ثورندايك يضع الخُطة
حين دخلتُ إلى منطقة تيمبل من البوابة المطلَّة على شارع تودر، استقبلَت حواسي تفاصيل المكان بجوٍّ من الأُلفة المريحة. هنا، قضيتُ أيامًا مُبهِجة بالعمل مع ثورندايك في قضية هورنبي الشهيرة التي أطلَقَت عليها الصحف اسم «قضية بصمة الإبهام الحمراء»، وهنا الْتقيتُ حُب عمري، وهذه القصة رَويتُ تفاصيلها في روايةٍ أخرى. المكان محبَّب إلى قلبي؛ لأنَّ بين جنباته ذكرياتٍ مبهجةً من الماضي السعيد، وتعلُّقي بما فيه يجعلني أرجو السعادة في مُقبِل الأيام وفي المستقبل غير البعيد.
جعَلَ طَرْقي، السريع القوي على الباب، ثورندايك يردُّ بنفسه عليَّ، وأشعرَتني الحرارة التي لمستُها في ترحيبه بالفخر والخجل في آنٍ واحد. فأنا لم أزُره منذ فترةٍ طويلة فحسب، بل إنني ضننتُ بمراسلاتي إليه.
صاح وهو ينظُر إلى داخل الغرفة: «عاد الابن الضالُّ يا بولتون. ها هو الدكتور جيرفيس.»
تبعتُه إلى الغرفة ووجدتُ بولتون — كاتِم أسراره، ومساعِده في المختبَر، والمبتكِر، وذراعه «اليمنى» — يضع صينيةَ الشاي على طاولةٍ صغيرة. صافحني صاحب الجسم الصغير بحرارة، وارتسمَت في وجهه تجاعيد بريشة ابتسامته، التي جعلَت وجهه وكأنه حبَّة جوزٍ طيبة.
قال: «كثيرًا ما نتحدث عنك سيدي. وآخر مرة يوم أمس؛ إذ تساءل الدكتور متى ستعود إلينا.»
وعندما تذكَّرت أنني لم «أعُد إليهما» من أجل زيارتهما، بالمعنى الذي يتوقعانه، شعرتُ ببعض الذنب، ولكني آثرتُ أن أبوح بما لديَّ إلى ثورندايك وحده ورددتُ بكلامٍ عام مهذَّب. حينئذٍ، جلَبَ بولتون إبريقَ الشاي من المختبر وأشعَلَ المِدفأة ثم غادَرَ، وجلس كلٌّ منَّا أنا وثورندايك — كالعادة — في كرسيه ذي الذراعَين.
سأل زميلي: «من أين أتيتَ في هذه الزيارة غير المتوقَّعة. كأنَّك أتيتَ في زيارة عمل.»
«أجل. ومسرح أحداث القضية التي أتيتُ من أجلها في شارع لووار كينينجتون لين.»
«آه! ستعود إذن إلى مسارك القديم؟»
أجبتُه مبتسمًا: «نعم، المسار القديم، المسار الطويل، المسار الجديد على الدوام.»
أردف ثورندايك عابسًا: «ولا يصِل بك إلى مكان.»
ضحكتُ مرةً أخرى، لكني لم أضحك من أعماق قلبي؛ حيث إن تعليق صديقي يحمل جانبًا مُقلِقًا من الحقيقة، وتجربتي خيرُ شاهد على ذلك. فالطبيب الذي تدفعه قلة الإمكانيات إلى كسب لقمة عيشه من تولِّي مهام أطباءَ آخرين؛ حتمًا سيكتشف أن سنوات عمره ضاعت، ولم يَجنِ منها غير الشيب وكمٍّ من التجارب غير المُرضية.
