني في هذه الحالة أحتفظ في الانتباه بفكرة تغيير
الأوضاع القائمة، بحيث تبدأ الفكرة في تطوير نفسها من الغاية إلى
الوسيلة حتى أصل إلى أقرب وسيلة آخذ بها هنا والآن. ولتكن هذه الوسيلة
القريبة هي — مثلًا — كتابة وطبع نشرات وكتيبات صغيرة تحوي مبادئ
الاشتراكية وأسسها وفوائد تطبيقها … إلخ، ثم تتلو هذه الخطوة خطوة
ثانية وثالثة … إلخ. وهكذا أظل أسير في خطوات مرسومة إن أردت لفعلي
الإرادي أن يتحقَّق حتى يتولَّى أحد الاشتراكيين السُّلطة … وهذه
السلسلة من الأحداث تُشكِّل فعلًا إراديًّا واحدًا، والحلقة الأولى
فيها هي الانتباه إلى فكرة تغيير الوضع القائم: فهل نستطيع أن نجد في
هذه السلسلة «أ» تتابعًا يُمكن ملاحظته «ب» أو نفس العلاقات التي يمكن
أن نُعبِّر عنها في شكل معادلة؟
(١٦) وخذ الآن فعل الانتباه الذي اعتبره الخطوة الأساسية في العملية
بأسرها، فما الذي يعنيه التتابع هنا؟ هل يعني أنَّه قد حدث لي مرات
عديدة طوال حياتي أن فعلت فعلًا مُعيَّنًا كتناول طعام مُعيَّن، أو
قراءة كتاب معين، أو حرَّكت جسمي بطريقة معينة، وأنَّه في كل حالة من
هذه الحالات كان هذا الفعل يعقبه الانتباه إلى فكرة إدخال النظام
الاشتراكي في بلادي؟ هل يعني أنَّ شيئًا مُعيَّنًا حدث في العالم
الخارجي و«جذب» انتباهي إلى الفكرة، وأنَّه قد لوحظ دائمًا أنَّ مثل
هذا الحدث يعقبه باستمرار الانتباه إلى فكرة تغيير الأوضاع الاجتماعية
في بلادي بهذه الطريقة المُحدَّدة؟ أم إنَّ هناك شيئًا في تركيب جسمي —
كعملية الهضم مثلًا أو دقات القلب — ظهر من الخبرات الماضية أنَّه
يعقبها باستمرار انتباهي إلى هذه الفكرة؟ لا بد لي من الاعتراف أنَّني
لا أستطيع على الإطلاق أن أرى نوعًا من أنواع التعاقب السببي بين حدث
مُعيَّن — عقلي أو فيزيقي — كمقدم، وبين انتباهي إلى فكرة التغيير
الإرادي كنتيجة لهذا المقدم.
ومع ذلك كله دعنا نُسلِّم بهذا
الفرض المحال، وهو أنَّه قد حدث لي مرات عديدة طوال حياتي أن انتهيتُ
إلى فكرة جعل بلادي دولة اشتراكية، وأنَّ الفكرة قد تحقَّقت في كل مرة
… دعنا نفترض هذا الفرض المُحال، فهل نستطيع أن نُسلِّم بالإضافة إلى
ذلك أنَّ المقدم — وهو الأوضاع القائمة التي لا بد أن تكون في جانب
منها على الأقل ذهنية — كانت دائمًا واحدة؟ وإذا كان يُمكن أن يُقال عن
العالم المادي أنَّ مبدأ «نفس السبب يؤدي إلى نفس النتيجة» لا لزوم له
على الإطلاق، لأنَّه ما إن تُعطى المقدمات التي تُمكِّن النتيجة من أن
تحسب، حتى تُصبح هذه المقدمات معقدة أو متشابكة، بحيث لا يكون من
المحتمل أن تتكرَّر.
٢٨ أقول إذا كان يُمكن أن يُقال ذلك عن العالم المادي الخالص،
أليس من الأجدى أن يُقال عن تلك الحالة التي يكون فيها الفاعل
السيكوفيزيقي النشط جزءًا من المقدم، وتكون فيها النتيجة حالة
سيكولوجية معينة؟ ليس هناك شيء أفضل لتوضيح هذه النقطة من أن نقتبس
النص الآتي من «برجسون»: «إنَّ القول بأنَّ نفس الأسباب الداخلية سوف
تُحْدِث نفس النتائج، يعني أنَّك تفترض أنَّ نفس السبب يُمكِن أن
يتكرَّر حدوثه على مسرح الشعور، وإذا كانت الديمومة هي على نحو ما
ذكرنا، فإنَّ الحالات النفسية العميقة الجذور ليس بينها وبين بعضها
الآخر إلَّا تنافُر جذري، ومن المستحيل أن يتشابه اثنان منهما تشابهًا
تامًّا طالما أنَّهما لحظتان مختلفتان من لحظات تاريخ حياتي. وفي حين
أنَّ الموضوع الخارجي لا يحمل طابع الزمان المنصرم، وهذا هو ما يُتيح
للرجل الفيزيقي، رغم اختلاف الزمان، أن يجد نفسه إزاء حالات أولية
تتشابه ذاتها، فإنَّنا نجد الديمومة شيئًا واقعيًّا بالنسبة للشعور
الذي يحتفظ بأثرها، ولا يحق لنا من ثمَّ أن نتحدَّث هنا عن حالات
تتشابه، ذاتيًّا؛ لأنَّ اللحظة الواحدة لا يتكرَّر حدوثها مرتين.»
٢٩
وإذا ما اتفقنا على تعريف مبدأ السببية بأنَّه تلخيص لحالات التتابع
المطردة وغير المشروطة التي لاحظناها في الماضي، فبأي حق إذن نُطبِّقه
على الحالات الذهنية، أعني على الإرادة مثلًا التي لم يكتشف فيها بعد
تتابع منظم؟ كيف يُقيم الفيلسوف الجبري حجته على هذا المبدأ ليبرهن على
حتمية بعض الحالات السيكولوجية، حين تكون — في رأيه — حتمية الوقائع
التي لاحظناها هي المصدر الوحيد لهذا المبدأ نفسه؟
(١٧) إنَّنا يقينًا لدينا دافع لا يُقاوم للبحث عن «السبب» في كل
مكان، إن شئنا استخدام تعبير برادلي.
٣٠ غير أنَّ لونًا مُعيَّنًا من «السبب» هو الذي يثير جميع
المتاعب: «إنَّنا قد نقول إنَّ هناك لونًا واحدًا من «السبب»، واحدًا
فحسب، وعندئذ يوضع الإنسان والطبيعة على صعيد واحد. سواء أخذت فكرتك عن
«السبب» من المذهب الآلي، أو بدأت من الإرادة، ووضعت الإنسان والطبيعة
على صعيد واحد، فليس ثمة فارق عملي بين الاثنين، طالما أنَّك لا
تُميِّز بين الحالتين … إنَّنا قد نُسلِّم بوجود «السبب»، لكنَّا قد
نقول إنَّ هناك أكثر من نوع واحد من «السبب» فهناك «سبب» آلي، لكنَّه
لا يكفي لتفسير أدنى أنواع الحياة، دع عنك تفسير الذهن».
٣١
يقول تيلور
Taylor: «من المؤكَّد
أنَّه ليس صحيحًا أنَّ التحديد السببي عن طريق المقدمات هو الصورة
الوحيدة للرابطة العقلية. إذ يبدو واضحًا أنَّ هناك نمطًا آخر من
العلاقة … وأعني به الترابط الغائي.»
٣٢ ويؤدي بنا ذلك إلى تقسيم «كانط» للسببية: إلى سببية
ظاهرية، وسببية نيومائية
noumenal.
والسببية الظاهرية هي التي تختص بالتتابع المنظم للحوادث وتنطق على
عالم الطبيعة. أمَّا السببية النيومائية — وهي تتميَّز تمامًا عن هذه
السببية التجريبية — فيُسمِّيها كانط بسببية الحُرية أو العقل
intelligence، والسببية النيومائية
هي التي تنتمي إلى الإنسان. والسلوك الذي يقوم على أساس من العقل
يُقدِّم مثلًا كافيًا لمثل هذه السببية، لأنَّ العقل كما يقول كانط:
«لا يستسلم للدافع المُعطى تجريبيًّا، ولا يتبع نظام الأشياء كما تبدو
بوصفها ظواهر، لكنَّه يُشكِّل لنفسه بتلقائية تامة، نظامًا جديدًا
طبقًا لأفكار يُطوِّع لها الظروف التجريبية.»
٣٣ «لو أنَّني — في هذه اللحظة — قمتُ من على الكرسي بحرية
كاملة، وبغير أثر ضروري محدَّد للأسباب الطبيعية، فإنَّ معنى ذلك أنَّ
سلسلة جديدة قد وَجَدت بدايتها المطلقة في هذا الحدث.»
