الفصل السادس
المذهب الجبري: إمكان التنبُّؤ
(١) ما المقصود بإمكان التنبؤ؟ (۲) مغالطة إمكان التنبؤ التراجُعي.
(٣) مبدأ اللاحتمية في العلم. (٤) أيًّا ما كان تفسير هذا المبدأ فهو
يُعارض الحتمية المطلقة. (٥) لا نهدف إلى البرهنة على عدم إمكان التنبؤ
بالسلوك البشري من عدم إمكان التنبؤ في العالم الطبيعي. لكنَّا نُقدِّم
هذا المبدأ ضد أولئك الذين يرغبون في البرهنة على التنبؤ بالسلوك
البشري من التنبُّؤ في العالم الطبيعي.
•••
(١) أما وقد ناقشنا المذهب الجبري في معنيَين له هما (١) القول
بأنَّه من المستحيل على الشيء أن يكون خلاف ما هو عليه.
(۲) القول بأنَّ مبدأ السببية هو المبدأ السائد في الطبيعة، فإنَّ
علينا الآن أن نُناقش المعنى الثالث لهذا المذهب، وهو الزعم القائل
بأنَّ كل شيء يُمكن التنبؤ به لو توافرت لدينا معطيات معينة
كافية:
يرى المذهب الجبري — فيما يتعلق
بإمكان التنبؤ — بأنَّ حالة الكون الحاضرة تعتمد تمامًا على ما حدث في
لحظة ماضية، فكل شيء موجود، وكل حدث يحدث بالضرورة وليس ثمة بدائل
ممكنة تتعلَّق بمستقبل سير الحوادث، بل هناك طريق واحد مفتوح: وهو
التتابع الضروري لما قد كان موجودًا بالفعل، وخطة الكون كله من أضأل
التفصيلات موضوعة مقدمًا وضعًا تامًّا، فلا شيء جديدٌ، ولا يُمكِن أن
تتوقَّع شيئًا جديدًا.
يوم بدء الخلق أنشا الصانع
آخر الناس، وألقى الزارع
بذرة يبدو جناها اليانع
آخر الدهر، وما قد رقما
مبدأ يُتلى حسابًا في الختام
١
والواقع أنَّ المذهب الجبري كان يعني تمامًا إمكان التنبؤ عند عالم
الطبيعة الذي عاش منذ نصف قرن. يقول بروفيسور «إدنجتون»: «إنَّ المذهب
الجبري الذي كان يأخذ به عالم الطبيعة في الماضي كان نوعًا خاصًّا هو
ما أُسمِّيه بإمكان التنبؤ، وهو يفترض أنَّ هناك نسقًا مُنظمًا من
القوانين، بحيث لو أُعطيت لنا وقائع كاملة عن حالة العالم خلال اللحظة
الأولى من عام ١٦٠٠ — مثلًا — فإنَّنا نستطيع أن نتنبأ بالمعطيات
الكاملة عن حالة العالم لأيِّ تاريخ لاحق «وكذلك طبعًا لأي تاريخ ماضٍ» …»
٢
(۲) وسؤالنا الآن هو: هل يُلاحظ المتنبئ بالفعل الخاصية «ص» في
اللحظة «ل»، وبالتالي يُخبرنا مقدمًا أنَّ خاصية أخرى «س» سوف تظهر إلى
الوجود في اللحظة «ل٢»، أم أنَّه غالبًا ما يُلاحظ «س» في لحظة «ل۲»،
ثم يستدل منها تراجعيًّا أنَّه لا بد أن يكون قد كان هناك «ص» في لحظة
«ل١»؟ إنَّنا إذا ما وجدنا أنَّ ما يحدث أحيانًا هو الحالة الأخيرة،
فإنَّ رأي المتنبئ يُمكن أن يكون له ما يُبرِّره، إذا — وإذا فقط — كان
من الممكن اكتشاف وجود «ص» في اللحظة «ل١» اكتشافًا مستقلًّا، أعني من
خلال وسائل أخرى غير «س». لكن إذا لم يكن هناك وسائل أخرى نعرف بها
أنَّ «ص» لا بدَّ أن تكون قد وُجِدت في الماضي، اللهم إلَّا بواسطة
الملاحظة الأخيرة «س»، فلا يُمكِن أن يكون هناك في هذه الحالة
تنبُّؤ.
