ثورندايك يفجر اللَّغم
لم يمضِ على رجوعنا إلى المسكن بضع دقائق، حتى سمِعنا طَرْق المطرقة النحاسية الصغيرة على الباب الداخلي. فتح ثورندايك الباب بنفسه، وحينما رأينا الزائرين الثلاثة واقِفين على عتبة الباب، أدخلهم وأغلق الباب خلفهم.
قال مارشمونت بأسلوب تختلِجه مسحةٌ من غضب وشيء من عدم الارتياح: «قبِلنا دعوتك، كما ترى. هذا شريكي السيد وينوود، لا أحسبك قد قابلتَه من قبل. ورأينا أنه ينبغي أن نسمع منك بعض التفاصيل؛ إذ إننا لم نفهم خطابك البتة.»
قال ثورندايك: «هل أعتبِر أن استنتاجي لم يكن مُتوقَّعًا على الإطلاق؟»
صاح وينوود: «الموضوع أبعدُ من ذلك يا سيدي. فهذا الاستنتاج لا يتفق البتة سواءٌ مع وقائع القضية أو مع الاحتمالات المادية المُتعارَف عليها.»
وافقه ثورندايك: «للوهلة الأولى، هذا ما يبدو عليه ظاهر الأمر.»
احمرَّ وجه وينوود فجأةً واعتلاه الغضب، قال: «ما أزال أرى ظاهر الأمر على ذاك النحو. ويسعني القول إنني أمارس مِهنة المحاماة منذ أن كنتَ أنت طفلًا رضيعًا. وأنت يا سيدي تقول إن الوصية مزوَّرة، وهذه الوصية كُتِبت في وضح النهار وفي حضور شاهدَي عدل، ولم يحلف الشاهدان على توقيعهما ومحتوى الوثيقة فحسب، بل أقسما على بصمات الأصابع المطبوعة على الورقة. هل بصمات الأصابع هذه مزوَّرة هي الأخرى؟ هل تفحصتها واختبرتَها؟»
أجاب ثورندايك: «لا، لم أفعل. الحقيقة أنني لا أكترِث لأمر توقيعات الشاهدَين، حيث إنني لا أطعن فيها.»
في هذه اللحظة، بدأ السيد وينوود يستشيط غضبًا.
صاح بصوتٍ مدوٍّ: «مارشمونت! على حدِّ ظني، أنت تعرف ذلك السيد الألمعي. فهل من دأبه أن يتفوَّه بالنكات المُضحكة؟»
قال مارشمونت مُستاءً: «عزيزي وينوود، أرجوك، أتوسَّل إليك أن تتمالك نفسك. مما لا شك فيه أن …»
زمجر وينوود: «اللعنة على هذا كله! فقد سمعته بنفسك وهو يقول إن الوصية مزورة، ولكنه لا يطعن في صحة التوقيعات؛ وهذا …» حينئذٍ خبط وينوود بقبضته على الطاولة «… كلام لا معنى له.»
قاطعهم ستيفن بلاكمور: «أظن أن سبب مَجيئنا إلى هنا هو الاستماع إلى تفسير الدكتور ثورندايك لخطابه. وحريٌّ بنا أن نؤجِّل أي تعليقاتٍ حتى نستمِع إليه.»
قال مارشمونت: «لا شك، لا شك. أتوسَّل إليك يا وينوود أن تتحلَّى بالصبر وتستمع، ولا تُقاطع الحديث حتى نسمع تفسير صديقنا المُستنير للقضية.»
ردَّ وينوود عابسًا: «أوه، حسنًا، لن أتفوَّه بكلمةٍ أخرى.»
جلس في كرسي وكأنه رجل أغلق على نفسِه بالمفتاح؛ ومن ثَم ظلَّ على هذه الحال — إلا حين يبلغ الضغط النفسي نقطة الانفجار — طيلة الأحداث التالية، إذ ظلَّ صامتًا ومتخشبًا وجامدَ الشعور، وكأنه تمثال قابع يُعبِّر عن العناد.