٣٤
وعلى ذلك فالخاصية الجوهرية للسببية الظاهرية «أو سببية الظواهر» هي
النظام الزمني الموضوعي طبقًا لقانون عام. لكن الخاصية الأساسية
للسببية النيومائية «أو السببية الخاصة بالأفعال البشرية» هي المبادرة
الذاتية «طالما أنَّها «أي السببية النيومائية» تدخل بحرية تلك
«الحلقات في سلسلة الطبيعة» فإنَّها لا يُمكن أن تكون … جزءًا من
النظام الزمني … إنَّ أفعال (مثل هذه الأسباب النيومائية) ليست «حوادث»
تبدو ناتجة من الأحداث التي سبقتها في العملية الزمنية
Time-process: إنَّها بالأحرى
«متوسطات»
interventions، تظهر في
عملية السير هذه وتكون تطورها التالي. ومن هنا فإنَّ كلمة «ينبغي» يكون
لها معنى بالإشارة إليها — وإليها وحدها. لأنَّنا كما يقول كانط بحق:
«لو نظرنا إلى مجرى الطبيعة وحده، لوجدنا أنَّ كلمة «ينبغي» ليس لا
معنى أيًّا كان … فهي تُعبِّر عن فعل ممكن، لا يُمكن أن يكون أساسه
شيئًا آخر غير تصوُّر فحسب». أي إنَّها لا يُمكن أن تكون ظاهرة، وهذا
التصوُّر … هو تصوُّر غائي لما هو قيم
worth ولِما هو خيِّر، وبذلك فإنَّ
عالم الغايات الذي تحصل فيه، لا يزال يتميَّز عن عالم الطبيعة الذي
تكون فيه بغير معنى. ففي أحد هذين العالمين تظهر الحوادث متحدة مع
الحوادث التي سبقتها، وفي العالم الآخر تبدأ الأفعال في تحقيق غايات
مُقبلة …»
٣٥
والغاية التي علينا أن نصل إليها هي أساس المشاركة الفكرة في فعل
الإرادة. لكن هذه الغاية هي جزء من الفكرة نفسها. ولا بد لي من أن
أُركِّز على هذه الحقيقة حتى لا تُفهم الغاية كأمر مفروض على الفاعل،
وإلَّا فسوف تكون الغائية الخارجية
Teleology
نفسها، في هذه الحالة صورة جديدة من صور الحتميات وكل
الفرق هو أنَّ الفاعل بدلًا من أن يدفع «من الخلف فإنَّه سوف «يشد» من
الأمام. لكن الفاعل — في الحالتين — ليس هو الذي يبدأ الفعل.» إنَّ
التطبيق الدقيق لمبدأ الغائية
finality
— مثله مثل مبدأ السببية الآلية — يؤدي في النهاية إلى القول بأنَّ:
«كل شيء مُعطى.»
٣٦ ولستُ أعني بالسبب الغائي
Final
cause العنصر الغائي الخارجي
Teleological element، الذي نفترض
أنَّه جزء مكون لفكرة التغير التي تُحقِّق نفسها في حالة الإرادة؛ إذ
ليس ثمة شيء وراء الفكرة التي تطور نفسها وتظهر، فلو أنَّني أنجزت
الفعل «س» من أجل الغاية «ص» فإنَّ «س» و«ص» نفسهما قد كانا عنصرين
مثاليين في الفكرة. وليس صحيحًا أنَّ «ص» هي سبب «س»، والتتابع الزمني
في هذه العلية ليس هو «ص - س». أمَّا من حيث الواقع، فإنَّ التتابع هو
فكرة «ص» ثم فكرة «س» بوصفها وسائل ممكنة، ثم إنجاز الفعل «س» وبلوغ
الغاية «ص» … ففكرة «ص» تأتي أولًا، لكن «ص» نفسها تأتى فيما بعد، أي
تتحقَّق أخيرًا. وفكرة «ص» ليست بالطبع هي نفسها «ص». ولا يُمكن في
عملية السير هذه أن تكون «ص» نفسها سببًا ﻟ «س»، والواقع أنَّها ليست
سببًا قط لأي شيء في مثل هذه العملية.
(١٨) (ب) رأينا أنَّه لا يُمكِن تطبيق السببية على الأفعال الإرادية
إذا ما كنَّا نعني بهذه السببية تتابعًا مُرجحًا للحوادث يقوم على أساس
الملاحظة. وسوف نرى الآن ما إذا كان يُمكن تطبيق السببية على هذه
الأفعال، لو كنَّا نعني بها ما يعنيه العلم الأكثر تطورًا، أعني:
علاقات دالية بين الحوادث.
«المذهب الجبري فيما يتعلَّق بحرية الإرادة — هو النظرية التي تقول
إنَّ الإرادة تنتمي إلى لون من النسق الحتمي …»
٣٧ و«يوصف النسق بأنَّه «حتمي» حين تكون معطياته معنية مثل:
م
١، م
٢، …
م ن في لحظات: ل
١،
ل
٢ … ل ن — على التوالي، تتعلَّق بهذا
النسق، إذا ما كانت م ل هي حالة النسق في أيَّة لحظة ل، فهناك علاقة
دالية على الصورة الآتية: م ل = ل (م أ، ل أ،
م
٢، ل
٢ … م
ن، ل ن، ل).»
فإنَّ النسق سوف يكون «حتميًّا» خلال فترة معينة «لو كانت ل في
الصيغة السابقة يمكن أن تكون في أيَّة لحظة داخل تلك الفترة، رغم أنَّ
وجودها خارج تلك الفترة يجعل الصيغة غير صحيحة.»
٣٨
من الواضح — الآن — أنَّه لكي
يمكن للعلاقة الموالية أن تتركَّب على الإطلاق في الصيغة السابقة فإنَّ
المعطيات: م١، م٢ … م ن لا بد بالضرورة أن تكون كميات، أو كيفيات يمكن
أن يكون لكمياتها معنى … لأنَّ الكيفيات بما هي كذلك لا يمكن أن تدخل
كمُحددات determinants في الصيغة
السابقة ومن الممكن — على أيَّة حال — استخدام الكيفيات بطريقة غير
مباشرة كعناصر مكونة في مثل هذه الصيغة أعني بأن نشير إليها بأرقام
معينة كما هي الحال مثلًا حين نفترض أنَّ «اللون الأزرق» كان واحدًا من
المحددات في النسق الذي ندرسه؛ إذ نستطيع في مثل هذه الحالة أن نربط
بين «اللون الأزرق» وطول موجة معينة، أو أن نرتب أطوال الموجات. ومثل
هذا الكم يمكن أن يدخل في علاقة دالية بوصفه ممثلًا للكيف وهو «اللون
الأزرق» وحين نصل إلى مثل هذه النتيجة النهائية للعلاقة، نستطيع بالطبع
أن نُعيد تفسير الكم إلى كيفه المساوي ل.
دعنا الآن نفترض أنَّ النسق الذي نبحثه هو الموجود البشري.
يُقال إنَّه لو كانت م ل هي حالة ذلك الموجود البشري في أيَّة لحظة
فإنَّ: م١، م٢
… م ن في لحظات: ل١،
ل٢ … ل ن تعني على التوالي معطيات
معينة من تاريخ حياة ذلك الشخص الذي نتحدَّث عنه؛ ومن ثم فهناك علاقة
دالية بالصورة السابقة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل صحيح أنَّ جميع
الحوادث — الذهنية والفيزيائية — التي يتألَّف منها تاريخ حياة شخص ما
يُمكِن ردها إلى كميات؟ لو وجدنا أنَّ هناك كيفيات معينة لا يمكن ردها
بهذا الشكل، أو يمكن أن نُشير إليها إشارة ذات معنى عن طريق الكميات —
فإنَّ مثل هذا النسق لا بد أن ينظر إليه على أنَّه نسق لا حتمي.
(١٩) وإذا ما سألنا نفس السؤال بطريقة أخرى قلنا: هل يمكن أن نُطبِّق
على المقدار الكثافي intensive
magnitude نفس منهج القياس المستخدم في أنواع أخرى
من المقادير؟ ذلك لأنَّ هناك أربعة ألوان من المقادير هي:
-
(١)
المقدار التعدادي extensional
mag الذي يُعالج الكميات التي يكون
أعضاؤها بنودًا منفصلة يمكن قياسها بالعد كما هي الحال في
أعضاء فئة ما.
-
(٢)
المقدار الامتدادي extensive
mag الذي يعالج كميات تقاس عادة
بانطباق مقياس يؤخذ كوحدة قياس a
unit كما هي الحال في قياس الخطوط
بالمسطرة.
-
(٣)
المقدار الاختلافي distensive
mag الذي يعالج درجة الاختلاف بين
كيفيات يمكن التمييز بينها وهي مرتبة بتحديد واحد
same determinable كما
هي الحال — مثلًا في الاختلاف بين اللونين: الأحمر والأصفر
بمقارنتها مع الاختلاف بين اللونين: الأخضر
والأزرق.
-
(٤)
وأخيرًا المقدار الكثافي intensive
mag الذي يعتبره كانط مُساويًا للوجود
أو الواقع reality حتى
إنَّ الشيء كلما عظم دمجه عظم وجوده كما هي الحال مثلًا في
ارتفاع الصوت أو انخفاضه، أو في الإحساس حين يكون ضعيفًا
أو قويًّا.
وعلينا أن نلاحظ أنَّ المقدار التعدادي والمقدار الامتدادي يُعالجان
كميات، في حين أنَّ المقدار والكثافي يُعالجان كيفيات، والكل التعدادي
يُقاس مباشرة بالأعداد، أعني عن طريق عد الأعضاء كما هي الحال مثلًا
حين نقول: إنَّ الجيش الفلاني يتألَّف من كذا من الجنود، والكل
الامتدادي يُقاس بعدد وحدات القياس التي يشملها كما هي الحال مثلًا حين
نقول إنَّ المسافة الفلانية طولها كذا من الياردات. والمقدار الاختلافي
بنفس الطريقة يُقدَّر بكميات ترتبط بالأعداد، فنحن نعني بأعداد معينة
ألوانًا معينة، وهكذا نصل إلى معرفة أنَّ الفرق بين اللونين: الأحمر
والأصفر أكبر أو أقل من الفرق بين اللونين؛ الأخضر والأزرق. ومن ثم
ترانا نستخدم الأعداد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لنُقدِّم قياسًا
دقيقًا لهذه المقادير الثلاثة، والسؤال الآن هو: هل يمكن للمقدار
الكثافي أن يُقاس بمثل هذه الدقة؟ سوف أُقسِّم الإجابة عن هذا السؤال
إلى ثلاثة أقسام: أُناقش في القسم الأول المشكلة من حيث علاقتها
بالإحساسات، وأُناقش في القسم الثاني المشكلة من حيث علاقتها
بالوجدانات، وأُناقش في القسم الثالث المشكلة من حيث علاقتها بالانتباه
النشط، وهذه الأقسام الثلاثة تُغطي — على وجه التقريب — ما يعرف
تقليديًّا بجوانب الشعور الثلاثة: الإدراك، والوجدان، والنزوع.