والواقع أنَّ المغالَطة التي تكمن خلف وجهة نظر الفيلسوف الجبري فيما
يَتعلَّق بإمكان التنبُّؤ هي — فيما يبدو — على النحو التالي: أنَّه
يُلاحظ «س» في لحظة «ل»، ثم يستدل منها أنَّه لا بدَّ أن يكون قد كانت
هناك «ص» في لحظة «ل١»، ثم يسير أبعد من ذلك ليقرر أنَّنا إذا ما عرفنا
«ص» في لحظة «ل١»، فإنَّنا نَستطيع أن نتنبأ ﺑ «س» في «ل۲»، دون أن
نبحث فيما إذا كانت «ص» في لحظة «ل١» كانت موجودة كعامل حقيقي أو كعنصر
خرافي، والفيلسوف الجبري يتلاعَب «بالتسليم بخاصية أنَّها كانت «ص».
افرض أنَّ لدينا نسقين هما «س١»، «س۲» كانا يتشابهان تشابهًا تامًّا
حتى لحظة «ل»، ثم في لحظة «ل١» اختلف النسقان، إمَّا تلقائيًّا أو
استجابة لاختبار مُماثل طبق عليهما معًا بحيث عبَّر أحدهما عن خاصية
«س١» بينما عبَّر الآخر عن خاصية «س٢». إنَّ في استطاعتنا في هذه
الحالة أن نأخُذ عن الخاصية «س١» في لحظة «ل» لنُحدِّد أنَّها كانت
«ص١»، والتعبير عن خاصية «س۲»، في لحظة «ل» لنُحدِّد أنَّها كانت «ص٢».
ونحن نكون بهذا الشكل قد أظهرنا أنَّ النظامين ليسا بالضبط متشابهين
أتمَّ التشابه قبل لحظة «ل»، طالما أنَّ «س١» كانت لها الخاصية «ص١»
و«س۲» كانت لها الخاصية «ص٢» وأنَّ اختلاف سلوكهما ليس مثلًا على مبدأ اللاحتمية.»
٣
تلك هي حجة الفيلسوف الجبري. غير أنَّنا لا بدَّ أن نُميِّز الحالات
التي تستنتج فيها «ص» من «س» بحيث يُمكِن اكتشافها بطرق أخرى قبل أن
تظهر «س»، أقول إنَّنا يجب أن نفرق بين هذه الحالات الأخيرة وبين تلك
الحالات التي نعرف فيها «ص» فقط من خلال «س»، وبالتالي يُمكِن تحديدها
بواسطتها. وفي الحالة الأخيرة لا يكون هناك تنبؤ: لكن هل هناك مثل هذه
الحالة؟
ولكي نُبيِّن كيف يُمكِن تفسير ذلك عمليًّا، يقول بروفيسور إدنجتون:
«دعنا نفترض أنَّ نترات الفضة هو اسم مُشترك لنوعين مختلفين من الملح
(فرضًا) هما: ف ن أ ٣، وف ن- أ ٣، وأنَّ العلامة الوحيدة على اختلافهما
هي سلوك مختلف بواسطة اختبار يُحطِّم الملح بحيث لا يُمكن أن يتكرَّر
على الإطلاق. ولا بد لي من أن أقول إنَّ النتيجة المستخلَصة من
الاختبار في هذه الحالة بأنَّ الملح كان نترات فضَّة هی استدلال أصيل
طالما أنَّه يُحدِّد خاصية كان يُمكن التحقُّق منها بطريقة أخرى في
اللحظة التي نفترض فيها وجود هذه الخاصية، في حين أنَّ النتيجة القائلة
بأنَّ الملح كان ف ن - أ ٣ وليس ف ن أ ٣ ليست استدلالها لكنَّها إعادة
تقرير ما قد حدث تحت شكل أو على هيئة التحديد التراجُعي للخاصية.