استأنف ثورندايك الحديث بعد لحظات: «ستُضطر إلى ترك هذا العمل يا جيرفيس، نعم ستُضطر إلى ذلك. فهذه الوظيفة غير المنتظِمة، لا تناسب رجلًا في مثل حالك وله إنجازاتٌ مثلك. وعلاوةً على ذلك، ألَمْ تخطب فتاةً جميلة وتنوي الزواج بها؟»
«بلى، أعرف. كنتُ مغفلًا. ولكني سأُصلح مساري لا ريب. وإن لزم الأمر، فلن أستنكِف أن أطلُب المال من جولييت كي أشتري عيادة خاصة.»
قال ثورندايك: «ذاك هو القرار الصائب. فكم هو سخيف الاستكبار والتحفُّظ بين شخصَين ينويان الزواج. ولكن لماذا تشتري عيادةً خاصة؟ هل نسيتَ اقتراحي؟»
«سأكون أحمقَ وناكرًا للجميل إنْ نسيتُ.»
أردف متحمِّسًا: «أمرٌ طيِّب. وأنا أُعيده على مسامعك مرةً أخرى الآن. اعملْ معي مساعِدًا لي، وادرُس المحاماة، وقدراتك ستفتح لك أبواب الوظائف الكبيرة. فأنا أريدك معي يا جيرفيس. لا بد أن يكون لي مساعدٌ؛ لأنَّ الأعمال تتكاثر عليَّ، وأنت المساعِد الذي أريده. فقد جمعَتْنا صداقةٌ قديمة وطويلة، وعمل أحَدُنا مع الآخَر، وتجمع بيننا محبة وثقة، وإنك أيضًا أفضل مرشَّح أعرفه لتلك الوظيفة. انضمَّ إليَّ؛ فأنا لن أقبل رفضًا. وهذا قرارٌ نهائي.»
سألتُ مبتسمًا على حرصه: «وما الخيار البديل؟»
«لا شيء. فأنت ستقبل.»
أجبتُه بنبرةٍ خالية من العاطفة: «أغلب الظن أني سأقبل، وإني أسعد بعَرضك، ويعجز لساني عن الوفاء بشكرك. ولكن يجب أن نؤجِّل قراري النهائي إلى اللقاء القادم — وأعتقد أنه سيكون في غضون أسبوع أو نحو ذلك — إذ يتعيَّن عليَّ العودة في غضون ساعة، وأنا أريد مشورتك في مسألةٍ بالغة الأهمية.»
قال ثورندايك: «حسن إذن، سنُرجئ دراسةَ الاتفاق الرسمي إلى اللقاء القادم. ما المسألة التي تطلُب رأيي فيها؟»
قلت: «في الحقيقة، أنا في ورطةٍ كبيرة، وأطلب رأيك فيما ينبغي لي فعله.»
توقَّف ثورندايك ريثما يملأ كوبي، ورمقني بنظرةِ قلَقٍ لا أُخطِئُها.
قال: «أرجو ألَّا يكون قد حلَّ مكروه.»
حاولتُ أن أوضِّح ما يرمي إليه ضمنيًّا بكلمةِ مكروه؛ حيث إنه بالنسبة إلى طبيبٍ شابٍّ وجذَّاب، عادةً ما تكون المشكلة مع أنثى؛ ولذا أجبتُه مبتسمًا: «لا، لا، ليس شيئًا من هذا القبيل. المسألة لا تتعلَّق بشخصي على الإطلاق؛ إنها مسألةُ مسئولية مهنيَّة. ولكن الأحرى بي أن أقصَّ عليك المسألة بالتفاصيل كاملة؛ فأنا أعرف رغبتك الدائمة في أن تكون المعلومات منظَّمة ومرتَّبة.»
عندئذٍ، قصصتُ عليه ما وقَعَ في زيارتي إلى السيد جريفز الغامض، ولم أُغفِل أيَّ حدَثٍ أو تفاصيل على حدِّ ما أتذكَّر.