قال مارشمونت: «هل أعتبر أنك توصلتَ إلى وقائع جديدة لم نكن قد توصلنا إليها؟»
أجاب ثورندايك: «نعم، توصلتُ إلى وقائع جديدة، وقد توصلت إلى طُرق جديدة لتفسير الوقائع القديمة. ولكن كيف أطرح القضية أمامك؟ هل أبدأ بنظريتي عن تسلسل الأحداث وأنتهي بالأدلة التي تدعمها؟ أم أتتبَّع المسار الفعلي لتحرياتي وأطرح عليك الوقائع حسب ترتيب وصولي إليها بالإضافة إلى استنتاجاتي؟»
قال السيد مارشمونت: «أرى أن الأفضل أن تضع هذه الوقائع الجديدة بين أيدِينا. وإذا لم تكن الاستنتاجات المَبنية عليها واضحةً بالقدْر الكافي، يُمكننا أن نسمع حُجَّتك. ما رأيك يا وينوود؟»
نهض السيد وينوود من كرسيه للحظاتٍ وقال كلمةً واحدة بنبرة حادة «الوقائع»، ثم جلس في كرسيه مرة أخرى صامتًا.
سأل ثورندايك: «هل تريد الوقائع الجديدة وكفى؟»
«نعم، من فضلك. ففي كل الأحوال، لا أريد سوى الوقائع في المقام الأول.»
قال ثورندايك: «حسنًا»؛ وهنا، لمحتُ في عينَيه بريقًا خبيثًا أفهمه فهمًا تامًّا، وقد علمتُ معظم هذه الوقائع بنفسي، وأدركت الكمَّ الذي سيستنتِجُه هذان المُحاميان. وينوود على وَشْك «مواجهة موقفٍ بالغ الصعوبة» كما وعد ثورندايك.
حين وضع زميلي على الطرف الأقرب له على الطاولة صندوقًا صغيرًا من الورق المقوى، وملاحظات من محفظة أوراقه، نظر سريعًا إلى السيد وينوود واستهلَّ قائلًا:
«أُولى الوقائع الجديدة المهمة توصلتُ إليها يوم عرضتَ عليَّ القضية. بعدما غادرتَ في مساء ذلك اليوم، استغللتُ دعوة السيد ستيفن الطيبة بأن ألقي نظرةً فاحصة على شقة عمِّه في مجمع نيو إن. وقد رجوتُ أن أفعل ذلك كي أتحقَّق — إن أمكن لي — من عادات المُتوفى في مدة إقامته في تلك الشقة. حين وصلتُ مع الدكتور جيرفيس، وجدنا السيد ستيفن في الشقة، علمتُ أن عمَّه كان عالمًا في الحضارات الشرقية وله مكانة مرموقة، وأنه على درايةٍ تامة بالكتابة المسمارية. وبينما أتحدَّث مع السيد ستيفن، توصلتُ إلى اكتشافٍ أثار فضولي. فعلى الحائط فوق المدفأة، تُعلَّق صورة ذات إطار لنقشٍ فارسي قديم بالحروف المسمارية، وكانت هذه الصورة مقلوبة.»
تعجَّب ستيفن: «مقلوبة! هذا شيء يدعو حقًّا إلى الاستغراب.»
وافقه ثورندايك: «أجل، حقًّا ذاك شيء غريب وله دلالات كثيرة. فالطريقة التي قُلبت بها الصورة واضحة ولها دلالات أيضًا. من الواضح أن الصورة وُضِعت في الإطار منذ بضع سنوات، ومن الواضح أنها لم تعلَّق من قبل.»
قال ستيفن: «لم تُعلَّق، رغم أنني لا أعلم كيف توصلت إلى هذه الحقيقة. فقد كانت موضوعة على رفِّ الموقد في شقته القديمة بشارع جيرمين.»
أردف ثورندايك: «ثبَّت صانع الإطار ملصقًا على ظهر الإطار، وبما أن هذا الملصق مُثبت بالوضعية الصحيحة، فيبدو أن الشخص الذي علَّق الصورة على الحائط اتخذ هذا المُلصَق دليلًا يسترشد به.»
قال ستيفن: «أمر غريب حقًّا. كان يجب أن أفكر في أن الشخص الذي علقها كان سيسأل عمي جيفري عن الوضعية الصحيحة، ولا أتخيل أنها ظلَّت مُعلقةً طيلة هذه الشهور من دون أن يلاحظ أنها مقلوبة. لا بد أنه كان كفيفًا بالمعنى الحرفي.»
هنا، أشرق وجه مارشمونت بعدما كان جبينُه مجعدًا من التفكير العميق.