والحقيقة هي — على ما نعرف — أنَّ سلوك نترات الفضة فيما يتعلَّق بهذا
الاختبار الجزئي المعيَّن هو سلوك غير محدَّد، والرموز ف ن، وف ن ليست
إلَّا مجرَّد إشارة إلى سلوكين محتملين لها.»
٤
علينا إذن أن نُفرِّق تفرقة واضحة تمامًا بين هذين الشرطين
المُمكنين: (۱) حين نستدلُّ تراجعيًّا من ظهور «س» في «ل۲» أنَّ
الخاصية «ص» لا بدَّ أنَّها كانت توجد في «ل١» فها هنا تسليم ضمني
بأنَّ الخاصية «ص» في اللحظة «ل» يُمكِن التحقُّق من وجودِها تحققًا
مستقلًّا قبل حدوث «س» في «ل۲». وبالتالي يُمكِن التنبؤ بدقة و«س» من
«ص». (٢) لكن حين نفترض وجود خاصية «ص» في «ل١» لا يُمكن معرفتها إلَّا
بعد أن تظهر «س١» في «ل٢» وأكثر من ذلك لا يُمكن تحديدها بأيَّة طريقة
من الطُّرق إلَّا بالإشارة إلى حدوث «س» في لحظة ما فيما بعد، فلا معنى
إذن للقول بأنَّ «ص» هي التي كانت تُحدِّد «س»، ومن هنا كان من المشروع
تمامًا أن نقول إنَّ ظهور «س» لا يُمكِن التنبؤ به.
وسوف نقتبس النص الآتي من بروفيسور إدنجتون لكي نقدم أمثلة عينية
لهاتين الحالتين: «دعنا الآن نُقارن بين ظاهرتَين؛ إحداهما نفترض فيها
أنَّها غير مُحدَّدة. والأخرى — لأغراض عملية، رغم أنَّ ذلك ليس مطلقًا
— نفترض فيها أنَّها مُحدَّدة، وسوف آخذ كمثل على الظاهرة غير المحددة
تحطيم ذرة الراديوم. هذه الذرة في اللحظة الحاضرة ل صفر، لا نعرف ما
إذا كانت سوف تتحطَّم في اللحظة «ل١» أو في لحظة أخرى «ل٢» فذلك غير
محدَّد … قارن بين هذا المثل وبين ظاهرة محدَّدة «على وجه التقريب»
كالقول بأنَّ الكوكب «بلوتو Pluto» سوف
يصل إلى مركز معين في السماء في اللحظة «ل١» وليس في اللحظة «ل٢».
إنَّنا حين نُلاحظ ذرة الراديوم تتحطَّم في اللحظة «ل١» فإنَّ في
استطاعتنا لو شئنا أن «نستدل» خاصية «ص١» استدلالًا تراجعيًّا من لحظة
«ل صفر». غير أنَّنا إذا ما وجدنا أنَّه ليس ثمة طريقة أخرى لوصف «ص١»،
إلَّا بربطها بتحطيم الذرة في لحظة «ل١» فإنَّنا لا نفعل شيئًا سوى
تقرير الظاهرة التي لاحظناها في كلمات مختلفة. فمن ملاحَظة الكوكب
«بلوتو».