أنصَتَ ثورندايك إلى القصة منذ بدأتُ أرويها بأقصى درجات الانتباه. لم أرَ وجهه جامدًا من قبل كما رأيتُه هذه المرَّة، ولم أستطع قراءته وكأنَّه قِناعٌ برونزي، لكن بالنسبة إلى شخصٍ على معرفةٍ قويَّة به مثلي، رأيتُ فيه شيئًا معيَّنًا — ربما تغيُّر في اللون أو لمعان غير عاديٍّ في العين — علمتُ منه أن شغفه بالتحقيق في المسألة وصَلَ إلى أعلى مستوياته. ولمَّا قصصتُ عليه الرحلة المُريبة والمنزل الغريب والسرِّي الذي أخذوني إليه؛ رأيتُ أنها تتناسب مع اهتماماته تناسُبًا تامًّا. وبينما أقصُّ عليه القصة، جلَسَ كأنَّ على رأسه الطير، وواضحٌ أنه حفظ القصةَ بكاملها وبكافة تفاصيلها في ذاكرته، وحتى بعدما فرغتُ، ظلَّ مدةً طويلة من دون أن يتحرك أو يتكلم.
بعد مُدة، رفَعَ بصره إليَّ. قال: «هذه مسألةٌ غير عادية البتة يا جيرفيس.»
وافقتُه: «نعم، والسؤال الذي يؤرِّقني: ما الذي يتعيَّن عليَّ أن أفعله؟»
قال وهو غارقٌ في التفكير: «أجل، هذا هو السؤال، وإنه سؤالٌ صعب للغاية. وقبل الإجابة عنه، علينا أن نجِدَ إجابةً للسؤال التالي: ما الذي يحدُث في ذلك المنزل؟»
سألتُه: «وما الذي تظنُّ أنه يحدُث فيه؟»
أجابني: «لا بد أن نتوخَّى الحذر يا جيرفيس. لا بد أن نفصل بعناية بين الأمور القانونية والطبية، وأن نتجنَّب الخلط بين المعلومات المؤكَّدة لدينا والمعلومات المشكوك فيها. والآن، نتناول الجوانب الطبية في هذه القضية. المسألة الأولى التي يتعيَّن علينا حلُّها تتعلَّق بمرض النوم، أو الخمول الزنجي كما يسمُّونه أحيانًا، وهذه مسألةٌ صعبة. فنحن لا تتوفَّر لدينا معلوماتٌ كافية عنه. وأعتقد أن كِلَينا لم يرَ حالةَ إصابةٍ بهذا المرض، وأوصاف المرض المتاحة لدينا ليست كافية. فبناءً على ما أعرفه عن المرض، تتَّفق أعراضه مع الأعراض التي تعانيها الحالة التي كشفتَ عليها، فيما يتعلَّق بالتجهُّم المزعوم، وطول فترات الخمول تدريجيًّا، وتبادُلها مع فترات الفواق البيِّن. وعلى الجانب الآخر، يقال إن المرض لا يُصيب غيرَ الزنوج، ولكن — حتى الآن — ربما لا يعني هذا سوى أنَّ الزنوج هم الذين يتعرَّضون للظروف التي تؤدي إلى الإصابة به. معلومةٌ أخرى مهمَّة وهي أنَّه على حدِّ علمي، ليس الانقباض الحادُّ في حدقة العين من أعراض مرض النوم. بإيجاز، لا تتفق الاحتمالات مع مرض النوم، ولكن قد تتفق مع عدم توفُّر معلومات كافية عنه؛ ومن ثَم لا يمكننا استبعاده بالتأكيد.»