(٢٠) (ب-أ) لا شك أنَّه من الصواب أن نقول إنَّ الإحساس قابلٌ
للزيادة والنقصان، ففي استطاعتي — يقينًا — أن أقول إنَّني أشعر بالدفء
قليلًا أو كثيرًا. لكن ألا يمكن أن يكون ثمة إحساسان أو أكثر من نوع
واحد يمكن قياسهما بدقة تامَّة، حتى إنَّنا نستطيع أن نقول إنَّ شدة
أحدهما تعادل ضعف أو ثلاثة أضعاف أو أربعة أضعاف؟ «لو كان للامتداد
الكيفي مقدار فإنَّ ذلك يعني افتراض أنَّ الامتدادات من نوع واحد يُمكن
مقارنتها بعضها ببعض من حيث الكبر والصغر … ويبدو أنَّ علماء الرياضة
الذين كتبوا في هذا الموضوع متفقون في الرأي على أنَّ المقدارين، وإن
كان يُمكن مقارنتهما من حيث الكبر والصغر، فإنَّه لا يُمكن قياسهما
بلغة الأعداد أو الأرقام. لكن لو كان هناك امتدادان يطرد الواحد منهما
الآخر فإنَّني لا أدري بأي معنى يمكن مقارنتهما من حيث الكبر والصغر ما
لم يكن لدينا مقياس كیفي، وحين يظهر مثل هذا المقياس الكيفي فسوف يتلوه
مباشرة — فيما أعتقد — ظهور القياس العددي.»
٣٩
ويبدو لي أنَّه بمثل هذا الاعتقاد بدأ «فيبر وفخنر
weber and Fechner» عملهما
التجريبي للكشف عن منهج أو طريقة القياس العددي الذي يمكن أن نُقدِّر
على أساسه المقادير المدمجة. ولقد بدأ فخنر Fechner
عمله بقانون اكتشفه فيبر
Weber يقول: «توجد لكل نوع من
الإحساسات نسبة ثابتة بين المنبه الحسي والزيادة الصغرى التي يجب أن
تضاف إليه لكي يصبح الفرق محسوسًا به.»
وبالتالي فلو كانت
٤٠ تُمثِّل المُثير الأصلي الذي يقابل الإحساس س، وب تُمثِّل
النسبة التي لا بد أن تضاف إلى المُثير الأصلي حتى تستطيع الذات إدراك
الفرق في الإحساس فسوف يكون لدينا المعادلة الآتية: ب / أ = ثابت
(١).
ولقد أخذ فخنر
Fechner بوجهة النظر القائلة بأنَّ
مقدار الإحساس نحصل عليه عن طريق الإضافة، التي تكون فيها الوحدات
المُتساوية هي التي يُمكن أن ندركها في الحال. وإذا ما قارنَّا بين
مقدار الإحساس الناتج وبين مقدار الإحساس كما يُقاس فيزيائيًّا وصلنا
إلى النتيجة التي تقول إنَّه في حين أنَّ الإحساسات تزداد أو تنقص على
شكل متوالية حسابية فإنَّ المثيرات المقابلة تتغيَّر على شكل متوالية
هندسية، ويُمكِن أن نُعبِّر عن هذه الصيغة بسهولة أكثر بقولنا: إنَّ
مقدار الإحساس يختلف بوصفه لوغارتم المثير.
وقد يؤدي بنا هذا الخط من البحث في يوم من الأيام إلى أرض صلبة وأساس
متين نستطيع منه أن نحسب — إذا ما أخذنا المثيرات الحسية الدقيقة — في
يقين الإحساسات المقابلة. لكني مع ذلك سوف أُثير النقاط الآتية لكي
أُبيِّن أنَّ هذه النظرية على ما هي عليه الآن هي على أحسن الفروض
مشكوك في صحتها.
(١) إنَّنا إذا ما عرفنا النسبة بين المثير الأصلي والزيادة التي نحس
بها، فإنَّ هذه المعرفة تخدمنا — على ما أعتقد — في تحديد الإحساس
المقابل، ما لم نعرف أنَّ مقدار المثير الذي يُقابل صغر الإحساس واحد
عند جميع الناس أو حتى عند الفرد الواحد. لكن من المُسلَّم به كحقيقة
واقعة أنَّه يختلف باختلاف الأفراد كما يَختلف عند الشخص الواحد في
أحوال مختلفة. فلو كنَّا لا نستطيع أن نعرف درجة الإحساس عند فرد معين
في لحظة معينة إلَّا إذا فحصنا هذا الفرد نفسه في هذه اللحظة الجزئية
المعيَّنة، فإنَّ ذلك يعني أنَّ كل لحظة من تاريخ حياة الفرد عبارة عن
حالة عينية قائمة بذاتها قد تُشبه — أو لا تشبه — حالته في لحظة
أخرى.
(٢) افرض أنَّني خبرت الإحساس «س»، وأنَّه بزيادة هذا الإحساس
باستمرار شعرت بهذه الزيادة بعد مدة معينة بحيث أصبح الإحساس
«س١» من الطبيعي في هذه الحالة أن نقول
إنَّ الإحساس الأول وهو «س» قد تغيَّر إلى إحساس آخر هو الإحساس، بهذا
الكل فإنَّ إحساسك يكون «س»، وحين يزداد الإحساس بهذا الشكل يصبح
إحساسك «س١»، لكن هناك حالة انتقال بين «س»
و«س١» يكون فيها الإحساس أقوى من «س»
وأضعف من «س١»، ولا شكَّ أنَّ شدة الإحساس
في هذه الحالة تختلف عن شدة الإحساس في حالة «س»
و«س١» ويبدو أنَّ القانون الذي نُناقشه
يعجز عن حساب هذا الفرق. وبعبارة أخرى فإنَّه يُقال إنَّ مقدار الإحساس
يُمكِن حسابه في بعض الأوقات ولا يُمكِن حسابه في أوقات أخرى.
(٣) إنَّ الإشارة إلى الشدة بالأرقام تعني أنَّ المقدار المدمج يُمكن
تقسيمه إلى حدات بنفس الطريقة التي نُقسِّم بها الأعداد. غير أنَّ
الوحدات التي سيتكوَّن منها العدد تتَّحد مع بعضها في هوية واحدة، في
حين أنَّ القول بأنَّ الشدة تتألَّف من وحدات تتَّحد في هوية واحدة هو
تناقض ذاتي لأنَّ الشدة تعني أنَّ الوحدة الأولى من السلسلة هي أقل
«كثافة
dense» أو أكبر «كثافة» من
الوحدة الثانية. أعني أنَّ الوحدات في المقدار المدمج ليس بينها تغير
متبادَل لأنَّها لا تتَّحد في هوية واحدة. وفضلًا عن ذلك فإنَّ
الإحساسين من نوع واحد لا يُمكن أن يُقال إنَّه يُمكن قياسهما على
الإطلاق ما لم يكن من المُمكن أن يُقال بطريقة لها معنى إنَّهما
مُتساويان أو إنَّ أحدهما يتضمَّن من الوحدات أكثر أو أقل مما يتضمَّنه
الآخر … لكنه من الصعب أن نرى كيف يمكن لهذين الإحساسين أن يكونا
مُتساويَين ما لم يكونا متَّحدين: «لا شك أنَّ المساواة في العالم
الطبيعي لا ترادف الهوية. غير أنَّ السبب هو أنَّ كل ظاهر، وكل موضوع
يُمثَّل هنا بوجهَين؛ أحدهما كيفي، والآخر امتدادي. وليس ثمة ما يمنع
من أن نضع جانبًا الوجه الأول، ولن يبقى في هذه الحالة سوى حدود يُمكن
انطباقها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة الواحد على الآخر، وبالتالي تبدو
وكأنَّها متَّحدة في هوية واحدة … وهذا العنصر الكيفي الذي بدأنا بحذفه
من الموضوعات الخارجية لكي نقيسها هو نفس العنصر الذي يحتفظ به
السيكوفيزيقيون، ويزعمون أنَّهم يقيسونه … وباختصار: يبدو من ناحية
أنَّ الإحساسين المختلفين لا يمكن أن يقال إنَّهما مُتساويان ما لم تبق
البقية المتَّحدة في هوية واحدة بعد استبعاد اختلافهما الكيفي. لكن هذا
الاختلاف الكيفي من ناحية أخرى هو كل ما ندركه، ولا نعرف ما الذي يمكن
أن يبقى إذا ما حذفناه.»
٤١
(٤) القول بأنَّ عملية نمو الإحساس إذا كانت تتألَّف من وحدات
متساوية أُضيف بعضها إلى بعض، وكل وحدة من هذه الوحدات مساوية للفَرْق
المدرك، هذا القول یعني أنَّنا نتحدَّث عن مثل هذه العملية السيكولوجية
بألفاظ تناسب الظواهر المكانية. ولا ينبغي التفكير في الإحساس في صورة
خط يُمكن قسمته إلى أجزاء متساوية؛ ذلك لأنَّ الأول يتضمَّن ديمومة،
بينما الثاني لا يتضمَّن ديمومة. فالإحساس تَتال، یزداد شدته بالتدريج،
أمَّا الخط فهو مجرَّد إضافة للأجزاء، يمكن أن يُنظر إلى أولها كما
يُنظر إلى آخرها «نحن نضع حالات شعورنا جنبًا إلى جنب بتلك الطريقة
التي ندركها بها في تأنٍّ، لكنَّا لا نضع الواحدة في الأخرى، بل
الواحدة بجانب الأخرى. ونحن باختصار نُسقِط الزمان على المكان،
ونُعبِّر عن الديمومة بألفاظ الامتداد. والتتالي «أو التعاقب» يتَّخذ
في هذه الحالة شكل الخط المتصل أو السلسلة التي تتلامَس حلقاتها دون أن
تتداخَل …»
٤٢
(٢١) (ب-٢).