نستطيع بالمثل أن نستنتج الخاصية ص١ في لحظة ل صفر غير أنَّ «ص١» في
هذه الحالة هي استدلال أصيل؛ لأنَّها لا تُحدَّد بالإشارة لما
استنتجناه منها. وعلى ذلك فالخاصية «ص١» يُمكن أن تكون أنَّ الكوكب
«بلوتو» كان في وضع مُعيَّن في المساء في لحظة ل صفر، أو أنَّه عندئذ
مارس بعض الآثار المشوشة على الكوكب نبتون
Neptune، وهذه الخصائص يُمكن
تحديدها بالإشارة إلى بعض الظواهر التي حدثت في وقت سابق على «ل١» …
لقد قابلت بين لا حتمية تحطيم ذرة الراديوم، وبين حتمية وضع الكوكب
بلوتو
Pluto، لكني لا بدَّ أن أوضِّح
أنَّ ذلك اختلاف في الدرجة لا في النوع … وإنِّي لأعتقد أنَّ أولئك
الذين يَفترضُون خاصية «ص» المجددة في ذرة الراديوم، ويتوقَّعون أن
يُنظر إلى افتراضهم هذا على أنَّه شيء أكثر إلهامًا من التخمين الطائش،
يتأثَّرون بوجهة النظر التقليدية التي تقول إنَّك لو سلَّمت بأنَّ هناك
ظاهِرة ما غير مُحدَّدة «أو لا حتمية» فلا بد أن تُسلِّم بوجود استثناء
في سير الطبيعة المنتظم. وليس ذلك صحيحًا. فكل ظاهرة — في التخطيط
الحالي لعلم الطبيعة — لها درجة معينة من اللاحتمية. والحسابات التي
تجري من الصيغ تعطينا في آنٍ واحد نتيجة مرجحة وقياسًا لا يقينيًّا.
والترجيحات ترتب من الشواذ الظاهرة حتى المصادفات لكنَّها لا تصل قط
إلى يقين كامل.»
٥
(٣) ويؤدي بنا ذلك إلى مبدأ اللاحتمية، وهو المبدأ السائد الآن في
العلم؛ لأنَّ العلم «لم يعد يبحث عن اليقين، لكنَّه يبحث فقط عن
الاحتمال المرجَّح في وقوع حادثة ما، أو أنَّ قانونًا من قوانين
الطبيعة قانون صحيح … وهذا يعني أنَّ جميع قضاياه لها طابع إحصائي؛
فسلوك الوحدات التي يُعزى إلى الإحصائيات هو سلوك غير حتمي، والنتائج
الإحصائية لا تُعطينا سوى احتمالات ترجيحية فحسب.» ويُصاغ مبدأ
اللاحتمية في صورتين: ولقد انتشرت الصورة القديمة منهما حين افترض
العلماء أنَّ الذرة تتألَّف من نواة شمسية مع إلكترونات كوكبية تدور
حولها في عدد من المحاور، وتبعًا لمثل هذا الافتراض، فإنَّ إشباع
الذرَّة يحدُث حين يقفز الإلكترون من محور آخر في لحظة معيَّنة يُفترض
فيها أنَّها غير محددة.
لكن هناك صورة حديثة أكثر من ذلك لمبدأ اللاحتمية لخَّصها «دكتور
برود» على النحو التالي: «هناك مقادير يُمكِن قياسها «ك وق» ذات أهمية
أساسية في علم الطبيعة الأولى لها طبيعة الوضع، أمَّا الثانية فلها
طبيعة اللحظة. وقيمة «ق» في لحظة معيَّنة وفي مكان محدد — بالنسبة
لوقائع معينة، هي التي سوف أشير إليها ﺑ «ط ق» — يمكن أن تقع داخل أو
خارج نطاق صغير معين و
Δق على حدٍّ سواء، وبالنسبة لنفس هذه
الوقائع نفس الزمان والمكان فإنَّ قيمة ق يُمكن كذلك أن تقع خارج أو
داخل نطاق صغير هو
Δق،
وبما أنَّ المعطى ط ق ك يتغيَّر في جوانب أخرى معينة تغيُّرًا متصلًا
فإنَّ النطاق
Δك
ينكمش بغير حدود. لكن هذين النمطين من التغير في المعطيات يرتبطان
ارتباطًا وثيقًا لدرجة أنَّ أيَّ تغيير ينقص من نطاق
Δك يزيد من نطاق
Δق،
وأي تغير ينقص من نطاق
Δك يزيد من نطاق
Δق، والعلاقة المتبادَلة بينها هي أنَّ
الناتج صفر
Δق الذي يحدثه
Δك له
قيمة متميزة معينة مستقلة عن التغيرات التي تحدُث للمعطى ط ق ك.»