«هل ترى أنه ربما يكون مرض النوم؟»
«لا، أنا شخصيًّا لا أتفق مع هذه النظرية مطلقًا. ولكني أدرس الأدلة بعيدًا عن آرائنا الشخصية. ومن ثَم علينا أن نعد هذه الحالة فرضية منطقية وأنَّ صاحبها مصابٌ بمرض النوم؛ لأننا لا نستطيع الجزم بثبوت العكس. هذا كلُّ ما في الأمر. لكن حين نأتي إلى فرضية التسمُّم بالمورفين، تختلف المسألة. فالأعراض تتَّفق مع أعراض التسمُّم بالمورفين في كل الجوانب. وليس هناك ثمَّة استثناء أو اختلاف من أيِّ جهة. لذا، فإن المنطق السليم يقضي بأنْ نعتمد التسمُّمَ بالمورفين على أنَّه التشخيص العملي، وهذا ما يبدو أنَّك فعلتَه.»
«نعم. اعتمدتُ ذلك التشخيص من أجل وصف العلاج.»
«بالضبط. فمن المنظور الطبي، اعتمدتَ وجهة النظر الأكثرَ رجحانًا ونبذتَ الأقل رجحانًا. وهذا الفعل منطقي. ولكن من المنظور القانوني، لا بد من عدم إغفال أيٍّ من الاحتمالَين؛ حيث إنَّ فرضية التسمُّم تنطوي على مسائلَ قانونيةٍ خطيرة، أمَّا فرضية مرض النوم، فلا تنطوي على أيِّ مسائلَ قانونية.»
علَّقتُ: «كأنِّي لم أستفِد شيئًا.»
قال: «الحالة تُشير إلى ضرورة اتخاذ الحيطة والحذر.»
«أجل، هذا واضح. ولكن ما رأيك في هذه القضية؟»
قال: «لندرُس الحقائق بالترتيب. لنفترضْ أنَّ الرجل تحت تأثير جرعةٍ سامَّة من المورفين. السؤال الذي يبرُز هنا: هل تناوَلَ هذه الجرعة بنفسه، أم أعطاه إياها شخصٌ آخر؟ وإن أخذها بنفسه، فما الوسيلة التي تناولها بها؟ فالمعلومات التي أُعطيَت لك تستبعد تمامًا فكرة الانتحار. ولكنَّ حالة المريض تستبعد أيضًا فكرة إدمان المورفين. فمتعاطي الأفيون لا يتناول جرعاتٍ تصل به إلى حد الغيبوبة. وعادةً ما يتناول جرعات ضمن المقادير المصرَّح بها والمعلَن عنها. وأرى أن الاستنتاج يقول إن العقَّار أعطاه شخصٌ آخر للرَّجُل، والأرجح عندي هو السيد فايس.»
«أليس المورفين سمًّا قلَّما يُستخدم؟»
«بلى، ولا يصلُح استخدامه سمًّا إلا أن تؤخذ جرعةٌ واحدة مميتة؛ فمعلومٌ أنَّ الجسم يتكيَّف بسرعة مع هذا العقَّار. ولكن يجب ألَّا ننسى أن التسمُّم البطيء بالمورفين قد يكون خيارًا مناسبًا بدرجةٍ كبيرة في حالاتٍ معيَّنة. فالطريقة التي يُضعِف بها المورفين الإرادةَ ويشوِّش العقلَ ويُوهن الجسم؛ قد تُفيد واضعَ السُّم إن كان له مأربٌ في الحصول على توقيع لبعض الوثائق أو المستندات، مثل وصيَّة أو عقد أو تنازُلٍ عن ملكية. ومن ثَم يمكن التسبُّب في الوفاة فيما بعد بوسائلَ أخرى. هل ترى أهميةَ ما تنطوي عليه هذه المعلومات؟»
«هل تعني شهادة الوفاة؟»
«نعم. لنفترضْ أن السيد فايس أعطاه جرعةً كبيرة من المورفين. ثم يرسل إليك ويرمي كلمةَ مرض النوم. إن ابتلعتَها، فقد بات في أمان. ومن ثَم يمكنه تكرار العملية حتى يقتل الضحية، ثم يحصل منك على تقريرٍ يغطِّي على جريمة القتل. إنه مخطِّط بارعٌ للغاية، وتلك بالمناسبة سِمة من سمات الجرائم المعقَّدة؛ فالمجرم الماكر غالبًا ما يكون عبقريًّا في التخطيط للجريمة، ولكنه يكون أحمقَ في التنفيذ، ويبدو أنَّ هذا ما فعله ذلك الرجل، ما لم نكن ظلمناه.»