لكن إذا كان من الصعب أن نرى
كيف يُمكن للإحساسات أن تُقاس أو أن تُحسب بدقة، فإنَّ الموقف بالنسبة
للوجدانات أشد سوءًا. ولنأخذ اللذة على سبيل المثال. إنَّ «روس
Ross» يُمثِّل جيدًا وجهة النظر
التي تزعم إمكان قياس اللذة قياسًا دقيقًا فهو يقول: «إنَّنا قد نتساءل
عمَّا إذا كانت اللذات يُمكن مقارنتها بعضها ببعض، وعمَّا إذا كان من
الممكن لنا أن نقول إنَّ إحدى اللذات أعظم أو أكثر لذة من الأخرى. وإني
لأعتقد أنَّ ذلك أمر لا شك فيه. ومن يُنكر ذلك يبدأ عادة بأن يسألنا أن
نُخبره أي اللذتين المنفصلتين تمامًا أعظم من الأخرى. صحيح أنَّنا لا
نستطيع — في الأعم الأغلب — أن نُخبره بذلك. غير أنَّ الباحث الذي
يؤكِّد إمكان المقارنة بين اللذات ليس مُضطرًّا لبيان أنَّه يستطيع أن
يقول أي اللذَّتين أعظم من الأخرى. فقد لا نكون مثلًا قد استمتعنا بهما
حديثًا، ولا شك أن تذر شدة اللذة عمل غدار خصوصًا إذا كان قد انقضَت
على ذلك فترة زمنية. ومن ناحية أخرى فقد تكون إحدى اللذتين — أو هما
معًا — معقدة غاية التعقيد. وقد يكون الاستبطان الضروري لتقدير حلاوتها
صعبًا. غير أنَّ ذلك يتَّضح بصورة أكبر أنَّه إذا ما قارنا بين لذَّتين
بسيطتين نسبيًّا، وبين لذتين متشابهتين نسبيًّا كنَّا قد خبرناهما
حديثًا، هنا قد لا تكون لدينا أيَّة مشكلة في أن نُبيِّن أنَّ إحداهما
أعظم لذة من الأخرى. ويكفي ذلك دليلًا على تفاوت اللذائذ في شدتها …
وإذا ما اتضح ذلك، فقد تعود إلى المجادلة في إمكان قياس اللذات، قد
تكون بالضبط ضعفها في الشدة … لأنَّه إذا ما كانت إحدى اللذات أعظم شدة
من الأخرى، فإنَّه لا بد أن يكون لها قدر معين من زيادة الشدة …»
٤٣
وسوف أُثير الاعتراضات الآتية ضد هذه الوجهة من النظر:
(١) إنَّ قياس درجة معيَّنة من اللذة بمعامل ارتباط امتدادي
extensive correlate يعني الاعتقاد
بأنَّنا نحصل على اللذة بإضافة عدد من اللذائذ الصغيرة، غير أنَّ اللذة
ليست إلا واقعة قائمة بذاتها لا يُمكن قياسها، وليست مكوَّنة من مجموعة
من الأجزاء كل منها حالة من اللذة.
(٢) إذا سلَّمنا بأنَّه يُمكن
قياس حالة لذة ما بمعامل ارتباط امتدادي ex
correlate فما هي معاملات الارتباطات
Correlates هذه التي يمكن أن يُقال
إنَّها ممكنة؟ أعتقد أنَّ هناك بَديلَين، وبديلين فحسب؛ فهذه الحالة
يُمكِن أن تُقاس إمَّا بمقدار السبب الموضوعي — وبالتالي يُمكن قياسه —
الذي أظهرها إلى الوجود، وإمَّا بقياس الحركات الدقيقة جدًّا للجسم
molecular movements، وهي الحركات
التي يُفترَض مصاحبتها لكل حالة نفسية. وسوف نُناقش الافتراض الأخير
فيما بعد حين نعرض لمذهب الظاهرة الثانوية
epiphenomenalism، أمَّا بالنسبة
للافتراض الأول فأنا أريد أن أسوق عدة ملاحظات:
-
(أ)
إنَّنا لا نعرف أنَّ حالة نفسية معينة قد ازدادت شدتها
من خلال زيادة السبب الموضوعي، بل على العكس، فشدة الحالة
النفسية هذه ذاتها هي التي تقودنا إلى افتراض خاص بعدد
الأسباب وطبيعتها.
-
(ب)
غالبًا ما يحدث أن يرجع الفرق في الشدة إلى حالة نفسية
أخرى لا تخضع للقياس.
-
(جـ)
حالة اللذة يُمكن ردُّها في بعض الأحيان إلى سبب خارجي
لا يبدو أنَّه يخضع للقياس، كما هي الحال مثلًا في إحدى
الصور التي يُمكن أن تُقدِّم لنا لذة أعظم في شدتها من
إحدى الصور الأخرى.
(٣) إنَّ أي قياس دقيق للذة لا بدَّ أن يستعمل الأرقام أو الأعداد،
وهذه لا يُمكن تصورها بدون فكرة عن المكانية
Spatiality … في حين أنَّ الشدة
مستقلة عن مثل هذه الفكرة. والأعداد لا بدَّ أن تُشير في نهاية تحليلها
إلى مقدار امتدادي، في حين أنَّ شدة الوجدان لها طبيعة الديمومة. وأنت
حين تقول إنَّ شدة الوجدان يُمكن الإشارة إليها بالأرقام، فإنَّك تزعم
في هذه الحالة أنَّ الديمومة يُمكن قياسها بالمكان: «ما إن نرغب في
تصوُّر العدد لأنفسنا … حتى نضطر إلى الاستعانة بتصویر ذهني امتدادي …
ومن المؤكَّد تمامًا أنَّه يُمكِن أن ندرك في الزمان — وفي الزمان وحده
— تعاقبًا لا يكون شيئًا آخر سوى تعاقب، لا إضافة، أعني تعاقبًا يصل
إلى قمته في جملة أو مجموع؛ لأنَّه على الرغم من أنَّنا نصل إلى الجملة
أو المجموع بأن نضع في اعتبارنا تعاقبًا لحدود مختلفة، فإنَّه لمن
الضروري مع ذلك أن يبقى كل حد من هذه الحدود حين نصل إلى التالي، وأن
ينتظر إذا لم يكن سوى لحظة من لحظات الديمومة؟ وأين يُمكن له أن ينتظر
ما لم نضعه في مكان؟»
٤٤
وبالتالي فالأعداد يُمكِن أن تُستخدم فقط لعد الوحدات المكانية، ولا
فائدة من المجادلة والقول بأنَّنا نستطيع أن نعد لحظات الزمان
المتتالية منفصلة عن المكان؛ لأنَّ معنى العد هو إضافة وحدات، والقول
بأنَّك تُضيف إلى اللحظات الحاضرة تلك اللحظات التي سبقتها يتطلَّب
بالضرورة ربط اللحظات الماضية بالآثار المكانية
patial
traces، طالما أنَّ اللحظات نفسها قد اختفت إلى
الأبد، والنتيجة التي تقودني إليها هذه المناقشة هي شدة الوجدان لا
يمكن تقديرها برموز عددية طالما أنَّنا نقول إنَّ لها طبيعة الديمومة.
وفضلًا على ذلك فإنَّنا لا نَستطيع أن نتصوَّر إمكان قسمة المقدار
المدمج، لأنَّ «الجزء» من لذة معيَّنة لا بد أن يكون واقعة سيكولوجية
تختلف أتمَّ الاختلاف عمَّا كان على «الكل»، لا لأنَّه لا بد أن يكون
أقل من الكل من حيث الكمية، بل لأنَّ الكيف لا بد أن يكون مُختلفًا.
فالإفراط في اللذة قد يُحوِّلها إلى ألم. ومن هنا جاءت وجهة نظر «روس
Ross» الخاطئة حين ظنَّ أنَّ هناك
لذات معينة يُمكن شطرها نصفين؛ فهو يقول: «صحيح … إنَّ الفرق بين لذتين
ليس هو نفسه لذة، كما هي الحال في الفرق بين طولين، فهذا الفرق هو نفسه
طول، لكن الفرق بين شدة لذتَين هو قدر من الشدة، وهو بالطبع قدر معين.
وقد يُساوي ذلك شدة اللذة الأقل، ولو كان ذلك كذلك، فإنَّ اللذة الأعظم
تُساوي في عظمها ضعف اللذة الأقل.»
٤٥ وإذا لم يكن في استطاعتي أن أتصوَّر كيف يمكن لأيَّة لذة
أن تنقسم، فإنَّني لا أستطيع أن أتصوَّر أي جزء من لذة أعظم يكون
مُساويًا للذة الأقل.
غير أنَّ السؤال يظلُّ قائمًا وهو: كيف يُمكن أن نُفكِّر في لذتين
بألفاظ «الأعظم شدة»، و«الأقل شدة»، ما لم يكن لدينا فكرة مُحدَّدة عن
معنى «الشدة المتساوية»؟ ما الذي يجعلنا بالضبط نحكم على إحدى اللذات
بأنَّها أعظم من الأخرى؟ الجواب هو أنَّه كلَّما كثرت الحالات النفسية
التي يُحدثها وجدان معيَّن، عظم ظهوره، فاللذة الأعظم تخترق عددًا
واسعًا من العناصر النفسية. وحين نكون في حالة لذة فإنَّ نظرتنا للكل
المحيط بنا تتغيَّر — فيما يبدو — تغيرًا جذريًّا. والموضوعات الواحدة
لا تُؤثر فينا بطريقة واحدة، فالذكريات الواحدة قد تنقل إلينا وجدانات
مختلفة، ولا تَتطلَّب حركاتنا بذل جهد واحد بعينه، وهكذا تتغيَّر
حالاتنا النفسية من حيث الكيف. لكن عدد الحالات النفسية التي تتأثَّر
يُمكن أن يزداد أو ينقص في حالات اللذَّة المختلفة؛ ففي مناسبة من
المناسبات يُمكن لحالة من حالات اللذة أن تصبغ بلونها جميع الحوادث
النفسية طوال اليوم، وفي مناسبة أخرى يُمكن أن تستغرق فحسب بضع ساعات
قليلة، وعلى الرغم من أنَّ الفرق بين الحالتين هو أساسًا فرق في عدد
الأحداث النفسية، فإنَّه مع ذلك فرق في الكيف لا يُمكن أن نُشير إليه
عدديًّا وهذا هو السبب في أنَّنا نعرف تمامًا أنَّ لذة معينة أعظم من
لذة أخرى، دون أن نحسب بدقة مقدار الزيادة بألفاظ من وحدات
معينة.