٦
والمبدأ الذي تُقرِّره هذه الصورة يُمكن شرحه بإحدى طريقتين؛ الطريقة
الأولى أبستمولوجية «معرفية»، والطريقة الثانية أنطولوجية
«وجودية».
(أ) والشرح الأول يتعلَّق بعدم يقين القياس، فحين تُقاس مقادير معينة
مجاوزة درجة معينة من الدقة، فإنَّ أثر آلة القياس على العملية المراد
قياسها يصبح ملحوظًا. فالآلات نفسها بما أنَّها مصنوعة من المادة
النهائية ultimate stuff للشيء المُراد
قياسه ذاته، فمن المحتمَل أن تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها هذه
المادة، وعلى ذلك فمن المحتمَل جدًّا أنَّ أيَّة محاوَلة لرد الأثر
المزعج للآلة من حيث أنَّها تقيس «ق» لا بد بالضرورة — بعد حدٍّ معين —
أن تزيد من أثرها المزعج، من حيث أنَّها تقيس ك، والعكس صحيح أيضًا.
ولو صح ذلك فإنَّ الناتج
Δق
Δك لا بد أن تكون له قيمة حق معينة لا
تتعلَّق بالمنهج المُستخدم في قياس ق د ك.
(ب) إنَّ القول بوجود قيمة مُعيَّنة يُمكِن تحديدها في نقطة مُعيَّنة
أو لحظة محدودة هو قول مُصطَنع إلى حدٍّ كبير. خذ مثلًا انحناء القوس
في نقطة مُعيَّنة، قد تقول إنَّ القوس ليس فيه انحناء عند هذه النقطة،
أو فيه انحناء لا مُتناه، أو فيه انحناءان مختلفان. وقد يكون ذلك
صحيحًا بالنسبة لجميع المحدَّدات
determinable ذات الأهمية في علم
الطبيعة.
(٤) ولو أنَّنا فهمنا مبدأ اللاحتمية بالمعنى الذي يُمكِن فيه
للإلكترون في إحدى الذرات أن يقفز — بغير تنبُّؤ — من محور إلى محور
آخر، فإنَّ ذلك يضعف — في الحال — حجة الفيلسوف الجبري الذي يُقيم
إمكان التنبُّؤ بالسلوك على أساس إمكان التنبؤ في العالم الطبيعي. وإذا
كان الأخير لا يُمكِن التنبُّؤ به، نتج عن ذلك أنَّه لا يُمكِن التنبؤ
بالأول أيضًا.
وإذا ما أخذنا مبدأ اللاحتمية من ناحية أخرى، على أنَّه يعني عدم
الدقة في القياس، مهما تكن الأدوات المُستخدَمة في عملية القياس، فإنَّ
ذلك أيضًا سوف يكون حُجة ضد أولئك الذين يعتقدون أنَّ السلوك البشري
يُمكِن حسابه لو أنَّنا توقفنا فحسب عن الاستبطان، وقسنا الظواهر
البشرية قياسا كميًّا كما نفعل في بقية العالم الطبيعي.