«وكيف يكون أحمقَ في التنفيذ؟»
«من عدَّة جوانب. أولًا، كان عليه أن ينتقي الطبيب. كان الأنسب له أن يختار طبيبًا كُفئًا وسريعًا في اتخاذ القرارات ومحلَّ ثقة ويعرف مآربه، طبيبًا يُهرَع إلى التشخيص والالتزام به، أو كان عليه أن يختار طبيبًا جاهلًا ويميل إلى معاقرة الخمر. لقد تعثَّر حظُّه كثيرًا؛ لأنَّه تقابل مع طبيبٍ حذِر ومطَّلِع مثل صديقي المبجَّل. إضافةً إلى ذلك، كلُّ هذه السرِّية كانت حماقةً مُطلَقة، وما فعَلَ سوى أن جعل رجلًا حذرًا يشكُّ في أمره، وهذا ما حدَثَ. وإن كان السيد فايس مجرِمًا بالفعل، فقد أساء إدارة شئونه.»
«وهل تعدُّه مجرمًا حقًّا؟»
«أنا أشكُّ فيه كثيرًا. ولكن أحبُّ أن أطرح عليك بضعةَ أسئلة بشأنه. قلتَ إنه يتحدث بلكنةٍ ألمانية. فما مدى إجادته للغة الإنجليزية؟ هل حصيلةُ المفردات عنده قوية؟ هل استخدم أيَّ عباراتٍ اصطلاحية ألمانية؟»
«لا. أستطيع أن أقول إنَّ لغته الإنجليزية ممتازة، ولاحظتُ أنه يختار العبارات بعنايةٍ، كما لو كان إنجليزيًّا.»
«هل رأيتَ منه «تصنُّعًا» بأيِّ شكلٍ من الأشكال؛ أعني أيَّ تمويه؟»
«لا أعلم. فالضوء كان ضعيفًا للغاية.»
«ألَمْ ترَ لونَ عينَيه، على سبيل المثال؟»
«كلَّا. أظنُّهما رماديَّتان، ولكني لم أتبيَّن.»
«وبالنسبة إلى سائق العربة. قلتَ إنه يرتدي شعرًا مستعارًا. فهل رأيت لونَ عينَيه؟ أو أيَّ صفةٍ مميِّزة تستطيع من خلالها التعرُّفَ عليه؟»
«ظُفْر الإبهام الأيمن مشوَّه. هذا كلُّ ما يمكنني التعرُّف عليه به.»
«هل لاحظت أيَّ شبهٍ بينه وبين فايس بأيِّ شكل، شبَه في الصوت أو في الملامح؟»
«كلَّا على الإطلاق، وهو يتحدَّث بلكنةٍ اسكتلندية مميَّزة كما أخبرتُك.»
«سببُ طرْحِ هذه الأسئلة، هو أنه إذا كان فايس حاول تسميم الرَّجل، فمن المؤكَّد أنَّ السائق تواطأ معه وربما يكون قريبه. وحريٌّ بك أن تتفحَّصه عن كثب إذا أُتيحَت لك فرصةٌ أخرى.»