قال: «لقد فهمتُك الآن. تقصد أنه لو كان بصر جيفري مكفوفًا، فلا يُستبعَد أن يُبدِّل أحدٌ ما الوصية؛ ومن ثَم يمكن أن يُوقِّعها من دون أن يُلاحظ تبديلها.»
زمجر وينوود: «ولكن هذا ليس دليلًا كافيًا على تزوير الوصية. فإذا وقَّع عليها جيفري، فقد صارت وصيته. ولا يمكن الطعن فيها ما لم يثبت التزوير. ولكنه قال: «هذه وصيتي»، وقد اطَّلع عليها الشاهدان وتعرَّفا عليها.»
سأل ستيفن: «هل قرآ الوصية بصوتٍ عالٍ؟»
أجاب ثورندايك: «لا، لم يفعلا.»
سأل مارشمونت: «هل يمكنك إثبات التبديل؟»
أجاب ثورندايك: «لم أجزم بذلك، ولكن قلتُ إن الوصية مزورة.»
قال وينوود: «ولكنها ليست كذلك.»
قال ثورندايك: «لن نتجادل في هذا الأمر الآن. ولكن أطلب منكم أن تلاحظوا انقلاب صورة النقش. وأيضًا، رصدت على جدران الشقة بعض اللوحات اليابانية الملوَّنة، وكان عليها بُقَع رطبة حديثة. لاحظت كذلك أن غرفة المعيشة احتوت على موقد غاز وأن المطبخ لا يحتوي، حرفيًّا، على أي مخزونٍ من الغذاء أو أي بقايا طعام، ولا أي أثرٍ للطهو فيه ولو وجبة بسيطة. أما في غرفة النوم، فقد وجدتُ صندوقًا كبيرًا سبق أن احتوى على كميةٍ كبيرة من شمع الستيراين، وكل ستٍّ منها تزن رطلًا، ولكن الصندوق أوشك أن يفرغ. تفحَّصت ملابس المتوفَّى. في نعل الحذاء، رأيتُ طينًا جافًّا، وهذا الطين لا يُشبه المُلتصِق بحذائي أو حذاء جيرفيس، بل إنه لصق في نعلِه من الميدان المرصوف بالحصى في مجمع نيو إن. لاحظت أيضًا تجعيدًا في كل ساقٍ من سروال المتوفَّى وكأنهما شُمِّرا حتى ركبتَيه، وفي جيب صدريَّته عثرت على عُقب قلم رصاص من نوعية كونتاجو. وعلى أرضية غرفة النوم، وجدتُ جزءًا من زجاجةٍ بيضاوية الشكل وكأنها زجاج ساعة أو قلادة، ولكنها مسحوقة من الحافة من الجانبَين. كما وجدنا أنا والدكتور جيرفيس خرزةً أو خرزتَين وخرزة زجاجية، وكلُّها باللون البُني القاتم.»
هنا، توقف ثورندايك، وكان مارشمونت يُحدق فيه النظر باهتمامٍ متزايد، قال متوترًا:
«إمممم … نعم. عجيب حقًّا. الملاحظات التي قُلتها … إمممم هي …»
«هي الملاحظات التي رصدتها في مجمع نيو إن.»
نظر المُحاميان أحدهما إلى الآخر، وحدَّق ستيفن بلاكمور نظرَه في بقعة على البساط أمام المِدفأة. ثم ارتسمت على وجه السيد وينوود ابتسامة استياء وسخرية.
قال: «ربما رصدت العديد من الملاحظات الجيدة يا سيدي لو نظرت. فلو تفحصت الأبواب، للاحظت أن فيها مفصَّلات مغطاة بالطلاء؛ ولو نظرت في المدخنة، لربما لاحظت أنها سوداء من الداخل.»
احتج مارشمونت وهو يشعر بألَم عدم الارتياح مما قد يتفوَّه به صديقه: «الآن، الآن، يا وينوود، يجب أن أتوسَّل إليك … إمممم … أن تمتنع عن … ما يقصده السيد وينوود يا دكتور ثورندايك هو أننا … إمممم … لا نفهم تمامًا وجه الصِّلة في … آه … الملاحظات التي تذكرها.»
قال ثورندايك: «ربما لا تُدركونها الآن، ولكن ستدركونها في وقتٍ لاحق. أما الآن، فسأطلب منكم أن تدوِّنوا الوقائع وتتذكروها؛ بحيث يصير بمقدوركم تتبُّع النقاش حين نأتي إلى ذكر وجه الصلة.