(٢٢) (ﺣ-٢) يبدو أنَّ الإحساسات والوجدانات لا يُمكن حسابها بلغة
الأرقام والأعداد. وقُل مثل ذلك في نشاطنا، فنحن قد نعزو في غموض بعض
الحدود الكمية إلى الانتباه، كما هي الحال مثلًا في «التركيز
concentration» أو «الاسترخاء
relaxaton»، ولكن من الواضح أنَّ
الإشارة الكمية ترجع إلى الموضوعات التي نَنتبه إليها، فموضوع الانتباه
هو أحيانًا بالغ التعقيد، وأحيانًا أخرى أقل تعقيدًا، لكن الإحساس هو
واحد باستمرار.
وحتى موضوعات الانتباه يُمكن الإشارة إليها كميًّا بمعنى غامض فحسب
لهذه الكلمة، لأنَّ الدقة العددية لا يُمكِن تصوُّرها هنا، خُذ مثلًا
لذلك حالة الإرادة: إنَّ موضوع الانتباه في حالة الإرادة هو فكرة
التغيير، وقد تكون لهذه الفكرة تفصيلات كثيرة أو قليلة، كما أنَّ
التباين بين الفكرة والوجد قد يكون كبيرًا أو صغيرًا. لكن ما زلنا
نفتقر مع ذلك للقياس الدقيق للهوَّة بينهما بل إنَّ مثل هذا القياس
الدقيق لا يُمكن التفكير فيه، ما لم نعتقد أنَّ الفرق بين الاستبداد
والديمقراطية — مثلًا — هو فرق يُمكن قياسه بالأرقام. ودعنا نفترض ذلك
الفرض المُحال، وهو أنَّ مضمون الانتباه في لحظة معينة يُمكن قياسه؛
واضح أنَّ ذلك لا يكون ممكنًا إلَّا في حالة واحدة، هي إذا ما كان
الانتباه يوجد على الإطلاق لهذا الموضوع المُعيَّن في تلك اللحظة
المُعيَّنة، لكنَّا سبق أن رأينا في الفصل الثاني أنَّ الانتباه نشط،
أعني أنَّه يحمل سببه في جوفه
self-caused، ولو صحَّ ذلك فلن
نستطيع التنبؤ بأنَّه في هذا الوقت أو ذاك سوف يَنتبه هذا الفرد
المعيَّن إلى ذلك الموضوع المحدَّد.
(٢٣) دعنا الآن نعُد إلى الزعم الأصلي: «المذهب الجبري — فيما
يتعلَّق بالإرادة — هو النظرية التي تقول إنَّ إرادتنا تَنتمِي إلى نسق
حتمي مُعيَّن» و«يكون النسق حتميًّا حين تتعلَّق مُعطيات معينة مثل:
م١، م٢ … م
ن في لحظات ل١،
ل٢ … ل ن، على التوالي بهذا النسق.
فإذا كانت م ل تُمثِّل حالة النسق في أيَّة لحظة ل، فهناك علاقة دالية
بالصورة الآتية:
م ل = (م١، ل۱،
م۲، ل٢ …
من، لن،
ل).»
ورأيي هو أنَّ مثل هذه المعادلة يُمكن أن يكون لها معنى على الإطلاق،
في حالة واحدة فقط هي: إذا كانت م١، م٢ … م ن يُمكن قياسها كميًّا. ولو
وجدنا أنَّ فقرة مُعيَّنة — أو مجموعة — من هذه الفقرات لا يُمكن
التعبير عنها بألفاظ الكم الامتدادي فإنَّ المعادلة تُصبح بغير معنى.
لكنَّا سبق أن أظهرنا، في الصفحات السابقة، أنَّ الإحساسات والوجدانات،
ونشاط الانتباه، هي كلها أمور تُجاوز مثل هذا التقدير الكمي؛ ومن ثمَّ
فإنَّ المعادلة تتحطَّم وتنهار من حيث انطباقها على الموجودات
البشرية.
(٢٤) (ب) نصل الآن إلى الدعوى
الثانية للفيلسوف الجبري وهي القائلة بأنَّ الأحداث الذهنية لا تتدخَّل
في السلسلة السببية الآلية، وأنَّها ليسَت إلَّا مصاحبات فحسب للأحداث
المادية … وهذا يعني بعبارة أخرى أنَّ الذهن ليس إلَّا ظاهرة ثانوية
للمادة. وفي اعتقادي أنَّ هذه النظرية لا يُمكِن الدفاع عنها. ولقد سبق
أن أثبت إيجابيًّا، في الفصل الثاني، أنَّ الانتباه نشط
active، وهذا يعني أنَّه يتسبَّب
في تغيُّر ما، دون أن يكون له نفسه مسبب، فهو يحوِّل السلسلة الآلية
ويوقفها ثم يبدأ سلسلة جديدة. ولقد بيَّنا أنَّ ذلك لا يعني خروجًا على
قانون بقاء الطاقة، إذا ما اعتبرنا هذا القانون مُمثِّلًا لحقيقة
نهائية. أمَّا من الناحية السلبية فإنَّ مذهب الظاهرة الثانوية التي
تُفسِّر الذهن على أنَّه نتاج ثانوي للمادة يَتضمَّن نقاط ضعف كثيرة.
وسوف أُشير الآن إلى بعض هذه النقاط.
(١) يذهب الفيلسوف الجبري إلى أنَّ كل عصاب
neurosis، ولنرمز له بالرمز «أ»
يُقابله ذهان psychosis «مرض عقلي»
«أ١» كمصاحب كامن أو كمجرد ظاهر
ثانوية. فافرض مثلًا أنَّ «أ١» هي حالة من
حالات الشعور: فما الذي نشعر به في هذه الحالة؟ يقينًا ليس هو العصاب
نفسه؛ لأنَّنا قد نشعر بالعالم الخارجي، أعني العالم الذي يقع خارج
التيار العصبي تمامًا. ونحن هنا نواجه هذا الإحراج المنطقي
Dilemma. إنَّ الواقعة الفعلية
الوحيدة هي عملية المخ مع ظاهرتها الثانوية، ومن ثم العالم الذي ندركه
قد يكون مجرد وهم. ومع ذلك فإنَّ معرفتنا الوحيدة بأنَّ هناك عمليات
للمخ مع مصاحب لها — هذه المعرفة ليست إلَّا استدلالًا من ذلك الذي
افترض الآن أنَّه مجرَّد وهم كاذب. وبعبارة أخرى فإنَّ الدليل الذي
يُقدِّمه الفيلسوف الجبري في هذه النقطة دليل دائري، أعني أنَّه
يتضمَّن دورًا منطقيًّا، فنحن نعلم أنَّ هناك عالمًا خارجيًّا يقع خارج
جسمنا لأنَّ عمليات معينة تحدث في المخ، لكنَّا في الوقت نفسه نعلم
أنَّ هذه العمليات تحدث لأنَّنا نعرف أنَّ هناك عالمًا خارجيًّا يقع
خارج المخ.
(٢) إنَّ حجة الفيلسوف الجبري تُشبه قولنا بأنَّ الجزء يُطابق الكل.
ويمكن أن نرى ذلك على النحو التالي: لا شيء يدخل الجهاز العصبي أو يخرج
منه إلَّا إذا كان في صورة حركة، وطالما أنَّ جسمنا ليس إلَّا جزءًا من
الكون المادي كله، وحركة المادة في هذا الكل تُشكِّل سلسلة مترابطة.
فإنَّ الحركات في جهازنا العصبي لا يُمكن أن تخلق أو تنشأ بداخله،
لأنَّها أجزاء من كل أكبر. والآن. يطلب منَّا أن نعتقد بأنَّ الحركة في
الجهاز العصبي، التي هي ليست إلَّا جزءًا من الحركة كلها، تُطابق هذا
الكل، لأنَّها تعكسه.
(٣) وتُطالبنا هذه النظرية بأن نفترض أنَّ جميع الإدركات الحسية،
والوجدانات والإرادة هي رموز لحركات الجزئيات في المخ، غير أنَّ الحركة
بمعنى النقلة في المكان Locomation هي
من نوع واحد، فالحركة الواحدة يُمكن تمييزها عن غيرها تمييزًا كميًّا
فحسب، وبالتالي فإنَّ تأليف مسرحية هاملت أو التألم من وجع الضرس،
وكونك في حالة فرح، ومشاركتك في سباق الخيل، هي كلها فقرات من نوع
واحد. والفرق الوحيد بينها هو فرق في كمية الحركة الموجودة.
(٤) لو أنَّ جميع حالات ذهني يمكن أن ترتبط بحركات معينة في المخ:
فكيف يُمكن لي أن أُبرهن أنَّ هناك مُقابلًا فيزيقيًّا في العالم
الخارجي؟ إنَّ من يُلاحظ حركة الجزئيات في المخ مع ظواهرها الذهنية
الثانوية، لن يجد أدنى فارق بين حالة الحلم وحالة اليقظة، ففي كلتا
الحالتين سوف يرى حركات الأعصاب
Neurons مصحوبة بمصاحبات ذهنية،
وسوف يكون من التعسف أن نفترض أنَّه في إحدى هذه الحركات يوجد عالم
خارجي مقابل، وفي بعض الحركات الأخرى لا يكون لهذا العالم وجود.