«سأفعل. وبذلك أرجع إلى السؤال الأساسي، ما الذي يتعيَّن عليَّ فعله؟ هل أبلغ الشرطةَ بهذه الحالة؟»
«أنا أميل إلى عدم الإبلاغ. فما لديك من وقائع ليس كافيًا. وبالطبع إذا أعطى السيد فايس السُّم للرَّجُل «بطريقة غير قانونية ومضِرَّة» فقد ارتكب جنايةً يستحقُّ عليها عقوبة السجن ١٠ سنوات مع الأشغال الشاقَّة، بموجب القوانين الموحدة لسنة ١٨٦١. ولا أعلم بأيِّ مسوِّغات تتقدَّم ببلاغٍ رسمي. فأنت لا تعلم إن كان هو مَن أعطاه السُّم — في حالة أنه قد تناول السُّم بالفعل — ولا يمكنك إعطاء أيِّ اسمٍ موثوق، أو أيِّ عنوانٍ، بأيِّ حالٍ من الأحوال. ثم إن هناك شكًّا في الإصابة بمرض النوم. بوسعك أن ترفض هذا الاحتمال لأسباب طبية، ولكن لا يسعك الحلف في المحكمة على أن الحالة ليست مرض النوم.»
اعترفت: «أجل، لا يسعني ذلك.»
«ولذا، أعتقد أن الشرطة لن تفعل شيئًا في هذه المسألة، وربما تلحق وصمة عارٍ بممارسات الدكتور ستيلبري، بلا أيِّ طائل.»
«إذن، هل ترى ألَّا أفعل شيئًا في هذه المسألة؟»
«في الوقت الحالي. وبالطبع، من واجب الطبيب أن يساعد العدالة بأيِّ طريقة ممكنة. ولكن الطبيب ليس محقِّقًا، وينبغي ألَّا يحيد عن واجباته وينصِّب نفسه شرطيًّا. بل عليه أن يفتح عينَيه وأذنَيه، وعلى الرغم أنه من واجبه — بوجهٍ عام — أن يحتفظ بمشورته لنفسه، فإن من واجبه أيضًا أن يدوِّن بعناية أيَّ شيء يرى فيه أيَّ قضايا قانونية مهمَّة. ورسميًّا، ليس من عمله أن يفتح تحقيقًا جنائيًّا، ولكن الأكيد أن من عمله أن يكون مستعدًّا إذا دُعي إلى ذلك، وأن يساعد العدالة بالمعلومات التي سهَّلتها له معرفته الخاصة، والفرص التي سنحت له. هل تعي ما أقول؟»
«تقصد أنه ينبغي أن أكتب ما رأيتُه وما سمعتُه، ولا أقول شيئًا عنه حتى يُطلَب مني ذلك.»
«أجل، إن لم يحدُث شيءٌ آخر. ولكن إذا استُدعيت إلى هناك مرةً أخرى، أرى أن من واجبك أن تجمع مزيدًا من المعلومات؛ كي تبلغ الشرطة إن لزم الأمر. فمثلًا، ربما يكون من الأهمية بمكان أن تتعرَّف على المنزل، وجديرٌ بك أن تؤمِّن الوسائل لفعل ذلك.»
احتججتُ عليه: «لكن يا عزيزي ثورندايك أخبرتُك كيف أوصلوني إلى المنزل. والآن، هلَّا تتفضل وتشرح كيف لرجُلٍ مسجون في عربةٍ مظلمة أن يتعرف على أيِّ مكان قد يُحمل إليه؟»
أجابني: «لا أحسب أن المشكلة تنطوي على صعوباتٍ كبيرة.»
قلت: «أوَتظن ذلك؟ فأنا أرى أنَّ الأمر مستحيل تمامًا. ولكن ما الذي تقترحه؟ هل ينبغي أن أركض من المنزل وأهرب إلى الشارع؟ أم هل ينبغي أن أُحدث ثقبًا في مصراع العربة وأتلصص النظر بالخارج؟»
ابتسم ثورندايك ابتسامةً لطيفة. «الطرق المقترَحة من صديقي المتعلِّم تُظهر قدْرًا من السذاجة التي لا تليق برجلِ علم، فضلًا عن مَساوي الكشف عن خططنا للعدو. لا، لا، يا جيرفيس، بوسعنا أن نفعل شيئًا أفضل من ذلك. اسمح لي بدقيقة ريثما أصِلُ إلى المختبر.»