في تلك الليلة، أعطاني الدكتور جيرفيس مجموعة بيانات أخرى، حين ذكر لي تفاصيل مغامرةٍ عجيبةٍ للغاية حدثَت له. لا أريد أن أُثقل عليكم بكل التفاصيل، ولكني سأذكر لكم جوهر القصة.»
ثم شرع في سرد الأحداث المُرتبطة بزيارتي للسيد جريفز، متطرقًا إلى السمات الشخصية للأطراف المعنية وخاصةً المريض، دون أن ينسى حتى النظارة الفريدة التي كان يرتديها السيد فايس. كذلك شرح باختصار رسم الخريطة، وقد عرضها عليهم كي يتفحَّصوها. استمع زوَّارنا الثلاثة إلى هذا السرد في حيرةٍ تامة، ولم يكن حالي يختلف عن حالهم؛ لأنني لم أتصوَّر مُطلقًا كيف ترتبط مُغامراتي بشئون الراحل السيد بلاكمور. ومن الواضح أن هذا هو الرأي الذي اتَّخذه السيد مارشمونت؛ لأنه حين سكت عن الكلام وقد صارَت الخريطة معه، علَّق بنبرةٍ جادَّة إلى حدٍّ ما:
«أظن يا دكتور ثورندايك أن القصة العجيبة التي سردتَها لنا لها علاقة بالموضوع الذي يشغلنا.»
رد ثورندايك: «ظنُّك في محلِّه تمامًا. القصة مُرتبطة به حقًّا، وهذا ما ستكتشفه بعد قليل.»
قال مارشمونت وهو يغوص مرةً أخرى في كرسيِّه، ويتنهَّد مُستسلمًا: «شكرًا لك.»
تابع ثورندايك: «منذ بضعة أيام، حدَّدنا أنا والدكتور جيرفيس مكان المنزل الذي دُعِي إليه بمساعدة هذه الخريطة. وجدنا أن المستأجِر الأخير غادر المنزل على عجلٍ إلى حدٍّ ما، وأن المنزل كان معروضًا للإيجار، وحينما لم يُتَح لنا أي سبيل آخر للتحري، فقد حصلنا على المفاتيح واستكشفنا ذلك المنزل.»
طرح عرضًا مُختصرًا لزيارتنا والظروف التي رصدناها، وهمَّ بأن يعرض قائمة الأشياء التي وجدناها تحت شبكة المدفأة، ولكن السيد وينوود نهض من كرسيه.
صاح: «أحقًّا ما تقول يا سيدي؟! لقد طفح الكيل! وهل أزعجتُ نفسي وتكبدتُ عناء المجيء إلى هنا؛ كي أسمعك وأنت تسرد قائمة جردٍ لكومة تراب؟»
ابتسم ثورندايك ابتسامةً مُتلطفة، ولفتت نظري — مرة أخرى — لمحة من الاستمتاع.
قال بهدوء: «اجلس يا سيد وينوود. فقد أتيتَ إلى هنا كي تسمع وقائع القضية، وأنا سأُعطيك إيَّاها. أرجو عدم المقاطعة من دون حاجةٍ كي لا تهدِر الوقت.»
رمقه وينوود بشرر نظراته لبضع ثوانٍ، ثم بعد أن شعر بالارتباك بسبب هدوء أسلوب ثورندايك، أطلق زمجرةً تدل على تحدِّيه وأجلس نفسَه في الكرسي، وأطبق فمَه مرة أخرى.
أردف ثورندايك بهدوءٍ لم يتزعزع: «سندرس الآن هذه الآثار بمزيدٍ من التفاصيل، وسنبدأ بالنظارة. هذه النظارة لشخصٍ مُصاب بقصر النظر واستجماتزم في عينِه اليسرى، وتوشك عينُه اليمنى على العمى. وهذا الوصف ينطبق تمامًا على وصف الدكتور جيرفيس للمريض.»
سكت حينئذٍ، وحينما لم يُعلق أحد، تابع حديثه:
«نأتي الآن إلى هذين العودَين الصغيرَين، ربما تتعرَّف عليهما أنت يا سيد ستيفن وتُدرك أنهما بقايا فرشاة يابانية، مثل التي تُستخدَم للكتابة بالحبر الصيني أو عمل رسومات صغيرة.»