(٥) إذا سلَّمنا بأنَّ كل حادثة فيزيقية ولتكن «أ» يصاحبها حدث
سيكولوجي هو «أ» فما الذي يبرهن على أنَّ أحدهما ظاهرة، بينما الثاني
ظاهرة مصاحبة، وليس العكس … يتساءل جميس وورد
J.
Ward بصدد هذه النقطة قائلًا:
٤٦
«أيهما الحقيقي وأيهما الرمزي؟» ثم يضيف مُقدِّمًا إجابة مخالفة
لإجابة الفيلسوف الرمزي: «إذا ما وجَّهنا هذا السؤال بصراحة، فإنَّ
الجواب — فيما أعتقد — يسير إلى أقصى حد. فمن المُسلَّم به تمامًا أنَّ
الواقعي عيني باستمرار، في حين أن الرمزي مجرَّد دائمًا. فكلمة الواقعي
تعني الفردية بدرجة كبيرة أو صغيرة، في حين أن الرمزي یعني دائمًا
الكُلي المنطقي، والواقعي يتضمَّن باستمرار تاريخًا في نطاق خبرتنا،
أعني أماكن، وتواريخ، وتجاوبًا مع البيئة العينية. أمَّا الرمز فهو خلق
منطقي … وإنَّه لمن الخلف الواضح أن نقول — مطبقين هذا المقياس — عن
عزم قيصر لعبور نهر روبيكون
Rubicon،
٤٧ أو عزم «لوثر» على الذهاب إلى «ورمز
Worms»
٤٨ — إنه رمز لتراقص الجزئيات في مخ كليهما.»
(٦) ولستُ أدري من الذي يتوقع أن يلاحظ حركات جزئيات مخي لكي يتحقَّق
من تواريخها مع حالات ذهني؟ لا بد من استبعادي — كملاحظ — عن هذا
الموضوع، طالما أنَّني لا أستطيع إدراك مخي الخاص. ومن ناحية أخرى
فإنَّ كل ما يستطيع عالم الفسيولوجيا أن يراه هو التغيرات التي تحدث في
مخي، أعني الحوادث المادية، وهي بوصفها حوادث مادية، لا تُقدِّم فرضًا
ex hypothesi، أي دليل على
مصاحباتها الذهنية. وإن كان عالم الفسيولوجيا يشير إلى خبرته الخاصة
حين يلاحظ مخي، فإنَّ التوازي عندئذ لا بد أنَّ المُستحيل — عمليًّا
ونظريًّا — للملاحظ الواحد أن يفحص ألوان العصاب
neuroses أو ألوان الذهان
psychoses عند شخص واحد مرة واحدة،
ومن ثمَّ فالافتراض لا يُمكن أن يكون أكثر من افتراض قيم «لا يُمكن
التحقُّق منه بأيَّة وسيلة من الوسائل».
(٧) تطلب منا هذه النظرية أن نعتقد أنَّ جميع حركات الأجسام البشرية
— بما فيها تلك الحركات التي تُعزى عادةً للإرادة — يُمكن تفسيرها
تفسيرًا تامًّا بالأسباب الفيزيقية. فإذا ما وجدنا أنَّ الإرادة يعقبها
بصفة عامة الحركة الرادة، فينبغي ألَّا نفهم من ذلك أنَّ الإرادة هي
سبب الحركة، أمَّا تفسير مثل هذه الواقعة فهو أنَّ عوامل فيزيقية معينة
يشملها السبب الإجمالي للحركة الجسمية — لها آثار ذهنية، كما أنَّ لها
آثارًا فيزيقية سواء بسواء. والحركة الجسمية المُشار إليها هنا ما كان
لها أن تحدث ما لم تسبقها حالة معيَّنة من الحالات الفيزيائية، وهذه
الحالة الفيزيائية لا يُمكن أن تحدث دون أن يُصاحبها رغبة في هذه
الحركة الجسمية، وتبعًا لهذه النظرية فإنَّ جميع ألوان الإرادة هي
مُصاحبات ضرورية لحالات فيزيائية معينة، ومن ثمَّ فإنَّها لا بد أن
تكون محددة تحديدًا تامًّا مثل الحالات الفيزيائية ذاتها.
والمغالطة هنا — كما كشف عنها دكتور برود
C. D.
Broad — هي على النحو التالي: «إذا ما وجدنا أنَّ
هناك أنواعًا مُعيَّنة من الحركات الجسمية لم يحدث لها قط أن ظهرت دون
أن يسبقها إرادات مقابلة مثلما يسبقها حالات فيزيائية معينة، فإنَّنا
لا نستطيع أن نعرف أنَّ الإرادات ليست أسبابًا مناسبة، أعني أنَّ نفس
الحركات الجسمية كان يُمكن أن تحدث لو أنَّ ظروفًا فيزيائية سابقة كانت
هي نفسها، في حين كانت الإرادة غير موجودة. إنَّه من الممكن أن تكون
الإرادة ليست سببًا مناسبًا للحركات الإرادية، لكن اعتقادنا بأنَّها
كذلك في حالة الأمثلة السلبية هو عمل من أعمال الإيمان الخالص … وحسب
الافتراض ليس ثمة أمثلة سلبية.»
٤٩
(٢٥) (ﺟ) والزعم الثالث للفيلسوف الجبري فيما يتعلَّق بسيادة السببية
هو الاطراد الذي نُلاحظه في السلوك البشري. وإنَّه لمن التهوُّر —
حقًّا — إنكار وجود درجة معينة من الاطراد في السلوك البشري. فالأفعال
المنعكسة، والسلوك الغريزي الذي يبرز الجانب النزوعي البدائي للغريزة
غير المعدلة، والأفعال المعتادة التي تسير في طريق ممهد مطرق،
والتجليات الظاهرة للاشعور — هذه كلها تظهرنا على الاطراد إلى حد معين
على أقل تقدير. لكن يكفي جدًّا أن يكون للإنسان دور مُعيَّن في سلوكه —
مهما يكن صغيرًا — دور يجاوز دائرة هذا التحديد، لكي يفسد الحتمية
ويبطلها: «٩٩ بالمائة — إنَّ صحَّ التعبير — من حياة الإنسان يمكن أن
ترجع إلى الوراثة، والتربية، والبيئة، والتكوين الأصلي، لكن إذا كان
هناك واحد في المائة فقط هو الذي يمكن أن يعود إلى أفعال الاختيار
اللاحتمية، فإنَّ ذلك يكفي لتبرير مسلَّمة الحرية
postulate.»
٥٠
إنَّ ما أُدافع عنه هو أنَّ الفعل الإرادي الأصيل فعل فريد في نوعه
Unique، أي إنَّه لا يعقب مقدمات.
وفكرة التغيير التي تتضمنها الإرادة الحقَّة لا بد أن تُطوِّر نفسها
لأول مرة، فلأول مرة أفكر في سلسلة الوسائل التي يمكن أن تُظهِر إلى
الوجود التغير المطلوب. ومثل هذا الفعل الإرادي يُمكن أن يتكرَّر وهكذا
يُصبح فعلًا معتادًا بالتدريج، وكلما ازدادت عادة الفعل قلَّ كونه
إراديًّا. والاطراد الذي نُلاحظه في سلوك الإنسان — بما في ذلك ما
يُسمَّى بالأفعال الإرادية — يدل على أنَّ مثل هذا السلوك ليس أصيلًا،
وهذا في حد ذاته دليل كافٍ على أنَّه يفتقر إلى العنصر الأساسي في
الإرادة الحقَّة.
(٢٦) ومهما يكن من شيء فإنَّ الاطراد في سلوك الإنسان لا يُبرهن على
أنَّ السلوك تتحكَّم فيه تمامًا العوامل الخارجية على نحو ما يَعتقِد
الجبريون ويريدون منَّا أن نعتقد في ذلك، وإنَّما سلوك الإنسان من صنع
الإنسان نفسه self-made، وهو منسوج في
الداخل home-spun، إن صحَّ التعبير.
والخلق إذا ما فهناه على أنَّه يعني ألوان السلوك المطردة، هو من صنع
الفاعل نفسه … إنَّنا إذا ما افترضنا أنَّ «أ - ص» تشمل جميع الأفعال
التي أنجزتها بالفعل «من هذه الأفعال الممكنة» وحوَّلتها إلى عادات
كلما أصبح خلقه أكثر صلابة، وهذه الصلابة النسبية للخلق ترجع إلى القول
بأنَّ ظروف الحياة التي يُمكِن أن تُظْهِر هذه الأفعال الإرادية قد
استغلت بنسبة درجة صلابة الخلق، وتُصبح الذات شيئًا فشيئًا أكثر
تحديدًا لأنَّها قد تحقَّقت أكثر فأكثر، وهكذا تطرد التحقُّقات الفعلية
المُمكنات، ويحل الاطراد محل التفرد
originality، والأصالة
uniqueness.
ورغم ذلك فالاطراد نِسبي فحسب، فهناك من ناحية إمكان مستمر لتغيير ما
هو ثابت بالفعل، وهناك من ناحية أخرى ظروف الحياة التي لا يُمكِن أن
نستنفدها تمامًا، بحيث نستطيع أن نقول في يقين إنَّ الأشياء سوف تمثل
أمام فرد معين بطريقة معينة، وأنَّ الفرد سوف يرد بهذه الطريقة أو تلك
على هذا المُثير الجزئي المُعيَّن.