أسرع إلى حرم بولتون في الطابق العلوي، وتركني أفكِّر في الطريقة التي ينبغي أن يتسلَّح بها الرجل، وكما قال سام ويلر «أن ترى ما وراء العتبة والباب»، أو من وراء حجابٍ، مثل الباب، وهو المصاريع الخشبية في عربة مقفلة.
حين عاد بعد دقيقتَين وفي يده دفتر صغير مغطًّى بالورق، قال: «والآن، كلَّفتُ بولتون بالعمل على جهازٍ صغير، وأظنُّه سيحلُّ المشكلة التي نواجهها، وسأوضح لك كيف تدوِّن ملاحظاتك. أولًا، علينا أن نسطِّر صفحات هذا الدفتر إلى أعمدة.»
جلَسَ على الطاولة وبدأ يقسِّم كلَّ صفحةٍ إلى ثلاثة أعمدة بطريقةٍ منهجية، عمودَين ضيِّقَين وواحد واسع. استغرقَت العملية بعض الوقت، وجلستُ أراقب بفضولٍ ونفادِ صبر الحركات غير المتعجِّلة والدقيقة من قلم ثورندايك، وأنا أتشوَّق لسماع التفسير الموعود. وما كاد ينتهي من الصفحة الأخيرة حتى سمعنا طرْقًا خفيفًا على الباب، حينئذٍ دخَلَ بولتون وعلى وجهه، ما يوحي بالجِدية والذكاء، ابتسامة رضًا وفي يده لوحٌ صغير.
سأل: «هل يَفِي هذا بالغرض يا سيدي؟»
وبينما يتحدَّث، أعطى اللوح الصغير لثورندايك، فنَظَر إليه ومرَّره إليَّ.
أجاب صديقي: «هذا ما كنتُ أحتاجه بالضبط يا بولتون. أين وجدتَه؟ ولا تزعُم أنَّك ابتكرتَه في غضون دقيقتَين ونصف.»
ارتسمَت على وجه بولتون إحدى ابتساماته الغريبة التي تُظهر تجاعيدَ وجهه، وأشار إلى أنَّ «هذا اللوح لم يتطلَّب الكثير من التصنيع»، وغادر مبتهِجًا بهذا الثناء.
قال ثورندايك حين غادَرَ عامِلُه: «يا له من عجوز رائع يا جيرفيس! لقد استوعب الفكرة على الفور، ويبدو أنه أنجز المنتَج النهائي بالسِّحر، مثلما يُحضر المشَعْوِذون الأرانبَ وأوعيةَ الأسماك الذهبية في لحظة. هل أفترض أنك تعلم الطريقة التي ستتبعها في العمل؟»
عندي بعض المعلومات عن الجهاز الصغير — وهو لوحٌ من خشب ذي نمطٍ متشابِك، أبعاده سبع بوصات في خمس بوصات، وفي إحدى زواياه بوصلة جيبيَّة مثبتة بصمغ اللك — ولكني لم أعرف تفاصيلَ طريقة عمله.
قال ثورندايك: «يمكنك قراءة البوصلة بسرعة، أليس كذلك؟»
«بالطبع أستطيع. ألَا تتذكَّر حين أبحرنا في اليخت حين كنا طالبَين؟»
«بلى؛ أتذكَّر، وسنفعل ذلك مرةً أخرى قبل أن نموت. والآن، سأبيِّن لك طريقةَ تحديد مكانِ هذا المنزل. تفضَّل مصباحَ قراءةٍ جيبيًّا؛ حيث يمكنك تعليقه في بطانة العربة. هذا الدفتر يمكن تثبيته على اللوح بشريطٍ مطاطي هندي، هكذا. ترى أنَّ بولتون المفكِّر قد ثبَّت قطعةَ خيطٍ على زجاج البوصلة كي تكون بمثابة خط البوصلة. سأوضِّح لك كيف تشرع في مهمَّتك. بمجرد أن تُغلق عليك العربة، أَضِئ المصباح — ويستحسن أن تأخُذ كتابًا معك تحسُّبًا لملاحظة الضوء — وأخرج ساعتك وضَع اللَّوح على رُكبتك؛ بحيث يكون الجانب الطوليُّ متَّسقًا بالضبط مع محور العربة. ثم اكتب الوقت في أحد العمودَين الضيِّقَين من الدفتر، واكتب الاتجاه الموضَّح على البوصلة في العمود الآخر، وفي العمود العريض اكتب أيَّ تفاصيل مثل عدد خطوات الحصان في الدقيقة. سأبيِّن لك مثالًا.»