وإذا ما أُخذ هذا المبدأ على أنَّه يعني إمكان معرفة قيمة مُحدَّد
مُعيَّن certain determinable في نقطة
معينة أو في لحظة محددة، فسوف يكون من اللغو أن نقول: «إنَّنا إذا ما
قُدِّمَت لنا المعطيات الدقيقة في لحظة معينة» فسوف يكون من الممكن
التنبؤ بالظروف في لحظة «لاحقة». لأنَّ «المعطيات في لحظة معينة» لا
يُمكن أن تُعطى بدقة.
(٥) لكنا لم نُقدِّم الحجة السابقة لكي نُبرهن على أنَّ السلوك
البشري لا يُمكِن التنبؤ به لأنَّ حوادث العالم الطبيعي قد وجدنا
أنَّها تجاوز عملية التنبؤ. فذلك لا بد أن يعني أنَّ الأحداث الذهنية
مُعتمِدة على الأحداث المادية، وأنَّ مبدأ اللاحتمية المفترض في المادة
دليل في صالح لا حتمية الذهن، أعني أنَّ خصائص الذهن يُمكن استنباطها
من خصائص المادة. والواقع أنَّ الحجة السابقة تهدف إلى تفنيد النظرية
التي تعزو — بیقینٍ مُطلَق — حتمية للعالم غير العضوي، ثم تفترض بعد
ذلك عن طريق المُماثلة والتشابه، أنَّ الحتمية تصدُق كذلك على الحوادث
الذهنية رغم مظهرها الذي يوحي بعكس ذلك.
سوف أقتبس النصوص الآتية من برفيسور إدنجتون وأوجِّهها إلى أولئك
الذين لا يزالون يعتقدون أنَّه من الصعب التخلُّص من الحتمية بوصفها
تصورًا صادقًا للعالم المادي — يقول إدنجتون: «لا بد لي أن أوضِّح أنَّ
النظرة العلمية للمذهب اللاحتمي لا تعني أنَّ هناك أحيانًا استثناءات
للقانون الحتمي، لكنَّها تعني أنَّ كل ظاهرة هي لا حتمية بدرجة كبيرة
أو صغيرة.»
٧
وهو يقول كذلك: «إني أعتقد أنَّنا ننظر إلى المذهب الحتمي الآن على
أنَّه زعم بغير أساس.»
٨ وهو يقول أيضًا: «طالما أنَّ الحتمية قد أُزيحت من وضعها
الذي يبدو منيعًا في علم الطبيعة، فإنَّ — من الطبيعي — أن نشكَّ في
قولها حين تزعم أنَّها اتخذت لنفسها وضعًا مؤكدًا في مناطق أخرى من الخبرة.»
٩ ويُلاحظ الكاتب نفسه، وهو يُلخِّص حججه في صالح المذهب
اللاحتمى: «(۱) يبدو أنَّنا نقوم بتعقيد لا مسوغ له حين نَفترض وجود
الحتمية في العمليات الذهنية واللاحتمية في العمليات الطبيعية. (٢) من
الصعب أن نرى كيف يُمكن أن تَنطبِق الحتمية على حالة ذهنية معينة وحالة
ذهنية أخرى، لا سيما إذا كانت حالة ذهنية لفردٍ معين — أعني وحدة
unit، قد لا يكون لها نظير في
الكون على الإطلاق — فهي تلغي مشكلة المماثلة الوثيقة مع إمكان التنبؤ
في النظم الفيزيائية. (٣) الحالات الذهنية بطبيعتها ذاتها ومن خصائصها
نفسها ليست معطيات للتنبؤ الدقيق».
١٠
لكني أُكرر القول بأنَّني لا أُريد أن أستنبط حريتنا من اللاحتمية في
العالم الطبيعي. فحتى إذا ما كان العالم المادي تحكمُه حتمية مُطلَقة
من أضأل التفصيلات، فسوف أظل على اقتناع تام بأنَّ الإرادة البشرية
تُحدِّد نفسها بنفسها ولا يمكن التنبؤ بها. وفضلًا على ذلك فإنَّ تطوير
هذه النقطة سوف يكون موضوع الفصل القادم.