سكت مرةً أخرى، لعلَّه يسمع تعليقًا من مُستمعِيه، ولكن لم يتحدَّث أحد؛ ومن ثم استكمل حديثه:
«ثم هناك هذه الزجاجة التي تحمِل ملصق صانع الشعر المستعار، وكانت تحتوي على مادةٍ لاصقة مثل التي تُستخدَم لتثبيت اللِّحى المستعارة أو الشوارب أو الحواجب.»
سكت مرة ثالثة ونظر مُترقبًا لمُستمعيه، ولكن لم يتطوع أحد منهم ويُدلي بأي تعليق.
سأل بنبرة يختلِجها شيء من الاندهاش: «ألَا يوجَد شيء مما ذكرتُه لكم وأريتكم إيَّاه له أهمية بالنسبة لنا؟»
قال السيد مارشمونت وهو ينظر إلى شريكه الذي هزَّ رأسه مثل حصانٍ مُضطرب: «لا أرى أنها تدل على شيء.»
«ولا أنت يا سيد ستيفن؟»
أجاب ستيفن: «ولا أنا. في ظلِّ الظروف الحالية، لا أراها تُشير إلى استنتاجٍ منطقي.»
تردَّد ثورندايك وكأنه همَّ بقول شيءٍ ولكنه تراجع، وهز كتفيه قليلًا، وطوى ملاحظاته واستأنف حديثه:
«مجموعة الوقائع الجديدة التالية مُرتبطة بالتوقيعات على الشيكات الأخيرة. فقد صورتُها ووضعتُها بعضها بجانب بعضٍ بهدف المُقارنة والتحليل.»
قال وينوود: «لست على استعدادٍ للتشكيك في التوقيعات. فعندنا رأي خبير سيُلغي رأينا في المحكمة إن اختلفنا معه، ولا أحسب أننا سنختلِف معه.»
قال مارشمونت: «أجل، الأمر كما قال. أعتقد أننا يجب أن نقبل التوقيعات، لا سيما أنَّ الوصية قد ثبتت صِحَّتها بما لا يدع مجالًا للشك.»
وافقه ثورندايك: «حسنًا، سنطوي أمر التوقيعات. إذن، عندي بعض الأدلة الإضافية بشأن النظارة، وهذه الأدلة تخدم التحقُّق من استنتاجنا بشأنها.»
قال مارشمونت: «أعتقد أنه يُمكننا طيُّ هذه المسألة أيضًا، حيث إننا لم نتوصَّل إلى أي استنتاجات.»
قال ثورندايك: «كما تُحب. إنها مهمة ولكن يُمكننا إرجاؤها إلى وقت التحقُّق. وأظن أن البند التالي سيُهمكم كثيرًا. إنها إفادة صامويل ويلكينس المُوقَّعة والمشهود عليها، وهو سائق العربة التي أتى فيها الراحل إلى المنزل ليلة وفاته.»
لقد أصاب زميلي. إنها وثيقة حقيقية، وقَّعها شاهد موجود يمكن أن يقف أمام المحكمة ويُقسِم، وقد أثارت اهتمام المُحامِيَيْن، وحين قرأ ثورندايك إفادة سائق العربة بصوتٍ عالٍ، سرعان ما تحول اهتمامهما إلى اندهاشٍ لا يمكن إخفاؤه.
تعجَّب مارشمونت: «ولكنها مسألة بالغة الغموض حقًّا. من تكون هذه المرأة، وما الذي تفعله في شقة جيفري في ذلك الوقت؟ هل عندك أي توضيح يا سيد ستيفن؟»
أجاب ستيفن: «لا، في الحقيقة ليس عندي. فأنا أرى هذه الواقعة لغزًا مُستعصيًا. كان عمِّي جيفري عازبًا عجوزًا، وعلى الرغم من أنه لم يكره النساء، فإنه لم ينحَزْ لمُجتمعِهنَّ، وانغمس في دراساته المُفضلة. وعلى حدِّ ظني، لم يكن لديه صديقات. حتى إن علاقته مع أخته — السيدة ويلسون — لم تكن على وفاق.»