وحتى إذا ما سلَّمنا بأنَّ خلقي المُشكل على النحو الحالي يتحكَّم
فيَّ إلى حدٍّ ما، أو جزئيًّا، فيجب علينا ألَّا ننسى أنَّه خلقي أنا،
فهو لا يُمكن تحليله إلى عوامل تستبعد الذات الفاعلة النشطة التي
شكَّلت هذه العوامل في فردٍ واحد متَّحدة في هوية مع نفسه. واستخدام
كلمة «الاطراد» في مجال السلوك البشري بنفس المعنى الذي تُستخدم فيه في
ميدان العالم المادي، استخدام مُحال لا يَقبله عاقل. ونحن إن فعلنا ذلك
فإنَّنا نهمل فردية العقول البشرية، غير أنَّ ذلك لا يعني أنَّ العقول
المُختلفة يُمكن أن يُنظر إليها على أنَّها مؤلفة من عناصر مشتركة،
تتجمَّع بنسب مُتفاوِتة وبترتيبات مختلفة: «إنَّنا لكي نكشف عن
القوانين السببية التفصيلية التي تتحكَّم في ذهن شخص معين فريد مثلًا،
فإنَّنا لا بد أن نبحث في زيد نفسه. وليس ثمَّة قدر من المعرفة للكيفية
التي يعمل بها ذهن خالد أو عمر يُمكِن أن تُساعدنا في معرفة — إمَّا
بالتعميم الاستقرائي المباشر أو بالاستدلال الاستنباطي غير المباشر —
القوانين التفصيلية التي يعمل بها ذهن زيد.»
٥١
وإذا ما حاولت أن تُقطِّع خلق شخص ما إلى عناصر تتجمَّع بطريقة
معينة، فإنَّك في هذه الحالة تستبعد ذاته الفاعلة النشطة التي التقطت
هذه العناصر ونسجتها في خلقه الخاص، إنَّك ترد الإنسان تقريبًا إلى لا
شيء أو إلى لا كائن
nonentity، أنت
بعملك هذا إنَّما تُحلِّل «ذاته» إلى عناصر بغير ذات
selfless elements «إنَّك قد تخبر
أن خلقه … قد تطور … لكن عليك عندئذ أن تضيف … أنَّه هو الذي طوَّره …
ولو كان في استطاعة شخص آخر أن يُفسِّر — من معطيات معينة ومن قواعد
كلية — تكوينه كما يُفسِّر مسألة حسابية فأين ذهبَت ذاته هو؟ اعتدى
عليها شخص آخر، وحطَّمها إلى عناصر بغير ذات، ثم جمعها من جديد، وسيطر
عليها تمامًا، كما يُسيطر الإنسان على الشيء الميت للسكين. وإذا صحَّ
ذلك فإنَّ هذا الشخص يشعر شعورًا غير واضح أنَّه لو أنَّ شخصًا آخر
يستطيع على هذا النحو أن يفكه وأن يُعيد تركيبه
unmake
and remake، فإنَّه هو نفسه يمكن بالمثل أن يكون
أي فرد أو أي شخص منذ البداية طالما ألَّا شيء قد تبقَّى ليكون خاصًّا
به هو.»
٥٢
إنَّ خلق الإنسان لا يُمكِن مطلقًا أن يكون نتاجًا منتهيًا، لا يُمكن
مطلقًا أن يكون كائنًا محددًا يخضع للحساب الرياضي فهو ليس «وجودًا»
على الإطلاق، لكنَّه «صيرورة باستمرار»، فهو على الدوام في عملية
تطوُّر، وهو لا يتوقَّف قط من مجموع معين أو مضمون محدَّد. ونشاط
الانتباه هو الفعل الواحد المستمر، هو الفعل الذي يُوحِّد كثرة المادة
وتعددها في فرد واحد في هوية مع نفسه … لكن موضوع هذا الفعل الموحَّد،
unitary ليس ساكنًا أبدًا، وإنَّما
في تدفُّق مستمر لا ينقطع، وهذا هو السبب في أنَّه من المستحيل لخلق ما
أن يصنع من مادة
stuff معينة لا تزيد
ولا تنقص. فهناك باستمرار إمكانية الخلق التي تفترض نمطًا جديدًا،
ويستجيب بطريقة جديدة تمامًا: «ليس في استطاعة أحد أن يُعبِّر عن خلقه
تعبيرًا تامًّا بواسطة سلوكه الفعلي في الماضي؛ لأنَّ الخلق لا بد أن
يشمل باستمرار الإمكانيات التي لم تتطوَّر بعد. كما أنَّ الاستجابة
التي سوف يرد بها الخلق على مثير جديد، أو حتى على تكرار مثير قديم لا
يُمكن مطلقًا استنتاجها بيقين كامل من الاستجابة التي ردَّ بها على
مثير سابق. ولا يعني التبدُّل الفجائي لسلوك الإنسان المعتاد بالضرورة
أنَّ مؤثرًا خارجيًّا جديدًا غير معتاد قد بدأ يؤثر فيه. لأنَّ خلق
الإنسان يُمكن أن يكون على هذا النحو الذي يجعله يرد بطريقة واحدة على
مثير ٩٩٪ من المرات، وبطريقة مخالفة ١٪، ذلك لأنَّ الخلق هو بالضبط هذه
النسبة الضئيلة ١٪. ويُمكن أن يكون الإنسان قد ركب على هذا النحو: يصيخ
السمع بلا حراك لألف موعظة، ومع ذلك تتغيَّر حياته كلها من الموعظة
السابقة. في حين أنَّك قد تجد شخصًا آخر تتشابه حياته الخارجية وحتى
الداخلية في جميع مظاهرها السابقة، يمكن كذلك ألَّا يتأثر بأي عدد من
هذه النداءات
apeals.»
٥٣
(٢٧) ﺟ. والحجة الرابعة للفيلسوف الجبري فيما يتعلَّق بالضرورة
السببية مستمدة من المسئولية الخلقية؛ فهو يعترف بأنَّ حرية الإرادة
وليس الجبر
determination كما يفترض
عادة، هي التي تتناقض مع المسئولية، فإذا كان من الممكن أن يُعاقب
الإنسان أخلاقيًّا، أعني إذا ما كان مسئولًا بحسب ذلك يرجع إلى أنَّ
فعله الخاطئ هو محصلة طبيعته؛ أي تتحكَّم فيه الظروف، وأعظم هذه الظروف
أهمية يكمن في تكوينه الذهني، ولأنَّنا يُمكن أن نأمل بطريقة معقولة أن
يُغيِّر هذا العقاب من طبيعته إلى أحسن. «ولو صحَّت وجهة النظر
العارضة، أعني لو كانت أفعال الإنسان الإرادية لا تتحكَّم في أساسها
ظروف يتضمنها نسق تكوينه الذهني، فإنَّ الأساس الوحيد لعقابه لا بد أن
يكون في هذه الحالة انفعالًا من انفعالات الغل
resentement أو الانتقام
revenge».
٥٤
(٢٨) ومن المؤكد أنَّ ذلك لا بد أن يكون صحيحًا لو كانت الأخلاق
علاقة اجتماعية فحسب بحيث تُفسِّر المسئولية بألفاظ العقوبة التي
يوقعها الناس في مجتمع ما على المخطئ، أو المكافأة التي يقدمونها إلى
المصيب. فالمسئولية هنا تعني المسئولية أمام الآخرين الذين يُبدُون
استحسانًا أو استهجانًا لسلوك شخص ما حتى يغيره إلى الصورة المقبولة
اجتماعيًّا. و«ربنسن كروزو» الذي لم يكن يعيش معه أحد ليعاقبه أو
يكافئه عمَّا يفعل ليس مسئولًا — عند هذه النظرة — عن أعماله مسئولية
أخلاقية. وهو حر تمامًا أن يفعل وأن يسلك كما يشاء وبأيَّة طريقة يشعر
— عن طريقة الرغبة — بميل نحوها. غير أنَّ هذه النظرة تستبعد ما أعتقد
أنَّه أعظم النقاط جوهرية في الأخلاق — وهو ما يُمكن أن أُسميه
بالمسئولية الذاتية
self-responsibility، أعني مسئولية
الفاعل عن نفسه.
إنَّ الفرد المنعزل يُمكن أن يظل مع ذلك — ولا بد أن يظل — موجودًا
أخلاقيًّا، وإذا ما كان فاعلنا المنعزل مُجبرًا على السلوك بطريقة
معينة، فهو ليس بحاجة إلى أن يعتبر نفسه مسئولًا أمام نفسه، وما كان
يُمكن أن يكون له الحق في الاستمتاع بالفعل في طريق معين، أو التألم من
وخزِ الضمير بسبب فعل آخر، إنَّ فاعلنا المنعزل لو أنَّه مُجبر لا
يحتاج إلى ممارسة أي جهد أخلاقي حتى يتبع طريقًا معينًا من الفعل
ويتجنب طريقًا آخر.
(٢٩) ويمكن أن يسألنا سائل: «لكن لماذا ينبغي على الفاعل المُنعزل أن
يفعل الفعل الصواب right act؟» والجواب
هو: «لأنَّ واجبنا أن نفعل الفعل الصواب.» والسؤال لماذا ينبغي علينا
أن نفعل واجبنا هو سؤال لا معنى له؛ لأنَّ الفعل الذي يكون واجبي يعني
أنَّني ينبغي على أن أفعله، وسلطة الفعل الواجب لا يمكن أن ترد الغرض،
ما لم يفهم الغرض ليعني التعبير عن ذاتنا المثالية. إنَّنا نبذل جهدًا
أخلاقيًّا في أفعالنا الإرادية لا لأنَّنا نُريد أن نصل إلى غاية
موضوعية، لكن لأنَّنا نشعر أنَّه من المُحتَّم علينا أن نُحقِّق
طبيعتنا الحقة، بأن نسلك سلوكًا عقليًّا. صحيح أنَّ أفعالنا الإرادية
يُمكن أن يتصادف أن تشبع ميلنا، لكن حتى في هذه الحالة فنحن لا ننجزها
لأنَّها تخدم ميلنا، بل ننجزها لأنَّ من واجبنا — فحسب — أن ننجزها،
ولا نستطيع أن نذهب أبعد من سلطة الواجب. فالجهد الأخلاقي لا يُبذل
لأنَّه مفيد أو نافع. لكنَّه يُبذل لأن سلطة الواجب تتطلبه، كما أنَّه
لا يُبذل بروح الخضوع للسلطة، لكنَّه يُبذل طواعية واختيارًا، وبطاعة
حقيقية لما يُمليه عليه العقل: إنَّ عبارة «ينبغي عليك
Thou shalt» لا تعني من المفيد لك
أو من صالحك كذا، إنَّها لا تعني شيئًا سوى القول بأنَّ فعلًا
مُعيَّنًا لا بد من تحقيقه طاعة لباعث الواجب.