أخذ ورقة منفردة وكتَبَ قيدًا أو اثنَين بالقلم، كما في المثال التالي …
«٩:٤٠ جنوب شرقي، البداية من المنزل. ٩:٤١ جنوب غربي، بلاطات من الجرانيت. ٩:٤٣ جنوب غربي، طريق خشبي. خطوات الحصان ١٠٤. ٩:٤٧ غربًا ثم جنوبًا، معبر الجرانيت. حصباء …
وهكذا. دوِّن كلَّ تغيير في الاتجاه بالوقت، ومتى سمعتَ أو شعرتَ بشيء في الخارج، فدوِّنه بالوقت والاتجاه، ولا تنسَ أن تدوِّن أيَّ اختلاف في سرعة الحصان. هل تعي هذه العملية؟»
«أعيها وأستوعبها. لكن هل ترى أن الطريقة دقيقةٌ لدرجةِ أن تحدِّد موضعَ المنزل؟ وتذكَّر أنَّ هذه مجرَّد بوصلة جيب وليس بها إبرة وستتذبذب بشدَّة. وطريقةُ تقدير المسافة عمليةٌ تقريبية إلى حدٍّ كبير.»
أجاب ثورندايك: «كل ما قلتَه صحيح. ولكنك نسيتَ حقائقَ محدَّدة ومهمَّة، وهي أنَّ خريطة التتبُّع التي ستدوِّنها يمكن مطابقتها ببياناتٍ أخرى. المنزل، على سبيل المثال، له طريقٌ مغطًّى يمكن من خلاله معرفة مكان المنزل تقريبًا. ويجب ألَّا تنسى أن العربة لا تسير على سهلٍ مطموس المعالم. فإنَّها تمرُّ من شوارع لها معالم واتجاهات محددة، وهذه الشوارع مرسومة بدقَّة في خرائط هيئة المساحة. أرى يا جيرفيس أنه على الرغم من الحسبة التقريبية الجليَّة في هذه الطريقة، وإذا دوَّنتَ الملاحظات بعناية؛ فلن نجِدَ مشكلة في تضييق دائرة البحث إلى مساحةٍ صغيرة للغاية. هذا بالطبع إن سنحَت لنا الفرصة.»
«أجل، إن سنحت لنا. وأشك أن السيد فايس سيطلُب خدماتي مرةً أخرى، وإني لأرجو حقيقةً أن يطلبني مرةً أخرى. سيكون من النادر العثور على جُحره السري، وكل ذلك غير متوقَّع. ولكن الآن، يجب أن أغادر.»
قال ثورندايك وهو يضع قلمًا مشحوذًا في الشريط المطاطي الذي يثبت الدفتر في اللوح: «مع السلامة. أعلمني بتقدُّم المغامرة — إذا كان هناك أيُّ تقدُّم — وتذكَّر أنَّك وعدتَني بزيارة أخرى في القريب العاجل، مهما كانت الظروف.»
سلَّمني اللوح والمصباح، وعندما وضعتُهما في جيبي، تصافحنا وأسرعتُ مبتعدًا، غير مرتاح بعض الشيء؛ لأنني تركتُ عملي فترةً طويلة.