قال مارشمونت متأملًا: «عجيب، عجيب حقًّا. ولكن هل لك أن تُخبرنا من تكون هذه المرأة يا دكتور ثورندايك؟»
أجاب ثورندايك: «أظن أن الدليل التالي سيُمكِّنكم من تكوين رأيٍ عنها بأنفسكم. وأنا لم أحصل عليه سوى البارحة، وهذا ما أكمل قضيتي؛ ومن ثَم أرسلتُ إليكم على الفور. تلك إفادة من جوزيف ريدلي — سائق عربة أجرة آخر — ولكن للأسف هو شخصٌ أحمق ضعيف التركيز، ولا يُشبه ويلكينس. لم يكن عنده الكثير ليُخبرنا به، ولكن القليل الذي عنده ينطوي على دلالاتٍ كثيرة. وسأتلو عليكم الإفادة وعليها توقيع صاحبها وأنا الشاهد عليها:
«أنا المدعو جوزيف ريدلي. وأعمل سائق عربة أجرة ذات أربع عجلات. في الرابع عشر من مارس، في اليوم الذي خيَّم فيه على المدينة ضباب كثيف، كنتُ منتظرًا في محطة فوكسهول، حيث أوصلتُ أحد الركاب. وفي حوالي الساعة الخامسة، أتت امرأة وأمرتني أن أذهب إلى أبر كينينجتون لين من أجل أن آخُذ راكبًا. إنها امرأة ذات جسمٍ متوسط الحجم. لم أستطع أن أستنبِط عمرها، أو أتبيَّن شكلها؛ لأن رأسها كان مُغطًّى بحجابٍ مغزولٍ من الصوف كي يَقيها من الضباب. ولم أُلاحظ ماذا كانت ترتدي. ركبَت العربة وأنا قدتُ الحصان إلى أبر كينينجتون لين ومشيتُ قليلًا في الحارة، حتى نقرت لي المرأة على نافذتها الأمامية كي أتوقَّف.
نزلَت من العربة وطلبَت منِّي أن أنتظر. ثم ذهبت واختفت في الضباب. وبعد فترةٍ وجيزة أتت امرأة ورجل من الاتجاه الذي ذهبت فيه. أظن أنها المرأة نفسها، ولكني لا أجزم بذلك. فقد كان رأسها ملفوفًا بنوع الحجاب أو الشال نفسه، ولاحظتُ أنها ترتدي عباءة داكنة اللون ذات هدبة مُطرزة بالخرز.
كان الرجل حليقَ الذقن ويرتدي نظارة، ويُعاني تقوسًا في ظهره. لا أعلم إن كان نظرُه جيدًا أم لا. ساعد المرأة على الركوب وطلب منِّي أن أوصلهما إلى محطة جريت نورثرن، عند تقاطع كينج. ثم ركب وقدتُ أنا العربة. وصلت المحطة في حوالي الساعة السادسة إلا الربع ونزلتِ المرأة والرجل. دفع الرجل الأجرة ودخل كلاهما إلى المحطة. ولم أُلاحظ شيئًا غريبًا لدى أيٍّ منهما. وبعدما ذهبا مباشرة، أتاني راكب آخر وانطلقتُ بعيدًا».»
اختتم ثورندايك كلامه: «هذه إفادة جوزيف ريدلي، وأظنها ستُعطيكم معنًى للوقائع الأخرى التي عرضتها عليكم للتفكير فيها.»
قال مارشمونت: «لا أحسب أن عندي تفسيرًا. فكل ذلك لُغز يستعصي على الحل. بالطبع تشير إلى أن المرأة التي أتت إلى مجمع نيو إن في عربة الأجرة هي السيدة شاليبام!»
قال ثورندايك: «على العكس من ذلك تمامًا. بل أشير إلى أن المرأة كانت جيفري بلاكمور.»
صمت الجميع للحظاتٍ وكأن على رءوسهم الطير. لقد صُعِقنا جميعًا، ووقفنا نُحدق النظر في ثورندايك وقد أخرستنا الدهشة. بعد ذلك، انتفض السيد وينوود من كرسيه.
صاح: «ولكن … يا إلهي … يا سيدي! ولكن كان جيفري بلاكمور معها حينذاك!»
رد ثورندايك: «هذا طبيعي، ويتضمَّن اقتراحي أن الشخص الذي كان معها لم يكن جيفري بلاكمور.»
صرخ وينوود: «ولكنه كان معها! فقد رآه البواب!»