إنَّنا نفعل الأفعال التي يُحتمها واجبنا لا لنتجنَّب العقاب أو
نستمتع بالمكافأة، بل لكي نُعبِّر عن طبيعتنا الحقة فحسب. إنَّ مكافأة
العمل الفاضل أو الخير تكمن في هذا العمل نفسه، وقل مثل ذلك في عقاب
الشر، فهو يكمن في الشر المرتَكب نفسه. إنَّ الفاعل حين يسلك سلوكًا
فاضلًا يستمتع بالإشباع الذاتي «أو الاكتفاء الذاتي» الذي هو مكافأة
كافية. ومكافأة العمل الخيِّر تنبع من هذا العمل نفسه بالضرورة، كما
تنبع من طبيعة المثلث أنَّ زواياه الثلاث يُساوي مجموعها قائمتين. ولقد
كتب اسبينوزا في رده على بلينبرج
Blyenbergh
يقول: «لا أستطيع أن أُمسك عن القول بأنَّني دُهشت
غاية الدهشة من قولك: إنَّه ما لم يُعاقب الله على الجريمة … فأي
اعتبار يُمكن أن يمنعني من أن أرتكب بشغف جميع ألوان الجرائم؟ يقينًا
أنَّ من يمتنع عن ارتكاب الجرائم خوفًا من العقاب فحسب … لا يكون سلوكه
صادرًا عن المحبة على أي نحو، وسلوكه هذا يَتضمَّن أدنى فضيلة ممكنة.
أمَّا بالنسبة لي فأنا أتجنَّب ارتكاب الجرائم — أو أحاول أن أتجنَّبها
— لأنَّ طبيعتي الخاصة تعافها صراحة، ولأنَّها لا بدَّ أن تؤدي بي إلى
الضلال بعيدًا عن محبة الله وعن معرفته.»
٥٥
لكن لو أنَّ إنسانًا ذا طبيعة خيرة حقَّق تلك الطبيعة في أعماله
الخيرة، واستمتع بالسعادة الناجمة عنها، فلماذا لا بد للإنسان ذي
الطبيعة الشريرة أن يُعاني من أعماله، لو أنَّ هذه الأعمال كانت لا
تُعبِّر إلَّا عن ماهية طبيعية فحسب؟ ولا نستطيع أن نفعل شيئًا بصدد
الإجابة عن هذا السؤال خيرًا من اقتباس نص من المراسلات التي دارت بين «أولدنبرج»
٥٦ واسبينوزا، الأول يسأل، والثاني يجيب إجابة مقنعة.
وهذا ما كتبه «أولدنبرج»: «لو كان مثلنا نحن الموجودات البشرية في
جميع أفعالنا الأخلاقية والطبيعية — على حدٍّ سواء — بين يدي الله، مثل
قطعة الصلصال بين یدي صانع الفخار، فبأي حق يُمكن لأي واحد منَّا أن
يُلام لأنَّه سلك بهذه الطريقة أو تلك، حين يكون من المستحيل عليه
استحالة مطلقة أن يسلك بطريقة أخرى؟ أليس في مقدورنا جميعًا أن نرد على
الله قائلين: إنَّ قدرك المحتوم، وقوتك التي لا تُقاوم قد اضطرَّتنا أن
نسلك على هذا النحو، وجعلت من المستحيل علينا أن نفعل على نحو آخر،
فلماذا إذن، وبأيِّ حق تُسلمنا إلى مثل هذه العقوبات المرعبة، التي لا
نستطيع اجتنابها بأيَّة طريقة من الطرق، إنَّنا نرى أنَّك تفعل كل شيء
وتوجِّه كل شيء وفقًا لضرورة عليا تتفق مع إرادتك ومشيئتك؟ لو أنَّك
أجبت بأنَّ الناس لا عذر لهم أمام الله، لا لسبب آخر سوى أنَّهم بين
يدَي الله. فإنَّي سوف أرد هذه الحجة — يقينًا — وأقول: إنَّ الناس لهم
عذرهم الواضح بالضبط بسبب أنَّهم بين يدي الله. لأنَّه من اليسير على
كل إنسان أن يحتج قائلًا: آه! يا إلهي. إنَّها قوتك التي لا رادَّ لها!
ومن ثم يبدو أنَّني لا بد لي من أن أعذر إن لم أفعل على نحو آخر.»
٥٧
ولقد كتب «اسبينوزا» يقول في ردِّه على هذه الرسالة: «ما قلته من
أنَّنا … لا عذر لنا لأنَّ مثلنا بين يدَي الله مثل قطعة الصلصال بين
يدي صانع الفخار أردت أن يُفهم منه أنَّ أحدًا لا يستطيع أن يلوم الله
لأنَّه منحه بنية هشَّة أو عقلًا ضعيفًا؛ لأنَّ مثل هذا اللوم سوف يكون
عبثًا
absurd، أشبه بعبث شكوى الدائرة
من أنَّ الله لم يمنحها خصائص الكرة
sphere، أو شكوى الطفل الذي آلمه
حجر من أنَّ الله لم يمنحْه جسدًا سليمًا من الناحية الصحية، ومن
المعرفة الحقة ومن محبة الله، وأنَّه أعطاه طبيعة بلغت من الوهن حدًّا
جعله لا يستطيع أن يكبح جماح رغباته أو أن يجعلها مُعتدلة. إذن لا شيء
يَنتمي لطبيعة كل موجود غير ما ينتج بالضرورة من سببه المعطى. لكنك
تُصرُّ على القول بأنَّه لو كان الناس يُخطئون بضرورة طبيعتهم، فإنَّهم
في هذه الحالة لهم عذرهم؛ لكنَّك لم تُفسِّر لي ما الذي تُريد أن
تستنتجه من ذلك؟ لم تُفسِّر لي ما إذا كنت تريد أن تستنتج من ذلك أنَّ
الله لا يكون على حق في غضبه عليهم، أو ما إذا كانوا هم يستحقون
الغبطة، أعني يستحقون معرفة الله ومحبته. لو كنت تقصد الأولى فسوف
أُسلِّم تمامًا بأنَّ الله ليس غاضبًا، وأنَّ جميع الأشياء تسير وفقًا
لقراره. لكني أُنكر أنَّه ينبغي لهم من ثم أن يكونوا سعداء؛ لأنَّ
الناس يُمكِن أن يكون لهم عذرهم، ويفتقرون مع ذلك إلى السعادة، بل
عليهم أن يكونوا معذورين بطرق شتى. فالحصان له عذره في كونه حصانًا
وليس إنسانًا، ومع ذلك فهو لا بد أن يكون حصانًا لا إنسانًا. من يُصيبه
مسٌّ من جنون بسبب عضة كلب هو في الواقع معذور، لكن غيره من الناس لهم
الحق — مع ذلك — في خنقه.
٥٨ وأخيرًا فإنَّ من يعجز عن ضبط رغباته وكبح جماحها خشية
القانون، فإنَّه يعجز — مع أنَّه لا بدَّ من أن يُعذر لضعفه — عن
الاستمتاع بصفاء الذهن، ومعرفته الله ومحبته، لكنَّه لا بد بالضرورة أن يهلك.»
٥٩ وأنا أتَّفق مع وجهة نظر اسبينوزا بقدر ما تذهب إلى أنَّ
العقاب والمكافأة بالمعنى الحقيقي لهاتين الكلمتين، هما نتيجتان
ضروريتان لأعمال الفاعل، التي هي بدورها المحصلة الضرورية لطبيعته؛
فالعقاب والمكافأة لا يحددان — كما يزعم الفيلسوف الجبري — السلوك
المقبل للفاعل. لكنَّهما يحددان نتيجة سلوكه في الماضي. والعقاب
والمكافأة من ناحية أخرى لا يحتاجان إلى فرضهما على الفاعل من سلطة
خارجية، بل على العكس، لا بد أن يفرضهما الفاعل على نفسه
Self-Imposed.
ولكن وجهة النظر التي يأخذ بها هذا البحث تختلف عن وجهة النظر التي
تُنسب عادة لاسبينوزا، وهذا الاختلاف يكمن في أنَّ البحث الحالي لا
ينظر إلى طبيعة الفاعل على أنَّها معطاة ومقدرة سلفًا، لأنَّ طبيعة
الفاعل — إلى حدٍّ معين — من صنعه.
(٣٠) حين نقول للفيلسوف الجبري: إنَّه بناءً على وجهة نظرك، فإنَّه
لا يُمكن أن يكون هناك وجود لكلمة «ينبغي»؛ لأنَّ هذه الكلمة تَتضمَّن
كلمة «أستطيع»، وكلمة «أستطيع» تعني الاختيار، فإنَّه قد يَسمح بمعنى
واحد فقط تتضمَّن فيه كلمة «ينبغي» كلمة «أستطيع»، فهو قد يقول إنَّ
الإنسان مُقيَّد أخلاقيًّا فحسب بأن يفعل «ما في قدرته»، وما «يستطيع
الإنسان أن يمسك عنه» هي تلك الموضوعات التي تخضع للعقاب أو الإدانة
الأخلاقية. لكنَّه يُفسِّر كلمة «يستطيع» وعبارة «ما في قُدرته»
بأنَّها تعني فحسب غياب جميع العقبات التي لا يُمكِن التغلُّب عليها،
ما عدا الحاجة إلى باعث كافٍ
٦٠ لكن إذا كان الفيلسوف الجبري يُوافق على أنَّه يُمكن أن
تكون هناك حالة يستطيع فيها الفاعل أن يَمتنع عن فعل شيء ما، أفلا يعني
ذلك أنَّ نظريته ليست مقنعه بما فيه الكفاية بحيث تشمل جميع الحالات
الممكنة؟