«رأى البواب شخصًا ظنَّ أنه جيفري بلاكمور. أحسب أن ظنَّ البواب ليس في محلِّه.»
زمجر وينوود: «حسنًا، ربما بمقدورك إثبات ذلك. أنا لا أعلم كيف، ولكن ربما بمقدورك ذلك.»
جلس في كرسيه مرةً أخرى وهو يرمي ثورندايك بنظراتِ تحدٍّ.
قال ستيفن: «وكأنك تشير إلى وجود علاقة بين المريض المدعو جريفز وعمي. وقد انتبهتُ إلى هذه العلاقة حينذاك، ولكنِّي لم أُعِرها اهتمامًا. فهل كنت على حق؟ هل قصدتَ أن تُشير إلى أي علاقة؟»
«بل أشرتُ إلى ما هو أكبر من العلاقة. أشرتُ إلى الهوية. ورأيي أن المريض المدعو جريفز هو عمك.»
قال ستيفن: «بناءً على وصف الدكتور جيرفيس، لا بد أن هذا الرجل كان عمِّي على الأرجح. فكلاهما كان مكفوفًا في العين اليُمنى ويُعاني ضعفًا شديدًا في البصر في العين اليسرى، وبالتأكيد أن عمي كان يستخدِم الفرشات من النوعية التي بيَّنتها لنا حين يكتب بالحروف اليابانية، حيث إنني رأيته وأُعجبتُ بمهارته، ولكن …»
قال مارشمونت: «لكن، هناك اعتراض لا يمكن دَحْضه؛ وهو أنه في الوقت الذي كان فيه هذا الرجل يرقد مريضًا في كينينجتون لين، كان السيد جيفري يعيش في مجمع نيو إن.»
سأل ثورندايك: «ما الدليل على ذلك؟»
صاح مارشمونت بنفاد صبر: «دليل! لماذا يا سيدي …»
توقف فجأة، وانحنى إلى الأمام، ونظر إلى ثورندايك بتعبيرٍ جديدٍ يدلُّ على الحيرة نوعًا ما.
استهل: «هل تعني …»
«أعني أن جيفري بلاكمور لم يَعِش في مجمع نيو إن مطلقًا.»
في تلك اللحظة، ألجمتِ الدهشة مارشمونت على ما يبدو.
في النهاية قال مُتعجبًا: «يا له من تفسير مُذهل! ولكن لا شك أن هذا ليس مُستحيلًا، حيث إنك لما ذكرت الواقعة الآن، أدركت أنه لم يرَه أحدٌ ممَّن يعرفهم — باستثناء أخيه جون — في مجمع نيو إن. ومسألة الهوية هذه لم تُثَر من قبل.»
قال وينوود: «إلا في مسألة الجثة، وبالتأكيد كانت جثة جيفري بلاكمور.»
قال مارشمونت: «أجل، أجل. بالطبع. فقد نسيتُ هذا للحظة. وقد جرى التعرُّف على الجثة بما لا يدع مجالًا للشك. وأنت لا تطعن في هوية الجثة، أليس كذلك؟»
أجاب ثورندايك: «بلى، مُطلقًا.»
وهنا وضع السيد وينوود يدَيه على رأسه وخرَّ بمرفقَيه على ركبتَيه، وأخرج مارشمونت منديلًا كبيرًا ومسح جبهته. نظر ستيفن بلاكمور من أحدِهم إلى الآخر مُترقبًا، وفي النهاية قال:
«أودُّ أن أتقدَّم باقتراح، بما أن الدكتور ثورندايك عرض لنا قِطَع الأحجية الآن، فإني أرجو منه أن يجمعها مع بعضها بحيث يُعطينا الصورة كاملة.»
وافقه مارشمونت: «نعم، هذه أفضل خطة. اذكر لنا حُجتك يا دكتور وأيَّ أدلةٍ إضافية لديك.»
قال ثورندايك: «الحجة تفاصيلها كثيرة نوعًا ما، نظرًا لكثرة البيانات، وثمة نقاط في التحقُّق يجب أن أتناولها بشيءٍ من التفصيل. سنتناول بعض القهوة كي نُصفي أذهاننا، ثم سأطلب منكم أن تتحلَّوا بالصبر، ريثما أبسط لكم حُجتي التي تبدو طويلة نوعًا ما.»